الفصل الأول
القلب المختنق
تختلف كل حياة عن أية حياة سابقة لها، وكذلك تختلف كل وفاة. فتفرُّد كلٍّ منا يمتد
ليشمل
حتى الطريقة التي نموت بها. وبالرغم من أن أغلب الناس على علمٍ بأن أمراضًا عديدة
تحملنا
إلى ساعاتنا الأخيرة بسُبلٍ شتى، فإن قلةً قليلة هي التي تدرك زَخْم ذلك العدد اللانهائي
من
الطرق التي يمكن بها للقوى النهائية للرُّوح البشرية أن تفصل نفسها عن الجسد. ويتميز
كلٌّ
من أوجه الموت المتعددة بكونه محددًا بالقدر الذي يميز ذلك الوجه الفريد الذي يُظهره
كل منا
للعالم خلال أيام حياته. فسيُسلم كل رجلٍ رُوحه بطريقة لم يسبق لها مثيل، كما ستذهب
كل
امرأة إلى مثواها الأخير بطريقتها الخاصة.
عندما التقيتُ عينَي الموت اللتين لا تعرفان الرحمة، لأول مرة خلال حياتي المهنية،
كانتا
مثبتتين على رجل في الثانية والخمسين من عمره. بدا الرجل مرتاحًا وهو يرقد على الأغطية
المكرمشة لفراش تمت تسويته للتو في غرفة خاصة بأحد المستشفيات التعليمية الجامعية
الكبرى.
كنت قد بدأت لتوي عامي الثالث في كلية الطب، وقد شاءت قرعتي التعسة أن ألتقي بالموت
وبمريضي
الأول في الساعة نفسها.
كان جيمس مكارتي مديرًا لشركة بناء، وكان ذا بنية قوية، كما أغراه نجاحه المهني بانتهاج
أنماط للحياة نعلم اليوم أنها انتحارية، إلا إن أحداث مرضه قد وقعت منذ ما يقارب الأربعين
سنة، عندما كنا نعرف القليل عن مخاطر الحياة المترفة — عندما كان من المعتقد أن التدخين
واللحوم الحمراء والتهام الشرائح الضخمة للحم المقدد والزبدة، وبروز الكرش، تمثل التعويض
الخالي من الخطر للنجاح والتفوق. ولذلك ترك رجلنا نفسه حتى أصبح مترهلًا وخاملًا في
الوقت
نفسه؛ فبعد أن كان يقوم بنفسه بالإشراف على موظفي شركته المزدهرة للإنشاءات في مواقع
العمل،
أصبح يكتفي بإدارة العمل بغطرسة من وراء مكتبه. كان مكارتي يصدر أوامره لموظفيه في
أغلب
أوقات اليوم من فوق كرسيِّه الدوار الوثير الذي يوفر له رؤية كاملة للمساحات الخضراء
التي
يشرف عليها مكتبه في مدينة نيو هافن، كما يطل على نادي كوينيبياك، وفيه مطعم المشويات
المفضل لديه، حيث يتناول بشراهة وجبات الغداء المخصصة للمديرين.
ويمكنني بسهولة أن أتذكر وقائع إدخال مكارتي للمستشفى، وذلك بسبب التهتهة
(Staccato) المفزعة التي اندلعت به، مما جعلها تنطبع في
مخيلتي بصورة فورية ودائمة، فلم أتمكن على الإطلاق من نسيان ما رأيته، وما فعلته خلال
تلك
الليلة.
وصل مكارتي إلى غرفة الطوارئ بالمستشفى في نحو الثامنة مساء، في ليلة حارَّة ورَطبة
في
أوائل شهر سبتمبر. كان يشكو من شعور خانق بالضغط خلف عظمة صدره (القَص)، وبدا أن الألم
يشع
إلى حلقه وإلى ذراعه اليسرى. كان إحساسه بذلك الضغط قد بدأ منذ نحو الساعة، فبعد أن
تناول
عشاءه الدسم المعتاد، وبعد أن دخن قليلًا من سجائر «كَمِل»، تلقى اتصالًا هاتفيًّا
محبِطًا
من أصغر أبنائه الثلاثة، وهي شابة مدلَّلة كانت قد بدأت الدراسة لتوِّها في إحدى كليات
البنات الراقية.
لاحظ الطبيب المقيم الذي فحص مكارتي في غرفة الطوارئ أن الرجل كان يبدو شاحبًا، كما
كان
يتصبب عرقًا، إضافة إلى أن نبضه كان غير منتظم. وخلال الدقائق العشر التي استغرقها
نقل جهاز
تخطيط القلب الكهربائي على عجلاته عبر الرَّدهة، وتوصيل أقطابه بجسم المريض، بدأ الرجل
يظهر
في صورة أفضل، كما عاد النبض غير المستقر لضربات القلب إلى معدله الطبيعي. ومع ذلك،
أظهر
تخطيط القلب الكهربائي أن احتشاءً (Infarction) قد حدث؛ مما
يعني تلف جزء صغير من جدار القلب. بدت الحالة مستقرة، ولذلك فقد اتُّخذت الإجراءات
لنقله
إلى سرير في الطابق العلوي من المستشفى، بَيْد أنه لم تكن هناك غرف للرعاية القلبية
المركزة
في الخمسينيات. حضر الطبيب الخاص لمكارتي لكي يراه، واطمأن إلى أن مريضه مستريح، وإلى
أنه
يبدو بعيدًا عن الخطر.
وصل مكارتي إلى عنبر الأمراض الباطنية في الحادية عشرة من مساء تلك الليلة، ووصلتُ
معه في
نفس الوقت تقريبًا. ولما لم أكن في نوبة عمل خلال تلك الليلة، فقد اتجهت إلى حفل الاستقبال
الذي أقامه زملائي من الطلاب للترحيب بالطلاب الجدد. وجعلني كأس من الجِعَة وكثير
من الألفة
مع الزملاء، أشعر بثقة زائدة في نفسي، مما حدا بي لزيارة قسم الرعاية الذي بدأت عملي
فيه في
ذلك الصباح فقط، وكانت تلك أولى دوراتي الإكلينيكية (السريرية) في قسم الطب الباطني.
يميل طلاب السنة الثالثة في كلية الطب، والذين يبدءون لتوِّهم خبرتهم المبدئية مع
المرضى،
إلى الشعور بالحماس إلى درجة الحَميَّة (Zealousness)، ولم
أكن مختلفًا عن معظمهم بهذا الصدد. وصلت إلى القسم لملازمة الطبيب المقيم
(Intern)، على أمل أن أشاهد حالة طارئة مشوقة،
وللمساعدة بأية طريقة ممكنة. وإذا كان هناك إجراء سريري وشيك، مثل البزل النخاعي
(Spinal Tap) أو تثبيت أنبوب صدري، كنت أريد أن أكون
هناك لكي أفعله بنفسي. وعندما دَلَفت إلى القسم، أمسك الطبيب المقيم — ديف باسكوم
— بيدي،
كأنما شعر بالارتياح لرؤيتي، وقال: هل لك في مساعدتي؟ فقد انشغلت مع جو — وهو الطالب
المكلف
بالعمل معه — بحالة لالتهاب سنجابية النخاع (شلل الأطفال) البصلي (Bulbar
Poliomyelitis) تزداد سوءًا، لذلك أريد أن تقوم بإجراءات إدخال حالة
الشريان التاجي الجديدة هذه، والتي توجهت لتوها إلى الغرفة رقم ٥٠٧، اتفقنا؟»
اتفقنا؟ … بالتأكيد اتفقنا! بل إن الأمر كان أكثر من مجرد اتفاق، كان الأمر رائعًا،
وهو
نفس السبب الذي جعلني أعود للقسم في تلك الليلة. كان طلاب كليات الطب منذ أربعين سنة
يُمنحون قدرًا أكبر بكثير من حرية الحركة من تلك التي تُتاح لهم اليوم، ولذلك كنت
أعرف أنني
إذا أدَّيت إجراءات الدخول للمريض بصورة مُرضية، فستتاح لي فرصة أداء أعمال كثيرة
خلال رحلة
علاج مكارتي. انتظرت دقائق قليلة بلهفة حتى انتهى اثنان من العاملين من نقل المريض
الجديد
بلطف من غرفة الطوارئ إلى سريره. وعندما توجهت مهرولًا إلى النهاية البعيدة للرَّدهة
للمساعدة في حالة شلل الأطفال الطارئة، انحرفت إلى غرفة مكارتي وأغلقت الباب خلفي
— فلم أكن
أريد أن أتعرض لاحتمال أن يعود ديف ويتولى علاج الحالة.
حيَّاني مكارتي بابتسامة واهنة مغتصبة، لكنه لم يستطع أن يجد حضوري مطمئنًا. وكثيرًا
ما
كنت أفكر — خلال السنوات الماضية — عما يمكن أن يكون قد دار في مخيلة ذلك الرئيس العصبي
لمجموعة من الرجال الكبار الأشداء، عندما رأى وجهي الصبياني (كان عمري وقتها نحو اثنتين
وعشرين سنة). سمعني أقول له إنني قد جئت لأخذ تاريخه المرضي ولكي أقوم بفحصه. وبصرف
النظر
عما حدث، فلم تكن أمامه فرصة كبيرة للتفكير فيه، فعندما جلست بجوار سريره، ألقى الرجل
برأسه
للخلف فجأة، جأر بصيحة بلا كلامٍ بدا أنها صادرة عن حلقه، من مكانٍ ما في أعماق قلبه
المصاب. ثم ضرب مقدَّم صدره بقبضتيه المكورتين بقوة مخيفة في لطمة واحدة متزامنة،
في الحين
الذي تورَّم فيه وجهه وعنقه في لحظة خاطفة متحولَين إلى اللون القرمزي. وبدا أن عينيه
قد
دفعتا بنفسيهما للأمام بدفعة ناتئة واحدة، كما لو كانتا تحاولان القفز من مِحجريهما.
أخذ
الرجل نفسًا واحدًا عميقًا مغتصبًا وشديد العمق، ثم أسلم الرُّوح.
هتفت باسمه، ثم صرخت مناديًا ديف، لكنني كنت أعرف أن أحدًا في غرفة شلل الأطفال المزدحمة
والواقعة في نهاية الممر لم يكن يستطيع سماعي.
كان بوسعي أن أعدو عبر الممر طالبًا المساعدة، لكن هذا كان سيعني ضياع بعض الثواني
الثمينة. تحسستْ أصابعي عنقه بحثًا عن الشريان السُّباتي (Carotid
Artery) لكنه كان ساكنًا بدون نبض. لكني كنت هادئًا بصورة غريبة لأسباب
لا أعلمها حتى يومنا هذا. وقررت أن أعمل بمفردي؛ فقد كان احتمال وقوعي في المتاعب
من جراء
ما كنت مقدِمًا على فعله أقل خطرًا بكثير من أن أترك الرجل ليموت بدون أن أحاول إنقاذه
على
الأقل. لم يكن أمامي أي خيار آخر.
في تلك الأيام، كانت كل غرف الرعاية القلبية المركزة مزودة بحُزم
(Packages) كبيرة ملفوفة بقماش الموسلين تحتوي على
مجموعة الآلات اللازمة لإجراء بَضع الصدر (Thoracotomy) —
وهي مجموعة من الآلات التي يمكن بها فتح تجويف الصدر في حالات توقف القلب. فلم يكن
بعدُ قد
تم اختراع طريقة الإنعاش القلبي الرئوي (Cardio-Pulmonary Resuscitation;
CPR) المغلقة، وكان الإجراء التقليدي في مثل هذه الحالات هو محاولة
تدليك القلب مباشرة — بإمساكه في قبضة اليد وتطبيق سلسلة طويلة من العصَرات
المتواترة.
قمت بفتح الغِلاف المعقم للعلبة، وأمسكت بالمِبضع الموجود في مظروف منفصل لسهولة
الوصول
إليه في أعلى العلبة. وقد بدا ما فعلته بعد ذلك آليًّا تمامًا، برغم أنني لم أكن قد
فعلته —
أو حتى رأيته — من قبل، فبإهواءة (Sweep) ناعمة بصورة مدهشة
من يدي، صنعت شَقًّا طويلًا بدأ من تحت حلمة الثدي الأيسر مباشرة من عظمة صدر مكارتي
متجهًا
للخلف بقدر استطاعتي بدون أن أحركه من الوضع شبه المنتصب الذي كان عليه. لم يتسرب
سوى نَزٍّ
(Ooze) ضئيل داكن اللون من الأوردة والشرايين التي
أمررت مِبضعي خلالها، لكن لم يكن هناك تدفق فِعلي للدم. هل كنت محتاجًا وقتها لتوكيد
لحقيقة
أن الوفاة قد حدثت بالفعل من جراء توقف القلب، ربما كان الأمر كذلك! فبعد شق طويل
آخر خلال
العضلات الخالية من الدم، وجدت نفسي داخل تجويف الصدر. تقدمت للإمساك بالآلة ذات الذراعين
المصنوعتين من الصُّلب والمسماة بالساحب الذاتي الفتح (Self-retaining
retractor) وغرسته بين الضلوع، ثم أدرت سقاطته
(Ratchet) بحيث تسمح ليدي بأن تَدلِف إلى داخل الصدر
للإمساك بما اعتقدت أنه قلب مكارتي الساكن.
وعندما أمسكت بالكيس الليفي المسمى بالتامور
(Pericardium)، أدركت أن القلب المحتوَى داخله كان لا يزال
يتململ — كان من الممكن أن أحس تحت أطراف أصابعي بتَلوٍّ
(Squirming) غير متناسق وغير منتظم. لاحظت من الوصف
الذي قرأته عنه في الكتب الدراسية الطبية أنه الحالة النهائية المسماة بالرجفان البطيني
(Ventricular Fibrillation; VF)، وهي الحركة اليائسة
للقلب الذي رضي براحته الأبدية. أمسكت بالمقص بيدَيَّ العاريتين وغير المعقمتين، ثم
شققت
التامور وفتحته تمامًا. أمسكت بقلب السيد مكارتي المسكين والمرتجف بكل اللطف الذي
وسعني،
وبدأت سلسلة من الضغطات القوية والمستمرة والمقتضبة التي تسمى بتدليك القلب
(Cardiac Massage)، والتي تهدف لضمان استمرار تدفق الدم
إلى الدماغ حتى يمكن إحضار الجهاز الكهربائي لصدم عضلة القلب المصابة بالرجفان حتى
تعود إلى
نشاطها الطبيعي. كنت قد قرأت أن الإحساس بالقلب المصاب بالرجفان يشبه الإحساس الذي
يتملك
المرء عندما يقبض بيده على كيس هلامي رطب مليء بالديدان المفرطة الحركة؛ وهو ما أحسست
به
تمامًا.
كان بوسعي أن أستنتج من المقاومة المتناقصة سريعًا لأصابعي العاصرة أن القلب لا يمتلئ
جيدًا بالدم، وعليه فقد كانت محاولاتي لإخراج الدم منه بالقوة غير ذات مغزى، خاصة
أن
الأكسجين لم يكن يصل إلى الرئتين. ومع ذلك، استمررت في المحاولة. وفجأة، حدث شيء مرعب
بصورة
مذهلة … ألقى مكارتي الميت، والذي كانت رُوحه قد انفصلت تمامًا عن جسده في ذلك الوقت،
برأسه
للخلف مرة أخرى، ثم نظر لأعلى نحو السقف بنظرة زجاجية عمياء من عينيه المفتوحتين والميتتين
وانطلق هادرًا إلى السماوات القاصية بشهقة بصوت أجش مرعب بدت لي وكأن كلاب الجحيم
قد أخذت
في النباح. ولم أدرك إلا فيما بعد أن ما سمعته لم يكن سوى طريقة مكارتي الخاصة في
إطلاق
حشرجة الموت الخاصة به، وهو صوت يصدر بفعل تقلص عضلات صندوق الصوت (الحنجرة)، وينتج
عن
زيادة الحموضة في دم الإنسان المتوفى حديثًا. ويبدو أن هذه كانت طريقته في أن يطلب
مني الكف
عن الاستمرار؛ إذ إن محاولاتي لإعادته إلى الحياة مرة أخرى لم يكن مكتوبًا لها سوى
الفشل.
عندما وجدت نفسي وحيدًا في الغرفة مع الجثة، نظرت إلى عينيه المفتوحتين الجامدتين
ورأيت
شيئًا كان يجب أن أتنبه له من قبل — كانت حدقتا عيني مكارتي مثبتتين في وضع التوسع
(Dilatation) العريض الأسود، والذي يعني حدوث موت
الدماغ (Brain Death)، ومن الواضح أن تلك العينين لن
تستجيبا للضوء بعد ذلك على الإطلاق. خطوت للخلف مبتعدًا عن تلك المذبحة البشعة على
السرير،
ولم أدرك — سوى وقتها — أنني كنت أسبح في العرق الذي كان يتصبب غزيرًا على وجهي ويدَيَّ،
وكان المعطف الأبيض القصير الذي يرتديه طلاب الطب غارقًا في الدماء القاتمة الخالية
من
الحياة التي نزت من الشَّق الذي أجريته في صدر مكارتي. كنت أنتحب بزفرات عظيمة مرتعشة.
ولاحظت أيضًا أنني كنت أصرخ في وجه مكارتي، مطالبًا إياه بأن يظل على قيد الحياة،
صائحًا
باسمه في أذنه اليسرى كما لو كان بوسعه أن يسمعني. كنت أنتحب خلال كل هذا الوقت من
الإحباط
والأسى من جراء فشلي وفشله.
انفتح الباب على مصراعيه، وهرع ديف إلى الغرفة وأدرك الموقف كله بنظرة واحدة، وتفهَّمه.
كانت كتفاي ترتجفان بقوة، كما كان بكائي وقتها خارجًا عن سيطرتي. واتجه ديف إلى جانب
السرير
القريب مني، ثم — وكأننا ممثلان في أحد أفلام الحرب العالمية الثانية — أحاط كتفي
بذراعيه
وقال لي بهدوء شديد: «كل شيء على ما يرام — يا صديقي — كل شيء على ما يرام، فقد فعلت
ما
بوسعك.» ثم أجلسني في ذلك المكان الذي يخيم عليه الموت ثم طفق يخبرني — بصبر وبهدوء
— بجميع
الوقائع السريرية والبيولوجية التي جعلت من موت مكارتي أمرًا حتميًّا وخارجًا عن سيطرتي.
لكن كل ما يمكنني اليوم تذكُّره من جميع ما قاله — إضافة إلى رقة وعذوبة صوته — هو
قوله:
«حسنًا! أنت تعرف الآن ما الذي يعنيه كونك طبيبًا.»
يكتب الشعراء وكتَّاب المقالات والمؤرخون والدجالون والحكماء عن الموت كثيرًا — لكنهم
لم
يشاهدوه إلا قليلًا، في حين أن الأطباء والممرضات — والذين يلتقون به كثيرًا — نادرًا
ما
يكتبون عنه. ويرى أغلب الناس الموت مرة أو مرتين خلال حياتهم، ومن خلال مواقف يكونون
فيها
متعلقين (Entangled) بمغزاه العاطفي لدرجةٍ لا يمكنهم معها
الاحتفاظ بذكريات موثوق بها عنه. ويكتسب الناجون من الكوارث الجماعية سريعًا دفاعات
سيكولوجية ضد الرعب الذي يسببه لهم ما رأوه لدرجة أن الصور المفجعة تشوه الأحداث الفعلية
التي كانوا عليها شهودًا. وهناك القليل من التقارير الموثوق بها عن السبل التي نموت
بها.
وفي أيامنا هذه، قليل منا فقط هم الذين يشهدون وفاة من يحبون، فلم يعد الكثير من الناس
يموتون في بيوتهم، إضافة إلى أن أولئك غالبًا ما يكونون ضحايا أمراض مستعصية أو حالات
تنكسية (Degenerative) مزمنة. وغالبًا ما تخفي العقاقير
والمهدئات التي يتناولها المرضى في مثل تلك الحالات — وبصورة فعالة — الوقائع البيولوجية
المستبطنة. وغالبًا ما يتم حجب أغلب الثمانين في المائة من الأمريكيين الذين يُتوفَّون
في
المستشفيات — أو على الأقل يتم حجب أغلب تلك الحقائق المتعلقة بطريقهم النهائي إلى
الوفاة —
عن أولئك الذين كانوا أقرب ما يكونون إليهم أثناء الحياة.
نشأت ميثولوجيا (Mythology) كاملة حول عملية الاحتضار
(Dying)، وهي تنبني، مثل أغلب الميثولوجيات، على حاجة
سيكولوجية فطرية يتشارك فيها جميع أفراد الجنس البشري، فتهدف ميثولوجيات الموت إلى
مواجهة
الخوف من ناحية، ونقيضه — الأماني — من الناحية الأخرى. وهي تسعى لمساعدتنا على مجابهة
خوفنا مما يمكن أن يكون عليه الواقع، فبرغم أن كثيرًا منا يتمنى موتًا سريعًا، أو
أن يموت
أثناء نومه «حتى لا أتعذب»، فنحن نتمسك — في الوقت نفسه — بصورة ما عن لحظات حياتنا
الأخيرة
تجمع بين الجلال وبين نوع من العلنية (Disclosure)؛ فنحن
نحتاج للاعتقاد بوجود عملية محددة المعالم تُختتم فيها الحياة؛ إما هذا أو انزلاق
مثالي إلى
غيبوبة لا عذاب فيها.
وتظهر أفضل التمثيلات الفنية لمهنة الطب في اللوحة الشهيرة التي رسمها السير ليوك
فيلدز
(Fildes) في عام ١٨٩١م بعنوان «الطبيب». ويمثل المنظر
كوخًا بسيطًا لأحد صيادي الأسماك على الساحل الإنجليزي، حيث ترقد بهدوء فتاة صغيرة
تبدو
عليها الغيبوبة، مع اقتراب الموت منها. ونرى والديها المكلومين مع الطبيب المتأمل
والمتعاطف
— والذي ظل ساهرًا بجوار سرير مريضته — وهو عاجز عن تخفيف القبضة المتضيقة للموت.
وعندما
سئل الفنان عن لوحته هذه، قال: «بالنسبة لي، سيكون الموضوع (الموت) محزنًا أكثر من
أي موضوع
سواه، وربما كان مرعبًا، ولكنه — في الوقت نفسه — أكثرهم جمالًا على الإطلاق.»
ومن الواضح أنه كان على فيلدز أن يعرف أكثر، فقبل ذلك بأربعة عشر عامًا، حضر الفنان
وفاة
ابنه بأحد الأمراض المُعدية التي حصدت أرواح الكثير من الأطفال في تلك الفترة من أواخر
القرن التاسع عشر — أي قبل بزوغ فجر الطب الحديث بقليل. ونحن لا نعرف بالتحديد أي
مرض هذا
الذي أودى بحياة فيليب فيلدز الصغير، إلا إنه لم يكن بوسعه توفير نهاية سلمية لحياته
الصغيرة. فإذا كان المرض هو الدفتيريا (Diphtheria)، فمن
المؤكد أن الصبي قد اختنق حتى الموت. وإذا كانت الحمى القرمزية (Scarlet
Fever)، فمن المرجح أنه أصيب بالهذيان
(Delirium)، مع نوبات عنيفة من الحمى المرتفعة. أما إذا
كان التهاب السحايا (Meningitis)، فربما كان قد أصيب
بتشنجات (Convulsions) ونوبات غير محتملة من الصداع. وربما
مرت الطفلة المرسومة في لوحة «الطبيب» بنفس صنوف العذاب تلك، قبل أن تصل إلى ذلك السلام
النهائي لغيبوبة الموت. أما ما حدث في تلك الساعات التي سبقت موتها الجميل هذا، فلا
بد أنه
كان غير محتمل بالنسبة للفتاة الصغيرة ولوالديها. فنحن نادرًا ما نصل إلى مثل هذه
الأمسية
الجميلة بهدوء.
وقبل ذلك بثمانية عقود، كان الرسام فرانشسكو جويا
١ أكثر صدقًا ربما لأنه عاش في عصر كان فيه وجه الموت في كل مكان. ففي لوحته
المعروفة بعدة أسماء في اللغة الإنجليزية — مثل الدفتيريا (
Diphtheria) أو الخُناق
(
Croup) —
والتي رسمها على نمط المدرسة الواقعية الإسبانية، وأثناء فترة الواقعية الكبرى في
الحياة
الأوروبية. نرى طبيبًا يثبت رأس مريض صغير واضعًا إحدى يديه على رقبته، في حين يستعد
لإدخال
أصابع يده الأخرى إلى حلق الصبي من أجل تمزيق الغشاء الدفتيري الذي سيخنقه حتى الموت
إذا لم
تتم إزالته. ويكشف العنوان الإسباني الأصلي للوحة، وللمرض، عن القوة الكلية لصراحة
جويا،
إضافة إلى الألفة اليومية للموت في ذلك العصر، فقد أسماها
El Garrotillo (الخانوق) نظرًا لعملية
الخنق التي يقتل بها ضحاياه. لكن أيام تلك المواجهات مع حقيقة الموت قد ولت منذ زمن،
على
الأقل في الغرب.
ولاختياري للفظة مواجهات (Confrontations)، ولأي سبب نفسي خفي، أحتاج إلى وقفة؛
فأنا أريد أن أفكر فيما إن كنت، أنا أيضًا، حتى بعد مرور نحو أربعين عامًا من وفاة
مكارتي،
لا تعتريني الدهشة نتيجة للأمزجة الغالبة لأزماننا — والتي يُعَدُّ الموت فيها بمثابة
التحدي النهائي، وربما الأكبر، لحياة كل إنسان — أي معركة حامية الوطيس لا بد من كسبها.
وبهذا المنظور، يصبح الموت عدوًّا رهيبًا يجب قهره، سواء عن طريق تلك الأسلحة العجيبة
للتقنيات المتطورة للعلوم البيولوجية الطبية (Bio-medical)،
أو عن طريق الاستسلام غير المشروط لسطوته، وهو استسلام مثير للنمط المطمئن
(Serene Style)
الذي ابتكر استخدامنا الحالي له اصطلاح الموت بكرامة (Death with Dignity)، وهو تعبير مجتمعنا
عن التلهف العام للحصول على انتصار مشرف على تلك النهاية المطلقة، والتي كثيرًا ما
تبدو
منفرة حتى آخر نفس للحياة.
لكن الحقيقة هي أن الموت ليس بالمواجهة، فهو ببساطة مجرد حدث في سلسلة الإيقاعات
الطبيعية
المتواصلة؛ فالمرض — وليس الموت — هو العدو الحقيقي، إذ إن المرض هو القوة الشريرة
التي تجب
مواجهتها. أما الموت فهو التوقف (Surcease) الذي ينتج عن
خسارة معركة منهِكة. وحتى المواجهة مع المرض يجب أن يُنظر إليها مع إدراك أن كثيرًا
من
الأمراض التي تصيب جنسنا البشري هي ببساطة مجرد مرافِقات للرحلة التي لا هوادة فيها
— والتي
تتم فيها إعادة كل منا إلى نفس حالة العدم الجسدي، وربما الرُّوحاني، التي ظهرنا عليها
عند
بداية الحياة الجنينية. ولا يعني انتصارنا على أي مرض عضال — بصرف النظر عن الحجم
الرنان
لذلك الانتصار — سوى مجرد تأجيل مؤقت للنهاية المحتومة.
وقد منحت مهنة الطب للبشرية نعمة فصل تلك العمليات المرضية القابلة للارتجاع (العكوس)
عن
تلك غير المرتجعة، مضيفة على الدوام فيضًا جديدًا من الوسائل التي ينحرف بها التوازن
باستمرار نحو الحياة المستدامة (Sustainable). لكن العلوم
البيولوجية-الطبية قد ساهمت أيضًا في تزكية الأوهام المضلِّلة التي ينكر بها كلٌّ
منا
الحلول الحتمي للموت الفردي لكلٍّ منا. وبرغم ادعاءات كثير من الأطباء المعتمِدين
على نتائج
الاختبارات المعملية، سيظل الطب دومًا — وكما سماه الإغريق القدامى منذ البداية —
فنًّا.
ومن أصعب المطالب التي يفرضها هذا الفن على الطبيب أو الطبيبة هي أن يتعود أو أن تتعود
على
تلك المناطق الفاصلة غير واضحة المعالم، والواقعة بين أنماط العلاج التي قد تُوصَف
فرص
نجاحها بالمؤكدة (Certain)، أو المحتملة (Probable)، أو الممكنة
(Possible)، أو
غير المعقولة (Unreasonable). وهذه المساحات التي لا يمكن تخطيطها بين
المحتمَل وكل ما عداه هي التي يجب أن يتجول الطبيب المفكر خلالها طويلًا بلا سلاح
سوى قدرته
المكتسبة على الحكم على الأمور من خلال خبراته الحياتية لتوجيه الحكمة التي يجب مشاركتها
مع
أولئك الذين يصيبهم المرض.
في الوقت الذي انتهت فيه حياة جيمس مكارتي بصورة مفاجئة، كانت نتيجة سوء سلوك قلبه
لا مفر
منها. وبرغم أنه كان قد تم معرفة الكثير بالفعل عن الأمراض القلبية في أوائل الخمسينيات،
فإن أنواع العلاج المتوافرة لها كانت قليلة وغير كافية في كثير من الأحيان. أما اليوم،
فيتوقع مريض مصاب بالعلة ذاتها التي أصابت مكارتي أن يغادر المستشفى، ليس فقط على
قيد
الحياة، بل وبقلب متحسن لدرجة الإحساس بأن سنوات قد أضيفت إلى عمره. ويعود جزء كبير
مما
حققه الأطباء المعتمِدون على نتائج التحاليل المعملية إلى أن واحدًا من نحو الثمانين
في
المائة من الناجين من الإصابة الأولى لديه سبب وجيه للإحساس بالنوبات القلبية كبطانة
فِضية
شديدة اللمعان لحياته، وذلك لأنها عرضت حالة كان من الممكن أن تقتله في الحال ما لم
يتم
اكتشافها في المرحلة التي يمكن فيها علاجها بصورة ناجعة. وبالفعل، فقد انحرف الاتزان
لدرجة
أن كفاءة علاج الأمراض القلبية قد أصبحت تميل بصورة كبيرة نحو الجانب الجيد لما هو
محتمل.
ومع ذلك، فيجب ألا يؤخذ ذلك بمعنى أن القلب الذي كان معرضًا للهلاك قد أصبح قلبًا
خالدًا،
فبرغم أن الغالبية العظمى من مرضى القلب اليوم ينجون من الموت بفعل النوبة القلبية
الأولى،
فلا يزال أكثر من نصف مليون أمريكي يموتون سنويًّا بفعل نمطٍ ما من المرض الذي أصاب
مكارتي.
وهناك أربعة ملايين ونصف مليون آخرين يتم تشخيصهم لأول مرة كمصابين بنفس المرض سنويًّا،
ويصاب نحو ثمانين في المائة من أولئك المرضى الذين ستقتلهم إصابتهم بالأمراض القلبية
بنوع
محدد من ذلك المرض؛ فمرض القلب الإقفاري (Ischemic
Heart Disease)، أو مرض الشريان التاجي
(Coronary Artery
Disease)، أو مرض القلب التاجي (Coronary Heart Disease)، كما يُطلَق
عليه أحيانًا، هو أكبر أسباب الوفَيَات في الدول الصناعية من العالم.
مات قلب مكارتي لأنه لم يكن يتلقى إمدادًا كافيًا من الأكسجين؛ ولم يكن يحصل على
كفايته
من الأكسجين لأنه لم يكن يحصل على قدر كافٍ من الهيموجلوبين
(Hemoglobin) لأنه لم يكن يحصل على دم كافٍ؛ ولم يكن
يحصل على دم كافٍ لأن الأوعية المغذية للقلب — أي الشرايين التاجية — كانت قد تضيقت
وتصلبت
بفعل عملية تسمى بالتصلب العصيدي (Atherosclerosis) (أو تصلب الشرايين كما تُعرف به
اصطلاحًا). وقد حدث التصلب العصيدي نتيجة للفعل المشترك للغذاء المترف الذي كان مكارتي
يتناوله، وتدخينه للسجائر، وعدم ممارسته للرياضة، وبعض من ارتفاع ضغط الدم — إضافة
إلى درجة
معينة من الاستعداد الوراثي للإصابة بالمرض. ومن المحتمل تمامًا أن المكالمة الهاتفية
التي
تلقَّاها من ابنته المدللة كان لها نفس التأثير المسبب لتقلص شرايينه التاجية الشديدة
الضيق، كما فعلت على قبضتيه المضمومتين بغضب. كان ذلك القدر الضئيل من التضيق الحاد
كافيًا
تمامًا لتمزيق أو شرخ أحد رسوبات (Deposits) التصلب
العصيدي، والمسماة بالصفائح (Plaques)، والموجودة في بطانة الشريان التاجي الرئيسي.
وبمجرد حدوث ذلك، تعمل الصفيحة المتمزقة كبؤرة (Focus)
تتكون عليها خثرة دموية (Blood Clot) حديثة، مما يجعل
الانسداد كاملًا، فيتوقف الإمداد الدموي الذي كان ضعيفًا في الأساس، وينتج عن هذا
التوقف
الكامل ما يسمى بالإقفار (Ischemia) أو عوز الدم (Blood Lack) مما يحرم منطقة كبيرة من
عضلة قلب (Myocardium)
مكارتي بصورة حادة من الإمداد الدموي، مما يعوق إيقاعها المتواتر الطبيعي، ومن ثم
تحويله
إلى ذلك التشخب (Squirting) الفوضوي للرجفان البطيني.
ومن المحتمل تمامًا ألا يكون أي جزء من عضلة قلب مكارتي قد مات بالفعل نتيجة للنقص
الحاد
في إمدادها الدموي، فالإقفار وحده قد يسبب الرجفان البطيني، خصوصًا في قلب تعرَّض
في السابق
لنوبة قلبية أخرى. وكذلك تفعل المركبات الكيميائية الشبيهة بالأدرينالين
(Adrenaline)
والتي يفرزها الجسم أثناء فترات الكرب (Stress). ومهما كان
السبب، فقد انهار جهاز التوصيل الكهربي الذي كان قلب مكارتي يعتمد عليه في انتظام
ضرباته
وتناسقها — وكذلك انهارت حياة مكارتي ذاتها.
ومثل كثير من المصطلحات الطبية الأخرى، فالإقفار الدموي
(Ischemia) كلمة ذات تاريخ مشوِّق وترابطات حية،
وسيُعاد ذكرها مرات ومرات أثناء سردنا للقصص في سياق تلك الحكاية الطويلة عن الموت؛
نظرًا
لكونها قوة محركة دائمة الوجود، وغادرة، لإطفاء طاقات الحياة. وبرغم أن سوء تغذية
القلب
يمثل أكثر الأمثلة قوة على أخطارها المحدقة، فإن عملية الحرمان من الأكسجين والتغذية
تمثل
الخاصية المميزة المعتادة لعدد كبير ومتنوع من الأمراض الفتاكة.
أُدخل مفهوم الإقفار القلبي (
Cardiac Ischemia)، كما
أُدخلت اللفظة ذاتها، في منتصف القرن التاسع عشر على يدي رجل بوميراني
٢ عبقري (وعند استخدام الكلمة لوصف الكلاب، فهي تثير مجموعة شديدة الحيوية من
أوجه النشاط المتفرقة، مما يبدو مناسبًا للرجل الذي نحن بصدد سرد قصته). بدأ الرجل
حياته
العملية متعددة الأنشطة كضرب من ضروب الولد المزعج (
enfant terrible) للأبحاث العلمية، وأنهاها بعد ذلك
بستين عامًا وقد حظي بشهرة عالمية، وقد لقب بالحبر الأعظم (
Pope) للطب الألماني. فليس هناك شخص
منفرد أسهم في فهمنا للطرق التي يُنزل بها المرض دماره على أعضاء وخلايا الجسم البشري،
أكثر
مما فعل رودلف فيرشوف (
Virchow) [١٨٢١–١٩٠٦م].
وقد أنتج فيرشوف، والذي ظل يشغل منصب أستاذ الباثولوجيا (علم الأمراض) في جامعة برلين
لما
يقرب من نصف القرن، أكثر من ألفي كتاب ومقالة، ليس في الطب وحده، بل وفي الأنثروبولوجيا،
٣ وفي السياسة الألمانية أيضًا، فقد كان الرجل عضوًا في البرلمان الألماني
(الرايخستاج)، وكان من التحرر لدرجة أن الزعيم الأوتوقراطي أوتو فون بسمارك
(
Bismarck) تحداه مرة للمبارزة، ولما ترك له اختيار
سلاحه، قام فيرشوف بالاستخفاف بالمبارزة قبل حدوثها بإصراره على أن يتم القتال باستخدام
المباضع الجراحية!
ومن الاهتمامات البحثية المتعددة لرودلف فيرشوف، كان ولعه بالطرق التي يصيب بها المرض
الشرايين والأوردة ومكونات الدم التي تحويها هذه الأوعية. وقد فسر أساسيات الانصمام
(Embolism)
وتخثر الدم (Thrombosis)، وابيضاض الدم (اللوكيميا)
Leukemia،
وابتكر الكلمات المستخدمة لوصفها. وعند بحثه عن اصطلاح لوصف الآلية التي تُحرَم خلالها
الأنسجة الحية من إمدادها الدموي، استحوذ على (استخدمت اللفظة عامدًا) اللفظة اليونانية
Ischanto وهي
تعني: أنا أُوقف أو أنا أُطفئ، وهي مشتقة من الجذر اللغوي الهندي-الأوروبي
Segh، وهو يشير إلى الاستحواذ
(to seize) أو
الإمساك (to hold) أو
الإيقاف (to pause)،
وعند إضافة لفظة aima، وهي تعني الدم، فقد اخترع الإغريق
لفظة Ischaimos لتعني
إيقاف تدفق الدم. وقد اختار فيرشوف لفظة Ischemia لوصف تأثيرات تقليل جريان الدم، أو إيقافه
تمامًا، إلى جزءٍ ما من الجسم، سواء كان ذلك الجزء في صغر الخلية أو في كبر الساق،
أو كان
قسمًا من عضلة القلب.
ولفظ تقليل (Diminishing) هو اصطلاح نسبي، على أية حال؛ فعندما يزداد
نشاط عضوٍ ما، تزداد احتياجاته من الأكسجين، وكذلك تزيد حاجته للدم.
وإذا لم تتمكن الشرايين المتضيقة من التوسع لملاقاة هذه الاحتياجات، أو إذا تعرضت
— لسببٍ
ما — لانقباض مضيِّق يَزيد من إعاقة جريان الدم، لا تتم الاستجابة لحاجات ذلك العضو،
لذا
يصاب بالإقفار سريعًا. وفي حالات الألم والغضب، يصرخ القلب محذرًا، ويظل يفعل ذلك
حتى تتم
الاستجابة لصرخاته المتذمرة طلبًا للمزيد من الدماء، وعادةً ما يتم ذلك عن طريق التدابير
الطبيعية للضحية، والتي — بتنبهها للخطر الذي يعبر عنه ذلك الضيق الذي يحسه داخل صدره
—
تبطئ أو توقف ذلك النشاط الذي يعذب عضلة قلبه.
ومن الأمثلة الحية لهذه العملية عضلة الرَّبْلَة (Calf)
التي تصاب بالإجهاد فجأة في نهاية الأسبوع لدى رياضي يعود لممارسة الهرولة كل عام
عندما
يعتدل الطقس في شهر أبريل. ونتيجة للتباين الكبير بين كَمية الدم التي تحتاجها عضلته
التي
لم تستَعِدْ لياقتها بعد، وتلك الكَمية التي تستطيع أن تشق طريقها بين الشرايين التي
لم
تستَعِدْ طبيعتها بدورها، قد تنتج الإصابة بالإقفار الدموي. وعندما لا تحصل عضلة الرَّبْلَة
على أكسجين كافٍ، فهي تصيح صارخة، في صورة نوبة شديدة الإيلام، لتحذير الرياضي الفاشل
لكي
يوقف تمريناته المرهقة قبل أن تصاب مجموعة من خلاياه العضلية بالضَّوْر
(Starvation) حتى الموت، وهي العملية المعروفة
بالاحتشاء (Infarction). وتسمَّى صرخة الألم في الرَّبْلَة المجهَدة
بالمَعَص (Cramp) أو
بالتشنج العضلي (charley
horse). وعندما تبدأ العملية في عضلة القلب، نستخدم اللفظ
الأكثر رشاقة: الذبحة الصدرية (Angina
pectoris)، وليست الذبحة الصدرية أكثر من تشنج أو مَعَص
في عضلة القلب، وإذا استمرت لفترة طويلة، فستصاب الضحية باحتشاء في عضلة القلب.
ويعني اللفظ اللاتيني Angina Pectoris حرفيًّا: اختناق أو
خنق الصدر (حيث لفظة Pectoris هي صيغة الإضافة لكلمة الصدر
Pectus).
ويرجع الفضل — ليس فقط في اختراع الاسم، بل في أحد أفضل الأوصاف التي تمت كتابتها
للعلامات المرَضية المصاحبة له — لعالم آخر باللغويات الطبية (Medical
Philologist)، وهو الطبيب الإنجليزي الشهير وليام هيبردين
(Heberden) [١٧١٠–١٨٠١م]، الذي كتب في عام ١٧٦٨م — في
سياق استعراضه للأنماط المختلفة لألم الصدر — قائلًا:
«لكن هناك مرضًا في الصدر يتسم بعلامات قوية وغريبة، وهي مهمة نظرًا لنوع الخطر
المتعلق بها، وهو ليس شديد الندرة، مما يستوجب تناوله بمزيد من التفصيل. فقد لا
يجعل موضع الألم والإحساس بالاختناق والقلق الذي يحيط به، من اسم الذبحة الصدرية
اسمًا على غير مسمى.
وهو يصيب ضحاياه أثناء استيقاظهم (وخصوصًا إذا كان المصاب موجودًا على قمة تل
مرتفع، وبعد تناوله للطعام مباشرة)، مع إحساس بغيض ومؤلم في الصدر، يبدو أنه سيُخمد
الحياة إذا استمر أو زاد؛ ولكن الألم يختفي تمامًا في اللحظة التي يتوقف فيها
المريض عن الحركة تمامًا.»
وقد فحص هيبردين كثيرًا من الحالات المرضية — «نحو مائة مصاب بهذا المرض»، على حد
قوله —
مما يكفيه لدراسة معدلات حدوثه وتطوره، فكتب قائلًا:
«يكون الذكور أكثر عرضة للإصابة بهذا المرض، وخاصة أولئك الذين تخطوا سن الخمسين.
وبعد أن يستمر المرض لسنة أو أكثر، لن يختفي الألم على الفور عند التوقف عن الحركة،
كما أنه لن يأتي فقط أثناء استيقاظ المريض، بل وأثناء رقاده — وخصوصًا إذا كان
مضطجعًا على جانبه الأيسر — فيجبره الألم على النهوض من فراشه. وفي بعض الحالات
المستعصية، كان الألم يظهر نتيجة للحركة فوق جواد، أو عربة، أو حتى نتيجة للبلع
أو
السعال أو التبرز، أو التكلم، أو بفعل أي اضطراب للذهن.»
صُدم هيبردين بالتطور غير المرتجع للمرض: «لأنه إذا لم يقع حدثٌ ما، مع استمرار المرض
في
التطور إلى ذروته، فسيسقط جميع المرضى تقريبًا، ويموتون من فورهم.»
ولم يُتَح لجيمس مكارتي على الإطلاق ترفُ الإصابة بالنوبات المتكررة للذبحة الصدرية؛
فقد
استسلم لأول تجرِبة له مع الإقفار القلبي. مات دماغه لأن قلبه الراجف، ثم الساكن في
النهاية، لم يعد قادرًا على ضخ المزيد من الدماء إلى دماغه. وتبِع الدماغَ المقفر
(Ischemic) جميعُ أنسجة الجسم إلى اللاحياة.
قبل سنوات قليلة، التقيت رجلًا تم إنعاشه بأعجوبة من موتٍ قلبي ظاهري مفاجئ. كان
إرف
لبسينر مربيًا للماشية طويلًا عريض المَنكِبين، ظل يمارس الرياضة بحماس طيلة حياته.
وبرغم
أنه كان يحتاج إلى عقَّار الإنسولين لعلاج إصابته الطويلة الأمد بالداء السكري
(Diabetes Mellitus)، فلم يكن لهذا المرض أية آثار
جسدية على صحته القوية الجيدة، أو هذا ما كان يبدو للوهلة الأولى. لكنه أصيب بنوبة
قلبية
بسيطة عندما بلغ السابعة والأربعين من عمره — وهو نفس العمر الذي تُوفي فيه والده
لنفس
السبب. لكن هذا الحدث لم يصب قلبه إلا بتلف ضئيل، ولهذا فقد استمر في ممارسة حياته
النشطة
بدون معوقات.
في أصيل أحد أيام السبت من عام ١٩٨٥م، وعندما بلغ الثامنة والخمسين من العمر، بدأ
لبسينر
في ساعته الثالثة لممارسة كرة المضرب (التنس) في أحد الملاعب الداخلية لجامعة ييل.
عندما
غادر اثنان من رفاقه، مما حتم أن يتحول نمط اللعب من الزوجي إلى الفردي، كان الرالي
الرياضي
على وشك البدء عندما سقط الرجل على الأرض مغشيًّا عليه بدون سابق إنذار أو ألم
تحذيري.
هرع طبيبان كانا يمارسان التنس في ملعب مجاور لحسن الحظ، لمساعدته، فوجدا عينيه أشبه
ما
تكونان بالزجاج، كما كان الرجل غير مستجيب ومتوقفًا عن التنفس، ولم يكن هناك نبض بالقلب.
ولأنهما توقعا توقعًا صحيحًا أنه مصاب بالرجفان البطيني (Ventricular
Fibrillation)، فقد بدأ الطبيبان على الفور عملية الإنعاش القلبي
الرئوي، واستمرَّا فيها لمدة بدت أنها دهر لا ينتهي، حتى وصول سيارة الإسعاف. وفي
ذلك
الوقت، كان لبسينر قد بدأ يستجيب، حتى إنه استعاد النبض القلبي التلقائي المنتظم عندما
كان
قد تم تثبيت أنبوب في مجرى الهواء لديه، وتم نقله إلى داخل عربة الإسعاف، وبعد وقت
قصير كان
قد أفاق تمامًا عند وصوله إلى غرفة الطوارئ بمستشفى جامعة ييل في مدينة نيو هافن،
وقال
الرجل متعجبًا: «ماذا كان سبب كل هذه الجلبة؟!».
وبعد مرور أسبوعين، كان لبسينر خارجًا من المستشفى، وقد شُفي تمامًا من نوبة الرجفان
البطيني التي ألمَّت به. والتقيته بعد ذلك بعدة سنوات، في مزرعة الخيول التي يقطنها.
وهو
يستقطع وقتًا من عمله يوميًّا ليمتطي صهوة جواد أو ليمارس لعبة التنس، على النمط الفردي
غالبًا. وهاك وصف إرف لبسينر لما أحسَّ به عندما سقط «ميتًا» في مضمار التنس:
«الشيء الوحيد الذي أذكره عن ذلك الحادث هو أنه غير مؤذٍ فحسب، ولكنه مجرد سقوط،
وعندها انطفأت الأنوار، وكأنك في غرفة صغيرة وقد أطفأت المصباح. والشيء الوحيد
المختلف هنا عن ذلك المنظر هو أنك تحس وكأن ذلك يتم بالتصوير البطيء. وبكلمات أخرى،
فلم تنطفئ الأنوار «هكذا»، (وهنا يطرقع أصابعه)، ولكنها انطفأت هكذا (قام هنا بعمل
دائرة بطيئة بيده للأسفل، مثل طائرة تحوم بخفة أثناء توجهها نحو ممر الهبوط)،
بالتدريج مثل حلزون؛ مثل … (تردد في تفكيره قليلًا، ثم زم شفتيه ونفث بتخفيض تدريجي
بطيء في صوته) هذا. كان التغير من النور إلى الظلام واضحًا للغاية، لكن السرعة التي
حدث بها ذلك كانت — لحسن الحظ — تدريجية. كنت مدركًا لأني سقطت؛ فقد أحسست وكأن
أحدًا قد انتزع الحياة مني. شعرت وكأني — أفكر الآن في المشهد الذي رأيته — لديَّ
كلب صدمته سيارة، وعندما نظرت إلى الكلب الملقى على الأرض كان ميتًا بالفعل، وقد
بدا مثل الكلب نفسه، لكنه منكمش فقط. أتدري، كان منكمشًا بصورة متناسقة، وهذا هو
ما
أحسست به: أحسست وكأن (أصدر صوتًا مثل الصوت الذي يُصدره الهواء عندما يخرج فجأة
من
بالون منتفخ) بففففت!»
وقد انطفأت أنوار لبسينر بهذه الطريقة تمامًا لأن الدوران الدموي في دماغه توقف تمامًا
بصورة مفاجئة. ولما كان الدم الموجود في دماغه — والذي أصبح راكدًا
(Stagnant) الآن — قد تزايدت معدلات استهلاكه باطراد،
بدأت وظائف الدماغ بالفشل، بدأ البصر والإدراك في الاختفاء، كما لو كان ذلك بفعل الدوران
التدريجي للساعة الشمسية (Dial)، وليس بالفعل المفاجئ لزر
المصباح الكهربي. كان ذلك هو حلزون إرف لبسينر ذا الحركة البطيئة نحو النسيان، حتى
اقترب من
الموت بالفعل. وبعمل التنفس من الفم للفم (قبلة الحياة)، وتدليك الصدر في عملية الإنعاش
القلبي الرئوي لدفع الهواء إلى رئتيه والدم إلى أعضائه الحيوية، قرر قلبه، ولأسباب
خاصة به،
أن يستعيد مسئولياته. ومثل أغلب الوفَيَات القلبية في الأشخاص من غير نزلاء المستشفيات،
كان
الحادث الذي وقع لإرف لبسينر ناتجًا عن الرجفان البطيني.
لم يشعر لبسينر بأي ألم إقفاري: لذا فالسبب الأرجح للرجفان الذي أصابه هو حدوث ضرب
من
التنبيه الكيميائي المؤقت لمنطقة فائقة الحساسية بقيت في عضلة قلبه كنتيجة للنوبة
التي
أصابته في عام ١٩٧٤م. وإذا أردنا أن نعرف سبب حدوث الرجفان في ذلك الوقت بالتحديد،
سنجد أنه
ليست هناك طريقة لكي نعرف ذلك بصورة مؤكدة؛ لكن — وبتخمين خلَّاب تمامًا — يمكن القول
بأنه
متعلق بالإجهاد (الكرب: Stress) الناتج عن ممارسة التنس
لفترة طويلة في أصيل ذلك اليوم من أيام السبت، والذي يمكن أن يكون قد تسبب في إفراز
المزيد
من الأدرينالين في دورانه الدموي — مما قد يؤدي بدوره إلى تقلص أحد الشرايين التاجية
وحدوث
ذلك النمط الشاذ من ضربات القلب.
كانت تلك هي النزعات (Vagaries) العارضة لمرض القلب
الإقفاري، بَيد أن لبسينر لم يُصَب بأي تلف جديد في قلبه — برغم أنه لم يلعب بعد ذلك
لأكثر
من ساعتين متصلتين — من رياضة التنس على الإطلاق.
وتجعل حقيقة أن لبسينر لم يتعرض من قبلُ لأيٍّ من حالات التشنج العضلي القلبي، من
هذه
الحالة بالذات من النوبات القلبية غريبة نوعًا ما؛ نظرًا لأن الغالبية العظمى ممن
يسقطون
موتى يشعرون بألم إقفاري ذي طبيعة مميزة. ومثله مثل مقابله في رَبْلَة الساق، تكون
بداية
ألم القلب الإقفاري مفاجئة وعنيفة. وُصف هذا الألم في الغالب ممن يعالجونه بكونه عاصرًا
(Constricting)، أو قابضًا كالملزمة (Viselike). وأحيانًا يُظهر نفسه في صورة
ضغط ساحق، مثل ثقل كليل (Blunt) يشق طريقه بالقوة خلال
مقدَّم الصدر ويشع للأسفل إلى الذراع اليمنى أو للأعلى نحو العنق أو الفك. وهذا الإحساس
مرعب حتى بالنسبة لأولئك الذين عالجوه مرارًا؛ لأنه في كل مرة يعاود الظهور فيها،
فهو يحمل
معه إدراكًا باحتمالية الموت المحدق (وكم هو إدراك واقعي!).
وتبدأ الضحية في الغالب في إفراز العرق البارد، والشعور بالغثيان — وقد تصاب بالقيء
أحيانًا، ويكون هناك ضيق في التنفس. وإذا لم يُرخِ الإقفار القلبي قبضته خلال نحو
عشر
دقائق، فقد يصبح نقص الأكسجين غير مرتجع، وسيصاب جزء من عضلة القلب المحرومة من الغذاء
بالموت، خلال تلك العملية المسماة باحتشاء عضلة القلب (Myocardial Infarction). وإذا حدث ذلك،
أو إذا كان عوز الأكسجين كافيًا لإعطاب جهاز التوصيل القلبي، فسيموت نحو ٢٠ في المائة
من
المصابين في كُرُبات (Throes) مثل تلك الحادثة، وقبل الوصول
إلى غرفة الطوارئ بالمستشفى. وتنخفض تلك النسبة إلى النصف تقريبًا إذا أمكن نقل المريض
إلى
المستشفى خلال تلك الفترة التي يطلق عليها اختصاصيو أمراض القلب اسم الساعة الذهبية
(The Golden
Hour).
وسيموت في النهاية نحو ٥٠ إلى ٦٠ في المائة من المصابين بمرض القلب الإقفاري في غضون
ساعة
من وقوع إحدى تلك النوبات، سواء كانت تلك هي النوبة الأولى أو إحدى النوبات اللاحقة
لها.
وحيث إن مليونًا ونصف المليون من الأمريكيين يعانون من احتشاء عضلة القلب سنويًّا
(يحدث
سبعون في المائة منها في المنزل)، فليس من الصعب تفهُّم سبب كون مرض القلب التاجي
أكبر
الأمراض المميتة انتشارًا في الولايات المتحدة، وكذلك في جميع الدول الصناعية في العالم.
ويعاني جميع الناجين من حالات احتشاء عضلة القلب تقريبًا من ضعف متزايد في مقدرة قلوبهم
على
ضخ الدم.
وعند أخذ جميع الأسباب الطبيعية في الحسبان، يموت من عشرين إلى خمسة وعشرين من الأمريكيين
بصورة فجائية، فيما يُعرَف بالموت غير المتوقع (Unexpected Death)، في غضون ساعات من بداية ظهور
الأعراض المرضية في أشخاص ليسوا من نزلاء المستشفيات ولا من قعيدي بيوتهم
(Homebound). ومن هذه الوفَيَات، يرجع السبب إلى المرض
القلبي في نحو ٨٠ إلى ٩٠ في المائة من الحالات، بينما يرجع السبب في المجموعة المتبقية
إلى
أمراض في الرئتين، أو في الجهاز العصبي المركزي (Central Nervous System;
CNS)، أو في ذلك الوعاء الدموي الذي يضخ إليه البطين الأيسر دمه، أي
الشريان الأَوُرْطَى (الأبهر: Aorta). ولكن — عندما لا يكون الموت فجائيًّا فحسب، بل
وفوريًّا — يكون هناك القليل فقط من الحالات التي لا يرجع فيها سبب الوفاة إلى مرض
القلب
الإقفاري.
ويسقط ضحايا مرض القلب الإقفاري نتيجةً للخيانة التي يلقونها من طعامهم، وتدخينهم،
وإغفالهم لتلك الفروض المنزلية البسيطة مثل ممارسة الرياضة والمحافظة على معدل طبيعي
لضغط
الدم. وتأتي الخيانة أحيانًا من النسب (Pedigree) وحده في
صورة تاريخ عائلي للداء السكري. وأحيانًا ما يكون الاندفاع
(Impetuosity) والعدوانية التي يطلِق عليها علماء القلب
اليوم اسم نمط الشخصية P؛ فبصورةٍ ما، يكون الشخص الذي
ستسقط عضلة قلبه ضحية للذبحة الصدرية فيما بعد، في أغلب الاحتمال، تلميذًا ذا طموحات
زائدة،
يرفع يديه بصورة عنيفة في الهواء عندما يبحث مدرسه عن متطوعين: «اخترني أنا، اخترني
أنا؛
فأنا أستطيع القيام بالمهمة بصورة أفضل من أي تلميذ آخر!» وذلك الشخص من السهل التعرف
إليه،
كما أن الموت يتعرف عليه بسهولة هو الآخر، فهناك القليل فقط من العشوائية في الإجراءات
التي
يعتمدها الإقفار القلبي لاختيار ضحاياه.
وقبل أزمان من معرفتنا للأخطار المحدقة للكولسترول (Cholesterol)، والتدخين، والداء السكري،
وارتفاع ضغط الدم، كان المجتمع الطبي في بدايات تعرفه على الخصائص المميِّزة لأولئك
الأشخاص
الذين يبدو أنه من المحتَّم عليهم أن يموتوا نتيجة لأمراض القلب. وربما كان وليام
أوسلر
(William
Osler) وهو مؤلف أول الكتب الدراسية الطبية العظيمة في أمريكا
عام ١٨٩٢م، يصف حالة جيمس مكارتي عندما كتب قائلًا: «ليس ذلك الشخص العصابي
(Neurotic)
الرقيق هو المعرض للإصابة بالذبحة الصدرية، لكنه ذلك القوي العنيف، في العقل وفي الجسم،
أي
الرجل المتحمس والطموح، والذي تكون مؤشرات آلاته دائمًا في وضع السرعة القصوى للأمام.»
أي
إنك ستتعرف عليهم من خلال مقاييس سرعتهم (Speedometers).
وبرغم جميع أوجه التقدم الطبي، فهناك كثير من الناس يموتون نتيجة لإصابتهم بأولى نوباتهم
القلبية. ومثل لبسينر المحظوظ، فلا يتعرض أغلبهم، في واقع الأمر، لموت عضلة القلب،
لكنهم
يقعون ضحايا لنمط من ضربات القلب، يتحول إلى الشذوذ فجأة، كنتيجة لفعل الإقفار الدموي
(وأحيانًا التغيرات الكيميائية الموضعية) على منظومة للتوصيل الكهربي القلبي لم يتم
تحسيسها
(Sensitization) من قبل بفعل إصابة سابقة، سواء تم التعرف عليها
أم لا. لكن النمط المعتاد لسقوط الناس صرعى لمرض القلب الإقفاري في هذه الأيام ليس
هو ذلك
النمط الذي سقط به لبسينر أو مكارتي، فالسقوط يكون تدريجيًّا في الغالب، مع الكثير
من
علامات التحذير، والكثير أيضًا من المعالجات الناجحة قبل الاستدعاء النهائي للقاء
الموت.
ويتم تدمير مخلفات عضلة القلب على مدى أشهر أو سنوات، حتى تصاب تلك المضخة المحاصرة
(Besieged) والواهنة، ببساطة، بالفشل، ثم تستسلم بعد
ذلك، نظرًا لافتقارها إلى القوة، أو لأن نظام السيطرة الذي يتحكم في اتساقها الكهربي
لم يعد
قادرًا على احتمال لطمة أخرى لسلطته. وقد حقق أطباء المختبرات، المقتنعون بكون الطب
علمًا،
الكثير من التقدم، لدرجة أن الأطباء الممارسين الذين يعلمون أن الطب فن، كثيرًا ما
يتمكنون
— عن طريق اعتماد التوقيت الدقيق والاختيار المتأنِّي مما هو متاح لهم الآن — أن يوفروا
لضحايا الأمراض القلبية فترات طويلة من التحسن والصحة المستقرة.
ومع ذلك، تبقى هناك حقيقة باقية: وهي أن هناك ألفًا وخمسمائة أمريكي سيموتون كل يوم
بفعل
الإقفار القلبي، سواء كان تطور المرض سريعًا أم متدرجًا. وبرغم أن الإجراءات الوقائية
والطرق العلاجية الحديثة قد استمرت في تقليل معدلات الإصابة باطراد منذ منتصف الستينيات،
فإنه من المستحيل عمليًّا على أي ميل للانحدار (Slope of decline) أن يغير من الصورة بالنسبة للغالبية
العظمى من أولئك الذين تم تشخيصهم كمصابين بالمرض في يومنا هذا، أو أولئك الذين سيُشخَّصون
به خلال العَقد القادم.
وهذا المرض الذي لا يعرف التسامح — مثله في ذلك مثل الكثير من أسباب الوفَيَات —
ما هو
إلا سلسلة مستمرة ومتواصلة يقتصر دورها النهائي في إيكولوجية (تبيؤ:
Ecology) كوكبنا الأرضي على إخماد الحياة البشرية. ومن
أجل تبيان تسلسل الأحداث المؤدية إلى الفقدان التدريجي لمقدرة القلب على ضخ الدم بكفاءة،
يجب علينا أولًا مراجعة بعض الخواص العجيبة التي تمكِّن القلب من الأداء بمثل هذه
الدقة
الخارقة عندما يكون في حالته الصحية. وسيكون ذلك موضوع الصفحات الأولى من الفصل
التالي.