الإسلامويون (السلفيون)

(١) كيف أصبح السلف سلطة ولماذا؟

لا تتحدد هويات البشر والأشياء والأفكار في عزلتها المصمتة مع نفسها، بل في علاقاتها مع غيرها. وبالطبع فإن تلك العلاقة التي تحدد هويات الأشياء لا تمضي في اتجاه واحد أبدًا، بل إن طرفًا من أطراف تلك العلاقة لا يفعل، حين يحدد الطرف الآخر في مواجهته، إلا أن يحدد ذاته في الآن نفسه. وهكذا فإنه إذا كان ثمة من يضع الآخر في مواجهة ذاته كسلطة، فإنه لا يفعل إلا أن يجعل من نفسه طرفًا خاضعًا في مواجهة تلك السلطة. وبالطبع فإنه لو وضع نفسه كذات فاعلة، لا خاضعة، فإن الآخر في مواجهته لن يتحدد كسلطة تعلوه وتتجاوزه، بل كطرف يساويه ويتفاعل معه.

والحق أن الأمر يبدو أكثر تعقيدًا من مجرد هذا التحدد المتبادل لطرف في مواجهة الآخر. فإنه قد يحدث أن يكون وضع الذات لطرف ما كسلطة إخضاع (وخصوصًا مع استدعاء هذا الطرف من الماضي) هو أداتها في صنع سلطتها الخاصة في مواجهة الغير؛ وبمعنى أن هذه الذات قد تستدعي من الماضي طرفًا لتضعه كسلطة، لا لتخضع له فقط، بل ولكي تستخدمه كقناع تتخفى وراءه لإخضاع غيرها لنفسها.

ولقد كانت الآلية الرئيسة في صنع هذا الاستدعاء الراهن للسلف هي التعالي بهم من أصحاب تجربةٍ تقبل الفهم داخل حدودها التاريخية إلى مقام النموذج المثالي المحدد لكل ما يأتي تحته والحاكم عليه؛ فإذ النماذج لا تقبل النزول بها إلى ساحة التاريخ لتكرارها، لأن التكرار مستحيل، ليس في التاريخ فقط، بل وحتى في الطبيعة بحسب ما أثبتت فيزياء ما بعد نيوتن، فإنه لا يبقى إلا أن تكون سلطة حاكمة فوق التاريخ.

وبالطبع فإنه لم يكن ممكنًا وضعهم كسلطة فوق التاريخ، إلا عبر إسكات تاريخهم وفرض الصمت عليه. ومن هنا ما يشيع في مصنفات بناة سلطة السلف ومؤسسيها من الدعوة إلى اجتناب أهل التواريخ، فإنهم ذكروا عن السلف أخبارًا صحيحة يسيرة ليتوسلوا بذلك إلى رواية الأباطيل، فيقذفوا — على قول ابن العربي في عواصمه وقواصمه — في قلوب الناس ما لا يرضاه الله تعالى. وهكذا يحيل الرجل نفسه إلى ناطق باسم الله، فيصبح ما لا يرضاه لسلفه باطلًا لا يرضاه الله نفسه لهم. فأي ادعاء هذا الذي يجعل بشرًا يرى فيما لا يرضاه هو، أمرًا لا يرضاه الله نفسه؛ وبما يعنيه ذلك من إحلال نفسه محل الله ونطقه باسمه. لكنها السلطة التي لا يتورع البشر في مسعاهم لبنائها على نحو تكون فيه مطلقة وفوق السؤال، عن استخدام الله نفسه كقناع لها. ولسوء الحظ، فإن داعية السلفية الراهن لا يفعل، في مسعاه لبناء سلطته، إلا أن يتخفى وراء تلك السلطة التي تتخفى، بدورها، وراء الله.

والحق أن الأمر قد تجاوز مجرد الدعوة إلى اجتناب أهل التاريخ، إلى لزوم السكوت عن مروياته وإنكار وقائعه؛ حيث إن كثيرا مما حدث بين الصحابة من شجار وخلاف ينبغي — على قول الذهبي — طيه وإخفاؤه، بل إعدامه. وغني عن البيان أنه حين تقول عبارة الذهبي إن كثيرًا مما حدث، ولا تقول إن كثيرًا مما هو منسوبٌ حدوثه، فإن ذلك يعني أنه لا ينكر حدوث هذا التاريخ بالفعل، وبالرغم من ذلك فإنه يطالب بضرورة إخفائه وإعدامه. وبالطبع فإن القصد من هذا الإعدام هو أن ينتهي دور التاريخ في رسم الصورة الرمزية التي يراد للسلف أن يكونوا عليها. وهكذا فبدلًا من التاريخ، فإن صانعي سلطة السلف قد راحوا يعولون على النص الذي جعلوه — في قراءتهم غير السياقية الضيقة — حاكمًا على التاريخ بالكلية. ومن هنا ما سيستقر في الممارسة السلفية — على العموم — من قراءة التاريخ بالنص، وبما يعنيه ذلك من لزوم قص التاريخ ليكون على مقاس النص.

وبالطبع، فإنه حين بدا أن ثَمة من التاريخ ما لا يمكن إعدامه أو إنكاره، فإنه قد جرى التوجيه بضرورة تأويله على النحو الذي لا يجرح الصورة الرمزية المبتغاة للسلف؛ حيث ينبغي — على قول الأشعري — أن تلتمس لأفعالهم أفضل المخارج. وليس من مخرج أفضل من تفسير أفعالهم بنواياهم ومقاصدهم التي كانوا فيها جميعًا على الحق؛ فإنه لا يمكن تصور نوايا هؤلاء إلا على أفضل وأحسن ما يكون. وإذ يتعلق الأمر — والحال كذلك — بتأويل التاريخ بنوايا الفاعلين فيه، وكان محل النوايا هو الصدور التي لا يطلع على ما فيها إلا الله وحده، فإنه لا يبقى إلا أن الله قد أطلع صانعي سلطة السلف على ما يسكن قلوب سلفهم من نوايا حسنة، فحكموا بها على ما يبدو من أفعالهم الملتبسة. وعلى أي الأحوال، فإنه يبقى أن التاريخ يظل بين يدَي الداعية السلفي موضوعًا لقبضة صارمة تسمح له بأن ينطق حسب نظام قانونه الباطن، الذي يقرأ أفعال البشر ضمن حدود بشريتهم، وليس أبدًا خارجها.

وإذا كان يبدو، هكذا، أن داعية السلفية يقول بضرورة التأويل فيما يخص التاريخ، وينكره على نحو كامل فيما يخص النص، فإنه يلزم التأكيد على أن القصد من التأويل في الحالين، وأعني إنكارًا مع النص ولزومًا مع التاريخ، هو بناء سلطة السلف. فإنه إذا كان القصد من تأويل تاريخ السلف هو التعالي بهم إلى ما فوق حدود البشرية، فإن إنكار تأويل النص يستهدف الأمر نفسه لا محالة؛ لأنه حين يكون النص حسب دعاة السلف هو مبدأ كل تفكير، ولا يكون ممكنًا توسيعه بالتأويل ليستوعب الاتساع المطرد للواقع؛ فإنه لا يبقى إلا توسيع دائرة النصوص نفسها عبر الإضافة إليها من أقوال السلف وممارساتهم. ومن هنا ما جرى من التعالي بهذه الأقوال والممارسات إلى مقام باتت لها فيه قداسة القرآن والحديث.

ولقد كان السبب الذي يقوم وراء هذا السعي الحثيث لبناء سلطة السلف هو القصد إلى بناء سلطة موازية لسلطة الأئمة التي كان الشيعة يقومون ببنائها لمواجهة سلطة الخلافة القائمة. فإذ راح الشيعة، في مواجهة كل ما تعرَّض له الأئمة من آل البيت من الإقصاءات والمقاتل التي مارستها ضدهم ما بدا لهم أنها سلطة إكراه وعسف، يتعالون بهؤلاء الأئمة إلى ما فوق حدود البشرية، فإنه كان على مناوئيهم، من أهل السنة، أن يرتفعوا بالسلف إلى نفس مقام الأئمة أو ما دونه بقليل. وإذ يبدو — والحال كذلك — أن الهدف من بناء سلطة الأئمة هو خلخلة، أو حتى نزع، الشرعية السياسية عن السلطة القائمة التي اعتبروها سلطة اغتصاب وإكراه، فإن القصد من بناء سلطة السلف كان، في المقابل، تثبيت ودعم شرعية تلك السلطة القائمة. وهكذا كانت السلطتان (أعني سلطة الأئمة وسلطة السلف) محض غطاءين للصراع حول شرعية السلطة السياسية القائمة، وبما يحيل إليه ذلك من أن حروب السياسة كانت تصعد من الأرض إلى السماء، ومن التاريخ إلى الدين أو النص.

وهكذا تندرج السلطتان في إطار ما يمكن القول إنه التعالي بالصراع في السياسة إلى أن يكون صراعًا في الدين، وبما يعنيه ذلك من كونهما عنوانًا على مرحلة كانت تجري فيها ممارسة السياسة بالدين. وبالطبع فإنه حين يفصح السلفي المعاصر (والذي هو المتحدث باسم ما يقال إنها الجبهة السلفية) عن أن مشروع جبهته لمصر المعاصرة يقوم على التطابق الكامل بين معتقده السياسي وعقيدته الدينية، فإنه لا يعني إلا أنه يسعى صراحة للعودة بمصر إلى نفس المرحلة التي كان بناء سلطة السلف قديمًا عنوانًا عليها، وأعني بها مرحلة ممارسة السياسة بالدين. وبالطبع فإنك حين تجادل داعية السلفية بأن تلك مرحلة من الممارسة قد تجاوزتها الإنسانية في مسار تطورها الطويل، وتستحيل العودة إليها وممارستها علانية وجهرًا، فإنه لن يكون غريبًا أن يرد قائلًا: إن التاريخ مما يمكن إعدامه وطيه كما تُطوى الخيمة عندنا!

(٢) عن السلف والشيعة، تناقض أم تنافس؟

لا يكاد العرب، وربما المسلمون، يتوقفون، على مدى القرون، عن اختراع حوامل يعلقون عليها انقسام عالمهم وتشظيه، وبما يعنيه ذلك من أن الأصل في العالم هو الانقسام والتباعد. وهذا النوع من الانقسام هو أحد نتاجات رؤية للعالم استقرت وغلبت داخل التراث الإسلامي، وذلك مع ملاحظة أن تلك الرؤية للعالم تُعَد من رواسب ومخلفات عالم القبيلة الذي جاء الإسلام، في سعيه إلى بناء عالم جديد، لكي ينفيه ويرفعه، لكنه استمر حيًّا وفاعلًا في وعي العربي حتى الآن، على الرغم من غياب القاعدة المادية الحاملة له في الواقع. إن ذلك يعني أن «القبلية» تستمر فاعلة في الوعي الراهن، ولو كرؤية محفزة للانقسام والتفكك، وذلك على الرغم من غياب الحامل الواقعي لتلك الرؤية (الذي هو القبيلة).

ولقد بدا أن أحد أكثر هذه الحوامل التي لا يكف هذا الانقسام عن تعليق نفسه عليها رسوخًا وحضورًا، هو ذلك الانقسام بين السنة والشيعة الذي لا يوجد ما هو أكثر فاعلية منه في التجربة التاريخية للمسلمين، على العموم. فمنذ اللحظة التي انفجر فيها هذا الانقسام، مع تصاعد الأحداث التي انتهت بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فإنه لم يتوارَ عن المشهد أبدًا، وظل يعاد إنتاجه تحت رايات دول وأقوام تتبدل مواقعها على ساحتَي التاريخ والجغرافيا، ولكن من غير تبديل في عناصر المشهد ذاته؛ إذ هو مشهد الدم يتحرك من زمن المَقاتل الأولى في صفين وكربلاء إلى المَقاتل الجارية الآن بين ذات الطوائف المتنازعة، في نفس الساحات، وتحت نفس الرايات تقريبًا. وكذا فإنه يبدو وكأن الإمبراطوريات التي تقاتلت قديمًا تحت رايات عباسية وفاطمية، ثم رايات عثمانية وصفوية، إنما تنبعث الآن لكي تستأنف ما كان من صراعاتها القديمة.

وضمن سياق هذا الترجيع، فإن الورثة لا يستدعون الأحداث بمجردها، بل يستدعون معها كل الأبطال والرموز الذين كانوا هناك في الزمن الأول. وهكذا فقد حضر الرموز جميعًا من الصحابة وآل البيت وأمهات المؤمنين، وحضر معهم وربما قبلهم الفرقاء الذين تحزبوا لهم، وعلى النحو الذي بدا معه أن أربعة عشر قرنًا من الزمان لم تكن إلا محض زمان ميت ظل الحدث طافيًا فوق سطحه الراكد، حيًّا وطازجًا من دون أن يضعف أو يبهت، بل وحضرت اللغة بنفس ألفاظها وقاموس مفرداتها من قبيل «المبتدعة والرافضة وأهل الأهواء» وغيرها. وإذن فإنها الذاكرة التي لا تذبل أو تموت وهي تقهر التاريخ، وتلقي به في غيابة جب الماضي، ولا تسمح له إلا بأن يكون تاريخ تكرار واستعادة، وليس تاريخ إبداع وولادة.

وبالطبع فإنه لن يكون غريبًا، ضمن هذا الترجيع، أن يطلق العرب على حربهم الأخيرة في الخليج، نفس تسمية «الفتنة الكبرى» التي سبق أن أطلقوها على ما جرى في حرب «صفين» القديمة. ولسوء الحظ فإنها لا تكون الاستعادة — أبدًا — لما جرى في صورته الأصلية، بل في صورته المتخيلة المصنوعة التي لا تكاد تنطق إلا بعكس ما قد جرى فعلًا. وهكذا فإن الانقسام بين السنة والشيعة لا يستعاد بوصفه انقسامًا بين فرقاء اصطرعوا على السلطة واقتتلوا حولها، ثم راحوا يرتفعون بأصول اختلافهم من الأرض إلى السماء، حيث أخفوا الأصل السياسي الذي يتنازعون حوله وراء قناع ديني سميك. وقد كان الواحد من هؤلاء الفرقاء يسعى، من وراء هذا التعالي إلى السماء، إلى تحصين مواقفه وتثبيت اختياراته أو انحيازاته، عبر ما يخلعه عليها هذا التعالي من سمات الديني «المقدَّس»، وينأى بها عن الارتباط بالسياسي «المدنَّس». والمهم أن ما كان مجرد انحيازات تحتاج إلى التعرية والفضح يتحول، عبر هذا التعالي، إلى «معتقدات» يتقاتل الناس ويموتون تحت راياتها المقدسة. لا تستعاد تلك الجذور الدفينة للخلاف أبدًا، بل إنه يستعاد بما هو خلاف يقوم أصله ومنتهاه في السماء، وأعني فيما هو ديني محض، حيث يجري التغييب الكامل لكل ما هو سياسي وواقعي.

ولأن السماء هي فضاء المطلقات، فإن ما يرتفع إليها لا بد أن يصبح مطلقًا لا محالة. وهكذا فإن الخلاف بين السنة والشيعة سوف يصبح، عبر الارتفاع به من الأرض إلى السماء، من قبيل «المطلق» الذي لا سبيل إلى حله أو رفعه؛ إذ الخلاف حين يصبح مطلقًا، يكون حقلًا لمجرد التصادم، وليس التصالح. وللغرابة، فإنه لم يكن الشيعة وحدهم هم الذين يرتفعون باختياراتهم السياسية إلى السماء، بل كان أهل السنة يمارسون على هذا النحو أيضًا. ولا يتعلق الأمر فقط بما قام به عثمان بن عفان حين تعالى بسلطته إلى السماء معتبرًا أنها «قميص ألبسه الله له»، بل وحتى بما صار إليه ابن تيمية، وهو أحد أكبر خصوم الشيعة من السلف؛ فإنه إذا كان الشيعة يؤسسون دعواهم على أحقية الإمام «علي» بالإمامة على ما يقولون إنه النص (الجلي أو الخفي) على إمامته من جهة، وعلى ما تواتر عن فضله من جهة أخرى، فإن ابن تيمية لا يفعل إلا أن يحشد ما لا حصر له من النصوص الدالة على تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان على «علي» من جهة، بل ويمضي إلى تفصيل النصوص الدالة على إمامة أبي بكر من جهة أخرى؛ فقد مضى في «منهاج السنة النبوية» إلى أن «كثيرًا من أهل السنة يقولون إن خلافته (يعني أبا بكر) ثبتت بالنص، وهم يستندون في ذلك إلى أحاديث معروفة صحيحة.

ولا ريب أن قول هؤلاء أوجه من قول من يقول إن خلافة علي أو العباس ثبتت بالنص؛ فإن هؤلاء (الشيعة) ليس معهم إلا الكذب والبهتان، الذي يعلم بطلانَه بالضرورة كلُّ من كان عارفًا بأحوال الإسلام». وبما يعنيه ذلك من أن ابن تيمية (السلفي) لا يفعل إلا ما يفعله الشيعة من الارتفاع بأصل السلطة إلى السماء أيضًا.

وفقط فإنه يجعل ذلك لأبي بكر، في مقابل ما يفعله الشيعة من جعلها كذلك للإمام «علي»، وبما يعنيه ذلك أن الخلاف بين السلف والشيعة، ليس خلاف «تناقض»، بل خلاف «تنافس». وبالطبع فإن ذلك يحيل إلى أن السبيل إلى رفع الخلاف السني الشيعي وتسويته، يكون في النزول به من السماء إلى الأرض. لا بد إذن — وفي كلمة واحدة — من الرجوع بما أصبح من قبيل «المعتقدات» الإيمانية إلى كونه مجرد تعبير عن مواقف و«تحيزات» سياسية. ولسوء الحظ، فإن الكثير مما يتعامل معه المسلمون كمعتقدات إيمانية هو، في جوهره، محض غطاء لمواقف وتحيزات سياسية.

وضمن سياق التنزل بهذا الخلاف إلى أصله في الأرض، فإن المرء سوف يكتشف أن الجذر الواقعي لهذا الخلاف بين السنة والشيعة لم يكن مجرد خلافات السياسة وحدها، بل كان أيضًا تصارعات القبيلة، أو حتى تناقضات العشائر داخل القبيلة الواحدة. ولعل ذلك ما يقطع به كتاب المقريزي «في النزاع والتخاصم بين بني هاشم وبني أمية»، الذي يرى للصراع، الذي خرجت من أحشائه فتنة السنة والشيعة، أصولًا تسبق ظهور الإسلام ذاته.

(٣) حزب المادة ٢١٩ (النور سابقًا)

لا يشغل حزبُ النور نفسَه بمشكلات الواقع السياسي والاقتصادي، والتي هي أكثر من أن تُحصى في مصر، بقدر انشغاله بما يتعلق بالأمور المجردة، من قبيل الهوية وغيرها. ولعل ذلك يتفق مع الطابع الهوياتي للحزب الذي لا ينبغي نسيان أنه القناع السياسي للدعوة السلفية، التي يمثل مفهوم الهوية مركز خطابها كله. فالخطاب السلفي يقوم، على العموم، على فكرة «أصل» سابق يتبدى كالهوية النقية التي تجسدت في نموذج السلف، والتي تكاد استعادتها أن تكون السبيل الوحيد إلى تجاوز المأزق الذي يتخبط فيه المسلمون الآن.

ولعل ذلك يعني أن الخطاب السلفي ينتمي إلى طريقة في التفكير ترى الهوية أو الماهية سابقة على الوجود الواقعي، وبما يترتب على ذلك من أن الواقع يكتسب قيمته من إلحاق نفسه بهذه الهوية السابقة، والتبعية لها. وابتداءً من أن الوعي السلفي يتلقى هذه الهوية مكتملة وجاهزة من السلف، فإنها تكون مغلقة وجامدة؛ لأنه لا مجال لأي إضافة إليها من حيث يجري التعالي بها إلى مقام النموذج المطلق الذي لا سبيل إلا إلى تكراره. وهكذا فإنها تكون على النقيض من الهوية المنفتحة المتجددة التي ترتبط بطريقة أخرى في التفكير ترى الوجود الواقعي هو الذي يأتي سابقًا على الهوية أو الماهية، وأن الواقع هو القادر — تبعًا لذلك — على خلق هويته المنفتحة المتجددة التي تناسب تطوره المتلاحق. وهنا يلزم التنويه بأن الفارق بين هاتين الطريقتين في التفكير ينبثق من التباين بين صورتين لحضور الماضي في الحاضر، حيث يكون في إحداهما بمثابة قيد على الحاضر يحدد هويته، بينما يكون في الأخرى تابعًا للحاضر وخاضعًا لنظامه. وغني عن البيان أن مجرد إضافة وصف السلفي إلى الخطاب إنما تكشف عن تَبنِّيه ذلك التصور للماضي كقيد على الحاضر، وذلك من حيث لا يعرف إلا أن السلف-الماضي هو الحاكم على الحاضر، ولا شيء سواه.

وكمثال على غلبة هذه الهيمنة للماضي على الحاضر في أدبيات «حزب النور»، فإنه يمكن الإشارة إلى ما ورد في برنامجه السياسي بخصوص الجامعة بالذات. فإذ يورد البرنامج أن «الجامعة هي معقل الفكر والرأي الحر»، فإنه سرعان ما يبين أن الأمر لا يتجاوز حدود القول البليغ الذي لا يصمد أمام الاستعادة الصريحة للماضي كقيد قامع للرأي الحر. فإنه ليس من معنًى لما أورده البرنامج من «العمل على الحد من سيطرة بعض أساتذة الجامعة على فرض كتاب خاص يعبر عن فكره دون الرجوع إلى مجلس الجامعة، وقد تكون أفكاره مخالفة للشريعة وأخلاق المجتمع المصري»، إلا أن الشريعة — كما يتصورها الحزب بالطبع — سوف تحضر بما هي القيد الحاكم لحركة الفكر في الجامعة التي سوف يكون على مجلسها أن يمارس دور الرقيب على المشتغلين بالفكر فيها. لا يدري المرء، إذن، كيف ستكون الجامعة معقلًا للرأي الحر، ثم يجري إلزامها بأن تكون رقيبًا على عقول مفكريها، وإلى حد محاسبتهم بسلاح الشريعة كمفهوم جامد يتوارثه الحزب من الأقدمين. ولعل ذلك يجد تفسيره في حقيقة التجاور الذي يخترق كافة تيارات الخطاب العربي الحديث، والذي يجعل الوعي السلفي يجمع — من دون أي معاناة للشقاء — بين نقيضين لا يلتقيان؛ هما الرأي الحر من جهة، والرقابة على الفكر والضمير من جهة أخرى.

وهنا يلزم التأكيد على أن هذه الطريقة في التفكير التي تعلق إخراج الواقع من أزمته على انصياعه لسلطة نموذج هوياتي جاهز، هي — وبصرف النظر عن المصدر الذي يأتي منه هذا النموذج (الذي قد يكون التراث أو الحداثة) — الأصل الأعمق للمأزق المصري والعربي الراهن. وبالطبع فإن ذلك يعني أن الأطروحة التي يقدمها حزب النور لن تكون — مهما تجملت كغيرها بإكسسوارات الحداثة المعلقة على براقع القداسة — السبيل إلى تجاوز الأزمة المصرية، بقدر ما ستئول إلى مفاقمة تلك الأزمة وزيادة حدتها، وهو ما يقطع به السلوك الراهن للحزب بخصوص تعديلات الدستور بالذات.

فقد اختزل الحزب قضيته بخصوص الدستور، لا في الدفاع عن الحقوق والحريات العامة، أو التفكير في طبيعة النظام السياسي الذي يمكن أن يضع نهاية للفرعونية السياسية الراسخة في مصر على مدى القرون، بل في الحفاظ على ما يقول إنها «الهوية الإسلامية» لمصر، ومن خلال الإبقاء على المادة «٢١٩» بالذات. وبالطبع فإن انشغال الحزب بالهوية الدينية للدولة لا بد أن يؤدي إلى جعل تلك الهوية الباب الذي يحضر منه الأفراد في المجال العام لهذه الدولة، حيث إن ما يحدد هوية الكل لا بد أن يكون لهوية الأجزاء المندرجة تحت مظلته الجامعة. وغني عن البيان أن حضور الفرد بهويته الدينية في المجال العام يبقى هو الطابع المميز للدولة ما قبل الحديثة، حين كانت الانتماءات الدينية والمذهبية للأفراد هي الأساس في تعيين مراتبهم في النظام السياسي. وهكذا فإن الدين والمذهب والجنس تبقى هي المحدد، في إطار تلك الدولة، للحقوق السياسية للفرد، وعلى النحو الذي يكون فيه جنس الفرد وانتماؤه إلى دين الدولة، أو المذهب الذي تتبناه، هو المحدد لتمتعه بحقه السياسي أو حرمانه منه. وليس من شك في أن هذا الإحضار للأفراد بهويتهم الدينية هو ما وقف وراء اعتراض الحزب — في عهد الرئيس المعزول — على تولي امرأة أو قبطي لمنصب نائب رئيس الجمهورية، ابتداءً مما يقول إنه النهي عن ولاية النساء وغير المسلمين لمناصب الولاية الكبرى. وإذ يئول ذلك إلى قيام الممارسة السياسية للحزب على أساس ديني صريح، فإنه لن يكون هناك مجال للاحتجاج بأن الوثائق السياسية المكتوبة للحزب تخلو مما يدل صراحةً على قيام الحزب على أساس ديني. فإن ما تخلو منه النصوص — على فرض خلوها منه فعلًا — تؤكده الممارسة الواقعية للحزب.

وعلى العكس من ذلك، فإن الأفراد يحضرون في المجال العام للدولة الحديثة بهويتهم السياسية كمواطنين لا تمايز بينهم بحسب الجنس أو الدين أو المذهب. وبالطبع فإن ذلك يعني أن إلحاح حزب النور على تأكيد الهوية الدينية للدولة، وبما يستتبع ذلك من حضور الأفراد في المجال العام بهويتهم الدينية الذي يترتب عليه تثبيت التمييز بينهم على أساس الجنس والدين والمذهب، إنما يمثل نكوصًا إلى ما قبل الدولة الحديثة، أو أنه الارتداد إلى ما قبل عصر المواطن. والغريب حقًّا أن يتم السماح لحزب سياسي يتأسس بنيانه — فيما تحت سطح البلاغة الجوفاء لوثائقه المعلنة — على مثل هذه الأفكار المنسربة من العصر ما قبل الحديث، ليس فقط بالعمل بحرية في إطار لحظة تسعى فيها مصر إلى بناء حداثتها السياسية، بل وبممارسة دور تحكمي فيها من خلال الرطانة بما يدغدغ عواطف الجمهور. ويبقى، بعد ذلك، وجوب المناقشة المتأنية للمادة «٢١٩» التي جعلها الحزب وثنًا يتعبده.

(٤) حزب المادة ٢١٩ مجددًا

إذا كان انشغال حزب النور بالمجردات قد انعكس في اختزاله الدستور فيما سماه بمفهوم الهوية — ولكن لا بمعناه المنفتح المتحرك، بل بمعناه المنغلق الجامد — فإن تفكيره الاختزالي لم يقف عند هذا الحد، بل تجاوز إلى اختزال الهوية نفسها في إحدى مواد دستور الإخوان المعطل، وهي المادة ٢١٩ التي تنطوي — لسوء الحظ — على ترسيخ المفهوم المذهبي/الطائفي للهوية. إن ذلك يعني أن الحزب لا يقف عند المضمون الديني للهوية، بكل ما ينطوي عليه من الاستعادة الكاملة للفكرة التي تقوم عليها الدولة ما قبل الحديثة التي تتميز بحضور الأفراد في مجالها العام بهوياتهم الدينية فقط، بل يتنزل إلى المضمون الطائفي المذهبي للهوية، بكل ما ينطوي عليه ذلك من استعادة حروب الدماء والمقاتل بين المذاهب، التي يكاد العراق أن يكون المثال الأبرز عليها في العصر الراهن. فحين يقرأ المرء تلك المادة التي يقول نصها: «مبادئ الشريعة الإسلامية هي أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبَرة في مذاهب أهل السنة والجماعة.» فإنه يتبين ضربًا من الاختزال الذي يجري تنزيل الشريعة بمقتضاه من مستوى المبدأ الشامل (الذي يتسع ليستوعب داخله جميع الأديان والملل تقريبًا بحسب الأصولي الكبير أبي إسحاق الشاطبي)، ليس فقط إلى مستوى الدين أو الملة الواحدة، بل إلى مستوى المذاهب الجزئية داخل هذا الدين الواحد، ويتحقق هذا التنزيل من خلال آلية رد الكل (مبادئ الشريعة) إلى الجزء (الأدلة الكلية والقواعد الفقهية والأصولية ومصادرها في مذاهب أهل السنة). إن جزئية هذه الأقسام الأخيرة (أي الأدلة والقواعد والمصادر المذهبية) تأتي من اختصاصها بدين بعينه، في حين أن مبادئ الشريعة هي، وبحسب المفسرين المسلمين الكبار، تختص بالأديان جميعًا.

فقد حرص المفسرون الكبار (الطبري والقرطبي والرازي) على التمييز في الشرائع بين قسمين، منها ما يمتنع دخول النسخ والتغيير فيه، بل يكون واجب البقاء في جميع الملل والأديان، كالقول بحسن الصدق والعدل والإحسان، وكالقول بقبح الكذب والظلم والإيذاء، ومنها ما يكون من الفروع التي يدخل عليها النسخ والتغيير، وأنه لا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينها في الفروع، حسبما علمه سبحانه. وإذن فإنه الإلحاح على التمييز بين «المبادئ» التي لا تختص بدين بعينه، بل تتوافق عليها الأديان جميعًا، وبين «الفروع» التي يختلفون فيها، ويختص بها أهل دين معين. ولسوء الحظ، فإن ما يقال في تفسير مبادئ الشريعة إنها «الأدلة الكلية والقواعد الأصولية والفقهية ومصادرها المذهبية»، إنما ينطوي على الكثير مما يدخل في باب الفروع التي هي محل للخلاف بين المسلمين أنفسهم؛ فإن الإجماع والقياس، وهما من الأدلة الكلية، يُعَدان موضوعًا للخلاف بين الأصوليين أنفسهم.

وإذا كانت الفروع الجزئية تدخل في تركيب الأدلة الكلية — أو على الأقل بعضها — على هذا النحو، فإن دخولها في القواعد الأصولية والفقهية (التي هي من وضع الأصوليين والفقهاء)، وفي المصادر المعتبرة التي تختص بأهل السنة والجماعة بالذات، يكون أكثر ظهورًا لا محالة. وفي كلمة واحدة، فإن ذلك يعني استحالة رد «مبادئ الشريعة» إلى ما تضعه تحتها المادة «٢١٩» من الأدلة والقواعد والمصادر؛ لأن هذه الأخيرة تبقى من قبيل الجزئي الذي لا يمكن رد المبدأ الكلي إليه أبدًا.

والحق أن إصرار حزب النور على استبقاء هذه المادة في الدستور إنما يرتبط بما تتيحه — عبر هذا الاختزال للمبدأ الكلي في الفروع الجزئية — من فتح الباب أمام إحلال «أحكام» الشريعة محل «مبادئها». ومن هنا أن الحزب يعلق موافقته على استبعاد المادة «٢١٩» من الدستور على شرط استبدال لفظة «الأحكام» بكلمة «المبادئ» في المادة الثانية. وإذ يعني ذلك أن المادة «٢١٩» تقوم، وعلى نحو صريح، مقام إبدال لفظة «أحكام» بكلمة «مبادئ» في المادة الثانية، فإنه يؤكد أن القصد من وراء الإلحاح على إبقاء هذه المادة في الدستور يرتبط بحقيقة أنها الباب إلى ما يبتغيه حزب النور من تصوير الشريعة على أنها هي الأحكام.

وإذا كانت خطورة اختزال الشريعة في الأحكام تأتي من كون الأحكام هي مما ينتجه البشر ضمن سياقات التاريخ والمجتمع، وبما يعنيه ذلك من إضفاء القداسة على ما هو تاريخي واجتماعي، فإن الخطر لا يقف عند هذا الحد، بل يتجاوز إلى اعتبار الأحكام ساحة لتكريس الانقسام المذهبي. فإن الإشارة إلى الطابع المذهبي السني للهوية الإسلامية في المادة «۲۱۹»، ترتبط بالسعي إلى إقصاء الشيعة من المجال المصري العام. وللغرابة، فإن ذلك قد انطوى على استدعاء الانقسام المذهبي إلى مجال الفقه الذي استقر النظر إليه على أنه ساحة للتقارب بين المذاهب؛ إذ الحق أن الانقسام المذهبي في الإسلام إنما ينتمي إلى مجال العقيدة، وليس إلى مجال الفقه أو الشريعة. ويرتبط ذلك بحقيقة أن الخلاف بين المسلمين قد كان في أصله خلافًا سياسيًّا، ثم تعالى ليصبح خلافًا في العقيدة التي كان لا بد أن تصبح لذلك ساحة الصدام والخلاف الانقسامي.

وإذ يلح حزب النور على تحويل المجال الفقهي إلى ساحة للتمايز والانقسام بين الفرقاء، فإن ذلك يعني أنه يبغي إغلاق الباب أمام كل من يسعى إلى ترسيخ التقارب والوفاق بين المسلمين. وليس من شك فيما يعنيه ذلك من أن الهوية — كما يفهمها الحزب — إنما تتحدد من خلال آليات الانقسام والتمايز، وليست الهوية التي تنبني بحسب آليات الاستيعاب والتقارب.

(٥) حزب النور بين الدين والسياسة

ما إن يصدر تعليق عن مسئول رسمي، أو شخصية عامة، على غير هوى القائمين على حزب النور السلفي، إلا ويبادرون إلى التصريح بأنهم في انتظار أن تعلن الدولة موقفها من التعليق، ثم يطلبون من الأزهر والإفتاء أن يقررا حكم الإسلام فيه. وبالطبع فإنهم لا يفعلون ذلك إلا حين يكون التعليق مهددًا للأيديولوجيا التي يُجهدون أنفسهم في إخفائها والتستر عليها؛ وهي أيديولوجيا الإسلام السياسي التي تقوم على ممارسة السياسة بالدين، ولا تزال تتسع للكثيرين من الذين ينشطون تحت مظلتها الفضفاضة. وهنا يلزم التأكيد على تباين وتعدد الأشكال التي ينشط فيها هؤلاء الفاعلون تحت مظلة خطاب الإسلام السياسي، على أن يكون معلومًا أن هذا التباين لا يؤثر على وحدة الخطاب الراقد تحتها أبدًا.

وهكذا فإن التباين بين الإخوان والسلفيين والتكفيريين والقاعديين والدواعش وغيرهم هو مجرد تباين يتحدد بالشرط الخارجي الذي يعمل فيه خطاب الإسلام السياسي الذي ينشطون جميعًا تحت مظلته الواسعة، ولا يحيل إلى أي تباين يتعلق بالبنية الداخلية لهذا الخطاب ذاته؛ فإنه ليس من شك في أن «الاستضعاف» كشرط خارجي يتحدد به الخطاب إنما يئول إلى طريقة في الاشتغال تختلف عن تلك التي سيشتغل بها حين يبلغ شرط «التمكين». إن ذلك يعني أن السلفي لن يختلف عن رفيقه الإخواني إلا في تقدير نوع اللحظة التي يشتغل فيها الخطاب؛ وبمعنى اختلافهما في تقدير ما إذا كانت لحظة استضعاف أم تمكين أم إنها لحظة المنزلة ما بين المنزلتين. وبالطبع فإن هذا التباين في الشروط الخارجية التي يشتغل فيها الخطاب إنما يؤثر — بقوة وحسم — على أشكال التعبير عنه؛ وبمعنى أن الشكل التعبيري للخطاب في حال الاستضعاف إنما يختلف بالكلية عن الشكل الذي يأخذه في حال التمكين؛ إذ فيما يمارس الخطاب في حال الاستضعاف ضروبًا من التخفي والمراوغة، فإنه يتحلل منها تمامًا في حال تحقيقه للسيطرة والتمكين، وبحيث يكون التعبير بالتصريح، وليس بالإشارة والتلميح.

وأما القلب الصلب للخطاب ذاته، فإنه يبقى واحدًا عند الكافة من هؤلاء المنضوين تحت مظلته. ولعله يمكن القول إن القلب الصلب لخطاب الإسلام السياسي يتمثل في تصور أنه لا مجال لأي حضور فعال للإسلام في المجتمع والعالم إلا من خلال «الدولة». وللغرابة فإن هذه المركزية للدولة في هذا الخطاب تبلغ حد إمكان القول بأن الأمر يتجاوز مجرد «أسلمة» الدولة إلى «دولنة» الإسلام إذا جاز التعبير. ويرتب الخطاب هذه المركزية الطاغية للدولة على ما يقطع به — الذين يمدون الخط إلى نهايته من الفاعلين تحت مظلته — من أن قيامها شرط لازم لأداء المسلم لبعض شعائر الدين المفروضة (كصلاة الجمعة مثلًا)؛ وإلى حد القول بجواز إسقاط هذه الشعائر عن المسلم في حال عدم قيام الدولة. وبالطبع فإن ذلك يعني إمكان القول بأن المسلم لا يكون مسلمًا — أو غير كامل الإسلام على الأقل — في حال عدم قيام دولة الإسلام، وعلى النحو الذي يستدعي إلى الذهن الفكرة التي جرى الترويج لها من أن اليهودي لا يكون يهوديًّا طالما لم تقم لليهود دولة. وهكذا تتماثل النهايات التي تئول إليها خطابات تديين السياسة، بصرف النظر عن نوع الدين الذي يجري استخدامه في هذا المجال. ولسوف ينتهي حزب النور — بصرف النظر عن ادعاءاته المعلنة — إلى نفس النهاية بالضرورة، طالما ظل يمارس السياسة بالدين.

وللغرابة فإن التأكيد على ممارسة الحزب للسياسة بالدين إنما يصدر عن القائمين على الحزب أنفسهم؛ ابتداءً من رئيسه الذي لا يترك أي مناسبة تتيح له التأكيد على الأساس الديني لحزبه، من دون أن يستغلها. وللمفارقة، فإن هذا التأكيد كان يرد أحيانًا في سياق سعيه لنفي أن يكون حزبه قائمًا على أساس ديني. من ذلك مثلًا ما قاله — ذات مرة — من أن حزبه ليس دينيًّا، بل هو فقط حزب ذو مرجعية إسلامية، وهو هنا كغيره من أحزاب ذات مرجعيات أخرى؛ ناصرية أو اشتراكية أو ليبرالية وغيرها. والمشكلة هنا أن الرجل يطلب من الوعي أن ينقلب على ذاته؛ فلا يساوي — من جهة — بين المتساويَين بالضرورة، ويساوي — من جهة أخرى — بين أطراف لا تقبل التساوي فعلًا؛ فهو يطلب من العقل ألا يساوي بين القول «إن للحزب مرجعية دينية/إسلامية» وبين القول «إن الحزب قائم على أساس ديني»، في حين أن «المرجع» لا يختلف عن «الأساس» في أنه الأصل الذي يقوم عليه الشيء؛ ومن جهة أخرى، فإنه يطلب منه أن يضع الإسلام في وضع المرجعية المساوية لغيرها من المرجعيات الناصرية والاشتراكية والليبرالية، متصورًا أن هذه التسوية سوف تجعل الوعي ينسى صفته كدين، ويتعامل معه كأيديولوجية لا تختلف عن غيرها من الأيديولوجيات الدنيوية. وإذ لا يمكن تصور أن يكون بمقدور الوعي أن ينزع عن الإسلام صفة الدين عبر هذه المماثلة، فإنه لا يبقى إلا أن الرجل يراوغ بتصوير الإسلام كأيديولوجية دنيوية، فيما هو يدرك أن الوعي المتلقي لن يتعامل معه إلا كدين. وهكذا فإنه يبدو وكأن الرجل يمارس على طريقة الأشاعرة بأن يميز بين تعلقين للفعل؛ أحدهما تعلق في الظاهر، والآخر في الباطن. ففيما يشير أحد تعلقَي فعل تسوية الإسلام بغيره من الأيديولوجيات الدنيوية كالناصرية والاشتراكية وغيرها إلى نزع صفة الدين عن الإسلام في الظاهر، فإن التعلق الآخر له يشير إلى تثبيته كأساس ديني يقوم عليه الحزب في الباطن. وبعبارة أخرى، فإنه يقبل — في الظاهر فقط — بهذا التصوير للإسلام كأيديولوجية دنيوية طالما أن النتيجة القصوى التي ستترتب على ذلك — في الباطن — هي تثبيته كأساس لحزبه، ومع ملاحظة أن الذين يستهدفهم بمراوغته لن يتلقوه إلا كدين.

ومن حسن الحظ، أن السيد رئيس الحزب قد صرَّح بما يقطع في الظاهر بتثبيت الأساس الديني لحزبه، وذلك حين اختار أن يصنف نفسه — وبالتالي حزبه — ضمن فصيلة الممارسين للسياسة بالدين. فإنه إذا كان الرجل بما أعلنه من أن «رفض الشعب للإخوان لا يعني أنه يرفض الإسلاميين» ينفي عن نفسه أن يكون مرفوضًا كالإخوان، فإنه لا ينفي — بل لعله يثبت — أنه مثلهم يمارس السياسة بالدين، وبما يجعله يضع نفسه معهم ضمن فصيل من يسميهم بالإسلاميين.

(٦) بما لا يخالف أحكام الشريعة

يكاد انشغال السلفيين بتضمين تعبير «أحكام الشريعة الإسلامية» في نص الدستور أن يبلغ حد الهوس الفعلي. ويبدو أن السعي إلى هذا التضمين يمثل أحد أهم استراتيجياتهم الثابتة، التي قد تختلف الآليات المحققة لها فقط. فبعد أن أخفقت آلية السعي الصريح إلى إحلال لفظة «أحكام» محل لفظة «مبادئ» في المادة الثانية المحددة — أو الحاكمة بالأحرى — لكيفية حضور الشريعة واشتغالها في الدستور، فإنهم قد انتقلوا — فيما يبدو — إلى الاشتغال بآلية التحايل عبر السعي إلى إلحاقها بإحدى المواد الفرعية الخاصة بالمساواة بين الرجل والمرأة، حيث يصرون على تقييد مبدأ المساواة بتعبير «بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية».

وبالطبع فإنهم يدركون أن النص على «أحكام الشريعة»، ولو جاء في إحدى مواد الدستور الفرعية، سوف يمثل تحييدًا — أو حتى إلغاءً فعليًّا — للقاعدة التي تقرر حضور الشريعة، بما هي المبادئ في المادة الثانية التي هي إحدى مواد الدستور الأساسية، وليست الفرعية. فمن المعلوم أن النص على أحكام الشريعة في مادة فرعية تختص بمسألة جزئية (كالعلاقة بين الرجل والمرأة مثلًا) سيئول إلى تثبيت العمل بالأحكام كقاعدة ينبغي العمل بما تقرره في سائر المواد الفرعية المتعلقة بمسائل جزئية أخرى، وإن لم تتضمن ذات النص على الأحكام. وضمن هذا السياق، فإن ما ورد من النص — في المادة الثانية — على حضور الشريعة بما هي المبادئ سوف يصبح مجرد زخرفة لغوية.

وإذا كان الافتراض المضمر في تفكير السلفيين هو أن أحكام الشريعة، بخصوص المسألة الواحدة، هي أحكام واحدة وثابتة، ولا تكون محلًّا للاختلاف أو التغيير أبدًا، فإن ذلك يبقى من قبيل الوهم الذي لا يقوم عليه أي دليل؛ حيث إن المصادر المعتبرة قد أوردت العديد من وقائع الاختلاف، حتى بين الصحابة أنفسهم، في تقرير حكم الشريعة في المسألة الواحدة، حتى ولو كان هذا الحكم منصوصًا عليه في القرآن نفسه.

ومن ذلك ما قطع به الكثيرون من وقوع الاختلاف بين الصحابيين الكبيرين زيد بن ثابت وعبد الله بن عباس في حكم ميراث الأم مع الأب من أبنائهما الذين يموتون دون أن يكون لهم ولد. فرغم ما أورده القرآن من النص على أن ميراث الأم في هذه الحالة هو «الثلث» — لقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ — فإن الخبر قد تواتر بوقوع الاختلاف بين زيد وابن عباس في المقدار الذي يؤخذ منه هذا الثلث؛ فهل يكون هذا المقدار هو الميراث كاملًا، أم إنه ما يتبقى منه بعد اقتطاع سهم الزوجة (إذا كان الابن هو المتوفى) أو سهم الزوج (إذا كانت الابنة هي المتوفاة)؟ فإذ مضى زيد إلى احتساب الثلث الخاص بالأم من المتبقي من الميراث بعد اقتطاع سهم «الزوج أو الزوجة»، فإن ابن عباس قد مضى إلى احتساب هذا الثلث من الميراث كاملًا، محتجًّا على زيد بالقول: «لم أجد ثلث ما بقي في كتاب الله.» وعندئذٍ فإن زيدًا لم يجد ما يرد به على هذا الاحتجاج إلا أن يقول: «إنما أنت رجل تقول برأيك، وأنا أقول برأيي.» وفي تفسير الاختلاف بخصوص الأحكام التي وردت بها نصوص القرآن، فإن «ابن العربي» قد ربطه — في كتابه أحكام القرآن — بأن «البيان لا يكون قاطعًا، بل القرآن يسوق الأمر مساق الإشكال (حيث قد يورد القول مشكِلًا أو يسكت عن القول بالكلية، فيجعل الحال مشكِلًا)، لتتبين درجة العالمين، وترتفع منزلة المجتهدين.» وبالطبع فإن ذلك يعكس وعي الرجل بما يؤسس لما تواتر من الاختلاف حول الأحكام.

وحين يدرك المرء أن ما يذكره ابن العربي مما يؤسس للاختلاف، من «سوق القرآن للقول مساق الإشكال، وعدم وضوح البيان وضوحًا قاطعًا، أو السكوت عن القول بالكلية»، قد ورد في سياق تناوله لآيات من القرآن تتعلق بأحكام النساء، فإن له أن يستنتج أن الاختلاف حول الأحكام المتعلقة بالمرأة بالذات له ما يؤسسه في بناء القرآن ذاته. وهكذا فإن الأمر ليس كما يصوره السلفيون من أن للشريعة أحكامًا واحدة ثابتة لا ينبغي أن تكون موضوعًا للمخالفة، سواء فيما يخص المرأة أو غيرها.

وبمثل ما اختلف الصحابة حول الأحكام، فإن ما جرى من اعتبار الاختلاف حول الأحكام بين الفقهاء هو نوع من الرحمة والتيسير على الناس، ليكشف ليس فقط عن وقوع الاختلاف، بل وكذا عن استحباب وقوعه. من ذلك ما تورده المصادر، مثلًا، من اختلاف الفقهاء حول القصاص من المسلم في حال قيامه بقتل غير المسلم، وبما يحيل إليه ذلك من وقوع الاختلاف فيما يخص غير المسلمين أيضًا؛ فقد ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى ثبوت القصاص (في حق المسلم قاتل غير المسلم)، لعموم قوله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ … [الإسراء: ٣٣]. وإذا سقط القصاص لشبهة أو عفو، فإنه لا بد من الدية، وهي مثل دية المسلم، لقوله تعالى: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [النساء: ٩٢]. وفي المقابل، فقد ذهب جمهور الفقهاء وأكثر الصحابة إلى عدم ثبوت القصاص على القاتل المسلم، ولو كان القتل عمدًا، بل إن عقوبة المسلم تكون هي الدية، وتكون دية غير المسلم على نصف دية المسلم عند المالكية والحنابلة، وعلى ثلث دية المسلم عند الشافعية. واستدل جمهور الفقهاء على ذلك بحديث البخاري المنسوب إلى النبي الذي يقول: «لا يُقتَل مسلم بكافر.» ويستدلون أيضًا بما أخرجه أبو داود من أن النبي قال: «دية المعاهد نصف دية الحر.» واستدل الشافعية بأن عمر بن الخطاب جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، وهي ثلث دية المسلم.

وإذ يبدو أن فقه التمييز بين المسلم وغير المسلم يؤسس نفسه على السنة والإجماع، بينما يؤسس فقه التسوية بينهما نفسه، في المقابل، على نصوص القرآن، فإن ذلك يحيل إلى ما يبدو أنه الحرص على الاختلاف، حتى ولو راح يؤسس نفسه على أخبار يشوبها الضعف والتعارض. وبدلًا من الإقرار بهذا الاختلاف الذي يمكن أن يفتح الباب أمام تجاوز كل ضروب التمييز بين بني البشر بصرف النظر عن اختلاف الجنس والدين، فإن السلفيين يوهمون بأن ما يؤمنون به من تصورات ضيقة هي «أحكام الشريعة» الثابتة التي يلزم عدم مخالفتها أبدًا. فمتى يفيقون من أوهامهم؟!

(٧) ماذا لو أن أحدًا يفكر مثل هذا الرجل؟

فقيه القرن السابع الهجري الكبير نجم الدين الطوفي الحنبلي، الذي تروي عنه المصادر أن ميلاده كان بالعراق، وأنه قد سكن الشام ومصر، ومات بفلسطين (وبما يعنيه ذلك من أن تفكيره الفقهي قد تحدد بالشروط المنفتحة التي عرفتها مراكز الحضارة الكبرى في عالم الإسلام)، وأنه أقبل على قراءة الحديث، وشرح الأربعين للنووي، واختصر الترمذي وروضة الموفق على طريقة ابن الحاجب، وكتب على المقامات شرحًا، وشرح مختصر التبريزي في الفقه على مذهب الشافعي (وبما يعنيه ذلك من تضلعه في الحديث والفقه والأصول واللغة، وعلى النحو الذي يستحيل معه اتهام الرجل في علمه). وأما تفكير الرجل، الذي لا يمكن تصور إلا أن يكون موضوعًا لتكفير الجهال فيما لو نطق به أحدهم الآن، فإنه يدور حول مركزية المصلحة في بناء ما يتعلق بفقه المعاملات الإنسانية (في مجالاتها السياسية والاجتماعية والإدارية والقضائية وغيرها)، وإلى الحد الذي يقوم فيه، ليس فقط بإخراج كل ما يتعلق بهذه المعاملات من مجال النصوص، بل وكذا تقديم المصلحة على النص في حال تعارضهما.

وهكذا فإنه ينطلق من التمييز بين ما يسميه العبادات والمقدرات التي يكون التعويل فيها على النصوص والإجماع، وبين المعاملات والعادات التي تقوم على مبدأ رعاية المصلحة بالأساس. وإذ يجعل من هذا المبدأ الأصل الذي تقوم عليه تلك المعاملات، فإنه يقطع بوجوب تقديم رعاية المصلحة على النص والإجماع في حال تعلقهما بالمعاملات. وهو يقيم حجته على أنه إن وافقها النص والإجماع وغيرها من أدلة الشرع، فلا كلام؛ وإن خالفها دليل شرعي وُفِّق بينه وبينها بما ذكرناه من تخصيصه (أي النص والإجماع)، وتقديمها (أي المصلحة) بطريق البيان. ويؤسس الرجل هذا التقديم للمصلحة على النص على الأولوية شبه المطلقة للمصلحة التي تجعلها تعلو على النص والإجماع. فإنه مما يدل على تقديم رعاية المصلحة على النصوص والإجماع على الوجه الذي ذكرناه وجوه: (أحدها) أن منكري الإجماع قالوا برعاية المصالح؛ فهي إذن محل وفاق.

والإجماع محل الخلاف، والتمسك بما اتفقوا عليه أولى من التمسك بما اختلفوا فيه، و(الوجه الثاني) أن النصوص مختلفة متعارضة، فهي سبب الخلاف في الأحكام المذموم شرعًا، ورعاية المصلحة أمر متفق (عليه) في نفسه، لا يُختلف فيه، فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعًا، فكان اتباعه أولى، وقد قال الله عز وجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا. وهكذا يبلغ الأمر بالطوفي إلى حد قراءة المصلحة على أنها حبل الله الذي يلزم الاعتصام به.

وإذ يدرك الطوفي أن ثَمة من قد يعترض على طريقته في التفكير، فإنه يورد الحجة التي يمكن الاعتراض بها عليه، ليرد عليها. وتتلخص حجة الخصم في أن هذه الطريقة التي سلكها الطوفي في رعاية المصلحة، إما أن تكون خطأً فلا يلتفت أحد إليها، أو تكون صوابًا. وفي حال كونها صوابًا، فإما أن ينحصر الصواب أو الحق فيها، أو لا ينحصر. فإن انحصر الصواب فيها، لزم أن الأمة من أول الإسلام إلى حين ظهور هذه الطريقة على خطأ؛ إذ لم يقل بها أحد منهم (قبل الطوفي). وإن لم ينحصر فهي «مجرد» طريقة جائزة من الطرق. وفي هذه الحالة فإن طريق الأئمة التي اتفقت الأمة على اتباعها يكون أولى بالمتابعة، لقوله عليه السلام: «اتبعوا السواد الأعظم؛ فإن من شذ شذ في النار.» ويلخص الطوفي رده على هذه الدعوى في القول بأن طريقته في رعاية المصلحة ليست خطأً لما ذكرنا عليها من البرهان، ولا الصواب منحصر فيها قطعًا، بل ظن واجتهاد. وذلك يوجب المصير إليها والأخذ بها؛ حيث الظن في الفرعيات كالقطع في غيرها. وإذا قيل بأن صحة طريقة رعاية المصلحة تحيل إلى فساد طرق الأئمة السابقة عليها، فإن الطوفي يرد بأن ذلك يعني ألا يقول أي أحد بقول أو طريقة جديدة لكيلا يكون الخطأ من نصيب كل ما قيل قبله. ويصل أخيرًا إلى القول بأن السواد الأعظم الواجب اتباعه هو الحجة والدليل الواضح، وإلا لزم أن يتبع العلماء العامة إذا خالفوهم؛ لأن العامة أكثر، وهو السواد الأعظم، وبما يعنيه ذلك من تقديم حجة العقل على حجة الجمهور والإجماع التي تمثل مركز الثقل في الثقافة السائدة في الإسلام.

ولعل ذلك يتفق مع ما يؤكده الطوفي من أن العقل هو الوجه الذي تتقرر منه المصالح في معاملات الناس. ومن هنا ما يقرره من أنَّا اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها، دون العبادات وشبهها؛ لأن العبادات حق للشارع (الله) خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كمًّا وكيفًا، وزمانًا ومكانًا، إلا إذا امتثل (العبد) ما رسم له الله، وفعل ما يعلم أنه يرضيه، وبالطبع فإن ذلك يعني أن كل ما يتعلق بمعاملات الناس، من قواعد الضبط السياسي والاجتماعي، هي مما يتقرر بالعقل بحسب دواعي المصلحة، وليست مما يتقرر بالنص — أو حتى الإجماع — أبدًا. بل إنه، وحتى على فرض أن يكون للنص مدخل في تقرير تلك القواعد، فإن العقل يظل حاضرًا من خلال ما يلعبه من دور جوهري في توجيه دلالة النص، أو حتى تعطيله.

وبالطبع فإن للمرء أن يتصور أنه لو عاد فقيه القرن السابع الحنبلي إلى الدعوة لطريقته في هذا الزمان، فإن مصيره لن يختلف أبدًا عن مصير المسيح الذي بعثه ديستوفسكي ليُبشر بموعظته في إسبانيا على عهد محاكم التفتيش، فقام كهنة كنيستها بصلبه من جديد؛ لأن رسالة الحب التي يُكرِّز بها تتعارض مع ما لا يعرفون سواه من الكراهية والتعصب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤