السيارة … وخدعة الأرقام!
استقلَّ «أحمد» و«مصباح»، تاكسيًا إلى فندق «آن». كانت الشوارع مزدحمة في هذا الوقت من النهار، لكن الطقس كان رائعًا، وهذا ما جعل «مصباح» يفتح زجاج النافذة القريبة منه، أمَّا «أحمد» فقد كان يُفكِّر: إنَّ متابعة رجل العصابة يُمكن أن تفتح الباب أمامهم، وتختصر لهم الطريق.
لفت نظره مجموعة من الشباب تمشي في الشارع، وهي تغني، سأل السائق الذي أجاب: إنَّنا نعيش أيام الربيع، وهي أيام تمتلئ بالمرح. إنَّكما سوف تنعمان بأيام طيِّبة في «كوبنهاجن».
ابتسم «مصباح» الذي كان يستمع للسَّائق وقال في نفسه: بالتَّأكيد، سوف تكون طيِّبة للغاية.
فكَّر «أحمد»: هل تكون وجهة نظري صحيحة، أم إنَّ الرجل ليس من رجال العصابة؟ وأنَّ الكرة التي يحملها في يده مجرَّد ميدالية في سلسلة مفاتيح؟
بدأ التاكسي يُهدئ من سرعته، وقرأ «أحمد» لافتة على مبنى ضخم: فندق «آن»، كان الفندق ضخم المساحة بالرغم من أنَّه ليس مرتفعًا. فلم تكن طوابقه تتجاوز الخمسة، توقَّف التاكسي، فنزل «أحمد» و«مصباح» لم يتقدَّما مباشرة؛ فقد ظلَّا يرقبان الفندق بلونه الهادئ والخضرة التي تنتشر في مساحته، والورود التي تبدو وكأنَّها لوحة بألوانها المتعددة.
همس «مصباح»: إنَّه يصلح لعطلة.
ابتسم «أحمد» وقال: نعم، عطلة عمل.
اتجه الاثنان إلى الداخل. قطعا الحديقة التي تقع في مدخل الفندق. كان بعض النُّزلاء يجلسون في شمس الربيع الدافئة. تجاوزا المدخل حتى أصبحا داخل الفندق.
كان مكتب الاستعلامات، يظهر في نهاية الصالة الواسعة. اتجه إليه «مصباح» بينما كان «أحمد» يقف وهو يرصد المكان في هدوء. فجأة شعر بدفء جهاز الاستقبال فعرف أنَّها رسالة … وضع يده على الجهاز، وبدأ يتلقَّى الإشارات التي كان يفهمها بطريقة اللمس. كانت الرسالة من «خالد»: لا تزال نراقب الإصبع، في أيدينا.
ابتسم «أحمد» للتعبير الذي أرسله «خالد». عاد مصباح فنقل له الرسالة، وأخذا طريقهما إلى حيث تقع حجرتهما. كانت حجرة تضم سريرَين وحمامًا، فتح «مصباح» نافذة عريضة تُغطِّيها الستائر، ووقف يتأمَّل المكان. في نفس الوقت اتجه «أحمد» إليه ووقف إلى جواره.
كانت النافذة تطلُّ على حديقة واسعة خضراء.
علَّق «مصباح»: يبدو أنَّ الخضرة هنا هي الطابع السائد. لم يكد ينتهي من جملته، حتى دقَّ جرس التليفون.
أسرع «أحمد» إليه، وكان المُتحدِّث عميل رقم «صفر». حيَّاه وقال في النهاية: المباراة في شارع ٣٢. النادي رقم ٦٠. انتهت المكالمة.
ابتسم «أحمد» وهو يقول في نفسه: لقد تأكَّدَت وجهة نظري. إنَّ المباراة، والنَّادي تعنيان الكرة. وهذا ما فكرتُ فيه تمامًا … نقل الرسالة إلى «مصباح»، وقال كل ما فكَّر فيه. ثمَّ أضاف: أعتقد أنَّنا يجب أن نخرجَ في جولة حولَ النَّادِي.
قال «مصباح»: نُرسل رسالة إلى «خالد» و«باسم».
بسرعة كانت الرسالة تأخذ طريقها إليهما. أخبرهما برسالة عميل رقم «صفر» وطلب منهما أن يستمرا في مهمَّتهما … وفي دقائق، كانا يأخذان طريقهما إلى خارج الفندق. بعد خطوات أخرج «أحمد» خريطة صغيرة لمدينة «كوبنهاجن»، وجرى بعينَيه على تفاصيلها. مدَّ «مصباح» يده، وأشار إلى شارع ٣٢.
حدَّد «أحمد» المكان بالنسبة لهما. قال: يجب أن نستقلَّ تاكسيًا؛ فالمكان يبعد عنَّا كثيرًا.
اتَّجه «مصباح» إلى جهاز تليفون عمومي، ووضع فيه قطعة نقد، ثم أدار القرص، وتحدَّث … كانت كلمات قليلة طلب فيها تاكسيًا، وما إن عاد وانضم إلى «أحمد» حتى كان التَّاكسي يقترب منهما. قفزا فيه بسرعة، وقال «أحمد»: شارع ٣٢.
ودون أن ينطق السَّائق، انطلق يقطع الشَّوارع في سرعة.
كان «أحمد» يُفكِّر في الخطوة القادمة. بينما كان مصباح يرقب الشَّوارع التي كانت تموج بالحركة … ثم بدأت السيارة تُهدئ من سرعتها، حتى توقَّفت. نظر «أحمد» إلى لافتة معلَّقة، فعرف أنَّه الشارع المقصود. نزلا بسرعة. كان الشَّارع هادئًا تمامًا، وكانت قلَّة من النَّاس هي التي تسير فيه. قرأ أحمد رقم ٢٤ على أحد المنازل، فعرف أنَّ الرقم المقصود لا يزال بعيدًا. سارا في هدوء لا يلفت النظر. ومع تصاعد الأرقام ظهر رقم ٥٤.
حدَّد «أحمد»، قائلًا إنَّ بعد ثلاثة منازل، يكون الرقم المقصود ٦٠.
توقَّفا قليلًا. فجأة، ظهرت سيَّارة سوداء، لها زجاج أسود، وتوقَّفت أمام المنزل رقم ٦٠. استعاد «أحمد» بسرعة شكل السيَّارة التي أقلَّت رجل العصابة من أمام المطار كانت مشابهة لها تمامًا.
فجأةً نزل أحد الرجال، لكنَّه لم يكن الرجل الذي رآه أحمد في المطار. اختفى الرجل بسرعة في المنزل.
فكَّر «أحمد»، بسرعة، ثم قال ﻟ «مصباح»: هل هو واحد آخر من رجال العصابة؟ لم يكد ينتهي من سؤاله حتى ظهرت سيارة زرقاء، عرف أنَّها سيارة الشياطين فتأكَّدَت ظنونه، كانت السيارة السوداء، لا تزال واقفة أمام المنزل …
همس «أحمد»: هيَّا نبتعد.
أخذا طريقهما بعيدًا عن المكان، حتى أصبحا بعيدَين. في نفس الوقت كانت سيَّارة الشَّياطين تأخذ نفس اتجاهها. شاهدا «خالد» يجلس إلى عجلة القيادة، ولم يكن «باسم» معه. توقَّف «خالد» على خط واحد مع سيَّارة العصابة السوداء. كان يرى السَّيارة في المرآة ما زالت واقفة غير أنَّ رجلًا من المنزل رقم ٦٠ خرج، ثم ركبها فانطلقت. لم يتحرَّك «خالد» من مكانه فقد أعطاه أحمد إشارة، ليظلَّ في مكانه، قرأ «أحمد» رقم السيارة التي مرَّت بجواره هو و«مصباح» كانت تحمل رقم ٣٠٠٨٤. اختفت السيارة من الشارع، فاتَّجها إلى حيث يقف «خالد» وركبا السيارة.
قال «خالد»: إنَّ «باسم» يُراقب فندق «جوشن»، بعد أن دخله الرجل، ولم يخرج منه. ثم ظهر الرجل الذي شاهدتماه يدخل المنزل … لكن المدهش هو خروج رجل ثالث ليركب السيارة! توقَّف قليلًا ثم قال: يبدو أنَّ الأدوار موزَّعة بطريقة لا تَسمح بأن يقوم شخص بأكثر من عمل واحد!
علَّق «أحمد»: هذه وجهة نظر صحيحة. ولذلك فإنَّ المراقبة سوف تكون صعبة. لأنَّها موزعة. وسكت لحظة ثم قال: إنَّنا نستطيع أن نُراقب شيئين ثابتَين؛ المنزل رقم ٦٠ وفندق «جوشن».
أسرع «مصباح» يقول: والسيارة رقم ٣٠٠٨٤.
قال «أحمد» بسرعة: الأرقام يُمكِن أن تكون خدعة. فمن يدري قد تتغير الأرقام أو تتغير السيارة …!
فجأة توقَّفت سيارة أمام المنزل رقم ٦٠، كانت سيارة سوداء أيضًا، وتحمل نفس الرقم ٣٠٠٨٤.
قال «مصباح»: لقد عادت السيارة!
ظهرت الدهشة على وجه «خالد» و«أحمد». غير أنَّ الدهشة ازدادت على وجه «خالد»، الذي كان يُراقب السيارة في المرآة. وقال: إنَّه رجل آخر غير الذي انطلق بها!
صمت الشياطين لحظة. لقد كان هناك شيء غامض في تحرُّكات السيارة … لكن فجأة … أعطى جهاز الإرسال إشارة، فعرف «أحمد» أنَّها رسالة للشياطين. تلقَّى الرسالة التي كانت من «باسم». كانت الرسالة تقول: الكرة السوداء تقف أمام الفندق. تحمل أرقام ٣٠٠٨٤، هناك شخص آخر اختفى، ولا تزال المباراة مستمرة.
نقل «أحمد» الرسالة إلى الشياطين، ثم قال: هناك لعبة في مسألة السيارة. إنَّ أمام «باسم» الآن سيارة سوداء تحمل نفس الرقم الذي أمامنا! هذا يعني أنَّ العصابة تستخدم عددًا من السيارات التي تَحمل رقمًا واحدًا … وهذه مسألة قد تكون ذكيَّة. لكنَّها في نفس الوقت، يُمكن أن تكون خطرًا. إنَّنا أمام أكثر من سيارة، فهناك خدعة في الرقم كما قلت. ولذلك فالمراقبة يجب أن تتركَّز في المنزل والفندق، ما لم تظهر أماكن أخرى!
صمت الشَّياطين، لقد كانوا يُفكِّرون في الموقف الآن، غير أنَّ «خالد» قال: ينبغي أن ننصرف من هنا الآن، حتى لا نَلفِت النَّظر. قال ذلك، وأدار محرك السَّيَّارة فانطلقت.
لم يكن هناك هدف محدَّد الآن، ولذلك قال «أحمد»: ينبغي أن نختفي قليلًا ثمَّ نعود. إنَّ الليل سوف يكون مجال عملنا أكثر.
دار «خالد» بالسيارة في حدود المنطقة ولم يُغادرها. فجأة، وصلت رسالة من «باسم»: لقد تحرَّكت السيارة وبها الرَّجلان.
ردَّ أحمد: اتَّجِه إلى فندق «آن»؛ فسوف نكون في الطريق إليك.
التفت «أحمد» إلى «خالد»، وقال: فلنَعُد إلى شارع ٣٢ ونُلقي نظرة قبل أن نعودَ إلى الفندق.
دار «خالد» بسرعة في الاتجاه الذي حدَّده «أحمد»، وعندما أصبحوا في بداية الشارع شاهدوا عددًا من السيارات، تقف أمام المنزل رقم ٦٠. غير أنَّها كانت تحمل أرقامًا مختلفة. كانت هذه مسألة محيِّرة أمام الشياطين؛ فهذا يعني أنَّ العصابة لا تستخدم أرقامًا مكرَّرة.
إلَّا أنَّ «أحمد»، قال: قد تكون سيارة أو اثنتين، تحملان أرقامًا مكررة، لصالح العمل. لا بأس من ذلك. عندما انتهى من كلامه، كانت السيارات تتحرَّك الواحدة وراء الأخرى، مغادرة المكان.
قال «مصباح»: ينبغي أن نُحاول رؤية من بداخلها.
ردَّ «خالد»: لن يكون ذلك إلَّا بحادثة ما. فالزجاج أسود، ولا يُعطي فرصة لأن ترى من بالداخل.
مرَّت لحظات صامتة، ثم قال «أحمد»: لا بأس من حادثة سريعة، لا تترك أثرًا. إنَّهم سوف يتحاشَون اللجوء إلى الشرطة …
انطلق «خالد» بسرعة جنونيَّة ليَلحق بالسيارات، لقد فكَّر بسرعة، إنَّه يجب أن يلحق بالسيارة الأولى حتى تتعطَّل بقية السيارات التي تسير في صف واحد … ثم مرَّ بجوار السيارة الأخيرة، ثم تجاوزها إلى غيرها.
كان الشارع خاليًا أو يكاد. وكان هذا يُعطيه فرصة لأن يتحرَّك بالسيارة كما يريد. اقترب من السيارة الأولى، حتى أصبح بجوارها تمامًا، ثم انحرف فجأة في اتجاهها، ولم يكن أمام سائقها إلَّا أن يصطدم بسيارة «خالد». توقَّفت السيارة السوداء، واضطرَّت باقي السيارات الى الوقوف. نزل «خالد» بسرعة، في نفس الوقت الذي نزل فيه سائق السيارة. كانت الإصابة شديدة، فقد تحطَّم الفانوس الأمامي، وانبعج رفرف السيارة الأمامي.
قال خالد بسرعة: إنَّني أعتذر يا سيدي، فقد فقدتُ السَّيطرة على عجلة القيادة.
لم ينزل أحد من رجال السيارات الأخرى، ونظر السائق إلى «خالد» قليلًا، ثم قال: ينبغي أن تُسيطر على قيادتك. بهذه الطريقة يُمكن أن تُصيب أحدًا.
كان الشياطين يُراقبون الموقف، دون أن ينزل أحد منهم. ولم يتعرَّفوا إلى السائق، الذي كان يلبس ملابس عادية، لا تُشير إلى أنَّه يعمل سائقًا خاصًّا.
قال «خالد»: إنَّني أكرر اعتذاري يا سيِّدي، ومُستعدٌّ لأيِّ عقوبة.
قال الرجل وهو يتحرَّك منصرفًا: لا بأس، لا داعي لشيء، يكفيني اعتذارك.
ولم يكد يستدير، حتى استوقفه «خالد» مرة أخرى، لقد كانت فرصة، لا يجب أن تُفوَّت. قال «خالد»: أعتقد أنَّ هذه ليسَت سيارتك. فربما كنتَ مُوظفًا عليها وفي هذه الحالة …
قاطعه الرجل قبل أن يُكمل كلامه: لا بأس. إن هذه مسألة لا تُهمك كثيرًا! ثم انصرف …
نظر «خالد» حوله بسرعة ثم اتجه إليه، وهو يفتح باب السيارة وقال: أرجو أن تصفح عني. فإنَّني سوف أكون معذَّبًا إن لم تفعل ذلك.
ابتسم الرجل ابتسامة هادئة وقال: لا بأس. لقد صفحت عنك.
ألقى الرجل بنفسه داخل السيارة ثم ضغط الكلاكس، يطلب إفساح الطريق.
أسرع «خالد» إلى سيارته التي لم يكن قد أصابها شيء، فأفسح الطريق، وانطلقت السيارات خلف بعضها، لكنَّها لم تستمرَّ في سيرها معًا، لقد تفرقت عند نهاية الشارع. في نفس الوقت قال «خالد» مبتسمًا: إنَّ رجل الكرة كان يجلس في المقعد الخلفي!
قال «أحمد» بسرعة: إنَّها فرصتنا التي يجب ألَّا تُفوَّت؛ فالمؤكد أنَّ هناك شيئًا ما، وبسرعة، رفع سماعة التليفون، وتحدَّث إلى عميل رقم «صفر»، يطلب سيارة أخرى. وعندما وضع السماعة قال ﻟ «خالد»: يجب أن نلحق بهم، إنَّنا يُمكن أن نُنهي المغامرة الليلة …