الدولة بين الشمولية والمدنية

(١) الاستبداد بين الدين والسياسة

تكاد السياسة أن تشكل الفضاء الذي انشغل العرب، منذ مطالع ما يُسمى بعصر حداثتهم، بالبحث داخله عن إجابات لأسئلة نهضتهم المتعثرة حتى الآن وإلى حدٍّ يمكن معه القطع بالطبيعة السياسية — وليس السياسة — للخطاب العربي الحديث، ولعل السياسية، بما تحمله من دلالة مبتذلة، تتأتى من اعتبار أن السياسة هي الإطار التفسيري الأوحد، الذي يستحيل — بحسب مفكري النهضة — التماس الجواب على أي سؤال أو إشكال خارجه. ومن هنا ما يبدو من «الاتفاق بينهم على اعتبار تفوق الغرب راجعًا أساسًا إلى نظامه السياسي الضامن للحرية، والمقيد للسلطة بالقانون، وأن تأخر الشرق بما فيه البلاد الإسلامية راجع أيضًا إلى طبيعة نظامه السياسي القائم على الاستبداد. إن هذا الموقف يصدق على الفكر الإصلاحي العربي والإسلامي عمومًا، سواء ذلك الذي قام باسم السلفية، أو ذلك الذي أراد أن يكون ليبراليًّا. هنا يلتقي لطفي السيد مع علال الفاسي، كما يلتقي محمد عبده مع خير الدين التونسي».

والحق أن سياسية الخطاب العربي الحديث لا تقف عند حدود هيمنة المضمون السياسي على أجوبته لأسئلة النهضة وإلى حد الإشارة إلى أن المقالة السياسية تكاد تختصر تاريخه على حد قول أحدهم، بل وتتجاوز إلى السطوة الطاغية لآلية القراءة بالسياسة على فضاء الخطاب بأسره، وهي القراءة التي أعجزته كليًّا عن الإنتاج الحق لأيٍّ من مفاهيم النهضة ومفرداتها، وذلك ابتداءً من اختزالها الكامل لموضوعها في السياسة. وعلى أي الأحوال فإنه يبقى أن هذه القراءة بالسياسة وعبرها، إنما ترتبط، على نحو جوهري، بالظروف التي أحاطت بانبثاق النهضة، لا كعملية تاريخية يشتغل فيها الوعي كفعالية حرة غير مشروطة إلا بما يحددها ضمن سياقها الخاص، بل جاء تبلورها ضمن سياق تصادمي أجبر فيه الوعي على الاشتغال على نحو إكراهي وقسري.

وإذا كان سؤال النهضة: «لماذا تخلف المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم؟» الذي يكاد تاريخ انشغال العرب به أن يكمل الآن دورة القرنين تقريبًا، قد راح ينقلب ابتداءً من هذه السياسية الكامنة للخطاب — وكذا بحسب كيفية لقاء العرب مع «غيرهم المتقدم»، وقراءتهم لما أنتج به تقدمه — إلى سؤال السياسة: «كيف السبيل إلى تجاوز الاستبداد؟» فإن سؤال السياسة، أو سؤال الاستبداد بالأحرى، قد تحدَّد — وكان ذلك منطقيًّا على أي حال — بكيفية سياسية، أو بالأحرى سياسوية أيضًا. وهكذا، وعبر ما يبدو وكأنه مجرد الإبدال اللغوي لمفردات المأثور المشهور «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها»، تحدد جواب العرب على سؤال الاستبداد بأنه «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به غيرها»، وبما يعنيه ذلك من أنه «لا تجاوز للاستبداد (الراسخ عندهم) إلا بما تجاوزه به غيرهم». والحق أن حضور المأثور السلفي، ضمن هذه القراءة، ليس حضورًا شكليًّا أبدًا، بل إنه يكاد يحدد نظام هذه القراءة العميق كليًّا. فإذ لم تنبثق النهضة — حسب ما سبق الإلماح — كعملية تاريخية تتبلور ضمن شروط غير مفروضة عليها من الخارج، بل تبلورت كنتاج للاصطدام بين عالمين ينتميان إلى أزمنة متباينة (تاريخيًّا وثقافيًّا)، على نحو لم يكن للوعي معه أن يدرك واقع فواته وتخلفه إلا «قياسًا» على تقدم الآخر، فإن ذلك كان لا بد أن يدفع الوعي إلى أن يجرد، على طريقة أسلافه الفقهاء، علة تقدم الآخر في مقابل تخلفه. وهكذا راح الوعي بنظامه الفقهي في التفكير — الذي لم يعرف غيره آنذاك، والذي يبدو لسوء الحظ أنه لم يتحرر منه للآن — يحيل الحداثة إلى نموذج أو أصل، ساعيًا إلى تجريد العلة المؤسسة لحداثته، ليتسنى له بعد هذا التجريد، على طريقة الفقهاء، أن يستوفيها في واقعه (الذي هو فرع)، فيكسبه بذلك حداثة الأصل (الذي هو — بالطبع — الغرب).

ولسوء الحظ، فإن ما راح يجرده ذلك الوعي الفقهي كعلة مؤسسة ومنتجة للحداثة، لم يكن أبدًا إلا محض جوانبها الإجرائية والشكلية التي لا ترتقي أبدًا إلى مقام العلة المؤسسة والمنتجة، بقدر ما تصلح أن تكون نتاجًا للحداثة ومعلولًا لها. إن المفارقة هنا تتأتى من أن معلول الحداثة ونتاجها قد جرى اعتباره علة لها. ولأنه كان مطلوبًا نهيمًا يبدو من هذا المعلول أو النتاج للحداثة أن يتكفل بإنتاجها، فإنه لم يكن غريبًا أن يكون الإخفاق هو مآل مشروع الحداثة العربي، وذلك مع التحفظ بأن الإخفاق هنا لا يتعلق بفشل الحداثة في ذاتها، بقدر ما يتعلق بالخلل الكامن في كيفية اشتغال الوعي عليها ومقاربته لها. وهو الخلل المرتبط بحقيقة أن نظام القراءة العربية للحداثة قد تحدد ضمن أفق تراثي خالص، وأعني من حيث إنه انبنى بحسب آلية المقايسة الفقهية، التي سادت فضاء التراث كليًّا.

ولعل في هذه المفارقة، أعني مفارقة السعي إلى مقاربة «الحداثي» بحسب قراءة تجد ما يؤسس نظامها الأعمق في «التراثي»، تلخيصًا للمأزق المهيمن على فضاء الخطاب العربي الحديث بأسره، وأعني به مأزق المجاورة بين ما ينتمي إلى أنظمة ثقافية ومعرفية متباينة، بل وحتى متناقضة. وهنا يلزم التنويه بأن هيمنة «التراثي» على نظام هذه القراءة ﻟ «الحداثي»، قد يسَّرت، أو لعلها آلت إلى الانبناء السياسي للخطاب، وأعني من حيث إنها لم تتمخض إلا عن مقاربات شكلية، بل ومغلوطة على نحو كامل، لأسئلة التقدم والنهضة.

فقد راح العرب، فيما يبدو وكأنه الوجه الذي تعرفوا منه على أوروبا جيشًا وأسطولًا ومصنعًا وتنظيمًا، يقرءون شرط تقدم هذه الأوروبا في «السياسي»، فيما ظل «الثقافي» مهملًا في الهامش، وذلك بالرغم من مركزية دوره لا في مجرد خلخلة السائد والمستقر من المواريث المتكلسة لعصر ما قبل الحداثة، بل وفي إبداع المفاهيم التي تؤسس لهذا الوجه السياسي، وإلى حد استحالة انبثاقه من دون اشتغالها تحته. وهكذا فرغم أن السياسي يكون هو الأسبق اشتغالًا عند السطح، فإن الثقافي يكون هو الأسبق اشتغالًا في العمق. وبالطبع فإن ذلك لا يحيل إلى أي أولية أنطولوجية للعمق على السطح أو العكس حيث الواحد منهما يحدد الآخر ويتحدد به في آن معًا. وفقط يتعلق الأمر بأن مقاربة الواحد منهما هي مما يستحيل تمامًا من دون الوعي باشتغال الآخر تحته، أو فوقه. وإذ يحيل ذلك إلى استحالة مقاربة السياسي من دون الوعي بجوهرية اشتغال الثقافي تحته، فإن العرب، وكنتيجة لقراءتهم شرط تقدم أوروبا في السياسي، لم يعرفوا إلا أن يقرءوا شروط نهضتهم في السياسي كذلك. ولسوء الحظ، فإنه كان السياسي في أكثر صوره بؤسًا وتفاهة، وأعني من حيث إن الانشغال، ضمنه، لم يتجاوز حدود السعي إلى الاستنساخ الفقير لهياكل وتنظيمات شكلية ووثائق برَّاقة لامعة، لم تفعل إلا أن أمدت الاستبداد بما راح يزخرف به وجهه الكالح.

فإذ تراءى للعرب عن هذا الذي تجاوز به غيرهم الاستبداد إنما يقوم — على قول خير الدين باشا التونسي — فيما عرفه هذا الغير من «التنظيمات المؤسسة على العدل، ومعرفتها باحترامها من رجالها المباشرين لها»، فإنهم قد انخرطوا في عملية اصطناع للتنظيمات والمؤسسات، وبما يجري تداوله في فضائها من مفردات تنتمي إلى زمان ثقافي مغاير للزمان الثقافي الذي كان يعيشه العرب، ولا يزالون. ومن هنا فإن هذا الذي «تجاوز به غير «العرب» الاستبداد» لم يتمخض عندهم (أي عند العرب) عن نفس ما أنتجه من التجاوز عند هذا الغير (الذين هم الأوروبيون بالطبع).

ومن هنا فإنه إذا كان العالم العربي قد شهد، ابتداءً من النصف الثاني للقرن التاسع عشر، تجارب حزبية وبرلمانية متفاوتة القيمة والأثر، فإنه يلاحظ أن هذه التجارب — وتحت وطأة الضغوط المزدوجة للخارج (احتلالًا وهيمنة)، وللداخل (انقسامًا وتشرذمًا طبقيًّا واجتماعيًّا حادًّا) — قد انحسرت تمامًا عند منتصف القرن الفائت، حين شهد العالم العربي موجة من الانقلابات العسكرية التي كتبت النهاية الحزينة لهذه التجارب، وأعلنت عودة الاستبداد صريحًا لا يكذب، رغم أن البعض قد راح يزخرفه بأنه قد عاد مستنيرًا وعادلًا هذه المرة، ربما بسبب ما كان يتجمل به آنئذٍ من أصباغ الاشتراكية ومساحيق العدالة.

لقد بدا إذَن أن التنظيمات، التي اصطنعتها فيالق الليبراليين العرب على مدى القرن منذ منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا، ليس فيها الإبراء من الاستبداد، بل إن الاستبداد — وللمفارقة — قد أدرك، مع عودته الظافرة عند منتصف القرن العشرين، ضرورة أن تكون له تنظيماته، بعد أن تحقق من استحالة العيش دونها، فراح يصطنع تنظيمات لم يزل بعضها يقاوم عاديات الزمان لحين، وذلك من قبيل الجبهات القومية والهيئات القطرية، التي تُصر — متسربلة في نفس أرديتها البالية المرقَّعة — على المزاحمة في عصر لم يعد يتسع لها، وبعضها راح ينحل — نزولًا على رغبة المستبد في أن يراه السادة في الغرب ديمقراطيًّا، فيكفوا عنه ضغطهم — إلى أحزاب، يمارس أحدها الاستبداد في الحكم، وأخرى تمارسه في المعارضة.

وإذا تبدى، هكذا، أن غمة الاستبداد لم ترتفع، عن كاهل الأمة، بالتنظيمات وبما يحيل إليه ذلك من بؤس مقاربته «سياسيًّا»، فإن ذلك يعني أن أي سعي جِدي لمجاوزة حقة لمعضلة الاستبداد المستعصية، لا بد أن يتبلور ضمن سياق مقاربة من نوع مغاير، والتي لن تكون إلا مقاربته «ثقافيًّا»، ولكن من غير أن يعني ذلك تعطيل الاشتغال السياسي عليه، حيث الأمر لا يتعلق بما هو أكثر من ضرورة أن يجد هذا الاشتغال السياسي ما يؤسسه، ويجعله منتجًا، وذلك بعد أن شهدت تجربة قرنين من حضوره على الساحة منفردًا أنه لم يتمخض إلا عن الأزمة تأخذ بخناق عالم العرب، ولا شيء سواها تقريبًا. وضمن سياق هذه المقاربة التي لا يشتغل فيها أيٌّ من الثقافي أو السياسي، على ساحة الخطاب، منفردًا، فإن معضلة العلاقة بين الديني والسياسي تكاد تنفرد بوضع بالغ الخصوصية، لا من حيث الدور المركزي للديني في بناء الثقافة العربية، بل ومن حيث ما يتبدى من أن العجز عن تصور الطبيعة الحقة للعلاقة بينهما، لا يمكن أن يسمح بتفكيك حقيقي لمعضلة الاستبداد.

ولعل قصور الوعي عن اكتناه الطبيعة الحقة للعلاقة بين الديني والسياسي، يظهر بجلاء فيما أدت إليه القراءة بالسياسة وعبرها، للمفاهيم — التي لم يعرف العرب سواها — من أنه إذا كان مسار التقدم في أوروبا قد ارتبط بكيفية في الفصل بين الديني والسياسي، فإنه ليس أمام العرب، في سعيهم إلى قطع نفس المسار، إلا أن يحققوا نفس الفصل أيضًا، وبما يعنيه ذلك من أن وحدة المعلول (الذي هو التقدم) لا بد أن تحيل إلى وحدة العلة (التي هي الفصل بين الديني والسياسي) بالمثل. والحق أن هذا المبدأ الأخير، أعني مبدأ وحدة المعلول تعني وحدة العلة، الذي يؤسس لربط التقدم (كمعلول) بالفصل بين الديني والسياسي (كعلة)، يكاد أن يكون مغلوطًا على نحو كامل، وأعني من حيث ينبني كليًّا على خط بحيث جعل ما ينبغي أن يكون المقدمة (أو وحدة العلة التي هي هنا الفصل بين الديني والسياسي) يأتي كنتيجة من جهة، وجعل ما ينبغي أن يكون النتيجة (وهو التقدم) يأتي كمقدمة من جهة أخرى. ولعل مأزق هذه البنية يتأتى من حقيقة أن وحدة العلة قد تئول إلى وحدة المعلول، فإنه — في المقابل — لا يمكن أن وحدة المعلول تعني وحدة العلة؛ لأن المعلول الواحد قد ينشأ عن علتين متغايرتين، وخصوصًا حين يتعلق التحليل بما يجاوز المجال «الطبيعي» إلى المجال التاريخي والإنساني. وهكذا فإن الإلحاح على أن الفصل بين الديني والسياسي هو علة التقدم وأصله، إنما يقوم كاملًا على مبدأ مغلوط يستحق التفنيد والمراجعة. والحق أن حضور هذا المبدأ المغلوط في بناء الخطاب العربي إنما يرتبط بما ييسره له هذا المبدأ من إجراء المماثلات التي لا يعرف هذا الخطاب، في اشتغاله الراهن، سواها، والتي جعلته يتعامى في هذا السياق عن التباين بين تجربة الديني والسياسي، وطبيعة وترتيب العلاقة بينهما، في عالم العرب عنها في عالم الغرب.

إذ الحق أن السياسي لم يستقل بمجال اشتغال خاص عن الديني في التجربة التاريخية للإسلام، بل إنه راح ينبني داخله ويتجذر في قلبه منذ لحظة التأسيس المبكرة الأولى. ومن هنا ما يبدو من تصور المرء في الإسلام أنه يسلك بحسب ضرورات «الديني» وفروضه، فيما هو يسلك حقًّا تبعًا لقواعد «السياسي» المتقنع بالديني والمتخفي في قلبه. وهنا تكمن المعضلة التي تتعصى على الانفراج في عالم الإسلام، وأعني معضلة صعوبة التمييز فيه بين الديني والسياسي، والتي تتأتى ابتداءً من عدم اختصاص الواحد منهما بمجال خاص يشتغل داخل حدوده، وذلك على العكس من اختصاص كلٍّ منهما بمجال يخصه في عالم المسيحية؛ الأمر الذي جعل، لا مجرد التمييز، بل الفصل بينهما ممكنًا. والحق أنه إذا كان يصعب الحديث، في تجربة الإسلام، عن فصل الديني عن السياسي فيه، وذلك ابتداءً من التباس الواحد منهما بالآخر على نحو كامل، فذلك يبرر السعي إلى ضرورة التمييز بينهما من جهة، وترتيب منطق ونظام العلاقة بينهما من جهة أخرى.

فقد اكتمل تشكل «الديني» في المسيحية في انفصال كامل عن مجال اشتغال السياسي، الذي لم تتصل به المسيحية إلا بعد قرون من اكتمال تشكل الديني فيها. ومن هنا فإن السياسي لم يتجذر، في المسيحية، في قلب الديني، بل ظل كل واحد منهما قابلًا للاستقلال بمجال خاص. فقد ارتبط تحول الدولة الرومانية، مع الإمبراطور قسطنطين، إلى المسيحية بالسعي إلى توظيف هذا الدين لخدمة أهداف سياسية يعكسها ما كان الإمبراطور — بحسب أحد مؤرخي الحضارة الكبار — يرجو من أن يُطهر هذا الدين الجديد أخلاق الرومان، ويعيد إلى نظام الزواج والأسرة ما كان له من شأن قديم، ويخفف من حدة حرب الطبقات. وإذ يضاف إلى ذلك أن المسيحيين كانوا قلما يخرجون على الدولة رغم ما لاقوه من ضروب الاضطهاد الشديد؛ لأن معلميهم قد غرسوا في نفوسهم واجب الخضوع للسلطات المدنية، ولقَّنوهم حق الملوك المقدس، فإن ذلك ما بدا ملائمًا تمامًا لنزوع قسطنطين، إلى أن يكون ملكًا مطلق السلطان. وبالطبع فإن هذا النوع من الحكم المطلق إنما يفيد لا محالة من تأييد الدين، وخصوصًا حين ينشغل هذا الدين بترسيخ سيكولوجيا الخضوع والطاعة. وهكذا فإنه قد بدا للإمبراطور الساعي لدعم مطلق سلطته، أن النظام الكهنوتي وسلطان الكنيسة الدنيوي يقيمان نظامًا روحيًّا يناسب نظام الملكية. ولعل هذا النظام العجيب، بما فيه من أساقفة وقساوسة، يصبح أداة لتهدئة البلاد وتوحيدها وحكمها. وإذ يتجلى وعي الإمبراطور حادًّا بأن السياسي قد فقد شرعيته، وأنه في حاجة ماسَّة لما يؤسس به شرعية جديدة، راح يلتمسها في الديني، الذي كانته المسيحية آنئذٍ، فإنه يلزم الوعي بأن ما تصوره الإمبراطور توظيفًا للديني لخدمة السياسي، قد انقلب — بفضل دهاء التاريخ ومكره الذي يتجاوز إرادات الأفراد، وإلى حد تحقيق ما يناقض مضمون ما سعت إليه تلك الإرادات أحيانًا — إلى توظيف السياسي لخدمة الديني. والحق أن ذلك يكشف عن التباين بين عالمين، وأعني عالم الإسلام الذي كان الديني فيه ينبثق في قلب السياسي أو في قلب السعي إلى تأسيس الدولة، وهو ما ينعكس جليًّا في تلك المقولة التي تشيع في أدبيات الإسلام السياسي الراهنة بأن «الإسلام دين ودولة»، وعالم المسيحية التي كان الديني فيها يتعانق مع السياسي فيما يشبه الزواج بين بالغين يتمتع كل واحد منهما بحصانته واستقلاله عن الآخر. ومن هنا فإن الأمر في المسيحية كان يتعلق بالدولة، وهي تدرك احتياجها للدين تسعى به إلى اقتلاع بذور الفناء التي تتبرعم في قلبها، فراحت «تتدين» مضطرة وبما يعنيه ذلك من لزوم انصياع السياسي لمقتضيات الديني وشروطه، بسبب احتياجه إليه، وذلك رغم ما يبدو، على السطح، من أنه قد جرى استدعاء «الديني» ليعمل في خدمة السياسي وتبعًا لشروطه؛ إذ إنه «الدهاء» الذي يجعل من يتصور نفسه «فاعلًا» هو المفعول به حقًّا.

وأما في الإسلام، فإن الأمر يتعلق — في المقابل — بالديني، وهو يرى نفسه في تلازم صميمي مع السياسي منذ ابتداء انبثاقه، فكان لازمًا أن يتسيس. وهنا يشار إلى أن اكتمال تشكل الديني بمعزل عن السياسي في المسيحية، إنما يحيل إلى أنه — أي الديني — قد تبلور في أصل مبدئه بوصفه شأنًا خاصًّا، وبما يعنيه ذلك من أنه لم يتبلور كفضاء لممارسة عمومية. حقًّا كانت هناك جماعة، ولكنها كانت جماعة المؤمنين التي لا تمتد سلطتها إلى ما وراء الجانب الروحي الخاص بالإنسان. وفي المقابل، فإن حضور السياسي في قلب الديني في الإسلام قد فرض على الديني أن يتبلور كشأن سياسي عمومي. ومن هنا فإنه إذا كانت منظومات العقائد في الإسلام قد تبلورت في قلب الصراع على السياسة، وبحيث كانت تباينات العقائد بمثابة انعكاس لاختلافات الفرقاء السياسيين، فإنه في المقابل لم يُقدَّر للسياسة أن تلعب دورًا حاكمًا في الشأن العقائدي إلا مع تسييس المسيحية الذي تحقَّق بعد حوالي أربعة قرون من نشأتها؛ فقد انعقد أول المجامع المسكونية في نيقية (٣٢٥م) بطلب من الإمبراطور قسطنطين لتقنين منظومة العقائد التي اعتنقتها الكنيسة، فكان ذلك إيذانًا بأن الديني لم يعد شأنًا خاصًّا، بل شأنًا عامًّا تنشغل الدولة بتقنينه وتنظيمه، وتستخدمه في فرض سيطرتها على المجال العام. وإذا كان هذا التباعد الزماني بين لحظتَي تبلورِ كلٍّ من الديني والسياسي قد يسَّر ما جرى لاحقًا من تصور الديني كشأن خاص في التجربة المسيحية، فإن غياب هذا التباعد قد أدى إلى احتلال الشأن العام موقعًا متميزًا في قلب الديني في الإسلام. ومن هنا فإن مفهوم الجماعة الذي يُعَد بالغ المركزية في الإسلام قد ظل احتلال الشأن مسكونًا بدلالة الديني والسياسي في آنٍ معًا، وإلى حد ما صار إليه الفقهاء من أن النجاة ليس في الآخرة فقط، بل — وقبل ذلك — في الدنيا وهو الأهم، تكون في محض الاستمساك بالجماعة. وإذ يتقاطع الديني والسياسي في بناء المجال العام، فإن ذلك يكشف عن تلازمهما، وليس أبدًا تمايزهما، في تجربة الإسلام.

ولعل مثالًا على قوة هذا التلازم وعمق تجذره يتأتى من أن حدثًا تاريخيًّا كفتح مكة، الذي يمثل تمام الانتصار السياسي، في مغامرة الإسلام الأولى، قد كان بمثابة التتمة والإكمال للديني، وبحيث بدا وكأن مغامرة الإسلام الأولى إنما تنطوي على تشكل الديني والسياسي في نفس المصهر تقريبًا.

وإذ لا مجال للحديث عن مثل هذا التلازم الصميمي بين الديني والسياسي خلال مغامرة المسيحية الأولى، بل هي الضرورة التي دفعت «السياسي»، بعد قرون من انبثاق هذه المغامرة، إلى أن يستعير الديني كمجرد مُعِين له في أزمته، فوجد نفسه في قبضته، فإنه يلزم الوعي بجوهرية التباين فيما يخص إشكالية علاقة الديني والسياسي بين عالمَي الإسلام والمسيحية. وغني عن البيان أن جوهرية هذا التباين إنما تتأتى مما يئول إليه فيما يتعلق بطبيعة عمل الوعي. فإنه إذا كان عمل الوعي قد انصرف في عالم المسيحية إلى تحرير السياسي من قبضة الديني بعد أن اضطُر، في سعيه لتجاوز أزمته، لأن يضع مصائره في يده، فإن طبيعة عمله، في عالم الإسلام ينبغي أن تتأطر — في المقابل — بالسعي إلى تحرير الديني من قبضة السياسي التي وجد نفسه غير قادر على الفكاك منها منذ البدء. ولعل ذلك يستحيل إلا عبر هيمنة الوعي على الطرائق والآليات التي احتل السياسي بواسطتها فضاء الديني في الإسلام وهيمن عليه. ولأن السعي لاكتساب قداسة الديني وتعاليه يبقى هو قصد السياسي من هذا الاحتلال لفضاء الديني والهيمنة عليه، فإنه قد راح يتخفى وراء الديني، وإلى حد تماهيه الكامل معه، وبحيث يجوز التمييز بين الديني يحضر، ظاهرًا، على صعيد اللغة والشكل، وبين السياسي يحضر، كامنًا، على مستوى الجوهر والبنية الأعمق. ومن هنا تلك المعضلة، في الإسلام، التي تجعل تحرير الديني من السياسي وتمييزه، أو حتى فصله عنه، مشروطًا بوصلهما، والإمساك بنظام العلاقة بينهما أولًا، وأعني بذلك بيان كيفية اشتغال أحدهما تحت الآخر في خفاء ودهاء. وإذن فإنها المعضلة التي تجعل الوصل بين الديني والسياسي هو شرط التمييز، أو حتى الفصل الحق بينهما.

(٢) عن الديني والمدني وأيهما المرجع للآخر

خشية النظر إلى الأمر على أنه بمثابة دعم لنظام مبارك — الذي لم تعرف مصر مثيلًا له في التعاسة والبؤس إلا في أشد لحظات تاريخها تدهورًا وانحطاطًا — فإن كثيرين قد أحجموا عن الانخراط في حوار جدي مع شعارات ورؤى جماعة الإخوان المسلمين التي اعتاد نظام مبارك على خرافة أنه بديلها المدني المتسامح، وهي الخرافة التي لم يتوقف النظام، حتى لحظة سقوطه، عن تسويقها لداعميه في الغرب وبين شرائح واسعة من الأقباط وغيرهم من الذين خايلهم بالشكل المدني لدولته عن جوهرها البوليسي السلطوي.

وليس من شك في أن اختلاف الوضع بعد سقوط مبارك يجعل الحوار مع ما تطرحه الجماعة فرضًا واجبًا من أجل مستقبل يليق ببلد أبهر العالم، وخصوصًا مع الوعي بأن الجماعة لا بد، بعد التحرر من كونها موضوعًا للاستهداف والمطاردة، أن تصبح أكثر انفتاحًا على منطق الانفتاح والتحاور، بعد أن ظلت طويلًا لا تعرف إلا مناخات التخوين والتخاصم. وإذن — وفي كلمة واحدة — فإن الشروط قد توافرت لحوار منتج، بعد أن ارتفع الحرج عن كل من كانوا يحجمون عن التعرض لخطاب الإخوان بعد السقوط المدوي لنظام مبارك الكابوسي من جهة، وبعد أن أصبح الإخوان، من جهة أخرى، أكثر قدرة على التحرر من الانحشار في مواقعهم الدفاعية التي جعلتهم غير قابلين — أو حتى قادرين — على مناقشة خطاب ظلوا يتمترسون حصونه الصلدة.

ولعل أهم ما تطرحه الجماعة في سياق النقاش الراهن حول مستقبل مصر بعد سقوط مبارك، يتمثل فيما يجري الترويج له من سعيها إلى بناء دولة مدنية ذات مرجعية دينية، وعلى النحو الذي يمكن معه تأكيد أن مفهوم المرجعية الدينية للدولة يتميز بحضور بالغ المركزية في مقاربة الجماعة لمستقبل الدولة المصرية. وضمن هذا الحضور المركزي الذي تقدم فيه الجماعة ترتيبًا للعلاقة بين الديني والمدني على نحو يكون فيه الديني هو المرجع المحدد للمدني، فإنه يلزم التنويه بأن هذا الترتيب للعلاقة يقوم على نوع من الافتراض المضمر بأن الديني هو الإلهي الثابت، في مقابل المدني الذي هو الإنساني المتغير، وعلى النحو الذي لا بد معه أن يدور المدني المتغير حول الديني الثابت، أو حتى وراءه. فإذ المرجع هو ما يتم الرجوع إليه التماسًا لمخرج من خلاف، فإنه كان لا بد من تصوره على نحو من الثبات الذي يسهل افتراضه في الديني/الإلهي، بأكثر من المدني/الإنساني.

وإذا كان أحد لا يجادل في افتراض أن المدني هو الإنساني المتغير، فإن الافتراضي القائل بأن الديني هو الثابت على النحو الذي يجعل منه مرجعًا، إنما يحتاج إلى نوع من التحديد والضبط؛ إذ الحق أن تأملًا — ولو أوليًّا — في الدين — أي دين — يكشف عن إمكان التمييز فيه بين جانب عقيدي/تعبدي ينتظم علاقة الإنسان بربه (وهو ما يقال إنه يختص بالشأن أو المجال الخاص)، وآخر تشريعي/تعاملي ينتظم علاقة الإنسان (فردًا وجماعة) بغيره (وهو ما يقال إنه — على عكس سابقه — يخص الشأن أو المجال العام). وضمن سياق هذا التمييز، فإن الدين يقبل — وذلك بحسب الإسلام نفسه — أن يكون، في جانبه العقيدي/التعبدي، موضوعًا للاتفاق بين أهل الأديان جميعًا، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، ولكنه وبحسب الإسلام أيضًا يقبل أن يكون، في جانبه التشريعي التعاملي موضوعًا للاختلاف والتباين، حيث لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا. وإذن فإنه لا يمكن افتراض الدين موضوعًا للثبات إلا في أحد جانبيه (وأعني جانب العقيدة وليس الشريعة)، وليس أبدًا على نحو مطلق، وهو ما يكاد أن يكون موضوعًا لاتفاق الكافة تقريبًا، وعلى النحو الذي لا يختلف فيه القرطبي مع محمد عبده أو الشيخ شلتوت؛ إذ الحق أن الجانب التشريعي للدين لا يختلف فقط من دين إلى آخر، بل ويختلف ضمن نفس الدين من لحظة إلى أخرى، ومن بيئة إلى أخرى.

وإذ يستحيل رد هذا الاختلاف، في الجانب التشريعي من الدين، إلا إلى اختلاف الوضع الإنساني، حيث لا خلاف — حسب القرطبي — بين العقلاء على أن شرائع الأنبياء قُصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية … وأن العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح، كالطبيب المراعي أحوال العليل، فراعى ذلك خلفيته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو خطابه يتبدل. وهكذا يعلق القرطبي تبدل الخطاب (الإلهي) على تبدل مصالح البشر الدينية والدنيوية (أو المدنية)، وعلى النحو الذي يكون معه المدني المتغير أو المتبدل هو المرجع المحدد لما يراه تبدلًا في الخطاب الإلهي للبشر. وبالطبع فإن ذلك يعني أن تحولات الديني الذي تريد منه جماعة الإخوان المسلمين أن يكون مرجعًا للدولة المدنية، يكاد — هو نفسه — أن يجد مرجعيته في تحولات الإنساني المدني، وإذا كان القرطبي يجعل التبدل يطال الخطاب الإلهي إلى البشر على العموم، فإن حضور التبدل ضمن الجانب التشريعي من هذا الخطاب يكون أولى لا محالة، وأعني من حيث يتعلق هذا الجانب بواقع البشر الذي يتغير ويتبدل، وليس بعقائدهم التي يلزم تصور أنها الأكثر ثباتًا ودوامًا. ولعله يلزم التنويه، هنا، بما صار إليه القرطبي من أن عدم ربط تبدلات الخطاب الإلهي بتبدلات مصالح البشر وواقعهم سوف يؤدي لا محالة إلى وصم الله بالبداء (أو الجهل)، وهو ما لا يمكن قبوله في حق الله أبدًا. ولعل ما يعنيه منظرو الإخوان المسلمين بالدين كمرجع للدولة إنما ينصرف إلى هذا الجانب التشريعي من الدين الذي يتعلق بعلاقة الإنسان بغيره، وذلك بما هو الجانب الأكثر اتصالًا بجوهر الدولة التي هي، وبحسب النشأة، محض إطار لتنظيم العلاقة نفسها للإنسان (فردًا وجماعة) بغيره. وينبني ذلك على أنه لا يتصور أن تتخذ الدولة مرجعيتها مما يخص علاقة الإنسان بربه، وذلك ابتداءً من خصوصية وفرادة تلك العلاقة على نحو لا يمكن معه أن تكون مرجعًا لما به تنظيم علاقات المجموعة. وإذن لا يبقى — والحال كذلك — إلا أن الجانب التشريعي من الدين الذي ينتظم علاقة الإنسان بغيره، هو المقصود عند الحديث عن مرجعية دينية للدولة المدنية، وهو الجانب من الدين الذي يجد ما يؤسس لما فيه من الاختلاف والمغايرة — غير القابلين للإنكار — في الوضع الإنساني المدني، فإن ذلك يعني — وللمفارقة — أن المدني هو المرجع للديني، وليس العكس. وحين يظل أحد يتحدث، بعد ذلك، عن الديني كمرجع للمدني، فإنه لا يفعل إلا أن يخفي رؤيته المدنية بطبيعتها وراء الدين ليضفي عليها حصانة تسمو بها فوق منطق الفهم والمساءلة، وهو المنطق الذي اشتغل به النظام الذي تسعى مصر إلى تجاوزه والانفلات من أحابيله.

(٣) الدولة والإبريق: هامش فلسفي

رغم مُضي بعض الوقت على نشر جريدة الشروق مقالًا للأستاذ طارق البشري في «الجدل حول الدينية والمدنية»، فإن أهمية الموضوع تقتضي استئناف الحوار حول ما يثيره من أفكار تبدو في حاجة إلى التفنيد والرد. وإذ أقام الأستاذ مقاله على أمثولة، مستعارة من مولانا جلال الدين الرومي، فإن تفكيك تلك الأمثولة سيكون مدار الانشغال في هذا الحوار.

تحكي الأمثولة عن شيخٍ طلب من تلميذه الأحول أن يأتيه بإبريق الماء الخاص به. ولما صوَّر له الحوَل الإبريق إبريقَين، فإنه قد احتار أيهما يأخذ، ثم هداه تفكيره إلى أن يكسر أحدهما ويأخذ الآخر، لكنه لما كسر أحد الإبريقين لم يجد الآخر. ويرتب البشري على ذلك أن جماعات المصريين التي ترى الدولة الدينية والدولة المدنية دولتين، وليستا دولة واحدة، إنما تعاني من نفس داء التلميذ الأحول. وبالطبع فإن عليهم أن يوقفوا حجاجهم ضد الدولة الدينية؛ لأنهم إذا كسروها لن يجدوا الأخرى.

للوهلة الأولى، ينصرف الظن إلى أن قصد الأستاذ من توظيف الأمثولة هو قصد «معرفي»، يتمثل في إيضاح فكرته وتقريبها للأفهام، ولكن قراءة مدققة للسياق الذي يجري توظيفها فيه يكشف عن دور «أيديولوجي» يراد لها أن تلعبه، ويتمثل في إقصاء الخصوم تثبيتًا لاتجاه سياسي بعينه. فحين يوضع المصريون القائلون بالتعارض بين الدولة الدينية والدولة المدنية، في خانة المرضى الذين تجعلهم أنظارهم الكليلة يتوهمون ما لا حقيقة له من التعارض بينهما، فإن الإقصاء وحده لن يكون مصيرهم، بل إنه سيكون واجبًا احتجازهم في المشافي، فلا يبرحوها إلا وقد برئوا من توهماتهم الكليلة.

ولعل ما يؤكد على الدور «الأيديولوجي»، وليس «المعرفي»، لتوظيف الأستاذ البشري للأمثولة، يتمثل في أنها إذا كانت تندرج في إطار التفكير بالتمثيل أو التشبيه، فإن كفاءة هذا النوع من التفكير ترتبط بانتماء طرفيه (المشبه به والمشبه) إلى مجال وجود واحد؛ وبمعنى أنه لا يمكن نقل صفة الموجود «الحقيقي» إلى الموجود «الاعتباري» لاختلاف مجالَي الوجود. وهكذا فإنه لا يمكن نقل صفة المريد الأحول (الذي هو موجود حقيقي) إلى الشعب المصري (الذي هو موجود اعتباري)؛ وذلك تمامًا كما أن الإبريق (الذي هو موجود حسي) لا يمكن أن يكون معادلًا للدولة (التي هي موجود معنوي). وحين يدرك المرء أن تباين مجالات الوجود يستوجب تباين طرق الإدراك، فإنه يترتب على ذلك عدم جواز تمثيل ما يتصوره المصريون من التعارض بين الدولتين (الدينية والمدنية) الذي هو من قبيل الإدراك العقلي، بما يصوره الإدراك الحسي المخادع للمريد الأحول من أن الإبريق الواحد إبريقان، وبالطبع فإنه لا يمكن الادعاء — تبعًا لذلك — بأن احتجاج المصريين ضد الدولة الدينية سيؤدي إلى تحطيم الدولة (كمفهوم وكيان) على العموم، بمثل ما أدى خداع البصر، في حال المريد الأحول، إلى تحطيم الإبريق الحقيقي.

وفضلًا عن ذلك، فإن وعيًا بالسياق الذي تشتغل فيه الأمثولة عند كلٍّ من مولانا جلال الدين والأستاذ البشري يكشف عن التباين الكامل بينهما في القصد من توظيفها. فإنه كان يمكن لمولانا الرومي أن يجعل مريده الأحول يهوي بفأسه على النسخة المتوهمة للإبريق ليكسرها، وذلك بدلًا من نزوله بها على الإبريق الحقيقي. لكنه أراد له أن يكسر الإبريق الحقيقي؛ ليؤكد له على مدى ما يمكن أن يؤدي إليه خداع الحواس من التضحية بالوجود الحقيقي؛ وذلك ليتسنى له الارتقاء من أحبولة الحواس المخادعة إلى ضروبٍ أرقى من الإدراك العقلي والذوقي. وهكذا فإن الشيخ ليس منشغلًا بنقد حواس مريده المخادعة العليلة، إلا بقدر ما يؤدي إليه هذا النقد من الترقي به في معراج الإدراك المجاوز للحس. إن الشيخ مشغول بتعليم تلميذه أن الحواس لا يمكن أن تكون طريقًا إلى الوجود الحقيقي؛ ولهذا فإنه يترك لحواسه العليلة أن تكسر الإبريق الحقيقي. وأما عند الأستاذ البشري، فإنه لا شيء سوف يتحصل عليه المصريون — كليلو البصر — من نقدهم للدولة الدينية، إلا تحطيم دولتهم بالكلية. وهكذا، فإنه، وعلى العكس تمامًا من توظيف الشيخ الرومي للأمثولة من أجل دفع مريده إلى الارتقاء، فإن قصد الأستاذ البشري من توظيفها هو تخويف قارئيه من الانحطاط؛ وأعني من حيث يلح على ترويعهم بأن اختلافهم حول الدولة (الدينية والمدنية) هو — بلغة ابن خلدون — إيذان بخراب عمرانهم.

والحق أن «المدنية» هي المتلازمة التي إذا سقطت، فإن الدولة تسقط معها آليًّا، وأعني من حيث إن قوام الواحدة منهما يكون بالأخرى. فإنه لا قوام للدولة — بحسب أي قراءة تاريخية أو معرفية — إلا بالمدنية، تمامًا بمثل ما لا قوام للمدنية إلا بالدولة. إن ذلك يعني أن سقوط «المدنية»، ولا شيء غيرها، هو ما يئول إلى تحطيم «الدولة» وانحطاطها فعلًا. فإذ الاجتماع المدني هو للدولة بحسب ما هو معلوم، فإن ذلك يرتبط بأنه لا قوام لهذا الاجتماع المدني إلا بالدولة، والعكس. ومن حسن الحظ، أن ذلك ما تنطق به النشأة التاريخية للدولة، وذلك فضلًا عن المفهوم المستقر لها في الفكر السياسي.

وحتى إذا احتج أحدهم بأن للعرب تجربة مختلفة مع الدولة، يكشف عنها قول ابن خلدون: «إن العرب لم يحصل لهم المُلك إلا بالدين.» فإن ما قاله تفسيرًا لذلك يكشف عن أن «الدين» لم يكن بديلًا للاجتماع المدني كأساس للدولة، بقدر ما كان هو السبيل إلى تحصيل هذا الاجتماع. وإذن فإنها كانت تجربة خاصة يربطها ابن خلدون بما كان عليه العرب من «خُلق التوحش الذي جعلهم أصعب الأمم انقيادًا … فإذا كان الدين سهل انقيادهم واجتماعهم». وهكذا كان حضور الدين مرتبطًا بتسهيله للاجتماع المدني، وعلى النحو الذي تكون معه «المدنية» هي الغاية من ظهور الدين. والمهم أن ذلك يبقى جزءًا من تجربة خاصة بالعرب، ولا يمكن تعميمها خارج سياقها. ففي مصر مثلًا، كان «النهر» — وليس الدين — هو المسهل لاجتماع أهلها المدني، ولعل ذلك يعني أن تجربة العرب مع الدولة لا تخلخل قاعدة أن قوام الدولة يكون بالمدنية؛ بل إنها، على العكس، تؤكد على أن حضور الدين قد ارتبط بتحصيل «المدنية». وهكذا، فإن الدين ليس هو المتلازمة التي يؤدي تحييدها إلى كسر الدولة، بل إن «المدنية» هي المتلازمة التي تزول مع زوالها الدولة. ولعل الدليل على ذلك يأتي كاشفًا من الصومال، التي تلازم سقوط الدولة فيها مع ما جرى من الغياب الكامل للمدنية التي تكشفها مجرد نظرة على شوارع عاصمتها المدمرة، ولم يتلازم هذا السقوط للدولة مع غياب «الدين» الذي راح يجري، على العكس، استدعاؤه لكي تتناحر الفصائل الصومالية المتحاربة تحت راياته.

ولكن ما هو جوهر تلك «المدنية» التي هي قوام الدولة؟

لعل ما يلفت النظر حقًّا، أن معظم المتجادلين حول «المدنية» يركزون على تعريفها بما يتصورون أنه نقيضها (العسكري والديني)، ولا يتوقفون عند جوهر ما تعنيه بمعزل عن نقائضها. ولعل جوهر «المدنية» هو وعي البشر بضرورة العيش المشترك، مع وجوب أن ينضبط هذا العيش بقانون يتوافقون عليه، وبحيث يتجاوزون حالة ما قبل المدنية التي كان الفرد فيها منشغلًا بإشباع مجرد حاجاته الأنانية معتمدًا على قوته، ولو على حساب الآخرين. ولأن القانون يكون تعبيرًا عن إرادة الناس ووعيهم، فإنه لا يمكن أن يكون جامدًا، وإلا فإنه لن يكون ممكنًا إلا فرضه على الناس بمحض القوة الباطشة المستبدة. وغني عن البيان أن هذا الفرض على الناس بالقوة هو ما يمثل التهديد الأكبر ليس فقط للمدنية، بل وللدولة التي سيكون مآلها السقوط والتفكك إذا ما قامت على مبدأ الفرض الإكراهي لشرعيتها بالقوة على الجماعات المكونة لها.

وترتيبًا على ذلك، فإن ما يقوم به الصاخبون في مصر من استدعاء الدين كمنظومة فقهية جاهزة وثابتة، ليجري فرضها كرهًا على المسلمين وغيرهم (بسبب ثباتها وجمودها)، هو ما يمثل التهديد الأكبر للمدنية والدولة معًا. وللمفارقة، فإنه يمثل تهديدًا للدين أيضًا، وعلى النحو الذي لا بد معه أن يكون الدين موضوعًا للتفكير ليستوعب حركة الواقع، فيستوعبه الواقع بالتالي. ومن حسن الحظ أن ذلك ما يدفع إليه الإسلام فعلًا، وذلك على عكس ما يتصور أولئك الصاخبون من الذين يغطون على بلادة العقل بارتفاع الصوت.

الدولة المدنية وبديلتها الشمولية

إذا كانت «المدنية» هي السمة، التي يكاد يتوافق عليها الكافة للدولة المأمولة في مصر بعد ثورتها التي تجاهد من أجل أن تكون حدثًا تأسيسيًّا، فإنه يبدو — لسوء الحظ — أن تعبير «الدولة المدنية» لا يكاد يجاوز — في الجدال المصري الواسع الدائر الآن — حدود الشعار (الذي يجري التعامل معه كأقنوم مطلوب من الناس أن يتعبدوه، ولو من غير فهم) إلى المفهوم المنضبط (كنتيجة لخضوعه لعملية فهم ومساءلة).

ولسوء الحظ، فإن ذلك يعكس استمرارًا لطريقة المقاربة «البرانية» للمفاهيم، مع إهمال المكونات «الجوانية» التي تؤسس لها؛ وهي الطريقة المسئولة، بالأساس، عن حال التأزم والانسداد الذي بلغته الدولة العربية الراهنة، فهي الطريقة التي جعلت تلك الدولة تتعامل مع «الديمقراطية» — مثلًا — على أنها جملة هياكل برانية صورية، مع إهمال مكونها الجواني التأسيسي، وعلى النحو الذي تحولت معه تلك الهياكل البرانية إلى أقنعة لاستبداد الحاكم وتسلطه. ولقد بلغت شكلانية وبرانية مفهوم «الدولة المدنية»، في الجدل الراهن، حدًّا راح معه كثيرون يختزلونه في رداء القائم على رأس الدولة (أو صاحبها بلغة ابن خلدون). وتبعًا لذلك، فإن الدولة تكون مدنية، طالما أن القائم على رأسها لا يعتمر قبعة «العسكر» أو عمامة «رجال الدين»، وأما المبدأ «الجواني» المؤسس لمدنية الدولة، فإن أحدًا لا ينشغل بالسؤال عنه. وينسى الناس أنه مع غياب هذا المبدأ الجواني، فإنه لن يكون ممكنًا بناء الدولة المدنية، ولو كان القائم على رأس الدولة من غير العسكر ورجال الدين، بل إنه قد حدث أن قام على رأس الدولة العربية من جاء من خارج دائرتَي العسكر ورجال الدين، وأجبره غياب المبدأ المدني للدولة على أن يرتدي زي الجنرالات أو الفقهاء؛ وذلك بمثل ما حدث في كلٍّ من سوريا والمغرب.

فالكل يتذكر ما جرى مع الرئيس السوري الحالي الذي ورث السلطة عن أبيه قبل بضع سنوات، حيث فرض عليه النظام أن يصبح جزءًا من مؤسسة العسكر (فيصبح جنرالًا في جيش البلاد) قبل أن يصبح رئيسًا. وهو نفس ما جرى، ولكن في اتجاه آخر، مع الملك محمد السادس في المغرب، حيث ألزمه النظام أن يحمل كجزء من لوازم الملك وتبعاته لقب «أمير المؤمنين»، بما يحمله من دلالة دينية كثيفة. وبالطبع فإنه لا يمكن النظر إلى ما جرى من ارتداء أحدهما زي الجنرالات ووضع الآخر لعمامة «أمير المؤمنين» على رأسه، بوصفه إلغاءً لمدنية دولتيهما، بقدر ما هو علامة على غياب تلك «المدنية» أصلًا. فالمدنية لم تغب عن الدولة لارتداء الرجلين، أحدهما زي الجنرالات والآخر زي الفقهاء، بل إنهما قد ارتديا هذين الزيين لغياب المدنية أصلًا، وعلى نحو تبدو معه مسألة الزي هي بمثابة «نتيجة» لغياب المدنية، وليست «سببًا» لها. ولسوء الحظ، فإن الانشغال الراهن بالزي الخارجي للحاكم، على حساب وجوب السعي إلى ترسيخ المبدأ الباطني الجواني للمدنية، يبدو انشغالًا بالهامشي والعارض، على حساب الجوهري واللازم.

ولعله يبدو هكذا أنه إذا كانت العبرة في مسألة «مدنية» الدولة، هي في جوهرية حضور المبدأ الجواني المؤسس لها، وليس في زي القائم على رأسها، فإنه لن يؤثر في مدنية الدولة أن يكون القائم عليها ممن يرتدون زي العسكر أو رجال الدين، طالما أن المبدأ الجواني المؤسس لتلك المدنية قد تحقق، وحظي باحترام الكافة، أولًا. ولكن ما هو هذا المبدأ الجواني الذي يؤسس لمدنية الدولة؟

إن «المدنية» هي سمة لَصِيقة بالدولة، وإلى حد إمكان القول بأن تعبير «مدنية الدولة» يكاد يساوي تعبير «مائية الماء»؛ فليس من «دولة» إلا وهي «مدنية» بطبيعتها، ولا يمكن أن تكون غير مدنية إلا حين تخون طبيعتها؛ فقد نشأت الدولة كأداة لاستيعاب تحول الإنسان من حال الوجود الطبيعي (الذي ينشغل فيه الفرد بمجرد إشباع حاجاته وغرائزه الطبيعية) إلى حال الاجتماع المدني (الذي ينشغل فيه بما ينظم حاجته للاجتماع الضروري مع الآخرين) … وهنا فإنه إذا كان القانون الحاكم لحال الوجود الطبيعي للبشر هو قانون «سيادة الأقوى» الغالب في الطبيعة، فإن القانون الذي ينبني عليه الاجتماع المدني هو قانون «الحق» الذي تصوغه الجماعة — على قول جون لوك — «شاملًا ووافيًا لحاجة الجميع»، وبما يعنيه ذلك من أن الدولة المدنية هي، في جوهرها، دولة «الحق»، وليست دولة «القوة» أو الإكراه والقمع … وإذ تتعدد الطرق إلى هذا «الحق» الذي هو جوهر الاجتماع المدني وروحه، فإن مدنية الدولة لا تفارقها إذا ما حكمتها شريعة «عقلية» أو «دينية» طالما كانت تلك الشرائع قائمة على الفاعلية الكاملة لمبدأ «الحق»؛ فالحق أن «الديني» يمكن أن يكون، شأنه شأن «العقلي» تمامًا، طريقًا إلى «الحق»، على أن ذلك يستلزم اشتغالًا معرفيًّا واسعًا يرفع ما جرى ترسيخه من التعارض بينه وبين المدني. وهنا فإنه إذا كان قد حدث أن هذا «الديني» قد استحال إلى قناع للتسلط والتمييز، فإن «العقلي» لم يفلت، بدوره، من أن يكون طريقًا إلى أعتى ضروب التمييز والقمع. وبالطبع فإنه إذا كانت الخبرة التاريخية للإنسانية تكشف عن قدرة البشر على تعرية كافة الأنظمة التي تتسلط عليهم باسم «العقل»، فإنها تؤكد قدرتهم، بالمثل، على فضح من يمارسون ذات التسلط عليهم باسم «الله». وعلى أي الأحوال، فإنه يبقى أن ذلك يؤشر، لا على تعدد الطرق إلى «الحق» فقط، بل — والأهم — على أنه ليس ثمة طريق جاهز إليه، بل إن البشر يصنعون طريقهم إليه في قلب تجربتهم الخاصة، ولا يستعيرونه مكتمل الصنع من خارجها.

وإذا كان قد بدا، هكذا، أن الدولة، على العموم، هي «أداة» الإنسان في تنظيم اجتماعه المدني على قاعدة «الحق»، فإنه كثيرًا ما حدث أن انحرفت الدولة عن هذا الدور الذي أراده لها منشئها؛ الذي هو الإنسان لا محالة. وهكذا فإنها راحت تحيل نفسها إلى «بقرة مقدسة» يتعبدها الناس ويتبركون بفضلاتها. ولعلها بذلك كانت تتنكر لإنسانيتها، وعلى النحو الذي أحالت معه الإنسان إلى «أداة» في يد قوة عمياء باطشة. وغني عن البيان أن الدولة عندئذٍ تكون قد خانت طبيعتها كدولة مدنية، وتحولت إلى ما جرى التعارف على أنه الدولة الشمولية. فهذه الأخيرة هي دولة الفكرة المغلقة المطلقة، بصرف النظر عن مضمون تلك الفكرة الذي قد يكون دينيًّا أو حتى علمانيًّا. إنها الفكرة-الدوجما التي تعلو فوق البشر الذين يجري النظر إليهم كمجرد أدوات أو أشياء تتحقق بواسطتها تلك الفكرة. وإذن فإنها الدولة التي يستحيل معها الإنسان إلى مجرد أداة في قبضة قوة مجاوزة له؛ سواء كانت تلك القوة هي الله (أو الناطقين باسمه بالأحرى)، أو الزعيم (الإنسان الأعلى)، أو الحزب أو الطبقة أو الطائفة أو العشيرة، أو حتى النظرية العلمية، أو أي أنظمة مجاوزة لوجود الإنسان بما هو كينونة فاعلة حرة. ولعل ما يبدو، على هذا النحو، من أن وسيلة الشموليات في إنتاج نفسها تنبني، بالأساس، على تكريس تصور الإنسان «الأداة»، وليس «الفاعل»، يدفع إلى الإنهاء بمشهد ذلك الرجل الذي اختار أن يقف ليلة الاحتفال العارم بتنحي الرئيس «مبارك»، حيث توقف رجل في منتصف كوبري قصر النيل — المؤدي إلى ميدان التحرير — رافعًا لوحةً كتب عليها: «الله وحده هو الذي أسقط النظام.» فبادرته بالسؤال: وماذا كان يفعل كل هؤلاء الناس على مدى الأيام السبعة عشر الماضية؟ وأردفت: لماذا يا سيدي تحاول أن تسلب الناس حقًّا ينبغي نسبته إليهم؟ لكأنك تقول لهم: كفوا عن احتفالكم بنجاحكم في إنفاذ إرادتكم التي ظل يدوي بها هتافكم «الشعب يريد إسقاط النظام»، فليس لكم أي فضل فيما حدث، بل الفضل لغيركم. فردَّ الرجل قائلًا: إن الناس كانوا مجرد سبب أو «أداة» لله، لا غير. لم يكن المقام يسمح بالمزيد من النقاش، ولكنه حدث أن جمعًا من الشباب كان يتابع الحوار، قد رفض أن يقوم الرجل، ولو عبر مراوغة التخفي وراء الله، بإهدار ما قام به الملايين من الشيب والشباب، فهتفوا: «الشعب هو الذي أسقط النظام.» ورغم ما ينطق به هتاف الشباب من وعي باهر، فإن المرء يخشى من أن البعض — ولو ببراءة وحسن نية — يدفع العربة في اتجاه شمولية يمارس فيها البعض تسلطه من وراء قناع مختلف؛ إذ الحق أن عبارة «الله وحده هو الذي أسقط النظام» ليست — فيما قد يرى الكثيرون — مجرد تعبير عن موقف «إيماني» مخلص، بقدر ما تعبر، وبامتياز، عن موقف «سياسي»، يجاوز — في الحقيقة — إيمان الرجل وتقواه. فإنه حين يحاول البعض السطو على الدور الفاعل والمشهود للناس، ليردوه إلى الله، فإن ذلك يكون من قبيل الرد إلى الله بالمجاز، وأما في الحقيقة، فإنهم يردونه إلى «ذلك» الذي ينطق باسمه ويتخفى وراءه (سواء كان فردًا أو جماعة). وهنا تقوم المشكلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤