الفصل العاشر
خُبث السرطان
«كان يا ما كان، كان هناك منظف مداخن صغير، كان اسمه «توم». وهو اسم قصير، ولا بد أنك
سمعته من قبل، ولذلك فلن تجد صعوبة في تذكُّره. عاش في مدينة كبرى بالقطر الشمالي،
حيث
كان هناك الكثير من المداخن لتنظيفها، وكثير من المال ليكسبه توم، ولينفقه سيده.
لم يكن
يستطيع القراءة ولا الكتابة، كما لم يكن يكترث لأن يقوم بأيهما؛ ولم يكن يستحم أبدًا،
إذ لم تكن هناك مياه في ذلك الزقاق الذي كان يعيش فيه. لم يُعلِّمه أحد على الإطلاق
أن
يتلو صلواته. ولم يكن قد سمع في حياته بالله، ولا بالمسيح، اللهم إلا في كلمات لم
تسمعها أبدًا، كان من الأفضل بالنسبة له ألا يستمع إليها على الإطلاق. كان يبكي نصف
الوقت ويضحك نصفه الآخر. كان يبكي عندما كان عليه أن يتسلق تلك المَجرَّات
(Flues) المظلمة، والتي تجرح ركبتيه ومرفقيه؛
وعندما كان السِّناج يدخل إلى عينيه، كما كان يحدث في كل أيام الأسبوع، وعندما لم
يكن
لديه ما يكفي لطعامه، كما كان يحدث في كل أيام الأسبوع بالمثل.»
بهذا تبدأ قصة الأطفال الكلاسيكية التي كتبها عام ١٨٦٣م، تشارلز كينجسلي
(Kingsley)، والمسماة بأطفال الماء (The
Water Babies). وقد كان «توم» ما كان أعيان إنجلترا يسمونه تلطفًا
«بالولد المتسلق». ولم تكن واجباته تستلزم تدريبًا مطولًا، كما لم تكن هناك شروط مسبقة
للقبول ضمن العاملين في تلك المهنة. كان معظم المجندين ينخرطون في هذه المهنة المُحبطة
بين
سن الرابعة والعاشرة. كان كل من أيام العمل يبدأ ببساطة كافية: «بعد البكاء الضعيف
مرة أو
اثنتين، مع ضربة من معلمه، كان «توم» يتوجه نحو المِفأد
(grate)، ثم يصعد المِدخنة.»
ولا تشبه هذه المداخن كثيرًا تلك الأعمدة المنتصبة لأنماط العمارة التالية. وحتى
في أيام
كينجسلي، أي في منتصف القرن التاسع عشر، كان صعودها قد أصبح رأسيًّا أكثر مما كانت
عليه
عندما حوَّل الجرَّاح البريطاني برسيفال بوت (Pott) انتباهه
إلى أخطارها عام ١٧٧٥م، كانت في أيام «بوت» متعرجة وغير منتظمة، بالإضافة لوجود عادة
مزعجة
لها بالسير لمسافات قصيرة باتجاه أفقي، قبل أن تسترجع اتجاهها الرأسي المعتاد. ونتج
عن كل
هذه الترحلات البنيوية وجود كثير من الزوايا (Nooks)،
والشقوق (Crannies)، والسطوح المستوية التي يتراكم فوقها
السِّناج (soot). وليس هذا بكل شيء، لكنه من المرجَّح
تمامًا أن ينتج عن تلوي الولد المتسلق في طريقه لأعلى المِدخنة سَحْج
(Abrade) الجلد المغطي لأجزاء متفرقة من جسمه، خصوصًا
تلك الناتئة أو المعلقة.
استخدمتُ لفظة «المعلقة» (hung) متعمدًا هنا لتعني ما
تبدو عليه تمامًا؛ ففي أغلب الأحيان، كان المتسلقون الصغار يقومون بعملهم الكئيب بدون
حماية
أية طبقة واقية من الملابس بين أجسامهم وبين تلك الجدران القذرة التي ينحشرون داخلها.
كانوا
عراة تمامًا، وكان هناك سبب وجيه وصحيح راجع لأسرار المهنة في هذا التعرِّي الوظيفي،
أو هذا
على الأقل هو ما اعتقد مُعلِّمو الأولاد أنه كذلك. كانت المداخن غاية في الضيق، إذ
كان
قطرها يتراوح بين ١٢ و٢٤ بوصة. لماذا إذن كانوا يبذلون هذه الجهود المضنية للعثور
على أولئك
الغلمان الصغار الناحلين، إذا كانوا سيهدرون مساحة ثمينة بارتداء الملابس؟ لذلك كان
منظف
المداخن المعلم يوظف أكثر الأولاد الذين يمكنه العثور عليهم ضآلةً، ويعلمهم أسرار
تسلق
المداخن، ويدفع بمؤخراتهم العارية، والتي اسودت بفعل الفحم، إلى المَفائد في كل صباح،
صائحًا بهم ليصعدوا تلك القنوات الضيقة الخالية من الهواء، ليبدءوا بذلك يومًا من
العمل.
تضاعفت المشكلات بفعل العادات الشخصية لمنظفي المداخن المساكين أنفسهم. فلكونهم يأتون
من
أكثر طبقات المجتمع الإنجليزي تدنِّيًا، فلم يتعلموا قيمة النظافة الجسدية على الإطلاق.
وبالإضافة إلى ذلك، فبرغم تعرُّض كثير من أولئك الصبيان التعساء لمثل هذا الكم الهائل
من
الحمى (Hearth)، فلم يتعلموا الكثير في المنزل. فلم تكن
هناك أيدٍ لأمهات محبات ترشدهم، أو حتى تجذبهم من آذانهم إلى حمام دافئ. وعلى كل حال،
كانوا
مشردين منبوذين. وكانت الجزيئات المشبعة بالقار تبقى مدفونة في تجاعيد وطيات جلد الصَّفْن
(scrotum) لكل منهم لمدة شهور عديدة في كل مرة، ملتهمة
حياتهم بلا رحمة في الحين الذي كانت فيه صنوف القسوة التي يمارسها عليهم معلموهم تلتهم
أرواحهم.
وقد كان برسيفال بوت (١٧١٤–١٧٨٨م) ألمع جرَّاحي جيله اللندنيين، وكان يعرف الكثير
عن
الحياة الصعبة التي يعيشها منظفو المداخن الإنجليز الصغار. ولاحظ أنه «يبدو أن مصير
أولئك
الناس متفرد الصعوبة؛ ففي طفولتهم المبكرة، كثيرًا جدًّا ما كانوا يُعاملون بوحشية
عظيمة،
كما كانوا يقتربون من الموت بفعل الجوع والبرد؛ وهم يُدفعون لصعود مداخن ضيقة، وأحيانًا
حارة، حيث تتعرض أجسامهم للسحَجات، والحروق، وشبه الاختناق؛ وعندما يصلون لمرحلة البلوغ،
يصبحون معرَّضين بصورة خاصة لنوع من أشد الأمراض المميتة فتكًا وإيلامًا.» كتبتُ هذه
السطور
في عام ١٧٧٥م؛ ظهرتْ في جزء وجيز من مقالة أطول بكثير كتبها بوت بعنوان «الملاحظات
الجراحية
المتعلقة بالسادِّ، والسليلة الأنفية، وسرطان الصَّفْن، وأنواع الفتوق المختلفة، والجراحات
التصليحية للأباخس والقدمين».
(Chirurgical observations relative to the cataract, the polypus of
the nose, the cancer of the scrotum, the different kinds of ruptures and the
modifications of the toes and the feet)
وتضم هذه المقالة أول وصف مسجل للسرطان المهني
(Occupational malignanacy). ويستغرق المرض سنوات لكي
يتطور، لكنه أحيانًا ما يبدأ في الظهور مبكرًا حتى عند سن البلوغ وفي العَقد الأول
من القرن
التاسع عشر، تم تقرير حدوثه في صبي في الثامنة من عمره.
وليس هناك شك في أن بوت كان يصف ذلك المرض الخبيث المميت الذي نسميه اليوم بسرطانة
الخلية
الحَرْشَفية (Squamous cell
carcinoma). وقد كان ما لاحظه في صَفْن كلٍّ من مرضاه
الصغار هو «قرحة سطحية مؤلمة، مهلهلة بشعة المنظر، مع حوافَّ قاسية ومرتفعة، ونسميها
بلهجة
الصنعة ثؤلول السِّناج (Soot-wart) … ويشق طريقه لأعلى
الغِمد المنوي (Spermatic
process)، وصولًا إلى البطن … وعندما يصل إلى البطن، يصيب
بعض الأحشاء، ثم سرعان ما يصبح مدمرًا ومؤلمًا.»
كان بوت يعرف جيدًا أن سرطان الصَّفْن، باستثناء تلك الحالات القليلة التي كان يُستأصل
فيها جراحيًّا في مرحلة مبكرة من المرض، يقتل جميع ضحاياه. حاول تطبيق العلاج الجراحي
مرات
ومرات، برغم أن ذلك كان يعني أن يقوم، في تلك الأيام المرعبة قبل اكتشاف التخدير،
بتقييد
الغلام الذي لا يكف عن الصراخ إلى طاولة الجراحة، وإبقائه ثابتًا في مكانه تحت قبضة
عدد من
المساعدين الأشداء. كانت الأهلية للعملية الجراحية مقتصرة على أولئك الفتيان الذين
كانت
العملية التقرحية لا تزال مقتصرة فيهم على جانب واحد من الصَّفْن.
كان إجراء العملية ينطوي على اعتداء عظيم على النفس، كما كان على الجسد، إذ كان يتكون
من
استئصال الخُصية ونصف الصَّفْن لأولئك المراهقين التعساء بأسرع ما يمكن. وكانت الأنسجة
النازفة تعالج بضغط الحديد المسخن إلى درجة الاحمرار عليها مباشرة. كانت محاولات حياكة
تلك
الجروح المسننة القبيحة المنظر، تنتهي دائمًا بحدوث عدوى مفرزة للقيح، لذلك كانت منطقة
الجراحة تُترك مكشوفة لتصريف الحُتات المنسلخ والسوائل النازَّة طوال تلك الشهور الطويلة
التي تستغرقها عملية الشفاء البطيئة.
لم تبرر موجودات بوت تلك المحنة في أحيان كثيرة. وقد أصابته دراسات المتابعة لمرضاه
على
المدى الطويل: «وبالرغم من أن القرح، بعد مثل هذه العملية، قد شُفيت بصورة طيبة في
بعض
الحالات، كما خرج المرضى من المستشفى بحالة ظاهرية جيدة، فإن ما يحدث بصورة عامة،
وفي غضون
أشهر قليلة، أنهم يعودون مرة أخرى؛ إما بالمرض ذاته في الخُصية الأخرى، أو في الغدد
اللمفاوية في الأُرْبِيَّة (groin)، أو بتلك البشرة الشاحبة، بمثل ذلك الفقدان لقوتهم،
وبآلام داخلية حادة ومتكررة، مما ثبت في حالات كثيرة أنه حالات مرضية في بعض الأحشاء،
والتي
تبعها سريعًا موت مؤلم.» وبالرغم من أن فاصلات (commas) بوت
قد تكون مبالغًا فيها، فإن وصفه ليس كذلك. وعلى كل حال، فقد قلل من وصف تلك المآسي
التي ذهب
بسببها أولئك الفتيان إلى القبر.
لاحظ بوت أن رسول الموت الرهيب ذاك كان يبدأ ظهوره كورم شاذ مقتصر على موضع محدد،
وهي
عملية لا تبدأ إلا في مرحلة متأخرة في سيرها الزاحف الذي لا هوادة فيه من التقرح الكريه،
والذي تشق فيه طريقها العفن خلال الأنسجة المحيطة بها. ونشر دراساته للحالات المرضية
في وقت
ملائم لصياغة نظرية تتناول تأثير المواد الغريبة الدخيلة على الجسم. وقد بدأ قليل
من
المنظرين الطبيين اللامعين مؤخرًا في تقديم مفهوم أن الأنسجة الحية تحتاج إلى محفِّز
(Stimulus)،
والذي أطلقوا عليه اسم «التهييج» (Irritation)، من أجل حملها على تأدية وظائفها
الطبيعية. ومن مبدأ التهييج، لم نبتعد كثيرًا عن مفهوم أن الأعضاء العليلة تصبح مريضة
لأن
جزءًا منها — أو كلها — قد أصبح ملتهبًا (Inflamed) —
وبكلمات أخرى، مفرط التهيُّج (overirritated). وقد افترض
بوت أن السرطان الذي يصيب الأعضاء التناسلية لمنظفي المداخن هو نتيجة مباشرة للالتهاب
الناتج عن الفعل الكيميائي للسِّناج.
وفي أيامنا هذه، يحملق فينا تحذير كبير الجراحين من خلال كل إعلان عن السجائر، وليس
هناك
الكثيرون ممن لا يأخذون ذلك التحذير على محمل الجد. وليس هناك بالغ أمريكي مثقف غير
واعٍ
بالخصائص المسببة للسرطان، والتي تمتلكها أنواع القار والراتينات (tars
& resins)، ويدرك معظمهم أن هذه الخصائص تنتج عن التهييج
الكيميائي الذي يحدث في الأنسجة الحية بفعل التعرض المستمر للمواد السامة. ولكن مفهوم
أن
التهييج المزمن قد يسبب المرض، برغم كونه مثبتًا ذاتيًّا كما يبدو اليوم، لم يلقَ
قبول
الأطباء في كثير من الأحيان. وفي الوقت الذي اختار فيه بوت أن يتخطى مجرد الوصف السريري
لسرطانة الصفن، بالتعبير عن اعتقاده بأن ذلك ناتج عن رد فعل شديد الخصوصية للسناج،
كانت
نظرية التهييج والالتهاب لا تزال تقف على أرض غير صُلبة، وبالفعل تم التخلي عن معظم
فرضياتها لاحقًا. وبالرغم من أن منظفي المداخن أنفسهم كانوا يطلقون على مرضهم اسم
«ثؤلول
السناج» (soot-wart)، فإنه يبدو أنهم لم يستوعبوا فكرة أن
تنظيف أنفسهم من السناج، عن طريق الاستحمام بين الحين والآخر، قد يمنع حدوثه. فقد
تقبلوا
ببساطة كأمر حتمي أن يصاب عدد معين منهم بالمرض، وأن يعاني من موت شديد الإيلام؛ إذ
إن
الخطر يأتي مع المهنة ذاتها.
حصل افتراض بوت بأن السناج هو السبب المستبطن وراء حدوث ذلك السرطان، على اعتراف فوري.
فقد أدَّى مباشرةً إلى استصدار مرسوم برلماني ينص على ألا يبدأ أي منظف مداخن تدريبه
على
المهنة قبل بلوغه الثامنة من عمره، وأن يُفرض الاستحمام على أولئك الغلمان — على الأقل
مرة
واحدة في كل أسبوع. وبحلول عام ١٨٤٢م، لم يعد يُسمح لأي صبي بتسلق المداخن قبل بلوغه
الحادية والعشرين من عمره. ولسوء الحظ، فكثيرًا ما كان يتم خرق القانون، لدرجة أنه
كان لا
يزال هناك الكثير من منظفي المداخن الذين تقل سنهم عما قرره القانون، عندما كتب تشارلز
كينجسلي روايته أطفال الماء، بعد ذلك بعشرين سنة.
ومنذ أيام «أبوقراط»، أو حتى ما قبلها، كان لدى أطباء الإغريق فهمٌ واضح للطرق التي
كثيرًا ما ينفذ بها الورم الخبيث تصميمه الذي لا يلين على تدمير الحياة. وقد أطلقوا
أسماء
شديدة التحديد على تلك الأورام والتقرحات الصُّلبة التي كثيرًا ما كانوا يجدونها في
الثدي،
أو متدلية من المستقيم أو المهبل، وقد بَنَوا تلك الأسماء على الأدلة التي كانت تكتشفها
أعينهم وأصابعهم، ولتفريقها عن الأورام العادية التي كانوا يطلقون عليها اسم
oncos، فقد
استخدموا لفظة karkinos، أو السرطان، والذي اشتُقَّ بدوره — وهو ما يثير
الاهتمام — من جذر لغوي هندي-أوروبي بمعنى «صلب». أما oma، فهي لاحقة تشير لوجود «ورم»، وبذلك
فقد استُخدمت لفظة karkinoma للتعبير عن النمو الورمي الخبيث. وبعد ذلك
بقرون، شاع استخدام اللفظة اللاتينية «للسرطان»؛ أي لفظة
cancer. وفي نفس الوقت، فقد استُخدمت لفظة
oncos للتعبير
عن الأورام من أي نوع، ولذلك السبب فنحن نطلق على اختصاصي الأورام اسم
Oncologist.
قيل إن السرطانة (karkinoma) ناتجة عن ركود وفرة من سائل وهمي في الجسم،
يسمى بالمرَّة السوداء، أو melan
cholos (حيث melas تعني «الأسود»، وchole تعني «المُرَّة» أو «الصفراء»).
وحيث إن الإغريق لم يقوموا بتشريح الجسم البشري، فقد كانت السرطانات التي رأوها عبارة
عن
أورام خبيثة متقرحة في الثدي أو الجلد، وفي المستقيم والأعضاء التناسلية الأنثوية،
والتي
بلغت من كبر الحجم حدًّا برزت معه من فتحات الجسم الطبيعية. وعلى ذلك، فقد دعم تفسيرهم
الخيالي، ملاحظة مألوفة بأن مرضى السرطان كانوا، ولسبب واضح ووجيه، مصابين بالسوداء
(الملانخولية: Melancholy).
وقد انبنت أصول لفظتَي karkinos وkarkinoma — كما هو الحال بالنسبة لكثير من الاصطلاحات
الطبية اليونانية الأخرى — على الملاحظة البسيطة واللمس. وكما صاغها جالينوس
(Galen)، وهو أفضل مترجم ومصنف للطب الإغريقي، في القرن
الثاني الميلادي، فإن ظهور هذه الكتلة الصخرية الزاحفة المخترِقة، والتي تتقرح في
منتصفها،
والتي كثيرًا ما كان يراها في أثداء النساء، أشبه ما يكون «بأرجل السرطان التي تمتد
خارجةً
من جميع أجزاء جسمه.» وليست الأرجل وحدها هي التي تحفر طريقها أبعد وأعمق في لحم ضحيتها،
فالمركز، بدوره، يفرض طريقه خلالها مباشرة.
ويعود التشبيه لحيوان طفيلي متسلل ومتحسس (groping)،
يتعلق ببراثن (Tentacles) ذات مخالب حادة بالسطح المتحلل
لطريدته الهالكة. ولا تتوقف تلك الأطراف المِخْلبية عن بسط ظاهر قبضتها الخبيثة، في
حين
يلتهم الحياة ببطء ذلك المركز الكريه للوحش الحفَّار، نظرًا لكونه غير قادر على هضم
سوى ما
حلله أولًا. وتحدث العملية بلا ضوضاء؛ فليس لها لحظة بداية يمكن التعرف عليها، ولا
تنتهي
إلا عندما ينتهي السلاب (despoiler) من التهام البقية
الباقية من القوى الحيوية لعائله.
وحتى حلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان من المعتقد أن السرطان يقوم بعمليات
القتل الخاصة به عن طريق المسارقة (stealth). فتتخفي قوته الكامنة تحت جُنْح الظلام
الصامت، بحيث لا يتم الإحساس بلدغته الأولى إلا عندما يكون الغزو القاتل قد خنق عددًا
كبيرًا من الأنسجة الطبيعية، بحيث لا تقوى تلك على المحافظة على الدفاعات المقهورة
لعائلها.
وهنا يتقيأ المجرم تلك الحياة التي مضغها صامتًا، في صورة موات خبيث
(gangrene).
ونحن نعرف اليوم أفضل من ذلك، لأننا تمكنَّا من التعرف على شخصية مختلفة، عندما نظرنا
إلى
عدونا القديم من خلال مجهر العلم الحديث. وبصرف النظر عن كون السرطان عدوًّا خفيًّا،
فهو في
واقع الأمر مسعور هائج (Berserk) يتمتع برغبة شريرة في القتل. ويقوم المرض برحلة
تدميرية دائرية متواصلة لا تتوقف، حيث لا يعبأ بأية قواعد، ولا يأتمر بأمر، ويفجر
كل أنواع
المقاومة في شغب تدميري قاتل. وتتصرف خلاياه كأفراد قبيلة بربرية منطلقين للقتل، بدون
قائد
ولا توجه، ولكن بغرض واحد لا يتزعزع: وهو سلب كل شيء في متناول أيديهم. وذلك هو ما
يعنيه
علماء الطب عند استخدام لفظة «الاستقلالية» (Autonomy).
ويخرق نمط ومعدلات تضاعف تلك الخلايا القاتلة كل قواعد اللياقة في داخل الكائن الحي
الذي
تغذيها موارده الحيوية، بحيث يتم تدميره على يد ذلك الشر المتنامي الذي انفقست صغاره
لتوِّها من مادته الحيوية ذاتها. وبهذا المعنى، لا يُعتبر السرطان طفيلًا. كان جالينوس
مخطئًا عندما سماه praeter
naturam، أي «ما وراء الطبيعة». وخلاياه الأولى هي الذرية
غير الشرعية لوالدين غافلَين يرفضانهم في النهاية لأنهم يتسمون بالقبح، والتشوه، والشذوذ.
وفي مجتمع الأنسجة الحية، يتصرف الغوغاء المنحرفون، الذين هم أنواع السرطان، كما لو
كانوا
عصابة من المراهقين الدائمي التمرد. وهم الأحداث المنحرفون للمجتمع الخلوي.
أفضل طريقة للنظر إلى السرطان هي رؤيته كمرض للنضج المتغير (Altered
maturation)؛ فهو نتاج عملية متعددة المراحل لانحراف النمو والتطور. في
الظروف المعتادة، تتجدد الخلايا الطبيعية بصورة مستمرة عند موتها، ليس فقط من خلال
تكاثر
الخلايا الباقية الأصغر سنًّا، بل وأيضًا بفضل مجموعة من السَّلِيفات
(progenitors) النشطة التكاثر، والمسماة بالخلايا
الجذعية (Stem cells). والخلايا الجذعية هي صور غير مكتملة
النمو لدرجة كبيرة، مع قدرة هائلة على إنتاج أنسجة جديدة. ومن أجل أن تتطور ذرية الخلايا
الجذعية إلى مرحلة النضج الطبيعي، يجب عليها المرور بسلسلة من الخطوات المتتالية.
وعندما
تقترب تلك الخلايا من النضج الكامل، تفقد قدرتها على التوالد السريع مقارنة بالزيادة
في
قدرتها على تأدية الوظائف المنوطة بها كخلايا ناضجة. وعلى سبيل المثال، تمتص الخلية
التامة
النضج من خلايا البطانة المعوية، المغذيات من تجويف الأمعاء بكفاءة أكبر بكثير من
قدرتها
على التوالد، وتبلغ كفاءة الخلية الدرقية (Thyroid
cell) التامة النمو أقصاها عندما تفرز الهُرمونات،
لكنها أقل ميلًا بكثير للتكاثر عما كانت عليه في شبابها. ولا مفر هنا من المقارنة
بالسلوك
الاجتماعي للكائنات المتكاملة، مثلنا.
والخلية الورمية هي تلك الخلية التي توقفت عند نقطةٍ ما، قدرتها على التمايز
(Differentiation)، وهو الاصطلاح الذي يستخدمه العلماء لوصف
العملية التي تنخرط فيها الخلايا في الخطوات التي تمكنها من الوصول إلى النضج الصحيح.
وتسمى
كتلة الخلايا الشاذة غير المكتملة النمو بالنامية اللحمية (neoplasm)، والمشتقة من كلمة يونانية
بمعنى نمو أو تكوُّن جديد. وفي العصور الحديثة، استُخدمت كلمة «النابتة اللحمية» كمرادف
للفظة «الورم» (tumor).
وتُعَد أقل الأورام خطورة هي تلك التي توقف فيها تمايز الخلايا قُرب الوصول لمرحلة
النضج
الكامل، ولذا فهي تسمى بالأورام الحميدة (Benign). ويحتفظ الورم الحميد بقدر قليل نسبيًّا من
قدرته على التكاثر غير المحكوم، فهو جيد التمايز (well
differentiated)؛ إذ تبدو خلاياه تحت المجهر قريبة الشبه تمامًا بتلك
الخلايا الناضجة التي كادت أن تكونها. وهو ينمو ببطء، ولا يغزو الأنسجة المحيطة به،
كما لا
يرتحل إلى أجزاء أخرى من الجسم، وكثيرًا ما يكون محاطًا بمحفظة ليفية محددة، وغالبًا
ما
يفتقر للقدرة على قتل عائله.
والورم الخبيث — وهو ما نسميه بالسرطان — مخلوق مختلف عن ذلك كلية. فقد عملت بعض
التأثيرات، أو مجموعة من التأثيرات، سواء كانت تلك وراثية، أم بيئية، أم غيرها، كآلية
محفزة
للتدخل المبكر في طريق النمو، بحيث يتوقف تطور الخلايا عند مرحلة لا تزال تمتلك فيها
قدرة
لانهائية على التكاثر. وتستمر الخلايا البانية الطبيعية في محاولاتها لإنتاج ذرية
طبيعية،
لكن إعاقة نموها تستمر بالمثل. ولا تصل تلك الخلايا لقدر كافٍ من النضج يمكنها من
تأدية
الوظائف التي كان من المفترض أن تقوم بها، أو أن تشبه كثيرًا تلك الصور الناضجة التي
كان من
الواجب أن تبدو عليها. وتتجمد الخلايا السرطانية في عمرٍ تكون فيه أصغر بكثير من أن
تتعلم
قواعد المجتمع الذي تعيش فيه. وكما يحدث لكثير من الأفراد غير كاملي النضج من جميع
الكائنات
الحية، يكون كل ما تفعله تلك الخلايا مفرطًا وغير متناسق مع حاجات أو محاذير
جيرانها.
ولكون الخلية السرطانية غير مكتملة النضج، فهي لا تنخرط في تلك الأنشطة الاستقلابية
المعقدة التي تقوم بها الأنسجة الطبيعية غير السرطانية. وعلى سبيل المثال، فخلية سرطان
الأمعاء لا تساعد في عملية الهضم كما تفعل نظيرتها الناضجة؛ كما لا تشترك خلية سرطان
الرئة
في عملية التنفس؛ ويحدث الشيء نفسه في جميع الأورام الخبيثة الأخرى تقريبًا. وتركز
الخلايا
السرطانية طاقاتها على التكاثر بدلًا من المشاركة في المهام التي يجب أن تنفذها الأنسجة
من
أجل أن تستمر حياة الكائن الحي. وتفتقر الذرية غير الشرعية الناتجة عن ذلك «الزنا»
المفرط
النشاط (برغم أنه جنسي)، إلى الموارد التي تمكنها من عمل أي شيء فيما عدا التسبب في
المشكلات وزيادة الأعباء على المجتمع المكافح المحيط بها. ومثلها مثل سَلِيفاتها،
فهي
متكاثرة، لكنها غير منتجة. أما كأفراد، فهي تفتك بمجتمع هادئ متناغم.
ولا تتمتع الخلايا السرطانية حتى باللياقة لكي تموت عندما يتوجب عليها ذلك. وتعرف
جميع
أوجه الطبيعة أن الموت هو الخطوة النهائية في عملية التطور الطبيعية. لكن الخلايا
السرطانية
لا تبلغ تلك المرحلة؛ ففترة بقائها على قيد الحياة غير محدودة. ولا ينطبق ما يصدق
على
الأرومات الليفية (Fibroblasts) التي وصفها الدكتور هايفليك، على المجتمع
الخلوي للورم الخبيث. وتظهر الخلايا السرطانية المستزرعة في المختبر قدرة لامحدودة
على
النمو وعلى إنتاج أورام جديدة. وحسب كلمات رفاق البحث، فهي مخلدة (immortalized). ويُعَد المزيج المكون من
الموت المؤجل والتوالد غير المحكوم، أعظم خرق تقترفه الأورام الخبيثة للتنظيم الطبيعي
للأشياء. وإلى هذين السببين مجتمِعَين، يرجع سبب استمرار السرطان، بعكس الأنسجة الطبيعية،
في التضخم طوال فترة حياته.
ولكونه لا يعرف أية قواعد، فالسرطان غير أخلاقي (amoral). ولكونه لا هدف له سوى تدمير الحياة، فالسرطان
فاجر (immoral). وكتلة
الخلايا السرطانية هي غوغاء مستقلة ومضطربة من المراهقين المنحرفين، الذين يتمردون
على
المجتمع الذي انبثقوا عنه. وهي إحدى عصابات الشوارع التي تهدف لإشاعة الفوضى. وإذا
لم يكن
بوسعنا مساعدة أفرادها على النضج، فأي شيء نفعله للقبض عليهم، أو لاستئصالهم من بين
ظَهرانَينا، أو للتسبب في موتهم، وأي شيء قد يحقق أيًّا من هذه الأهداف سيستحق
الثناء.
وتأتي مرحلة يكون فيها المضمار المحلي ليس بكافٍ، فيبدأ شرار العصابة في التحرك، فيغزون
مجتمعات جديدة، ثم — متشجعين بتخريبهم الذي لم يلقَ مقاومة — يُوقِعون انتقامهم «بكومنولث»
الجسم كله. ولكن السرطان في النهاية، لا يحصل على النصر. فعندما يقتل ضحيته، فهو يقتل
نفسه
بالمثل. ويولد السرطان بأمنية للموت.
والسرطان عانِد (nonconformist) بكل ما تحمله الكلمة من المعاني. ولكن
الخلية السرطانية العانِدة، وبعكس بعض الأشخاص العاندين الذين يوجد الكثير مما يثير
الإعجاب
حولهم، لا تمتلك حتى خصلة حميدة واحدة. فهي تفعل كل ما بوسعها، ليس لتعزل نفسها عن
المجتمع
الخلوي الذي منحها الحياة فحسب، بل ولتحطيمه أيضًا. ولأنها تريد التيقن من أنه لا
يتم الخلط
بينها وبين أولئك الأعضاء الناضجين المطاوعين من عائلتها الأصلية، تحتفظ الخلية السرطانية
بمظهر، وحتى شكل، مختلف وغير ناضج. وتسمى تلك الخاصية للورم الخبيث بالكَشْم
(Anaplasia) —
وهي مشتقة من كلمة يونانية بمعنى «بدون شكل». وينتج عن الخلية الكَشْمية، ذرية
كَشْمية.
ومهما بذل قصارى جهده، فليس هناك سوى السرطان غير العادي، الذي يتكون من خلايا غيَّرت
مظهرها بصورة كاملة لدرجة لا يمكن معها التعرف عليها كأفراد من قبيلتها الأصلية. وفيما
عدا
الحالات الاستثنائية، تكفي نظرة متفحصة أسفل أنبوب المجهر على نُدفة من النسيج المريض،
لإظهار تاريخ نسبها. وبذلك، يمكن التعرف على سرطان الجهاز الهضمي كما هو عليه، لأنه
يحتفظ
ببعض العلامات المميزة التي تخون أصلها المعوي. وحتى عندما يبتعد عن موطنه الأصلي،
مثلما
يحدث عندما يحمل تيار الدم خلاياه إلى الكبد، فسيظهر الوجه الحقيقي للسرطان، بغض النظر
تقريبًا عن درجة الكشمية التي هو عليها. فحتى السرطان، وهو ذلك المرتد الذي يهرب لينضم
إلى
الشبيه البيولوجي لشركة القتل المتحدة (Murder, Inc.)،
يحتفظ ببعض الخصائص التي يمكن بالكاد التعرف عليها لأسرته القديمة ولالتزاماته
السابقة.
وتعرِّف الخاصيتان التوءميتان — من الاستقلالية (Autonomy) والكشم (Anaplasia) — الفهم الحديث للسرطان. وفي
الحين الذي توصف فيه الخلايا السرطانية «بالقبح، والتشوه، والفوضوية»، أو بصورة أكثر
أكاديمية «ككشمية» أو «مستقلة»، فهي شريرة بصورة تفوق ما يتضمنه التعريف العلمي لكلمة
«الورم الخبيث» (malignant). وفي الواقع إن لفظة خبيث
الطوية (Malevolent)،
أكثر تعبيرًا عن المعنى، لأنها تحمل تضمينًا بوجود عامل من سوء النية.
ويظهر تشوُّه وقبح الخلية السرطانية المنفردة أوضح ما يكون في تلك الشذوذات التي لشكلها
المشوه. وفي حين لا يختلف مظهر الخلية الطبيعية في النسيج الطبيعي كثيرًا عن جيرانها
من
الخلايا الطبيعية، تكون الأشكال والمقاييس الفردية لكلٍّ من الخلايا السرطانية لامتناسقة
ولامنتظمة. فهي قد تَنتأ، أو تتفلطح، أو تستطيل، أو تدوِّر نفسها، أو أنها تظهر بصورة
أخرى
كون كل منها قد خُلقت وكأنما لها عقل خاص بها، فهي عامل مستقل. والسرطان حالة يحدث
فيها
انهيار في عملية الاتصال والاعتمادية المشتركة بين الخلايا وبعضها البعض. ويقع تسلسل
الأحداث الذي وصفناه للتو، والذي تتغير فيه الخصائص الوراثية للخلية السرطانية، ويحدث
كل
شيء آخر متعلق بالمرض اعتبارًا من تلك الحقيقة. ونحن نعرف بعض تلك الأسباب الراجعة
للبيئة
أو لنمط الحياة، كما تتم حاليًّا دراسة بعضها، ومما لا شك فيه أن بعضها يبقى غير معروف
تمامًا.
وعلى الرغم من مظهره المضطرب، وعدم تناسق حجم أفراده، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن
مجتمع
الخلايا السرطانية مجتمع فوضوي (Anarchic) على الدوام. ففي الواقع إننا نجد في بعض
الأنماط السرطانية القليلة، أن جميع الأفراد يختارون شكلًا مميزًا وثابتًا، يتناسب
مع عنصر
مشترك في إرادة كل منهم. وتوجد هذه السرطانات، وكأنما لاستعراض رفض عنيد للانصياع
لذلك
اللاتناغم المعتاد، والذي يُتوقع وجوده فيها؛ فتتكاثر خلاياها، منتجةً أعدادًا هائلة
من
الأنفس المتماثلة تقريبًا، مثل تلك الملايين التي تلي الملايين من التفاحات السامة
الصغيرة،
والتي يشبه بعضها بعضًا بصورة مملة، لكنها تختلف تمامًا عن النسيج الأصلي الذي نبتت
منه.
فحتى توقُّع عدم اعتمادية الأورام الخبيثة، هو في واقع الأمر غير متوقع.
والتركيب المركزي في الخلية السرطانية، وهو النواة، أكبر حجمًا وأكثر بروزًا من نظيرتها
في أقربائها من الخلايا الناضجة، وكثيرًا ما تكون مشوهة بقدر تشوه الخلية ذاتها. ومما
يزيد
من قوة الهيمنة التي تفرضها على البروتوبلازم المحيط بها، ذلك الحماس المطوَّر الذي
تمتص به
الأصباغ المعملية القياسية، وهي خاصية تمنحها مظهرًا قاتمًا مشئومًا. وتكشف نواة العين
الشريرة تلك عن استقلالها الفوضوي بطريقة مختلفة تمامًا: فبدلًا من الانقسام الدقيق
إلى
قسمين متناظرين من خلال العملية التكاثرية المسماة بالانقسام الميتوسي
(Mitosis)، تصفُّ الكروموسومات نفسها (وهي مكونات
النواة الحاملة للدنا) في أنماط غريبة شاذة — في محاولة متباينة نسب النجاح منها لمضاعفة
عددها — رأسًا على عقِب لو جاز التشبيه، بدون أي قدر من الدقة أو الاعتمادية. وتبلغ
معدلات
الانقسام الميتوسي لبعض السرطانات من السرعة حدًّا يمكِّن المرء، بنظرة واحدة تحت
المجهر،
من رؤية عدد من الخلايا في محاولة للتكاثر، يبلغ أضعاف العدد الموجود في الأنسجة الناضجة
الطبيعية، ويبدو أن كل واحدة من تلك الخلايا تفعل ذلك بمعرفتها بطريقة عشوائية. وهناك
القليل من العجب في أن تكون الذرية الباقية على قيد الحياة، غير متوافقة جيدًا مع
البيئة
المحيطة بها في الأنسجة المنظمة والمتماسكة للأعضاء التي كان من المفترض أساسًا أن
تكون
أجزاء منها. وتكون تلك الكتل الجديدة من الخلايا، في واقع الأمر، «غيرية» بصورة عدوانية،
بحيث لا تكتفي بغزو جيرانها من الخلايا الناضجة والمطيعة للقانون، بل تُبعدها عن طريقها
أثناء اختراقها واحتلالها للمناطق المحيطة بها.
والسرطان بكلمة واحدة هو «لااجتماعي» (Asocial). ولتحرره من تلك المحاذير التي تحكم الخلايا
غير السرطانية، تنخرط الأنسجة المتكونة حديثًا في عَلاقات غير محكومة ومسيطرة
(domineering) مع الأعضاء المضيفة لها، كما لا يمكن
إجبارها على قصر أطرافها المتسللة على تلك البؤر التي وُلدت فيها. ويتيح النمو الحر،
وغير
المحدد النمط، للسرطان أن يشق طريقه بالقوة إلى الأعضاء الحيوية المجاورة حتى يحيط
بها
تمامًا، ويمنعها من تأدية وظائفها الطبيعية، بالإضافة إلى إخماد حيويتها. وبهذه الوسيلة،
وبتدمير تلك الأعضاء التي تنشأ من خلاياها البانية، تقتل كتل الخلايا السرطانية ذلك
المريض
الذي يصاب بالاعتلال ببطء بعد الإجهاز على المواد الغذائية التي كان من المفروض أن
تقيم
أوده.
وبالرغم من أن عملية النمو السرطاني تبدأ كظاهرة مجهرية، فإنها — وبمجرد ترسخها بصورة
كافية — تستمر بصورة حتمية، حتى يمكن رؤيتها بالعين المجردة أو تحسسها باليد الفاحصة.
وقد
تظل الكتلة المتنامية، لفترة من الزمن، ضئيلة للغاية أو غير مسببة للأعراض المرضية،
لكن
ضحايا السرطان يحسون، بمرور الزمن، أنهم يتعرضون لشيء غير طبيعي. وعند تلك النقطة،
قد يكون
الورم الخبيث بلغ حجمًا من الكبر يجعله غير قابل للشفاء. وفي بعض الأعضاء الصُّلبة
على وجه
الخصوص، قد يبلغ السرطان حجمًا معتبرًا قبل أن يشعر العائل بوجوده. وقد كان ذلك السبب،
بطبيعة الحال، في اكتساب المرض الخبيث لشهرته الأسطورية كقاتل صامت.
وقد يكتشف أن الكُلْية، على سبيل المثال، تؤوي ورمًا ضخمًا عندما تُظهر أولى بوادر
مرضها
المتقدم؛ في صورة سكب دماء مرئية في البول، أو التسبب في الإحساس بألم كليل
(dull) في الخاصرة. وإذا أُجريت عملية جراحية عند تلك
المرحلة، ستنهزم جهود الجرَّاح بفعل التوسع العريض لإصابة الأنسجة المحيطة. وسيكتشف
أن
الاستدارة البنية لذلك العضو في الحالة الطبيعية، قد التُهمت تمامًا في منطقة كبيرة
بنتوء
قبيح مفصص (lobulated)
من تلك المادة الصُّلبة الرَّمادية الكثيفة التي شقت طريقها عبر الكُلْية وصولًا إلى
السطح،
كما غزت الطبقة الدهنية المتاخمة لها، وجذبت جميع الأنسجة المحيطة بها إليها، مما
يجعل
الكُل المسفوح يكوِّن كتلة مجعدة شوهاء واحدة من العدوانية المتحفزة. ومن بين جميع
الأمراض
التي يعالجونها، يحتفظ الجراحون للسرطان بتحديد خاص، وهو اعتبار أنه «العدو».
وما التركيب المرئي والغزو السرطاني سوى اثنتين فقط من تلك الصور العديدة لتمرُّده.
ومن
أكثر صور سوء السلوك السرطاني مخادَعةً، هي الطريقة التي يبدو أنه يخدع بها تلك الدفاعات
التي يحشدها الجسم عادةً ضد الأنسجة التي يتعرف عليها كأجسام غريبة عنه. فمن الوجهة
النظرية
على الأقل، يجب أن يتم التعرف على الخلايا التي أصبحت سرطانية، كخلايا غريبة أو «غيرية»
من
قِبَل الجهاز المناعي السليم، ثم يتم القضاء عليها، بطريقة تشبه كثيرًا تلك التي تتم
في
مواجهة الفيروسات. وفي الواقع إن ذلك يحدث بصورة محدودة فقط؛ فيعتقد بعض الباحثين
أن
أنسجتنا تقوم بصورة مستمرة بصناعة السرطانات، والتي يتم تدميرها بنفس الاستمرارية
بفعل
الآلية ذاتها. وبهذا تنمو الأورام الخبيثة سريريًّا في تلك الحالات النادرة التي يفشل
فيها
جهاز التحرِّي والاستقصاء. ويمكن أن نجد بعض الأمثلة الداعمة لمثل هذه النظرية في
انتشار
تعرُّض مرضى الإيدز لأورام مثل اللِّمفوم وساركومة «كابوزي». وعلى كل حال، يبلغ معدل
الإصابة بالأورام الخبيثة في الأفراد المصابين بالتقويض المناعي نحو مائتي ضعف لنظيره
في
مجموع السكان، أما بالنسبة لساركومة «كابوزي»، فيبلغ المعدل نحو ضعف نظيره للأورام
المعتادة. ومن أكثر المجالات تبشيرًا بالنجاح من بين السبل المعاصرة للبحث الطبي الأحيائي،
نجد دراسة مناعيات الأورام من منظور تقوية ردود فعل الجسم لمولدات الضد
(Antigens) التي قد ينتجها الورم السرطاني. وعلى الرغم
من أنه قد تم التوصل إلى بعض النتائج الواعدة، تستمر الخلايا المستهدفة
(target
cells)، في أغلب الأحيان، في التفوق على ذكاء العلماء.
وتتطلب الخلايا الطبيعية مزيجًا معقدًا من المواد الغذائية والعوامل المساعدة للنمو
من
أجل الاستمرار في تأدية وظيفتها والمحافظة على حيويتها. وفي جميع أنسجة الجسم، تبقى
الخلايا
مغمورة في عصير مغذٍّ واهب للحياة يسمى بالسائل خارج الخلايا (extracellular fluid)، والذي تتم
المحافظة عليه وتنظيفه بصورة متواصلة من خلال تبادل المواد مع الدم الدائر. وتمثل
مصورة
الدم (البلازما: plasma)، في واقع الأمر، نحو خُمس حجم
السائل خارج الخلايا؛ ويقع الجزء الأكبر من الأربعة أخماس المتبقية بين الخلايا، ويسمى
بالسائل الخلالي (interstitial). ويمثل السائل الخلالي نحو
١٥٪ من وزن الجسم؛ فإذا كان وزنك ١٥٠ رطلًا (نحو ٦٨ كجم)، فإن أنسجة جسمك تكون غارقة
في
اثنين وعشرين باينتًا (نحو ١٣٫٢ لترًا) من المواد المِلْحية. وقد أدخل عالم الفيزيولوجيا
الفرنسي كلود برنار (Bernard) اصطلاح البيئة الداخلية
(milieu
intérieur) لتسمية ووصف وظيفة تلك البيئة الداخلية التي
تعيش فيها الخلايا بداخلنا. وكأنما جلبت المجموعات الأولى من خلايا ما قبل التاريخ
معها —
عندما بدأت لأول مرة في تكوين كائنات حية معقدة في أعماق البحار التي تكتسب منها غذاءها
—
بعضًا من البحر في داخلها وحولها بحيث تستمر تغذيتها من خلاله. ومن بين الخصائص الفريدة
للأنسجة السرطانية، نجد اعتماديتها المحدودة على عوامل التغذية والنمو الموجودة في
السائل
خارج الخلايا. وتمكِّنها حاجتُها المحدودة لأن تعُولَها البيئة المحيطة بها، من أن
تنمو وأن
تغزو حتى تلك المناطق التي تتخطى حدود الخطوط المثلى للإمداد.
وبصرف النظر عن كون كلٍّ من الوحدات الخلوية تستطيع العيش بقدر أقل من المغذيات، فسرعان
ما تتراكم الزيادة العشوائية منتجةً عددًا هائلًا من الخلايا السرطانية، بحيث تزيد
احتياجات
المجموع عن أي قدر متوافر من الإمدادات الغذائية. ونتيجة لذلك، فكثيرًا ما تكتسب الكتلة
الكلية للورم طلبًا متزايدًا للتغذية، حتى بالرغم من أن كل خلية مفردة بداخلها تحتاج
لقدر
من التغذية أقل من المعدل الطبيعي. وإذا كان النمو سريعًا بما فيه الكفاية، سيصبح
الإمداد
الدموي بعد فترة غير كافٍ للمحافظة على المواد الغذائية المستهلكة، خصوصًا لأن الأوعية
الدموية الجديدة لا تظهر بالسرعة الكافية لملاحقة احتياجات الورم الكلي المتوسع.
ونتيجة ذلك هي أن قسمًا من الورم المتنامي قد يموت، حرفيًّا، بفعل سوء التغذية وعوز
الأكسجين. ولهذا السبب تميل الأورام السرطانية لأن تتقرح وأن تنزف، منتجةً في بعض
الأحيان
رسوبات غليظة كريهة الرائحة من الأنسجة المتنخرة (Necrotic:
من اليونانية nekrosis،
بمعنى «يصبح ميتًا») في داخل مركزها أو على الأطراف. وحتى أصبح استئصال الثدي
(Mastectomy)
عملية جراحية مألوفة، منذ أقل من قرن من الزمان، لم تكن أخطر مضاعفات سرطان الثدي
هي الموت،
بل تلك القروح المتعفنة النازَّة التي ينتجها أثناء التهامه للجدار الصدري للمرأة
المسكينة
المصابة بالمرض. وهذا هو بالتحديد ما كان يعنيه الأقدمون عندما كانوا يُعرِّفون السرطانة
(karkinoma)
بكونها ذلك «الموت النتِن».
وفي أواخر القرن الثامن عشر، تحدث جيوفاني مورجاني
(Morgagni)، وهو مؤلف أحد أهم الكتب التي كُتبت عن
التشريح المرضي (Pathological
Anatomy)، عن السرطان الذي شاهده في مرضاه وعند تشريح
جثثهم، قائلًا إنه «مرض قذر للغاية.» وحتى في أزمان حديثة نسبيًّا، عندما كان الكثير
قد تمت
معرفته بالفعل، فقد استمرت النظرة الموجهة للأورام الخبيثة بكونها مصادر كريهة للتقزز
الذاتي (self-loathing) والتحلل، أي كرجس مهين متخفٍّ وراء
الكنايات (euphemisms)
والأكاذيب. وكثيرة هي تلك القصص التي تُروى عن النساء اللاتي أُصبن بسرطان الثدي،
فانسحبن
من الأصدقاء، وعزلن أنفسهن في بيوتهن، وقضين الأشهر المتبقية في حياتهن منعزلات، حتى
عن
عائلاتهن في كثير من الأحيان. وخلال فترة تدرُّبي على الممارسة الطبية، منذ ما يزيد
قليلًا
على ثلاثين عامًا، رأيت قليلًا من أولئك النسوة اللاتي تم إقناعهن أخيرًا بالتوجه
إلى
العيادة نظرًا لأن حالتهن الصحية لم تعد محتملة. ومن بين الأسباب العديدة التي ما
زلنا
مترددين بسببها في النطق بكلمة السرطان في حضور مريض أو عائلة مبتلاة به، نجد التراث
المتبقي لارتباطاتها المقززة من أكثر الارتباطات صعوبة في نسيانها بالنسبة لجيلي.
وليس يكفي أن يتغلغل سرطان سريع النمو في أنسجة عضو صُلب مثل الكبد أو الكُلْية،
لكيلا
يبقى هناك نسيج كافٍ لتأدية وظائف ذلك العضو بفاعلية؛ وليس يكفي أنه قد يتسبب في انسداد
أحد
التراكيب الجوفاء مثل القناة المعوية، ويجعل التغذية المناسبة مستحيلة؛ وليس يكفي
أنه حتى
كتلة صغيرة منه تستطيع تدمير أحد المراكز الحيوية التي لا يمكن لوظائف الحياة الاستمرار
بدونها، كما تفعل بعض أورام الدماغ؛ وليس يكفي أنه يُحدث تآكلًا في أحد الأوعية الدموية
الصغيرة أو أن يتقرح بصورة كافية لكي يتسبب، تدريجيًّا، في إحداث فقر الدم الشديد،
كما يفعل
عند إصابته للمعدة أو القُولون؛ وليس يكفي أن تعوق كتلته ذاتها في بعض الأحيان تصريف
تلك
الإفرازات المشبعة بالجراثيم، مما يتسبب في حدوث الالتهاب الرئوي والقصور التنفسي،
وهما من
الأسباب الشائعة للوفَيَات في سرطان الرئة؛ وليس يكفي أن يمتلك الورم الخبيث طرقًا
متعددة
لحرمان عائله من الطعام وصولًا إلى سوء التغذية — فلا تزال بحوزة السرطان طرق أخرى
للقتل.
ولا تشير تلك الطرق التي ذكرناها للتو، على كل حال، لتلك العواقب المحتملة القتل —
لعدوان
الورم الأولي ذاته وحدها، بدون أن يترك ذلك العضو الذي نشأ فيه أولًا على الإطلاق،
وتلك هي
صنوف الدمار التي يلحقها السرطان بجيرته. لكنه يمتلك طريقة إضافية للقتل تنقله من
فئة المرض
الموضعي (Localized)، وتتيح له فرصة مهاجمة تشكيلة واسعة من
الأنسجة التي تبعد كثيرًا عن منبعه. وقد أعطيت تلك العملية اسم النَّقِيلية
(Metastasis).
ولفظة Meta اليونانية
هي حرف جر (preposition) بمعنى «وراء» أو «بعيدًا عن»،
بينما تعبر لفظة stasis عن «الموقع» أو «التوضُّع». وقد
استُخدمت اللفظة منذ كتابات عصر «أبوقراط» للتعبير عن نوع أو آخر من الحميات، ثم تم
تطبيق
لفظة metastasis فيما
بعد، للتعبير على وجه الخصوص عن انتقال أجزاء الأورام من مكان لآخر. وفي العصور الحديثة،
أصبحت تلك الكلمة الواحدة: النَّقِيلية (metastasis) تُستخدم للتعبير البلاغي عن الملامح
المحدِّدة للأورام الخبيثة؛ فالسرطان ورم يمتلك القدرة على تخطي موقعه الأصلي والارتحال
إلى
أحد الأماكن الأخرى. ومن وجهة النظر العملية، تعتبر النَّقِيلة استزراعًا لعينة من
الورم
الأولي في تركيب آخر أو حتى في موضع قاصٍ من الجسم.
وتُعتبر قدرة السرطان على تكوين النقائل علامته المميزة (hallmark)، بالإضافة إلى كونها أكثر
خواصه إنذارًا بالخطر. وإذا لم تتوافر للورم الخبيث القدرة على الارتحال، فسيكون بوسع
الجراحين استئصال جميع السرطانات، باستثناء تلك التي تصيب الأعضاء الحيوية للجسم،
والتي لا
يمكن إزالتها بدون تعريض الحياة للخطر. ومن أجل أن يرتحل الورم عن مكانه، يجب عليه
أن
يَبْري (erode) طريقه
عبر جدار أحد الأوعية الدموية أو القنوات اللمفاوية، قبل أن تنفصل بعض خلاياه وتنطلق
في
طريقها مع التيار المتدفق. وسواء كانت تلك الخلايا منفردة أو متجمعة في صورة صُمَّة
(Embolus)، فهي
تُحمَل بعد ذلك إلى أحد الأنسجة الأخرى، حيث تنزرع وتنمو. وبناء على سبيل جريان الدم
أو
اللِّمف، بالإضافة إلى عوامل أخرى غير محددة حتى الآن، تمتلك الأنواع المتنوعة من
السرطان
تفضيلًا (Predilection) لأن تترسب في أعضاء محددة بعينها.
ويميل سرطان الثدي، على سبيل المثال، لأن يترسب غالبًا في نخاع العظم (Bone
marrow)، والرئتين، والكبد، وبطبيعة الحال في العقد اللمفاوية الموجودة
في الإبط (Axilla). أما سرطان البروستاتا، فهو يرتحل غالبًا
إلى العظام. وفي الواقع إن العظام، بالإضافة إلى الكبد والكُلْيتين، هي أكثر المواضع
شيوعًا
للإصابة بالرسوبات النَّقِيلية، بصرف النظر عن ذلك العضو الذي نبع منه الورم الخبيث
الأولي.
ومن أجل أن تثبت الخلايا الورمية نفسها في تلك الأنسجة القاصية، فهي تحتاج لأن تكون
على
قدر من الصلابة بحيث تقاوم التدمير الذي قد تتعرض له خلال رحلتها الطويلة. وتضاعف
(complicate)
تلك الأخطار الميكانيكية البسيطة للارتحال عبر الدورة الدموية المختنقة، من احتمالية
قتل
تلك الخلايا بفعل الجهاز المناعي للعائل خلال سيرورة مرورها. وإذا بقيت على قيد الحياة
بعد
الرحلة، فلا بد للخلايا عندئذ أن تبتني لنفسها موطنًا جديدًا، وأن توفر لنفسها مصدرًا
مأمونًا لإمدادها بالغذاء. ويعني ذلك بداهةً أن النُّدفة المنزرعة من السرطان لا تستطيع
إنتاج مستعمرة حية على ذلك الشاطئ القاصي الذي بلغته لتوِّها، إلا إذا كان بوسعها
استحثاث
نمو أوعية دموية جديدة دقيقة الحجم من أجل توفير احتياجاتها.
ويصعب توفير جميع هذه المتطلبات، لدرجة أن أقل القليل من تلك الخلايا المهاجرة تتمكن
من
الاستعمار في إحدى المناطق البعيدة التي ترتحل إليها. وعند حقن الخلايا الورمية تجريبيًّا
في الفئران، لا يبقى منها على قيد الحياة بعد أربع وعشرين ساعة سوى جزء واحد من الألف؛
ويُقدر أن واحدة فقط من كل ١٠٠٠٠٠ خلية تدلِف إلى مجرى الدم تبقى على قيد الحياة حتى
تصل
إلى عضو جديد، كما أن جزءًا أقل من ذلك بكثير هو ما يتمكن من زرع نفسه بنجاح في تلك
الأعضاء. وإذا لم توجد مثل هذه المعوقات، فستظهر أعداد هائلة من النقائل بمجرد أن
يصبح
السرطان ضخمًا بصورة كافية لسفح أعداد كبيرة من الخلايا في الدوران الدموي.
ومن خلال القوتين التوءمتين للغزو الموضعي والنقائل البعيدة، يعوق السرطان بالتدريج
تأدية
وظائف أنسجة عديدة من الجسم. فتنسد الأعضاء الأنبوبية
(tubular)، وتُثبَّط العمليات الاستقلابية «الأيضية»،
وتتآكل جدر الأوعية الدموية بصورة كافية للتسبب في حدوث أنزفة بسيطة، وأحيانًا شديدة،
وتتحطم المراكز الحيوية في الدماغ، كما تصاب التوازنات الكيمياحيوية الدقيقة بالاضطراب.
وبمرور الوقت، يتم الوصول إلى نقطة لا يمكن بعدها الإبقاء على الحياة.
وبالإضافة إلى ذلك، فهناك طرق أقل مباشرة ينتهجها السرطان للفتك بأولئك الذين ينمو
فيهم
بدون معوقات، وهي عادةً ما ترجع إلى الوهن الشديد (debilitation)، وسوء التغذية، والقابلية للإصابة
بالعداوى، والتي تصاحب العملية السرطانية. وسوء التغذية الشديد مألوف لدرجة استحداث
مصطلح
خاص للتعبير عن آثاره المرضية: وهو الحَرَض السرطاني (Cancer
cachexia). واصطلاح Cachexia «الحَرَض»
مشتق من لفظتين يونانيتين بمعنى «الحالة السيئة»، وهو ما يصور بالتحديد ذلك الوضع
الذي يجد
فيه مرضى السرطان المتقدم أنفسهم. ويتصف الحرض بالضعف، وفقدان الشهية، وتبدلات استقلابية،
وذبول (نحول: wasting) في العضلات وغيرها من أنسجة
الجسم.
وفي الواقع إن الحَرَض السرطاني قد يوجد أحيانًا في أشخاص لا يزال مرضهم الخبيث مقتصرًا
على موضعه وصغير الحجم نسبيًّا، لذا فمن الواضح أن هناك أسبابًا مسببة له غير التهام
السرطان للموارد الغذائية لعائله. فبالرغم من أن الورم قادر على حرمان عائله من بعض
المواد
الغذائية الحيوية، فإن مفهوم التطفُّل (Parasitizing)، في
واقع الأمر، قد يكون طريقة مهوِّنة (simplistic) لاعتبار أسباب أكثر تعقيدًا بكثير لقدرته
على استنزاف الموارد. وأحيانًا تساهم التغيرات التي تحدث في إدراك التذوق، على سبيل
المثال،
بالإضافة إلى التأثيرات الموضعية للورم، مثل الانسداد ومشكلات البلع — في وجود مدخول
غذائي
غير كاف، وكذلك يفعل العلاج الكيميائي (Chemotherapy)
والعلاج بالأشعة السينية. وتكشف الدراسات العصبية التي أجريت على أشخاص مصابين بأورام
خبيثة، عن أنواع متباينة من الشذوذ في الاستفادة من الكربوهيدرات، والدهون، والبروتينات،
والتي لم يتم التوصل إلى أسبابها على وجه الدقة. وتبدو بعض الأورام قادرة حتى على
زيادة
استهلاك المريض من الطاقة، مما يزيد من عجز الجسم عن المحافظة على وزنه. ومما يزيد
الطين
بلة، اكتُشف أن بعض الأورام الخبيثة، وحتى بعض خلايا دم المريض البيضاء (وهي الوحيدات:
Monocytes)، تفرز مادة أُطلق عليها اسم ملائم لفعلها
وهي الحَرَضِين (الكاشكتين: Cachectin)، والتي تقلل من
الشهية للأكل من خلال تأثيرها المباشر على مركز الإطعام في الدماغ. وليس الكاشكتين
هو
العامل الوحيد الذي يؤدي نفس الفعل، فمن المحتمل أن تكون جميع أنواع الأورام قادرة
على
إفراز مواد متنوعة شبيهة بالهُرمونات، والتي تُحدث تأثيرات عامة على التغذية، والمناعة،
وغيرهما من الوظائف الحيوية للجسم، كانت تُعزى حتى وقت قريب للتأثيرات التطفلية للورم
نفسه.
ويسبب سوء التغذية آثارًا تفوق بكثير مجرد فقدان الوزن والإنهاك
(exhaustion). ويتكيف الجسم الصحيح على الامتناع العادي
عن الطعام باستغلال الدهون باعتبارها مصدره الرئيسي للطاقة، لكن هذه العملية تصبح
غير مؤثرة
في حالات السرطان، ونتيجة ذلك هي أن يتوجب استغلال البروتينات للحصول على الطاقة.
ولا يتسبب
ذلك، بالإضافة إلى نقص المدخول الغذائي، في نحول العضلات فحسب؛ بل يسهم انخفاض معدلات
البروتينات بالدم في سوء تأدية الأعضاء والمنظومات الإنزيمية (Enzyme
systems) لوظيفتها، كما يمكن أن يؤثر بصورة كبيرة على رد الفعل المناعي
للجسم. وتشير بعض الأدلة إلى أن واحدة من تلك المواد التي تفرزها الخلايا الورمية،
تزيد من
تقويض الجهاز المناعي. وبالرغم من أن ذلك قد يحفِّز، ولو من الوجهة النظرية على الأقل،
من
نمو الورم السرطاني، فإن ذلك التأثير غير المرغوب فيه يبدو أقل أهمية بكثير من حقيقة
أن
تثبيط الكفاءة المناعية (Immunocompetence)، خصوصًا عندما يتفاقم تحت تأثير
العلاج الكيميائي أو الإشعاعي، يزيد من قابلية الجسم للإصابة بالعدوى.
وكثيرًا ما يكون الالتهاب الرئوي والخراريج، بالإضافة إلى العَداوى البولية وغيرها،
هي
الأسباب المباشرة لوفاة مرضى السرطان، بينما يكون الإنتان «تسمُّم الدم» هو الحدث
النهائي
في حياة كل منهم. ولا يتيح الضعف المفرط ولا الحَرَض الشديد للمريض فرصة للسعال ولا
للتنفس
الفعال، مما يزيد من احتمال الإصابة بالالتهاب الرئوي واستنشاق القيء. وأحيانًا ما
تُصاحَب
الساعات الأخيرة في حياة المريض بتلك الأنفاس العميقة المخرخِرة (gurgling)، والتي تمثل أحد أنماط قرقعة
الموت (Death rattle)، والتي تختلف تمامًا عن ذلك النُّباح
النزاعي لأمثال «جيمس مكارتي».
وعند اقتراب النهاية، فكثيرًا ما يؤدي نقصان حجم الدم الدائر والسائل خارج الخلايا
لتناقص
تدريجي في الضغط الدموي. وحتى إذا لم يُفضِ ذلك إلى الصدمة (shock)، فقد يؤدي إلى فشل في وظيفة
الأعضاء مثل الكبد أو الكُلى نتيجة للعوز المزمن في الكَميات المناسبة من المغذيات
والأكسجين، بالرغم من أن تلك الأعضاء تكون غير مصابة بالورم مباشرة. وباعتبار كثير
من مرضى
السرطان يندرجون تحت المجموعات العمرية الأكبر سنًّا، فكثيرًا ما تتسبب الأنماط المتباينة
من الاستنزاف (Depletion) في حدوث السكتة الدماغية، أو
احتشاء عضلة القلب، أو القصور القلبي. وبطبيعة الحال، فإن وجود أحد الأمراض الاستقلابية
العامة، مثل الداء السكري، يساعد على تفاقم المشكلة بصورة هائلة.
وحتى الآن، لم نذكر سوى تلك السرطانات التي تبدأ كأورام مقتصرة أساسًا على عضو أو
نسيج
محدد بالجسم. لكن هناك مجموعة أصغر من الأمراض الخبيثة تتميز بتوزيع أكثر عمومية منذ
البداية، أو أنها تظهر في مواضع متعددة من نوع محدد من الأنسجة، وخصوصًا الجهازين
الدموي
واللِّمفي. وابيضاض الدم (اللوكيميا: Leukemia)، على سبيل
المثال، هو سرطان يصيب الأنسجة المسئولة عن إنتاج الخلايا الدموية البيضاء، كما أن
اللمفوم
(Lymphoma) هو ورم خبيث يحدث في الغدد اللمفاوية
والتراكيب المشابهة لها. ويتعرض المصابون بابيضاض الدم واللمفوم بصورة خاصة للإصابة
بالعدوى، ولذا فهو يُعتبر السبب الأساسي للوفَيَات في هذين المرضين الخبيثين. ومن
الأنماط
الشائعة للِّمفوم، نجد مرض هودجكن (Hodgkin’s
disease).
وليس بوسعي ذكر مرض هودجكن بدون لفت الانتباه لأحد الإنجازات الرائعة التي تمثل بطرق
عديدة تلك المنجزات الطبية الأحيائية التي تم التوصل إليها خلال الثلث الأخير من القرن
العشرين. فمنذ ثلاثين عامًا خلت، كان جميع ضحايا مرض هودجكن تقريبًا يموتون بسببه،
اللهم
إلا إذا فتك بهم مرض آخر أثناء تلك الفترة التي تمتد لسنوات طويلة بين بداية التشخيص
وبين
المرحلة الانتهائية للمرض. ومنذ ذلك الحين، ونتيجة لتحسُّن فهمنا للطريقة التي يوزع
بها
المرض نفسه في الغدد اللمفاوية، واستجابته للبرامج المناسبة من العلاج الكيميائي
والأشعة
السينية الفائقة الفولطية (supervoltage
X-rays)، فقد تم التوصل إلى معدل يقترب من ٧٠٪ للسنوات
الخمس من البقاء على قيد الحياة بدون الإصابة بالمرض بعد العلاج، والذي قد يرتفع إلى
٩٥٪
بالنسبة لأولئك المرضى الذين يُكتشف مرضهم عندما يكون انتشاره لا يزال محدودًا؛ كما
أن
معدلات الانتكاس بعد تلك المرحلة تكون متدنية وتزداد انخفاضًا مع مرور كل عام جديد.
ويُعتبر
مرض هودجكن، بالإضافة إلى جميع اللمفومات عمومًا، من أكثر أنواع السرطان قابلية
للشفاء.
وليست النظرة المستقبلية المتغيرة لمرضى اللمفومات سوى أحد الأمثلة الدالة على التقدم
الهائل الذي تم التوصل إليه في معالجة السرطان، ومن بين الأمثلة الأخرى، نجد ابيضاض
الدم في
الأطفال (Childhood leukemia). ويصاب أربعة من كل خمسة من
الأطفال المصابين بذلك المرض بنوع منه يُعرف بابيضاض الدم الأَرُومي اللمفي الحاد
(Acute Lymphoblastic Leukemia)، وقد كان ذلك النمط
مميتًا في جميع الحالات في السابق؛ أما اليوم، فتبلغ معدلات الفتور المتواصل لمدة
خمس سنوات
في ابيضاض الدم الأرومي اللمفي الحاد نحو ٦٠٪، كما يمكن شفاء معظم أولئك الصغار. وعلى
الرغم
من أنه لم يتم التوصل حتى الآن إلا إلى القليل من قصص النجاح الأخرى للحجم المطلق
لهذين
الاثنين، فإن الاتجاه العام في حملة معالجة السرطان لا يبرر سوى التفاؤل الحذر. ومن
بين
أسباب التغيرات الهائلة التي حدثت خلال العقود القليلة الماضية، نجد الأبحاث الأساسية،
والطرق الجديدة لتفسير الظواهر السريرية للمرض، والتطبيقات المبتكرة لعلم الأدوية
(الفارماكولوجيا) والعلوم الفيزيائية، بالإضافة إلى رغبة المرضى المستنيرين في الانخراط
ضمن
تجارِب واسعة النطاق للعلاجات الواعدة.
وخلال العام الذي ولدت فيه، وهو عام ١٩٣٠م، لم يكن يبقى على قيد الحياة لخمس سنين
سوى
واحد من بين كل خمسة مرضى يتم تشخيصهم. وبحلول عَقد الأربعينيات، كان المعدل قد وصل
إلى
واحد من بين كل أربعة مرضى. وقد بدأ الإحساس بقدرات العلوم الطبية الأحيائية الحديثة
خلال
عَقد الستينيات، عندما بلغت نسبة الناجين واحدًا من بين كل ثلاثة مرضى. أما في وقتنا
الحاضر، يعيش ٤٠٪ من جميع مرضى السرطان لأكثر من خمس سنوات بعد التشخيص؛ ومن خلال
الاعتبارات الإحصائية المدروسة لأولئك الذين يموتون بفعل سبب آخر لا عَلاقة له بالسرطان،
مثل أمراض القلب أو السكتة الدماغية، نجد أن نحو ٥٠٪ من المرضى يبقَون على قيد الحياة
لفترة
مماثلة على الأقل. ومن المعروف جيدًا أن أولئك الذين يبلغون علامة السنوات الخمس الخالية
من
المرض، يواجهون احتمالات متناقصة بصورة هائلة لانتكاس مرضهم الخبيث في نهاية الأمر.
وقد
تحقَّقت جميع أوجه ذلك التقدم تقريبًا، من خلال مزيج من التشخيص المبكر وتحسُّن أنماط
المعالجة كنتيجة لتلك العوامل التي سردناها في الفقرة السابقة. ويحمل تطور سبل العلاج
واحتمالية نجاح تلك المعالجات المبتكرة التي تظهر باستمرار ضد الأمراض المتقدمة، أملًا
جديدًا لمرضى اليوم بالسرطان. وأحيانًا ما يكون مثل هذا الأمل، بصورة عكسية — وأحيانا
مأسوية — هو الشيء نفسه الذي يؤدي لوقوع بعض المعضلات المشبعة بالخطأ، والتي يتوجب
مواجهتها
اليوم على المرضى وأطبائهم.
وتشتمل فترة عملي المهنية كطبيب ممارس على فترة بدأ فيها المجتمع العلمي يحس بتوقع
عقلاني
بأنه سيثبت أن الأمراض الخبيثة قابلة للمعالجة، وقد انبنى ذلك الإحساس على فهم البيولوجيا
الخلوية بدلًا من التبسيط المفرط بالجراحة، والذي استُخدم منذ القِدَم. ومع التعرف
على
الكثير مما يتعلق بالخلية السرطانية، استُحدثت طرق جديدة ومتزايدة الفاعلية لمواجهة
أوجه
تدميرها الجامحة. وباعتبار التفاؤل وليد النجاحات العلاجية، فقد ظهر غرور راسخ، والذي
أحيانًا ما يتخطى حدود العقلانية المنطقية، يتم التعبير عنه من خلال فلسفة أن العلاج
لا بد
من أن يستمر حتى يمكن إثبات عدم جدواه، أو على الأقل حتى يثبت ذلك بصورة تُرضي الطبيب
المعالج.
لكن حدود عدم الجدوى الطبية (
Medical
futility)، على كل حال، لم تُحدَّد بصورة واضحة على
الإطلاق، كما يمكن أن نتمادى إلى القول بأن ذلك لن يتم تحديده أبدًا. وربما لذلك السبب
ظهر
بين الأطباء اقتناع راسخ — أو أكثر من مجرد اقتناع، فكثير منهم يعتبره الآن مسئولية
— بأنه
إذا حدث خطأ في علاج المريض، فلا بد أن يحدث ذلك في جانب زيادة الفعل، لا نقصه. ومن
المرجَّح أن يخدم فعل المزيد حاجات الطبيب بدلًا من حاجات المريض. فكثيرًا ما يدفع
النجاح
ذاته الذي تحققه معالجاته الباطنية،
١ بالطبيب للاعتقاد بمقدرته على فعل ما يتجاوز قدراته، وعلى إنقاذ أولئك الذين،
لو تُركوا لحكمهم الشخصي بعيدًا عن أية مؤثرات، سيختارون ألا يتعرضوا لإنقاذه.