الإسلامويون (الإخوان)
(١) ليس من الإسلام
ثَمة كثيرون أحضرتهم الثورة من عالم الصمت والظلال إلى عالم الصخب والإبهار. من بين هؤلاء رجل لطيف؛ عصري المظهر واللباس، حليق الذقن والشارب، وعلى جبهته ينسدل شعره الطويل الناعم. وحين يدرك المرء أن هذا الوجيه العصري هو أحد أفراد الفيلق الإعلامي لجماعة الإخوان المسلمين، فإنه قد يندفع إلى الظن بأن الإلحاح على الظهور الطاغي لهذا الرجل بالذات هو — وبصرف النظر عن مضمون ما يقوله — أمر مقصود بذاته للإيهام بحداثة الجماعة وعصرانيتها.
وإذن فلعله يبدو وكأن الجماعة على وعي بأنها تخوض حرب الصورة فيما يقال إنه عصر الصور، وبحيث راحت تسعى لتثبيت صورة لمنتسبيها في مخيلة الناس تختلف عن تلك التي استقرت لهم قبل ذلك، وهي صورة تستوفي كل مفردات العصر الحداثي الراهن. وللإنصاف فإن الأمر يتجاوز مجرد خلق الإيهام عبر استخدام الصورة العصرية للرجل إلى ما يبدو من أن مفردات الخطاب الذي دارت به أسطوانته، كل ليلة تقريبًا، قد راحت تختلف، بدورها، عن تلك المتداولة في خطاب الجماعة؛ ولكن مع ملاحظة أن هذا الاختلاف لا يتعدى حدود مجرد الشكل والصورة أيضًا.
وإذ يكتفي أقران هذا الرجل العصري وإخوانه، بالتفكير في دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية، وبما يعنيه ذلك من الإقرار الضمني بأن الدولة المدنية قد انبثقت خارج الإسلام، بل والدين على العموم؛ ولهذا فإنهم يريدون لها أن تتخذ من الإسلام مرجعًا لها، فإن هذا الوجيه العصري يتجاوز ذلك إلى القطع بأن الدولة المدنية، بل وكل مفردات الظاهرة السياسية الحديثة، قد حضرت (فكرة ومضمونًا وإجراءً) إلى الوجود مع الإسلام وحده. وبالطبع فإن ذلك يجعل الرجل من نوع المسلم الذي لم يجد السيد رشيد رضا — تلميذ محمد عبده ومريده — توصيفًا له إلا أنه ما إن يتعرض لظاهرة حديثة (سياسية أو حتى علمية أو غيرها) إلا ويفكر أن هذا من الإسلام.
وبحسب هذا النوع من التفكير، فإن الإسلام هو أصل كل شيء ومصدره بالإحداث والإنشاء، وليس بالتأويل والإلحاق؛ وعلى النحو الذي يبدو معه أن الأمر لا يتعلق بتأويل يقرأ تطورًا لاحقًا (كالدولة المدنية) في أصل سابق (هو الإسلام)، بل بإنشاء الأصل السابق (الإسلام) للتطور اللاحق (الدولة المدنية).
وضمن سياق هذا التمييز، فإنه إذا كان مأزق القول بمرجعية إسلامية للدولة المدنية يتمثل فيما ينتهي إليه — خصوصًا مع تصور هذه المرجعية على أنها المنظومة الفقهية المتحدرة من السلف — من تكريس التمييز (ضد المرأة وغير المسلمين والأدنى اجتماعيًّا وعرقيًّا)، وعلى النحو الذي يتعارض مع جوهر ما تقوم عليه الدولة من إلغاء كل أشكال التمييز، فإن مأزق ما يقول به الوجيه العصري من أن الإسلام كان هو فقط الذي أحضر الدولة المدنية إلى الوجود، يتأتى مما لا بد أن يترتب على هذا القول حتمًا من أن الإسلام هو أصل الدولة المدنية بالإنشاء والإحداث، وليس بالإضافة والإلحاق. فالسابق، عنده، هو الذي أنشأ اللاحق وأحدثه من العدم. وبالطبع فإنه كان يمكن أن تكون لهذا القول مشروعيته ومنطقيته لو أن هذا التطور اللاحق قد انبثق ضمن سياق التجربة التاريخية للإسلام، أو أن من أحدثوه كانوا ممن ينتمون إليه ويؤمنون به، ولكن المأزق يتأتى من أنه قد تبلور خارج هذه التجربة؛ فضلًا عن أن من أحدثوه كانوا من غير المسلمين فعلًا. يتأتى المأزق، إذن، من أن الإسلام الذي هو السابق، في الترتيب التاريخي، لا يمكن أن يكون — والحال كذلك — أصلًا لتطور الدولة المدنية اللاحق إلا بالإضافة والإلحاق، أو — في كلمة واحدة — بالتأويل. وبالطبع فإنه لا سبيل لتجاوز هذا المأزق (في شكليه السابق الإشارة إليهما) إلا عبر الوعي بالأساس التأويلي الذي تقوم عليه العلاقة بين الإسلام من جهة، والظاهرة السياسية الحديثة متمثلة في الدولة المدنية من جهة أخرى.
في أبسط معانيها، فإن التأويلية تعني أن تنفتح الواحدة من منظومتين محددتين (كالإسلام والظاهرة السياسية الحديثة مثلًا) على الأخرى، ولكن بكيفية تخلو من التضحية بجوهر إحداهما لحساب الأخرى، أو فرض إحداهما على الأخرى على نحو من الإكراه والتعسف.
وبالطبع فإنه لا سبيل إلى هذا الانفتاح بين الواحدة من المنظومتين والأخرى إلا عبر الوعي بجوهر ما تقومان عليه في العمق، وفيما وراء مجرد أشكالهما الظاهرة؛ وبمعنى أن يكون الإسلام موضوعًا لوعي يتجاوز الشكل الذي تركه عليه القدماء، وذلك بمثل ما تكون الدولة المدنية موضوعًا لفهم يتجاوز محض حضورها الإجرائي الشكلي. ولسوء الحظ، فإن فعل الوعي يغيب عن الممارسة الراهنة، ولا يبقى حاضرًا إلا فعل الفرض والطمس. فإنه إذا كان أصحاب القول بالدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية يفرضون على تلك الدولة من المنظومة الفقهية المتوارثة ما يؤدي إلى التضحية بجوهر ما تقوم عليه، فإن صاحب القول بأن الإسلام هو الذي أحضر الدولة المدنية إلى الوجود يتجاوز مجرد الفرض للإسلام على الظاهرة السياسية الحديثة إلى التضحية بالوجود الذاتي لهذه الظاهرة من الأصل. وتبعًا لذلك، فإن المنظومتين — بحسب هؤلاء — لا تنفتح الواحدة منهما على الأخرى في حوار منتج، توسع فيه الواحدة منهما الأخرى وتتسع بها في الآن نفسه، بل تهدد إحداهما الأخرى وتضيق بها؛ وذلك على النحو الذي يجعل من التعامل الراهن مع الظاهرة السياسية الحديثة في علاقتها مع الإسلام، تعاملًا عقيمًا وفاسدًا.
وإذا كان فساد هذا التعامل وعقمه يتأتى من إنكار التأويلية كأساس للعلاقة بين منظومتَي الإسلام والظاهرة السياسية الحديثة، فإن ما يثير الاندهاش، حقًّا، أن سلفًا كبيرًا، في وزن السيد رشيد رضا الذي يمكن اعتباره رائدًا للأستاذ البنا مؤسس جماعة الإخوان، قد كتب — قبل أكثر من مائة عام — ما يشي بفهم أكثر وعيًا واستنارة من ذلك الذي يثرثر به أحفاده المتأخرون، لعلاقة الإسلام بالظاهرة السياسية الحديثة.
فقد كتب الرجل في «المنار»: لا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم «الدستوري الحديث» أصل من أصول ديننا، ونحن قد استفدناه من الكتاب المبين ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الأوروبيين والوقوف على سيرة الغربيين؛ فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس، لما فكرت أنت وأمثالك أن هذا من الإسلام، ولكان أسبق الناس إلى الدعوة إلى إقامة هذا الركن علماء الدين في الآستانة وفي مصر ومراكش؛ وهم الذين لا يزال أكثرهم يؤيد حكومة الأفراد الاستبدادية ويُعَد من أكبر معاونيها، ولما كان أكثر طلاب حكم الشورى المقيد هم الذين عرفوا أوروبا والأوروبيين … ألم ترَ إلى بلاد مراكش، الجاهلة بحال الأوروبيين، كيف تتخبط في ظلمات استبدادها، ولا تسمع من أحدٍ كلمات شورى مع أن أهلها من أكثر الناس تلاوة لسورة الشورى، ولغيرها من السور التي شُرع فيها الأمر بالمشاورة وفُوض حكم السياسة إلى جماعة أولي الأمر والرأي … (وإذن) فلولا اختلاطنا بالأوروبيين، لما تنبهنا من حيث نحن أمة أو أمم إلى هذا الأمر العظيم. وهكذا فإنه لولا ما حققه الأوروبيون في مجال الظاهرة السياسية الحديثة وغيرها، لما كان للمسلم — بتعبير رضا — أن يفكر أن هذا من الإسلام أصلًا.
وليس من شك في أن فعل التفكير الذي ينسبه رضا إلى المسلم — في هذا السياق — ليس تفكير ابتكار وإبداع، بل تفكير إلحاق واستتباع، على الطريقة العتيقة للفقهاء؛ وأعني من حيث ما يبدو من أن فعل التحقيق والإبداع كان مقصورًا — في اللحظة التي كتب فيها نصه، ولا يزال على نفس الحال للآن — على الأوروبيين وحدهم، وذلك فيما لا يعرف المسلمون إلا فعل الاستتباع والإلحاق. وبالطبع فإنه لو كان للمسلمين أن يمارسوا فعل التحقيق والإبداع، لكان لهم أن يجادلوا بأن إسلامهم السابق هو أصل إبداعهم اللاحق. وأما أن يتركوا للأوروبيين فعل الإبداع ويكتفي المسلمون بفعل الإلحاق، فإنه ليس لهم أن يضيفوا إبداع غيرهم اللاحق إلى أصلهم السابق؛ أو أن هذه الإضافة هي من قبيل قراءة اللاحق في السابق، التي تظل قراءة تأويلية أبدًا.
ولعله ليس من تفسير لهذا التباين بين موقف رشيد رضا وموقف أحفاده المتأخرين إلا أنه فيما كانت المعرفة وتنوير الأذهان — ولو بخصوص هذه المسألة المتعلقة بالإسلام والسياسة الحديثة بالذات — هي شاغل تلميذ الأستاذ الإمام، فإن أحفاده من مؤدلجي الإسلام المتأخرين، قد غرقوا في مستنقع الأيديولوجيا إلى ما بعد أذقانهم. وغني عن البيان أن إنكار التأويلية من جانب هؤلاء المؤدلجين للإسلام إنما يرتبط بأن القصد عندهم ليس تنوير الأذهان بقدر ما هو التجييش وحشد الأتباع. وبالطبع فإنه ليس من سبيلٍ أمامهم لفعل ذلك إلا من خلال نفي التأويلية عن تلفيقاتهم الأيديولوجية للإسلام؛ ليُضفوا عليها قداسة المتعالي الذي يتعدى بها حدود الأفهام إلى محض التلقي والإذعان.
(٢) عن الاستبداد والتنطع
لعله يلزم التنويه بأنه إذا كانت العلاقة بين الديني والسياسي في الإسلام تحتاج إلى استقصاء أعمق يتجاوز حدود هذا الحيز، فإنه يمكن القول — على العموم — بأنه إذا كان الدين قد ظل يقدم للسياسة لغتها وقاموس مفرداتها، فإن كل موجهاتها ومحدداتها الرئيسية قد ظلت تنتمي إلى مجال آخر غير الدين. وبعبارة أخرى، فإنه إذا كان الدين قد منح السياسة لغتها وشكل ممارستها، فإن مضمون تلك الممارسة ومحتواها قد ظل شيئًا يقع خارج حدوده في الأغلب. ولعل استقراءً للمصنفات التاريخية الكبرى يئول إلى أن صراعات القوة قد كانت هي المحدد الرئيسي لممارسة السياسة في الإسلام؛ فلا يكاد ابن خلدون — الذي يستمد قيمته الكبرى من كونه صاحب خطاب عن التاريخ، وليس من كونه مجرد مؤرخ، أو ناقل للأخبار مثل غيره — يرى في تاريخ المسلمين حتى عصره، إلا نوعًا من الفاعلية شبه المطلقة لقانون العصبية القبلية التي كانت — ولعلها تبقى للآن — الشكل السائد لاشتغال القوة. والغريب أن المحاولات لا تتوقف لإخفاء هذا التاريخ الطويل الذي كتبته القوة لكي يتوارى من الذاكرة بالكلية، لحساب تاريخ مثالي ومتخيل يستخدمه دعاة الإسلام السياسي في الترويج لأجنداتهم السياسية النازعة للهيمنة. ورغم هذا السعي الدائب إلى طمس هذا التاريخ الرذيل الذي يجرح الوعي ويشقيه، فإن ما يشهده العالم العربي، في اللحظة الراهنة، من انفجار المكبوت القبلي والعشائري والطائفي والمذهبي الذي لطالما جرى كبته وراء أقنعة الدين — ثم الحداثة بعد ذلك — لما يؤكد على أنه من قبيل التاريخ الذي يأبى الغياب والسكوت.
إن ذلك يعني أن الدين كان — ولا يزال — جزءًا من لعبة القوة ومن أدوات اجتيازها والإمساك بمفاتيحها. وضمن هذا السياق، فإن ثمة علاقة طردية بين تصور بعينه للدين وبين حجم القوة التي يوفرها للقائمين على توظيفه سياسيًّا، وأعني أنه كلما كان الدين حرفيًّا وقطعيًّا يكون مقدار القوة التي يقدمها لهؤلاء الساعين إلى التخفي وراءه أكبر — بما لا يقاس — من تلك التي يوفرها لهم حين يكون موضوعًا لتفكير مفتوح. ويرتبط ذلك بحقيقة أن «قطعية الدين وحرفيته» تكون هي الأكثر مثالية في إخضاع الجمهور وقهره، وأعني من حيث لا يكون متاحًا له، في إطارها، إلا محض التسليم والامتثال، من دون جدل أو سؤال. وإذ يقوم دعاة الإسلام السياسي بتثبيت هذا التصور القطعي للدين على أحد المفاهيم الشائعة المستقرة في وعي الجمهور، وهو مفهوم «القطعي الثبوت والدلالة»، فإنه يلزم التنويه بما يقوم عليه هذا المفهوم من مراوغة تسوية «قطعية الثبوت» مع «قطعية الدلالة»، وذلك فيما ينتمي «الثبوت» إلى مجال التاريخ الذي يغاير بالكلية مجال المعنى الذي تنتمي إليه «الدلالة». وبالطبع فإنه لا يمكن التسوية أبدًا بين ما ينتمي إلى مجال «الثبوت التاريخي»، وبين ما ينتمي إلى مجال «المعنى الدلالي»، وبمعنى أنه في حين أن أحدًا لا يجادل في يقينية «ثبوت» القرآن، وبما يعنيه ذلك من إمكان بل وجوب التأكيد على «قطعية» ثبوته، فإنه لا يمكن القول بقطعية دلالته ومعناه؛ لأن ذلك يعني وجوب القول بأحادية الدلالة والمعنى، وهو ما لا يمكن لمسلم أن يقبله بخصوص القرآن.
وعلى العكس من هذا التصور القطعي للدين، فإن تصوره موضوعًا لتفكير مفتوح إنما يجعل منه إحدى الساحات التي تنفتح أمام الفرد لتأكيد قدرته على التفكير الفاعل المستقل. وبحسب ذلك، فإنه فيما يتيح التصور القطعي للدين للسلطة أن تهيمن على المجال العام، وتتحكم فيه بالكلية، فإن الأثر الذي يؤدي إليه التصور المفتوح للدين — في المقابل — لا يقف عند حد حرمانها من هذا الامتياز فحسب، بل ويئول إلى جعلها موضوعًا للتحكم والضبط من جانب الأفراد. ولعله يلزم الوعي، في هذا السياق، بجدلية العلاقة بين تصور الدين «حرفيًّا وقطعيًّا» من جهة، وبين الطبيعة الاستبدادية التسلطية للسلطة من جهة أخرى، وبمعنى أن العلاقة بينهما لا تمضي في اتجاه واحد، بل إن الواحد منهما يحدد الآخر، ويتحدد به في الآن نفسه.
وإذ يعني ذلك أن «قطعية الدين وحرفيته» إنما تؤسس للاستبداد، بذات القدر الذي يؤسس به — هو أيضًا — لها، فإن ذلك ما انشغل به، وأفاض في بيانه، رجل الإصلاح وداعيته الكبير عبد الرحمن الكواكبي؛ فقد مضى الرجل يفضح الطريقة التي يسطو من خلالها المستبد على الدين ويحيله إلى مطية لطغيانه واستبداده، سواء كان ذلك من خلال اتخاذه لنفسه «صفة قدسية يتشارك بها مع الله، أو تعطيه مقامًا ذا علاقة مع الله، أو يتخذ بطانة من أهل الدين المستبدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله».
وبالطبع فإن هذا الامتطاء للدين، من جانب المستبد، هو ما كان لا بد أن يجعل منه مجرد زخارف ورسوم شكلية خارجية، وبحيث يتحول إلى ما يشبه الدواء المهدئ الذي تتعاطاه جماهير يائسة محبطة، لتتعزى به عما تعانيه من الاستبداد والقهر، ويفقد دوره الجوهري في تنوير الإنسان وتحريره بالأساس، وبما يعنيه ذلك من التأكيد على دور المستبد في تفريغ الدين من مضمونه وتحويله إلى مجرد شكل فارغ. ولقد كان الكواكبي هو من كشف، ببراعة، عن الكيفية التي ينتج بها الاستبداد «التنطع» في الدين الذي هو علامة خوائه وصوريته؛ فقد مضى إلى أن المستبدين قد سطوا على الدين واتخذوه وسيلة لتفريق الكلمة وتقسيم الأمة شيعًا، وجعلوه آلة لأهوائهم، فضيعوه وضيعوا أهله بالتفريع والتوسيع والتشديد والتشويش وإدخال ما ليس منه فيه، كما فعل أصحاب الأديان السائرة، حتى جعلوه دينًا لا يقوى أحد ممن يتوهم أن كل ما دونه هو منه على القيام بواجباته وآدابه ومزايداته، التي صارت تشتبه مراتبها على العام والخاص. وبذلك انفتح باب التلوم على النفس واعتقاد التقصير المطلق، وأن لا نجاة ولا مخرج، ولا إمكان لمحاسبة النفس. وهذه الحال تصغر النفس وتخفت الصوت وتمنع الجسارة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المنوط بها قيام الدين وقيام النظام والعدل. وهذا الإهمال للمراقبة والسيطرة والمؤاخذة والسؤال أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود.
(٣) هل تتصالح الديمقراطية مع خطاب الإسلام السياسي؟!
تقوم ظاهرة الإسلام السياسي — وتحتل موقع القلب فيها جماعة الإخوان المسلمين — على ضروب من الالتباس التي يجري إخفاؤها، وعن عمد، لتكون بمنأًى عن الوعي المنضبط بها، وعلى النحو الذي يهبها الديمومة واستمرار البقاء. كما يرتبط ذلك بالسعي إلى تصوير الجماعات المكونة لظاهرة الإسلام السياسي، على أنها جماعات «طهورية»، لا انشغال لها بما يجاوز حدود «المقدس» الديني، وبما يعنيه ذلك من تعهد إخفاء طابعها السياسي. ومن هنا وجوب فض الالتباسات المتعلقة بموقف هذه الجماعات من الحداثة، والعلاقة بين الدين والسياسة، والعقل والتقليد والطاعة وغيرها.
وفيما يخص الالتباس المتعلق بالموقف من الحداثة، فإن الأصل فيه يأتي من أن أحدًا لم يلتفت — بما يكفي — إلى استقصاء السياق الفكري والمعرفي الذي تبلور فيه خطاب جماعة الإخوان المسلمين، وتيار الإسلام السياسي على العموم، وذلك على الرغم من غزارة الالتفات إلى السياق السياسي والتاريخي الذي أدى إلى ظهور كلٍّ منهما، والذي يتمثل في إعلان سقوط الخلافة في العام ١٩٢٤م، بالذات. ولعل المدخل إلى الوعي بهذا السياق المهمل، ينطلق من الإقرار بأن تيار الإسلام السياسي — وضمنه جماعة الإخوان — هو جزء من صميم ما يُعرَف بظاهرة الحداثة العربية، وإلى حد إمكان القطع بأنه لو أمكن تصور غياب ظاهرة «الحداثة» على العموم — والنمط العربي منها على الخصوص — لما كان لتيار الإسلام السياسي أن يتبلور من الأساس. ويعني ذلك أنه يستحيل استيعاب ظاهرة الإسلام السياسي خارج القوانين والمحددات التي حكمت انبثاق وتطور ظاهرة التحديث في العالم العربي منذ العقود الأولى في القرن التاسع عشر. وبالطبع فإنه لا يؤثر في ذلك ما يجري الإيهام به من أن الإسلام السياسي يبغي استبدال الإسلام — كمنظومة حياة — بالحداثة، من أجل استرداد ماضيه الذهبي السابق عليها، حيث الأمر لا يتجاوز مجرد استخدام الإسلام والحداثة معًا من أجل بناء وتثبيت أيديولوجيا سياسية، لا تختلف عن غيرها من أيديولوجيات مناوئة إلا من حيث نوع القناع الذي تتخفى خلفه.
من صاغوا خطاب التغيير في العالم العربي قد قاموا بالتمييز في الحداثة ومنذ البدء بين المكون «التقني الإجرائي» لها، والذي اعتبروه من «النفيس» المقبول الواجب نقله إلى ديار المسلمين، وبين مكونها «العقلي النقدي»، الذي اعتبروه من «الخسيس» المرذول الذي لا يجوز تعاطيه أو نقله إلى ديارهم. وبالطبع فإن ما يجري الآن في العالم العربي، لم يقطع بأن هذه الأطروحة التي استقر عليها الجميع على مدى القرنين الفائتين، قد حافظت للجمهور على وضع «الجاهل» الذي يشهد ما يحصل الآن بأنه لم يغادره، وفقط فإن هذا الجمهور قد اختار — مع تراخي قبضة الدولة — أن يتخلى عما فرضته عليه من «الوداعة». ورغم ما بدا من بؤس هذا الضرب من التغيير في الواقع الخارجي، مع الإهمال شبه الكامل للشرط العقلي اللازم لأي تغيير حقيقي، فإن ذلك قد حدد طريقة عمل الفرقاء العاملين تحت مظلة الخطاب العربي الحديث، والتي تتمثل في وجوب الإمساك بأدوات القوة التي تفرض التغيير من أعلى، والتي تتمثل في الدولة بالأساس.
وضمن هذا السعي إلى الإمساك بالدولة، فإن دعاة الإسلام السياسي يختلفون من جهتهم عن غيرهم من الذين عملوا، من جهة أخرى، تحت رايات الأيديولوجيات التحديثية (الليبرالية والقومية والاشتراكية وغيرها)؛ وأعني من حيث إنهم جميعًا يراوحون تحت مظلة ذات الأطروحة التي لا ترى للتغيير سبيلًا إلا بتسكين الجوانب التقنية الإجرائية من الحداثة فوق ذات البنيات التقليدية المتوارثة للوعي التي تحتفظ للجمهور بوداعته وهدوئه وطاعته. وفقط فإن الاختلاف بينهما يأتي من نوع المفردات التي يستخدمها كل فريق في سعيه إلى الهيمنة على المجال العام؛ إذ فيما ظل دعاة الأيديولوجيات الحداثوية يستخدمون المفردات المتداولة في إطار الأيديولوجيات التي يبشرون بها (من قبيل الحرية والديمقراطية والدستور والاشتراكية والطبقة العاملة والقومية وغيرها)، والتي لم يقدروا على السيطرة بها على المجال العام لعدم امتلاك الجمهور — المقصود التأثير عليه بها — للتراث المعرفي والتاريخي الذي تقف عليه هذه المفردات، فإن دعاة الإسلام السياسي يستخدمون مفردات تنتمي للرأسمال الرمزي الديني للجمهور للسيطرة على المجال العام (من قبيل الشريعة والحكم بما أنزل الله وتطبيق الحدود وغيرها)، وبما سيجعل من دولة الإسلام السياسي «الدولة التنين» فعلًا؛ حيث ستحضر الدولة، كقوة قابضة ليس فقط بكل أدوات قمعها الحديثة، بل وكذا على الرأسمال الرمزي المقدس الذي سيجعل من الخروج عليها هرطقة وكفرًا. وهكذا فإنه، وبدلًا من تجاوز أطروحة مركزية الدولة في التغيير، عبر نقد أطروحة التغيير البراني الذي تفرضه الدولة من أعلى على المجتمع الوديع المستكين في الأدنى، وفتح الباب أمام ضرورة امتلاك الشروط العقلية والمعرفية للدخول إلى عصر الحداثة الحقة، فإن الإسلام السياسي لا يملك ما يقدمه إلا المزيد من «مركزة» الدولة من جهة، و«إخضاع» الجمهور من جهة أخرى، وبما يعنيه ذلك من أنه لا يقدر على تقديم ما يمكن أن يساعد مصر على بلوغ عتبة تطورها الديمقراطي، بل إنه يمثل العائق الأهم أمام مثل هذا التطور؛ لذا لزم التنويه وخصوصًا مع تزايد الدعاوى لاحتواء جماعات الإسلام السياسي في العملية السياسية. ولعله يلزم تأكيد ضرورة أن يكون إدماج الأفراد، من المنتمين لهذا التيار، بعد تأهيلهم على نحو يبرءون منه من فيروس هذا الخطاب المرعب.
(٤) سيد قطب ومفهوم الجماعة الربانية
إذا كان القرآن قد تنزَّل بما هو أحد تجليات «المعرفة الإلهية» المتعالية، فإنه يبقى أن كل ما يصدر عنه من معرفة تتمثل في منظومات «التفسير والفقه والعقائد والأصول وغيرها»، إنما يكون من قبيل «المعرفة الإنسانية» المشروطة تاريخيًّا ومعرفيًّا. وهكذا فإنه لا ينبغي التمويه بحقيقة صدور القرآن عن مشكاة العلم الإلهي غير المحدود، وهي الحقيقة التي لا يمكن أن تكون موضوعًا للشك أبدًا، على حقيقة أن ما يصدر عنه من معرفة تبقى، هي نفسها، من قبيل المعرفة الإنسانية التي يستحيل استيعابها خارج إطار التحديدات — بل وحتى الإكراهات — الزمانية والمكانية. ولسوء الحظ، فإن ثَمة من يقوم بهذا التمويه، فيضيف ما يتميز به القرآن (بما هو أحد تجليات العلم الإلهي غير المحدود) من الثبات والكمال والقدرة على تجاوز تحديدات الزمان والمكان إلى ما نشأ وتخلَّق حوله من منظومات أنتجها الفهم الإنساني على النحو الذي يجعل تلك المنظومات الإنسانية في جوهرها، تكتسب — أو تكاد — كل سمات العلم الإلهي من الثبات والاكتمال وعدم القابلية للتجاوز أبدًا. وغني عن البيان أن الأمر — ضمن هذا السياق — لا يتجاوز حدود السعي إلى تأبيد تلك المنظومات — وذلك عبر فك روابطها مع تاريخها والتعالي بها إلى فضاء تكتسب فيه حصانة ضد التفكير والمساءلة — للتغطية بها على أنظمة سياسية وأوضاع اجتماعية تريد أن تحقق لنفسها دوام الحضور وثبات الهيمنة.
وكنموذج حديث لهذا النوع من المنظومات المعرفية التي يدعي لها أصحابها استنفادها للقرآن على النحو الذي يتعالى بها إلى مقام المنظومة المقدسة، فإنه يمكن الإشارة إلى الإنجاز الذي قدمه الأب المؤسس للحركات الجهادية المعاصرة، الذي هو «سيد قطب»؛ فنصوص الرجل قاطعة بأن ما يطرحه مما يقول إنه «التصور الإسلامي» ليس نتاجًا لقراءته أو تفسيره الخاص للقرآن، بقدر ما هو التصور «ذاته» الذي جاء به القرآن، وهو يقدم نفسه من خلال الرجل (أي قطب). فالرجل — في كتابه «خصائص التصور الإسلامي» — يقرر صريحًا وحاسمًا: «إنما نحن نحاول تقرير حقائق التصور الإسلامي في ذاتها كما جاء بها القرآن كاملة شاملة متناسقة.» وهو — فضلًا عن ذلك — يرى أن «من الخطأ المنهجي الأصيل محاولة استعارة أي ميزان، أو منهج من مناهج التفكير المتداولة في الأرض — في عالم البشر — للتعامل بها مع هذا التصور الخاص المستقل الأصيل، أو الاقتباس منها والإضافة إلى ذلك التصور الرباني الكامل الشامل الذي جاء به القرآن.»
وإذن فإنه ليس التصور فقط، بل وكذا منهج التعامل معه، هو من قبيل ما لا ينتمي إلى عالم البشر، وبما يعنيه ذلك من أن قطب يعتبر أن كل ما يقدمه هو التصور الرباني والمنهج الرباني كما جاء بهما القرآن، وبالطبع فإنه لن يكون غريبًا أن الجماعات التي تبنَّت أو تناسلت من خطاب قطب (وأعني جماعة الإخوان المسلمين وذريتها من الجماعات الجهادية التي تنمو كالفطريات على جسدها المترهل) قد تعالت بنفسها إلى مقام الجماعات الربانية، بسبب ما يعتقد فيه المنتسبون إليها من سعيها إلى تحقيق ما يقول قطب إنه «التصور الرباني» الذي جاء به القرآن. وبالطبع فإن كون التصور «ربانيًّا» لا يجعل أمام الواقع من سبيل في التعامل معه إلا لمجرد التلقي والخضوع. فإن الحركة بين هذا التصور من جهة، وبين الواقع من جهة أخرى، تمضي في اتجاه واحد فقط، وأعني من التصور إلى الواقع فقط. وإذ يعجز هذا التصور الرباني المثالي عن استيعاب حركة الواقع المعقدة، فإنه لا يكون أمام حاملي هذا التصور إلا هجاء الواقع والسعي إلى إدخاله، على نحو قسري، ضمن تحديدات هذا التصور، وعلى النحو الذي يدفع بهم إلى تكفيره والخروج عليه. وهكذا تكون النهاية القصوى لذلك الضرب من المعرفة الذي يدعي لنفسه استنفاد القرآن — وبما يترتب على ذلك من التعالي بنفسه إلى مقام المعرفة المقدسة — هي الدخول في مواجهات عنيفة مع الدولة والمجتمع في آن معًا. ولعل، ومن نافلة القول، التأكيد أن هذا التصور القطبي إنما يتسق مع تأكيد تلميذه ودارسه السلفي الأكبر الباحث الأردني «صلاح الخالدي» على انحياز قطب للمعتقد الحنبلي، الذي يعرف الكافة أنه يقوم على تصور الوجود الأزلي القديم للقرآن، لا بما هو المعنى القديم القائم بذات الله، بل بما هو الحروف المنطوقة والأصوات المسموعة. ويرتبط ذلك بأنه إذا كان الوجود القديم للقرآن بما هو المعنى القديم القائم بذات الله يفتح الباب أمام «مناهج التفكير المتداولة في عالم البشر» للاشتغال بما يتيح اقتناص هذا المعنى من الألفاظ التي تتضمنه، والتي ليست قديمة مثله، فإن تصور الوجود الأزلي القديم للقرآن، بما هو ألفاظ وأصوات على طريقة الحنابلة، يعني أن المعنى ظاهر في الألفاظ من دون أدنى حاجة إلى مناهج من تفكير البشر وتأويلاتهم.
ومن هنا ما يقرره قطب — في الظلال — من عدم الميل «إلى المنهج الذي تتخذه مدرسة الإمام محمد عبده في التفسير، من محاولة تأويل كل أمر غيبي تأويلًا معينًا ينفي الحركة الحسية عن هذه العوالم». والحق أن الفرق بين الرجلين هو فرق بين من يستوعب معطيات الواقع في فهمه للقرآن (وأعني محمد عبده بخلفيته الإصلاحية)، وبين من لا يرى لمعطيات الواقع أي دور في فهم القرآن، الذي يحضر فيه المعنى مكتملًا، والذي لا يكون للمرء من دور فيه إلا أن يهيئ نفسه لتلقي هذا المعنى المكتمل الجاهز عبر فصل نفسه عن كل ما هو دنيوي وبشري. ولعل الاقتناع بهذه الربانية المفترضة للجماعة وقادتها هو ما يفسر السلوك الهائج العنيف لفيالق المنتسبين إليها، الذين يتصورون أنفسهم، بما يفعلون في ميادين وشوارع القاهرة، من المجاهدين المدافعين عن رسالة «ربانية»، ولا يخطر ببالهم أنهم مجرد قِطع يجري تحريكها في ساحات معركة «سياسية».
(٥) الدين والسياسة في خطاب حسن البنا
المتعلق بالعلاقة بين الدين والسياسة أن يكون هو أحد أهم الآليات التي ينبني عليها خطاب الأستاذ حسن البنا، الرائد المؤسس لجماعة الإخوان، وابتداءً من تحديده لهوية تلك الجماعة؛ فإذ يقرر — من ناحية — أن الجماعة دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وبما يعنيه ذلك من تأكيد هويتها الدينية، فإنه لا ينفي عن الإخوان — في الوقت نفسه — أنهم هيئة سياسية؛ لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل، وتعديل النظر في صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم في الخارج، وتربية الشعب على العزة والكرامة والحرص على قوميته إلى أبعد حد. ولقد أتاح هذا الالتباس للجماعة ومشايعيها أن يروجوا للجماعة على أنها ذات هوية دينية، وأن ما تمارسه من السياسة إنما يرتبط بكونها — أي السياسة — ركنًا من أركان الدين، حيث الحكم — على قول البنا — معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع.
وهنا تأتي المفارقة من أن البنا حين يجعل الحكم السياسي من العقائد والأصول، فإنه ينقض ما وصف به جماعته من أنها طريقة سنية، حيث السياسة معدودة عند أهل السنة من الفقهيات والفروع، على عكس الشيعة الذين انفردوا وحدهم باعتبارها من العقائد والأصول. وإذ لا يمكن الشك في معرفة الرجل بما يقول به الشيعة بخصوص الإمامة والسياسة، فإنه لا يبقى إلا أن التزامه ما يقول به الشيعة هو النهاية التي تفرض نفسها على كل من يسعى إلى إخفاء ممارسته السياسية وراء أستار المعتقد الديني، وإلى الحد الذي يبلغ به تخوم اعتبار السياسة دينًا.
وللغرابة، فإنه يبدو — والحال كذلك — أنه إذا كانت السياسة هي التي شطرت المسلمين، في القديم، إلى سنة وشيعة، فإنها تعود لتقرب بينهما في اللحظة الراهنة. والعجيب أن يكون الاستبداد حاضرًا، وبقوة، في كلتا اللحظتين معًا. فقد كان الاستبداد، هناك في لحظة الانقسام، حين راح الشيعة يتعالون بالسياسة إلى السماء (حيث جعلوا تعيين الإمام بالنص من الله)، وذلك على سبيل اليأس من الناس الذين حالوا بين أئمة آل البيت وبين ما يراه الشيعة حقًّا لهم في الإمامة. وبالمثل فإنه كان حاضرًا عند أهل السنة، حين راحوا يجعلون ما يقولون إنه تعيين الإمام من الناس بالبيعة والاختيار، ستارًا يخفون وراءه آليات الشوكة والمغالبة التي كانت هي الفاعل الحقيقي — والأهم — في مسار ممارستهم السياسية. ولعل هذا التماثل القديم هو ما يقف وراء تقاربهما الراهن، وأعني من حيث ما تتكشف عنه التجربة السياسية الشيعية (متجسدة في النظام السياسي الإيراني الحالي)، والسنية (متجسدة في جماعة الإخوان في مصر)، من السعي إلى توظيف الرأسمال الديني المتجذر في تثبيت خطاب وصائي أبوي. ولعل هذا الطابع الوصائي الأبوي للخطاب يتأكد من خلال المركزية الطاغية لمفهوم المرشد في كلا النظامين الإيراني (الشيعي) والمصري (الإخواني-السني). وهنا يلزم التنويه بأن هذا الخطاب الوصائي إنما ينبني، وعلى نحو جوهري، على تصور العقل قاصرًا عن تدبير شأن الإنسان الذي يبقى، لذلك، في احتياج دائم إلى مرشد يقرر له ويختار. وغني عن البيان أن ذلك التصور هو ما يؤسس — على مدى التاريخ — لكل أنماط السلطة المستبدة القامعة، التي تسلك بمنطق فرض الوصاية على الناس.
وبالرغم من مركزية وضع المرشد في كلا النظامين، فإن ثمة ما يتميز به النظام الإيراني، وأعني من حيث ما يعرفه من تنظيم الدستور لمكانة وحدود دور المرشد على رأس هذا النظام، وذلك في مقابل ما كان من خلو الدستور المصري — الذي جرى تعطيله بعد الثورة الأخيرة على حكم الإخوان — من النص على ما ينظم دور ومكانة المرشد في النظام السياسي. وهكذا، فإنه ورغم ما ينطق به واقع الحال، ويشهد به الكثيرون ممن أدوا أدوارًا سياسية في نظام الرئيس المعزول مرسي، من ممارسة المرشد — ومكتب الإرشاد على العموم — لدور سياسي كبير، فإنه قد ظل دورًا منفلتًا، وخارج رقابة الدستور، وبما يعنيه ذلك من أن ممارسته السلطة، لم تكن تترتب عليها أي نوع من المسئولية. وانطلاقًا من مبدأ أنه لا سلطة من دون مسئولية، فإن ذلك يبقى من قبيل القصور الذي يلزم تداركه، على ألا يكون ذلك من خلال النص على سلطة للمرشد في الدستور، بل من خلال النص على ما يمنع التابعين للجماعات التي تتلاعب بالرأسمال الديني للجمهور، ويكون لها مرشد أعلى يقف على رأس تراتُبيَّتها التنظيمية، من الوصول إلى قمة النظام السياسي المصري؛ لكيلا يتاح لهذا المرشد أن يمارس سلطة من دون مسئولية، ويرتبط ذلك بأن الإنسانية على العموم قد بلغت — في تطورها العقلي — مرحلة الرشد، ولم تعد في حاجة إلى من يقوم بإرشادها إلى ما فيه فلاحها.
ولعله يمكن القول بوجوب التحصين الدستوري لمبدأ بلوغ الإنسانية حال الرشد، ولا يمكن الاحتجاج هنا بأن ثمة من المبادئ الإنسانية الكبرى ما يتعارض مع مستوى التطور الثقافي الراهن للمصريين، وأنه لا يمكن فرضها عليهم بالدستور أو القانون، ولا بد من ترك التطور يأخذ مداه؛ إذ الحق أن غياب الوعي بهذه المبادئ هو ما يتيح لأصحاب خطابات الأبوية والوصاية أن يفرضوا خطاباتهم على الناس، وبما يعنيه ذلك من أن مصلحتهم تستلزم إبقاء المصريين عند نفس المستوى الثقافي الذي يسمح لهم بفرض وصايتهم عليهم.
وبالطبع فإن ذلك يعني أنه لن يكون ممكنًا الخروج بالمصريين من حالهم الثقافي المتردي إلا عبر توفير الشروط التي تجعل هذا التطور ممكنًا، وأهم هذه الشروط هو رفع غطاء المشروعية عن أصحاب خطابات الوصاية، وبالطبع فإن الإلحاح على إخفاء الهوية السياسية الغالبة للجماعة وراء براقع الديني وأستاره، لا يكشف إلا عن محض السعي إلى استئناف نوع من التاريخ الطويل — الذي عرفه الأسلاف — من ممارسة السياسة بالدين، وهي الممارسة التي كان قد شاع الظن بأنها قد انقطعت وتوقفت تحت تأثير ما بدا وكأنه القصف بالحداثة، على العالمَين العربي والإسلامي، الذي انطلق مع حملة بونابرت على مصر في أخريات القرن الثامن عشر. لكنه بدا وكأن ما تخلف عن هذا القصف الصاخب لم يكن إلا بضعة خدوش تافهة على سطح عالم ظلَّ محتفظًا، في العمق، بمعظم ثوابت نظامه التقليدي الموروث.
(٦) لماذا سيظل العنف جزءًا من خطاب الإسلامويين؟
رغم اللغة المخففة نسبيًّا التي استخدمتها «حركات الإسلام السياسي» في البيان الختامي الصادر عن مؤتمرها الذي انعقد في العاصمة الأردنية، فإن هذه اللغة المخففة لم تقدر على إخفاء ما يرقد تحتها من عنف كامن، يظل ملازمًا — كخصيصة بنيوية ثابتة — لخطاب هذه الحركات. وهكذا فإن ما اشتمل عليه البيان من «دعوة القوى السياسية غير الإسلامية إلى التعاون مع حركات الإسلام السياسي عند وصولها إلى البرلمان والحكم، ودعوة القوى السياسية العربية (من الإسلاميين وغيرهم) إلى توحيد الرؤى والتوجهات لبناء دول مدنية مستقرة»، لم يفلح في إخفاء ما يؤسس للعنف في خطاب هذه الحركات، والذي يتمثل — وبالذات — في استمرارها في ممارسة التفكير بالشعار. فالتفكير بالشعار — وبصرف النظر عن مضمون هذا الشعار — لا بد أن يئول بصاحبه إلى ممارسة العنف؛ لأن عجز الشعار عن التأثير الفاعل في الواقع بسبب لا يجعل من سبيل لفرضه إلا العنف. وضمن هذا السياق، فإن شعار «الإسلام هو الحل» الذي يتسلح به الإسلامويون لا يختلف — وللمفارقة — عن شعار «ديكتاتورية البروليتاريا هي الحل» الذي تبنَّته الحركات الشيوعية، في أن العنف هو المآل الذي لا بد أن ينتهيا إليه. ومن هنا فإن حركات الإسلام السياسي لم تتخلص — في بيانها — من لغة التهديد، حين لم تعتبر نفسها جزءًا أساسيًّا من المشهد العربي فقط، بل وأكدت أن «أي سعي لإبعادها من هذا المشهد سيؤدي إلى حروب داخلية في البلدان التي ينتمون إليها».
وهكذا فإن اللغة المخففة التي تستخدمها حركات الإسلام السياسي لا تجاوز حدود البلاغة اللطيفة المنثورة على سطح خطابها، والتي أظهرت التجربة في مصر أنها هي جوهر استراتيجية هذه الحركات في تحقيق التمكين والهيمنة على مفاصل الدولة؛ فقد تمكنت هذه الحركات، من حشد القوى المدنية وراء مشروعها، أو تحييدها على الأقل، عبر استخدام مفردات هذه اللغة الناعمة. إن ذلك يعني أن هذه اللغة ليست أكثر من قناع ملون تراوغ به حركات الإسلام السياسي للتغطية على ثوابت خطابها الذي يسكن العنفُ تجاويفه الغائرة العميقة. ولعله يلزم التأكيد، في هذا المقام، أن العنف لا يأتي — كما قد يتبادر للوهلة الأولى — من تلويح هذه الحركات الصريح بإشعال حروب داخلية في البلدان التي ينتمون إليها، بل يأتي من إصرارها العنيد على الاستمرار في التفكير بالشعار «الإسلام هو الحل»، الذي لا تقدر مثاليته على إخفاء خوائه وفراغه. فهنا تحديدًا يكمن جذر المعضلة التي ستجعل خطاب هذه الحركات منتجًا للعنف دومًا؛ لأنه يكتفي بالشعار عن التفكير في الأسباب الأعقد التي تؤدي إلى إبعاده من المشهد. وللغرابة، فإن أهم هذه الأسباب هي هذا النوع من التفكير بالشعار؛ فإذ تفكر هذه الحركات بالشعار، فإنها تعجز عن التأثير الفاعل في الواقع، لكنها وبدلًا من التخلي عن التفكير بالشعار، لتكون قادرة على إنتاج تفكير تقدر به على التأثير إيجابًا في الواقع، تظل تفكر به.
إن معضلة هذه الحركات تأتي من الفشل الذريع لخطابها في إحداث تغيير ملموس في الواقع، وهو ما لا بد أن ينتهي إليه هذا الخطاب بسبب تبلوره حول السعي إلى تقويض ما هو قائم من دون أن يشغل نفسه كثيرًا بإبداع الأساس النظري البديل لهذا الوضع القائم. وهكذا فإن الخطاب يفكر بالشعار، فيعجز عن إبداع حلول إيجابية لأزمة الواقع، فلا يتخلى عن هذا النوع من التفكير، بل يظل يشتغل به. وبالطبع فإن ذلك يعني عجز الخطاب الكامل عن الوعي بالترابط بين فشله في الممارسة العملية وبين طريقته في التفكير بالشعار.
وهنا يلزم التنويه بأن نمط التفكير بالشعار ليس حكرًا على الإسلامويين دون غيرهم، بل إن الجميع من فرقاء الخطاب العربي هم من مريدي هذا الخطاب وحامليه، وإلى حد أن من يقولون عن أنفسهم إنهم ملاحدة مصر لهم أيضًا شعارهم اللطيف. وعلى غرار خصومهم الإسلامويين الذين يختزلون الحل في معتقد موروث هو «الإسلام»، فإن الملاحدة يقومون — وللغرابة — بنفس الاختزال للحل في معتقد موروث أيضًا هو «وضعية القرن التاسع عشر». وبالرغم من أن ذلك يعني أن داء التفكير بالشعار يضرب الجميع من دون استثناء تقريبًا، فإن خطورته عند الإسلامويين تفوق ما ينشأ عنه عند غيرهم؛ بسبب ما يتوافر عليه الشعار الإسلاموي من قدرة هائلة على التعبئة والحشد.
وبخصوص نمط التفكير بالشعار العابر للجماعات والحركات، فإنه ضرب من التفكير الاختزالي الذي يموضع حل أزمات الواقع بالغة التعقيد في كلمة سحرية، أو تركيب لغوي بسيط يسهل حفظه وترديده. ويرتبط ذلك بحقيقة أن القصد من هذا النوع من التفكير ليس إبداع حل للأزمة، بقدر ما هو تعبئة الجمهور وحشده وراء مستبد بعينه. وغني عن البيان أن كون القصد من هذا التفكير هو الحشد، إنما يعني أن الخطاب الذي ينبني بحسبه سوف يلتمس أسباب قوته من عامل خارجي يتمثل في جمهور الأتباع، وليس من قدرته الذاتية على إبداع حلول فاعلة خلاقة لأزمات الواقع.
والحق أن الطريقة التي تفكر بها حركات الإسلام السياسي في الإسلام لا يمكن أن تجعل منه حلًّا لأزمات الواقع الراهن، بقدر ما يمكن القول إنها تجعل منه عبئًا على هذا الواقع؛ فالإسلام لا يجاوز — في فكر هذه الحركات — كونه مجرد منظومة مغلقة موروثة، وليس بما هو موضوع لضرب من التفكير المفتوح. وهي لا تجعل الإسلام موضوعًا للتفكير المفتوح لأنها لا تريد «إبداعًا»، بل ترجو «أتباعًا»؛ وإذن فالأمر يتعلق بحركات سياسية عجزت — منذ ابتداء تبلورها مع انتصاف القرن المنصرم — عن بلورة خطاب تقدر به على حل أزمات الواقع، فاستعاضت عن ذلك بشعار يكون قادرًا على حشد الأتباع وراء مشروعها السياسي.
ولكن، ولأن هذا الشعار قد فقد بريقه، ولم يعد قادرًا على حشد الجمهور الذي يبدو أن القطاع الأكبر منه قد أدرك الخدعة، فإنه لن يكون أمام جماعات الإسلام السياسي إلا اللجوء إلى المزيد من العنف، ولو كان فيه مقتلها، وخروجها الكامل من المشهد، كجثة. ويبدو أن ذلك هو المصير الذي تندفع إليه الآن.
(٧) الرؤى والبشارات في ساحة رابعة
ليس من شك في أن ما تسمي نفسها جماعة الإخوان المسلمين تُجابه أزمة تُهدد وجودها في الصميم، وذلك على إثر الثورة العارمة التي اندلعت ضدها، نتيجةً لفشلها الكامل في إدارة الشأن المصري بعد عام من وصول مرشحها إلى كرسي الرئاسة. ولسوء الحظ، فإن استجابة الجماعة للأزمة تكاد أن تتبلور جميعها ضمن الأفق ما قبل العقلاني، وبصنفيه الرؤيوي الحالم بالسماء تهبه الخلاص مما يعنيه، والانتحاري الماسادي (نسبة إلى قلعة ماسادا) الساعي إلى استرجاع مفردات عصر قرابين الأضاحي والدماء. ومن هنا ما يلحظه المرء من دوران الخطاب السائد على منصة الاعتصام الذي تنظمه من تقول عن نفسها جماعة «الإخوان المسلمين» في ساحة رابعة العدوية بين التبشير بالرؤى المنهمرة، بغزارة، على خطبائها من الشيوخ الذين صفت نفوسهم فجأة وأصبحوا جاهزين لاستقبال الإشارات القدسية التي تخصهم بها السماء، وبين التحذير من أولئك الذين نذروا أنفسهم للموت من أجل رجعة إمامهم الغائب إلى قصره. وهنا فإنهم يشيرون إلى ما يقولون إنها كتائب من الرجال والنساء الذين اختاروا أن يجعلوا أنفسهم «مشاريع شهداء»، وبما يعنيه ذلك من أن الشهادة نفسها قد استحالت إلى «مشروع»، وعلى النحو الكاشف عن طبيعتها الانتهازية الفجة.
هكذا فإن ساحة رابعة العدوية قد أصبحت مهبطًا لملائكة ورؤًى وبشارات غزيرة، على النحو الذي توافرت معه مادة حية كافية تتيح للباحثين في علم النفس الديني أن يأخذوا منها مادة لتحليلاتهم التي كانت تعتمد قبل ذلك على المرويات التاريخية فقط؛ إذ لا مجال أبدًا لدرس هذا الخطاب الرؤيوي بعيدًا عن المفاعيل النفسية التي ينتجها عند المتلقين له، حيث الخطاب لا يستهدف ما هو أكثر من طمأنة المخاطبين به وتثبيتهم نفسيًّا بترويج الادعاء بوقوف السماء معهم من خلال ما ترسل من الإشارات والرسائل التي تتواتر في شكل رؤًى وبشارات نورانية. ولقد بلغت قوة هذا التأييد أن النبي الكريم لم يكن وحده هو محور هذه الرؤى والبشارات، بل إن الملاك جبريل المكلف من السماء بنقل رسائل الله إلى الأرض قد هبط في ساحة رابعة، وبما يعنيه ذلك من تأكيد الدعم المباشر من الله عبر ملاكه المخصوص. وغني عن البيان أن مروجي هذا الخطاب يدركون فاعليته الكبرى، وتأثيره الكاسح على من يتلقونه من أتباعهم.
إذ هم يعتمدون، لا محالة، على ما يعرفون استقراره في وعي هؤلاء المتلقين من موروث يرتقي بالرؤى المنامية إلى مقام الوحي من جهة، وعلى ما يؤمنون به، من جهة أخرى، من أن حضور النبي الكريم في الرؤيا يكون هو السبب الكافي في تأكيد صدقها ووثوقيتها. وبحسب ذلك فإنه يلزم قبول رواية كل من يقول برؤيته للنبي في المنام، ولو كان — في الحقيقة — مدعيًا، حيث الصدق هنا لا يرتبط بالرائي، بل يرتبط بمجرد إحضاره للنبي في الرؤيا لتكون رؤيته مقبولة. وبالطبع فإن ذلك يعني غياب أي معيار تتميز به الحقيقة عن الادعاء.
ولعل ذلك يئول — وعلى نحو ضروري — إلى أن القائم بالترويج لهذا الخطاب لا تشغله الحقيقة، بقدر ما يشغله التأثير الذي يتركه على المتلقين بقصد تثبيتهم. ولعل انشغاله بهذا التأثير، ولو على حساب الحقيقة، يتبدى في التجرؤ على إظهار النبي الكريم متصاغرًا في حضرة رجل الجماعة «محمد مرسي»؛ إذ يروي أحدهم أن النبي الكريم قد تراءى له في جمع فيه «مرسي»، وحين حان وقت الصلاة فإن الجمع قد قدَّم النبي الكريم لإمامتهم فيها، فما كان من النبي إلا أن تراجع مقدمًا لمرسي ليؤمَّ الجمع — وفيهم النبي — في الصلاة. إن من يروج لهذه الرؤيا ليس معنيًّا بحقيقتها، بقدر ما يعنيه ما ستقوم بتثبيته في وعي الجمهور المتلقي من الدلالة السياسية التي يبتغيها، رغم عدم التصريح بها.
فهو يدرك — ومن دون شك — ما يعرفه الناس جميعًا من أن الحالة الوحيدة التي قدم فيها النبي غيره للصلاة بجماعة المسلمين كانت هي تلك التي قدم فيها أبا بكر ليصلي بهم حين اشتد عليه المرض، وأن هذا التقديم كان من بين ما جرى الاستناد إليه في تأكيد أحقية أبي بكر بخلافة النبي في الحكم السياسي للمسلمين، وبما يعنيه ذلك من أن إمامة أبي بكر للصلاة كانت الدليل على تثبيت إمامته السياسية. وإذن فإن من يروج لرؤيا تقديم النبي لمرسي ليؤمَّ الجمع في الصلاة، يعتمد على هذا المعروف للجمهور من أن التقدم في إمامة الصلاة في حضرة النبي، هو دليل على التقدم في الإمامة السياسية، بحسب ما جرى مع أبي بكر؛ ليؤسس على ذلك أن تثبيت المكانة السياسية لمرسي هو إشارة من النبي نفسه. وبالطبع فإن القصد من ذلك هو البلوغ بالجمهور المتلقي للخطاب إلى الإيمان بأن احتشاده في الميدان، وإلى حد الاستعداد لبذل النفس، ليس من أجل شخص مرسي، بل من أجل إنفاذ ما أشار به النبي وأراده. وإذن، فإنه القصد السياسي وهو يخفي نفسه وراء مخايلات الدين ومراوغاته.
وفضلًا عن ذلك، فإن طبيعة الخطاب الرؤيوي تكشف، على العموم، عن وقوف المتلقين له عند مرحلة، في مسار التطور الإنساني، تتميز بقصور الإنسان، وعدم بلوغه حال الرشد العقلي. ولعل ذلك يتسق مع حقيقة أن الجماعة التي ينتسبون إليها تضع على رأس هيراركيتها التنظيمية ما تقول إنه مرشدها العام، وبما يعنيه ذلك من الإقرار بحاجة المنتسبين إليها إلى من يوجههم ويرشدهم. إن ذلك يعني أن الجماعة ومنتسبيها تظل تنتمي إلى لحظة ماضية في تاريخ الإنسانية، كان البشر خاضعين فيها لهيمنة الخطابات الوصائية الأبوية.
(٨) تدوير الإخوان
رغم كل ما يجري في مصر من الحرائق والدماء، فإنه لا يزال هناك فريق من المشتغلين بالشأن العام، ممن يلحون — ومن دون كلل — على إعادة إدماج الإخوان في المشهد المصري الراهن. الملاحَظ أن الطرائق التي يجري بها تمرير الإلحاح على هذا الإدماج تتباين بحسب اختلاف الانتماءات الأيديولوجية التي يمكن تمييزها داخل هذا الفريق، بين من يجري تقديمهم كإسلاميين تائبين عن انتمائهم السابق لجماعة الإخوان أو غيرها من جماعات الإسلام السياسي، وبين قطاع من الليبراليين الذين تبدو ليبرالية بعضهم مصبوغة باللون الأحمر الكاشف عن انتماء يساري سابق. وعلى العموم فإن الإسلاميين التائبين يقيمون استراتيجيتهم على التمييز في تاريخ الجماعة بين لحظتين؛ أولاهما هي لحظة التأسيس مع الأب الأول حسن البنا، التي يجري النظر إليها — في تاريخ الجماعة — كلحظة فردوسية لا بد من السعي إلى استعادتها، وبين ما جاء لاحقًا عليها من لحظة العنف والدم، التي ابتدأت في التبلور مع سيد قطب، والتي يلزم نبذها وإعلان البراءة منها.
وبالطبع فإن الفرضية التي تقف وراء هذه الاستراتيجية إنما تتمثل في أن تسريب الادعاء بأن العلاقة بين اللحظتين ليست علاقة تطور لم يفعل فيها قطب إلا أن وصل بأطروحة البنا إلى نهاياتها القصوى، بقدر ما هي انقطاع وانفصال كامل بينهما. ولسوء الحظ، فإن هذه الفرضية لا تصمد أمام التحليل المتعمق، وذلك من حيث إن الثوابت التي اشتغل بها خطاب العنف عند قطب تكاد أن تكون حاضرة — وعلى نحو كامل — عند الأستاذ البنا. ويرتبط ذلك بأنه إذا كانت جرثومة العنف تقوم، وبالأساس، في توظيف مفردات الدين ومطلقاته في السعي إلى احتلال المجال العام، توطئة للهيمنة عليه وإقصاء كل المغايرين عبر ضروب متباينة من العنف (الذي يبدأ ناعمًا وينتهي داميًا)، فإن حسن البنا قد كان هو من أدخل هذه الجرثومة إلى الممارسة السياسية المصرية.
وضمن هذا السياق فإنه لا بد أن يبدأ العنف ضد الآخرين عندما تحتكر جماعة لنفسها صفة «المسلمين»، وبما لا بد أن ينشأ عن ذلك من خلق الإيهام لدى الجمهور بأن الآخرين، من خصوم الجماعة، يقفون خارج أسوار جماعة المسلمين التي تقتصر على الإخوان.
ولعل ذلك يجد ما يدعمه في فهم حقيقة ما قيل من أن الانقلاب نحو العنف قد حصل في فكر سيد قطب بسبب ما عاناه في سجون عبد الناصر. فالحقائق تقطع بأن الثوابت الراسخة لخطاب العنف عند سيد قطب قد تبلورت، ليس فقط قبل أن يكون ضيفًا على سجون عبد الناصر، بل وحتى قبل وقوع ثورة يوليو نفسها؛ بل إنه يبدو أن قطب قد أصبح ضيفًا على السجون الناصرية بسبب هذه الأفكار العنيفة، وليس الأمر كما يحلو للبعض تصويره من أن هذه السجون كانت هي السبب في تبلور هذه الأفكار. وللغرابة، فإنه يجري تجاهل حقيقة أن ملامح توجُّه قطب نحو التشدد قد بدأت في الظهور بوضوح عند أواخر الأربعينيات، وبالتواكب مع رحلته العلمية في الولايات المتحدة، وبما يعنيه ذلك من أن بذور العنف قد بدأت في التبرعم في البيئة الأمريكية المنفتحة، ولا يمكن إلصاقها بالبيئة الناصرية المغلقة.
بل إن البعض يرتد بتوجه قطب نحو العنف إلى طبيعة ومزاج رومانسي يغلب على شخصيته، وهو المزاج الذي تجاوب معه واقع مأزوم كانت تشهده مصر على مختلف الأصعدة آنذاك. وبالطبع فإن الشرط الذاتي (الخاص بمزاجه الشخصي) والشرط الموضوعي (المتعلق بواقع مصر المأزوم في نهاية الأربعينيات)، قد كانا بمثابة الشرط الخارجي الذي جعل سيد قطب يبلغ بالعنف الكامن في خطاب حسن البنا إلى نهايته القصوى. وهكذا فإن خطاب «قطب» يكاد أن يكون تطويرًا لخطاب البنا ضمن شروط متغيرة (ذاتية وموضوعية)، وبما يعنيه ذلك من أن العنف لم يكن غائبًا عن خطاب البنا، بقدر ما كان «كامنًا» ينتظر الشروط التي سوف تسمح بظهوره واشتعاله. وإذا كان يحلو للجماعة أن تستخدم المفاهيم التي استقرت لفهم الدعوة النبوية بالتمييز داخلها بين الحقبة «المكية» والحقبة «المدنية»، وبحيث تكون لحظة البنا هي اللحظة المكية (القائمة على المسالمة)، فيما تكون لحظة قطب هي اللحظة المدنية (القائمة على التمايز والمفاصلة)، فإن هذه المماثلة تدعم الفكرة التي تقضي بأن العلاقة بين لحظتَي البنا وقطب هي علاقة تطوير واتصال، وليست — كما يحلو للبعض الإيهام — علاقة انقطاع وانفصال.
وإذا كان داعية الإسلام السياسي التائب يسعى عبر هذه المراوغات إلى إعادة إدماج الجماعة الأم لكل تيارات الإسلام السياسي في المشهد المصري مرة أخرى، فإن داعية الليبرالية (ولو كانت حتى مصبوغة ببقايا باهتة للون اليسار الأحمر) يسعى في نفس الاتجاه، ولكن عبر الثرثرة بشعارات ليبراليته الساذجة، والتي ينكشف طوال الوقت أنها ليبرالية «محفوظات» وليس «مفهومات». فهم يحتجون بأنه إذا كان الإخوان قد قاموا بإقصاء الآخرين (من الليبراليين وغيرهم)، فإنه لا ينبغي أن يقوم هؤلاء الآخرون بممارسة نفس الإقصاء ضد الإخوان؛ لأن ذلك يعني الانتهاء إلى نفس فشل الإخوان. ولسوء الحظ، فإن هذا الاحتجاج يكشف عن عقل يشتغل بطريقة قياسية فقهية بائسة، حيث لا يقدر هؤلاء على إدراك أن الإقصاء لا يمكن أن يكون بمجرد ذاته سببًا في الفشل، بل إنه يكون كذلك حين يكون وقوفًا في وجه ما يقتضيه نظام العقل وتطوره. ولعل ذلك بالذات هو جوهر ما تسبَّب في فشل الإخوان؛ لأن إقصائيتهم كانت تنطوي على السعي إلى العودة بالمصريين إلى مرحلة أدنى من تلك التي يقتضيها تطورهم العقلي والإنساني الراهن.
(٩) أي مستقبل لجماعة الإخوان؟
لعله يلزم التأكيد، منذ البدء، على أن التفكير في المستقبل ليس أبدًا من قبيل الرجم بالغيب أو التخمين الذي لا ضابط له أو محدد، بل إن له ما يدعمه في قلب النظرية العلمية الحديثة نفسها، حيث كشفت الفيزياء (النيوتونية) عن إمكان التنبؤ بمآلات الظاهرة «الطبيعية» من خلال الإمساك بالقانون الضابط لها والمتحكم في صيرورتها. وغني عن البيان أنه يمكن، بالمثل، توقع ما ستئول إليه الظاهرة «الإنسانية» في حال الوعي بمحدداتها ومعطياتها والعناصر الموضوعية المكونة لها. وإذ لا يمكن — والحال كذلك — الحديث عن مستقبل أي ظاهرة دون الوعي بجملة المحددات الحاكمة لنشوئها وشروط اشتغالها، فإنه لا مجال لقول جدي بخصوص مستقبل جماعة الإخوان في حال عدم الوعي بالمحددات الحاكمة لنشأتها ولآليات اشتغالها على مدى العقود، منذ بدء ظهورها في نهاية عشرينيات القرن المنصرم.
ولسوء الحظ، فإن النقاش الدائر في مصر بين الصاخبين من أطراف نخبتها حول مستقبل الجماعة — بعد ما تبدى من فشلها في إدارة الشأن المصري، وبما ترتب عليه من سقوطها المدوي عن عرش السلطة — إنما يتسم بقدر هائل من التبسيط والهشاشة؛ إذ يكاد يجري اختزال مستقبل الجماعة — ضمن هذا النقاش — في بضعة أمور إجرائية تدور حول ضرورة إعلان الجماعة نبذها العنف، وقبولها مطالب سياسية بعينها، كشروط لازمة لاحتفاظ الجماعة لنفسها بمكان في المستقبل. وهكذا فإن أحدًا لا يذهب إلى التساؤل عما إذا كانت المحددات الموضوعية الحاكمة لنشأة الجماعة وآليات اشتغالها — التي تجاوز إرادات ومقاصد الفاعلين فيها — مما يتيح للجماعة أن تحافظ على وجودها ضمن مستقبل تسعى فيه مصر إلى بناء حداثتها السياسية والعقلية الحقيقية.
وبالطبع فإن ذلك يندرج في إطار ما لا تعرف هذه النخبة العليلة سواه، من الانشغال بالسياسوي والإجرائي، وذلك في مقابل إهمالها الفاضح لما يقوم وراءهما من الشرط المعرفي والموضوعي المؤسس لهما. ولسوء الحظ، فإنها لا تتوقف عن هذه الممارسة البائسة رغم كل ما أودت إليه — على مدى تاريخها الطويل — من ضروب الإخفاق والفشل.
وإذ يقتضي الأمر التعرف على المحددات الحاكمة لنشأة الجماعة وتطورها، فإنه يلزم التنويه بأن هذه المحددات كانت هي الحاكمة لتبلور واشتغال كل التيارات العاملة في فضاء الخطاب العربي الحديث، بصرف النظر عن تباين المضامين الأيديولوجية لهذه التيارات (الليبرالية واليسارية والقومية والدينية وغيرها). وبالأساس، فإن هذه المحددات تتمثل في كيفية ترتيب العلاقة مع الحداثة من جهة، وفي تحديد العلاقة بين الدين والسياسة من جهة أخرى. ولكن الجديد يتمثل في أن الجماعة — بما هي جزء من ظاهرة الإسلام السياسي الأوسع — قد أدخلت على هذه المحددات ضروبًا من التلبيس بقصد إظهار نفسها كبديل له من التفرد والامتياز؛ ما يجعل منها الأكثر قدرة على إخراج الواقع المصري من أزمته. لكنه، ولأن القصد من وراء كل تلبيس لا يكون إلا التدليس، فإن الأمر قد انتهى — والحاصل الآن في مصر خير شاهد — إلى ازدياد حدة المأزق ومفاقمته؛ إذ الحق أن كل ضروب التلبيس غالبًا ما تكون — رغم تخفيها — متعمدة، وذلك من حيث يسعى بها صانعوها إلى تثبيت الوعي المشوه والمغلوط أو المنقوص حول أيديولوجيا — أو حتى فكرة أو ظاهرة — بعينها، لترسيخ هيمنتها السياسية.
وبحسب ذلك، فإن ظاهرة الإسلام السياسي — وتحتل موقع القلب فيها جماعة الإخوان — تقوم أساسًا على ضروب من الالتباسات التي يجري إخفاؤها، وعن عمد، لتكون بمنأًى عن الوعي المنضبط بها، وعلى النحو الذي يهبها الديمومة واستمرار البقاء. كما يرتبط ذلك بسعي الجماعات المكونة لظاهرة الإسلام السياسي إلى تصوير نفسها على أنها جماعات «طهورية»، لا انشغال لها بما يجاوز حدود «المقدَّس» الديني، وبما يعنيه ذلك من تعمد إخفاء طابعها السياسي، بل والحديث. ومن هنا وجوب فض الالتباسات المتعلقة بموقف هذه الجماعات من الحداثة، والعلاقة بين الدين والسياسة، والتقليد والطاعة وغيرها، وبما يئول إلى إبراز طبيعتها «الدنيوية» التي يحضر فيها «المقدس» بما هو مجرد أداتها الرئيسة في احتكار المجال العام، لا غير.
ففيما يخص الموقف من الحداثة، فإن جماعة الإخوان لا تختلف عن غيرها في تبني نمط الحداثة الإجرائية الشكلية (وبما يعنيه ذلك من الاكتفاء بنقل المنتجات البرانية للحداثة المتمثل في ثمراتها التقنية والتنظيمية والإدارية)، مع إهمال الجانب التأسيسي فيها (المتمثل في الأساس العقلاني النقدي الذي يقف وراء هذه المنتجات البرانية).
وأما بخصوص الدين والسياسة، فإن ثمة الإصرار من جانب جماعة الإخوان على تصوير نفسها كجماعة دينية ودعوية بالأساس، مع إخفاء كل ممارساتها السياسية وراء هذا الادعاء. وبالطبع فإن ذلك يعني انخراط الجماعة في خطاب ممارسة السياسة بالدين، وهو الخطاب الذي اشتغل على مدى العصور الوسطى عند المسلمين وغيرهم، وارتبطت سيادته بما يقوم بترسيخه من معاني الوصاية والأبوية التي ناسبت عصر ما قبل ظهور المواطن الذي يملك القدرة على التفكير في المستقبل وتقريره مصيره بنفسه. وقد انعكس كلا المحددين السابقين (اللذين يكشفان عن اشتغال الجماعة بحسب ما ينتمي إلى الحداثة الشكلية التقنية من جهة، وما ينتمي إلى عصر ما قبل الحداثة من الوصاية والأبوية من جهة أخرى) على طريقة اشتغال الجماعة فيما بعد الثورة على مبارك؛ فقد راحت الجماعة تصنع لنفسها ذراعًا حزبية حديثة تمارس من خلاله السياسة، ولكن الممارسة داخل الحزب ظلت قائمة على ما تعرفه الجماعة من تقاليد السمع والطاعة التي هي بقايا عصر الأبوية والوصاية. فإنه لم يكن ممكنًا للحزب المفروض أنه «حديث» إلا أن يشتغل بحسب تقاليد السمع والطاعة الحاكمة للبناء التنظيمي للجماعة، وعلى النحو الذي يعكس استمرار اشتغال الجماعة بحسب آلية الجمع التجاوري بين ما ينتمي إلى الحداثة (على مستوى الشكل) وبين ما ينتمي إلى ما قبل الحداثة (على مستوى المضمون العميق). ولا بد هنا من تأكيد أن هذه الآلية بالذات هي المسئولة عن التأزم العميق الذي يعرفه عالم العرب. إذا كانت تلك هي المحددات الموضوعية الحاكمة لحركة الجماعة، فإنه يبدو أن قدرة الجماعة على أن يكون لها دور في المستقبل المصري يرتبط بتمردها على هذه المحددات والتفكير خارجها، وهو ما يعني — في حال حدوثه — أن تتمرد الجماعة على ذاتها وتعلن نهاية وجودها. ولعل إمكان هذا التمرد هو ما ينبغي أن يكون موضوعًا لانشغال النخبة السعيدة.