الفصل الحادي عشر

الأمل ومريض السرطان

لا يتعلم الطبيب الشاب درسًا يزيد أهمية عن تلك النصيحة التي تخبره بألا يسمح لمريضه بأن يفقد الأمل على الإطلاق، حتى ولو كان من الواضح أنه في طور الاحتضار. ومن مضامين تلك الموعظة التي تتردد كثيرًا، استنباط أن المصدر الذي يستمد منه المريض الأمل هو الطبيب ذاته، وما يطلبه من مصادر أخرى؛ وبذلك فلا يملك سوى الطبيب قوة منح الأمل، أو إمساكه، أو حتى سلبه. وهناك قدر كبير من الحقيقة في ذلك الافتراض، لكنه ليس كل شيء. فما يتخطى حدود المؤسسة الطبية — وما يتخطى حدود حتى قدرات طبيب المرء الخاص، مهما كانت درجة تلطُّفه — هي تلك القوة التي تنتمي بحق للمريض ومن يحبونه. وسأكتب في هذا الفصل والتالي له، عن أناس في المرحلة النهائية من السرطان، وعن بعض أنماط الأمل الخاصة بهم، وكيف رأيت حالتهم الصحية وهي تتحسن، أو تزداد سوءًا، وأحيانًا كانوا يتحطمون كلية.

والأمل كلمة صعبة الفهم (Abstract). وفي الواقع إنها أكثر من مجرد كلمة؛ فالأمل مفهوم غامض المعنى (Abstruse)، فهو يعني بالنسبة لكلٍّ منا أشياء مختلفة خلال الأوقات والظروف المختلفة التي تمر بها حياة كلٍّ منا. وحتى السياسيون يدركون سيطرته على الذهن البشري، وعلى أذهان الناخبين.
وعند تصفحي لنسختي من قاموس وبستر غير المختصر (Webster’s unabridged)، وجدت خمسة تفسيرات منفصلة لمعنى اسم (noun) الأمل (hope)، وذلك باستثناء المرادفات. وتتراوح المعاني المذكورة بين «الحد الأقصى للتوقعات المعقولة»، وبين التوقعات التي هي «ضئيلة على الأقل». وتجد عند مدخول آخر مثالًا لاستخدام الأمل كفعل لازم (غير متعدٍّ: Intransitive verb)، وهنا قد يقع لب الموضوع بالنسبة للكثير من المرضى الذين يعالجون السرطان في مراحله النهائية: «أن تأمل ضد الأمل»، والذي وصفه واضعو المعجم بكونه «التمسك بالأمل بالرغم من أنه يبدو دون أساس من الواقع.» وليس للطبيب التزام أعظم من التيقن من أنه ليس هناك أمل بدون أساس من الواقع، ما دام قد أعطى مريضه أسبابًا تدعوه للإيمان به.
وعند استشارة قاموس أكسفورد للُّغة الإنجليزية (Oxford English Dictionary)، لن تجد أقل من ستين مثالًا لتوضيح الاستخدامات المتنوعة لذلك الاسم. وفي الواقع إن الأمل ينبع سرمديًّا، إن لم يكن في الصدر البشري، فعلى الأقل في الغريزة البشرية، من أجل إيجاد كلمة تعني «ما اخترتها من أجل أن تعنيه تمامًا، لا أكثر ولا أقل» كما أعلنها «لأليس» باحتقار «هَمْتي دَمْتي»١ وربما كان أفضل تعبير عن المعاني التي يحملها الأمل، هو ما كتبه صامويل جونسون — وهو أعظم حجج بريطانيا في معاني الكلمات — حيث قال: «إن الأمل في حد ذاته، هو نوع فريد من السعادة، وربما كان ذلك هو السعادة الرئيسية التي يقدمها هذا العالم.»
وتحتفظ جميع تعريفات الأمل بشيء مشترك وحيد: فهي تتناول توقُّع خير لم يحدث بعد، وهو إدراك لحالة مستقبلية سيتم خلالها تحقيق هدف مرجوٍّ. وفي مقطع شديد التبصر من كتابه المُعَنون «طبيعة العذاب» (The Nature of Suffering)، كتب عالم الإنسانيات الطبية (Medical humanist)، إريك كاسل (Cassell)، بحساسية شديدة عن معنى الأمل خلال فترات الإصابة بأمراض خطيرة: «ينتج الحزن الشديد عن فقدان ذلك المستقبل؛ أي مستقبل الشخص المنفرد، ومستقبل الأطفال، ومستقبل الأحباب. ويوجد الأمل ضمن ذلك البُعد (dimension) من الوجود. ويُعَد الأمل من المتطلبات الضرورية للحياة الناجحة.»

ويمكنني أن أجادل بأنه من بين الأنواع العديدة للأمل التي يمكن للطبيب أن يساعد مريضه في العثور عليها قُرب نهاية حياته، نجد أن ذلك النوع الذي يضم بقية الأنواع الأخرى مجتمعة، هو الاعتقاد بأنه يمكن تحقيق نصر نهائي، يقهر وعده ذلك القُرب من العذاب والأسى. وفي كثير من الأحيان يُسيء الأطباء فهم مكونات الأمل، باعتقادهم أن ذلك يشير فقط للشفاء أو لفتور المرض. وهم يشعرون بأنه من الضروري أن ينقلوا إلى المريض الذي أقعده السرطان، بالاستنباط إن لم يكن بالتقرير الفعلي، تلك الرسالة الخاطئة بأنه لا يزال بالإمكان الحصول على أشهر أو سنوات من الحياة الخالية من الأعراض المرضية. وعندما يُسأل طبيب تامُّ الأمانة واللطف، فيما عدا ذلك، عن سبب إقدامه على ذلك، فمن المرجَّح أن تكون إجابته ضربًا من القول بأن ذلك «لأنني لا أريد أن أسلبه أمله الوحيد.» ويتم ذلك مع وجود أفضل النوايا الحسنة، لكن الجحيم الذي عبَّدَت تلك النوايا الحسنة الطريق المؤدية إليه، يصبح في كثير من الأحيان جحيم العذاب الذي يجب على الشخص المغرَّر به أن يقطعه، قبل أن يستسلم للموت المحتوم.

وأحيانًا ما يُغري الطبيب نفسه من أجل أن يحافظ حقيقةً على أمله هو، باعتماد خطة عمل تبدو احتمالات نجاحها أقل بكثير من أن تبرر الشروع في تنفيذها. فبدلًا من البحث عن طرق لمساعدة مريضه على مواجهة واقع أن حياته لا بد أن تنتهي سريعًا، يشغل الطبيب مريضًا شديد الاعتلال، كما يشغل نفسه، بنوع من «فعل شيءٍ ما» طبي، من أجل إنكار الحضور الوشيك للوفاة. وتمثل تلك واحدة من الطرق التي تُظهر بها مهنته ذلك الرفض الحالي للمجتمع بأسره للاعتراف بوجود سطوة الموت، وربما لإنكار حتى وجود الموت ذاته. وفي تلك الأحوال، يعمِد الطبيب عادةً إلى فعل تأجيلي عقيم، يستغل ما أسماه واحد من كبار أطباء الجيل السابق، وهو الدكتور وليام بين (Bean) من جامعة أيوا: «تلك الأجهزة المشغولة للطب العلمي، والتي تحتفظ بالظل غير محدد المعالم للحياة متراقصًا، عندما يكون الأمل قد فُقد كلية. وقد يؤدي ذلك إلى اعتماد أكثر المحاولات مبالغة وسخافة من تلك التي تهدف للإبقاء على وجود بعض الآثار الدالة على وجود الحياة، بينما الموت النهائي والكامل محبط أو ممتنع الحدوث لفترة مؤقتة فقط.»
ولم يكن الدكتور بين يعني هنا مجرد أجهزة التنفس الصناعي (respirators) وغيرها من أجهزة المحافظة على الحياة اصطناعيًّا، بل للمدى الكلي للحيل التي نحاول من خلالها أن نشيح بأعيننا بعيدًا عن حقيقة أن الطبيعة تنتصر في النهاية دائمًا. وهذا هو الأمل الذي لا سند له من الواقع، والذي ينافي التوقعات، وقد كان ذلك «الأمل ضد الأمل» هو ما استسلمت له منذ سنوات قلائل، عندما تم تشخيص شقيقي الوحيد للإصابة بسرطان الأمعاء واسع النقائل.

كان هارفي نولاند رجلًا صحيح البدن في الثانية والستين من عمره، وأحيانًا كان يزور عيادة الطبيب عندما كانت تقلقه شكوى مرضية بعينها، ولكنه — فيما عدا ذلك — لم يكن يميل للخضوع للفحوصات الطبية. كان يحمل من عشرة إلى خمسة عشر رطلًا إضافيًّا فوق هيكله المكتنز، لكنه كان بالكاد يُعتبر بدينًا. كان عمله كشريك تنفيذي في إحدى شركات المحاسبة الكبرى في نيويورك مصدرًا عظيمًا لسروره ورضاه، بالرغم من أنه كان يتطلب ساعات عمل طويلة ومسئولية جسيمة، ومع ذلك، فلم يكن العمل هو مركز حياة شقيقي. كانت سعادة هارفي تُستثمر في أسرته. وهو لم يتزوج حتى بلغ نهاية العَقد الرابع من عمره، ولم يصبح أبًا إلا بعد أن تخطى سن الأربعين. وربما كان ذلك — بالإضافة إلى الطبيعة المضطربة لحياة كلٍّ منا أثناء نضوجنا أنا وهو — هو سبب كون قُرب أفراد أسرته من بعضهم البعض أصبح أهم حقيقة في حياته تقريبًا كما لو كان ذلك مقدسًا لكونه أتى إليه كنعمة متأخرة.

وفي ذات صباح من شهر نوفمبر من عام ١٩٨٩م، اتصل بي هارفي عبر الهاتف ليخبرني بأنه كان يعاني من اضطرابات وآلام هضمية منذ أسابيع عدة، وأن طبيبه قد اكتشف في الأمسية السابقة وجود ورم في الجانب الأيمن من بطنه. وكان من المقرر أن تُجرى له صورٌ بالأشعة السينية في وقت لاحق من ذلك اليوم، وذلك للتيقن من التشخيص، ولذلك أراد أن يحيطني علمًا بما كان يجري. حاول أن يتحدث معي بطريقة الأمر الواقع، لكننا مررنا بالكثير معًا بحيث لم يكن بوسعه أن يخدعني. كما أنه لم ينخدع بتلك الكلمات المطمئنة التي تمكنت من النطق بها. فحتى ذلك الذي كان من أكثر الرجال سذاجة، لم يكن بالإمكان إخراجه من قلقه بالحديث المعسول. كان الواحد منا يستشف ما في مخيلة الآخر، كما يفعل الأشقاء عادة، لكنني الوحيد — منا — الذي عرَفت بالتحديد قدر السوء الذي قد ينطوي عليه مثل هذا التشخيص. كان وجود كتلة مؤلمة في رجل في الثانية والستين من العمر، مع وجود مشكلات هضمية وتاريخ عائلي للإصابة بسرطان الأمعاء، سيثبت بصورة شبه مؤكدة أنه ورم خبيث يسد الأمعاء جزئيًّا، وأنه من المرجَّح أن يكون مثل هذا السرطان قد بلغ من التقدم مرحلة تستحيل فيها المعالجة الفعالة.

أكَّدت الأشعة السينية صدق مخاوفي، فتم إدخال هارفي إلى مستشفى جامعي كبير. اختار ذلك المركز الطبي لأن عمله كان قد أتاح له فرصة التعامل مع أحد كبار أعضاء قسم الجهاز الهضمي هناك. وكان الجرَّاح الذي رشحته بعيدًا عن المستشفى لحضور مؤتمر طبي، كما بدا أن الاكتمال الوشيك لانسداد الأمعاء يحتم التدخل الجراحي الفوري. وعلى ذلك، أجرى العملية الجراحية رجل غير معروف شخصيًّا بالنسبة لي، لكن طبيب الجهاز الهضمي المعالج كان أثنى على براعته كثيرًا. وُجد أن هارفي مصاب بسرطان شديد الضخامة في الأمعاء، والذي غزا الأنسجة المحيطة بالقسم الأيمن من القُولون، بالإضافة إلى جميع العقد اللمفاوية التي تصرِّفه تقريبًا. كان الورم قد رسَّب كتلًا منه في العديد من الأسطح والأنسجة داخل التجويف البطني، كما أصاب بالنقائل ستة مواضع على الأقل في الكبد، كما أغرق ساحة جريمته كلها في ملء البطن من السائل المشبع بالخلايا السرطانية، فلم يكن من الممكن أن تكون الموجودات أسوأ من ذلك على الإطلاق.

وبطريقةٍ ما، تمكَّن فريق الجراحين من إزالة ذلك الجزء من الأمعاء الذي نشأ فيه الورم أولًا، وبذلك أمكن تخطي الانسداد المعوي الذي كان يعاني منه هارفي. لكنه كان من المحتم أن تُترك بقية الكتل السرطانية في أماكنها، في كثير من الأنسجة وفي الكبد. وما إن تماثل هارفي للشفاء من آثار العملية الجراحية، حتى كان عليَّ تناول موضوعين توءمين هما الصدق والمعالجة. كان عليَّ أن أتخذ القرارات بنفسي، وذلك لأنه كان من الواضح أن شقيقي سينفِّذ ما أشير به عليه، لكن كيف يمكن لي أن أكون موضوعيًّا في محاولة اتخاذ الأحكام السريرية على من يجري في عروقه دمي؟ ومع ذلك، فلم أستطع تجاهل مسئولياتي بالتحجج بعاطفية الأخ الأصغر الذي عرَف أن أول أصدقاء طفولته بسبيله للموت. كان فِعل ذلك بمثابة نوع من التخلي، ليس عن هارفي وحده، بل وأيضًا عن زوجته لوريتا، وابنيهما اللذَين بلغا عمر الدراسة الجامعية.

لم يكن هناك أي احتمال بوجود توجيه، أو حتى فهم، من قِبَل أطباء هارفي، والذين كانوا في ذلك الحين قد أظهروا أنهم لامبالون بصورة غير قابلة للتأثر، إضافة إلى كونهم متقوقعين على أنفسهم. بدا أولئك بعيدين تمامًا عن حقيقة مشاعرهم الشخصية، ناهيك عن الإحساس بأيٍّ من مشاعرنا نحن. وعندما كنت أراهم يخطِرون بتصنُّع للأهمية من غرفة لأخرى خلال جولاتهم المتعجلة على المرضى، كنت أحس داخل نفسي بشعور أشبه ما يكون بالامتنان لتلك المآسي التي مررت بها في حياتي، والتي جعلتني مختلفًا عنهم. أقنعتني عقود من مراقبة الاختصاصيين الجامعيين رفيعي التدريب، والذين هم زملائي، بحساسية الغالبية وبانعزالية الأقلية النسبية منهم. وفي هذا الموقع، تبدو القلة القليلة مسئولة عن إعداد مسرح الأحداث.

ولوجود ذلك الحِمل فوق كتفيَّ، اقترفت سلسلة من الأخطاء. لكن كوني ارتكبتها مع وجود ما كان يبدو كأفضل النوايا الحسنة، لا يلطف من حدة ما أشعر به حيالها عند التذكر. وأصبحت مقتنعًا بأن إخبار شقيقي بالحقيقة المطلقة «سيسلبه أمله الوحيد.» ومع ذلك، فقد فعلت الشيء نفسه الذي حذَّرت الآخرين من فعله.

كانت عينا هارفي شديدتي الزرقة. وكذلك عيناي وأعين جميع أبنائي الأربعة. وعيوننا الزرقاء تلك، هي ميراثنا من والدتي. وفي كل مرة كنت أزور فيها شقيقي خلال الأسبوع الأول من تلك الأسابيع الطويلة الثلاثة التالية للعملية الجراحية والتي قضاها في المستشفى، كانت حدقتا عينيه متضيقتين إلى حجم رأس الدبوس (pin point) بفعل المورفين وغيره من العقاقير المنومة، والتي فرضها ذلك الألم الذي لا يلين والناتج عن البَضع الجراحي الذي امتد من حواف الضلوع إلى منطقة العانة (ribs-to pubis incision). وبالرغم من أنه كان مصابًا بقصر النظر الشديد، فإنه نادرًا ما كان يضع نظاراته في ذلك الوقت، ورأيت في تلك العينين بلونهما الأزرق الرائع، نظرة لم أرَها في عينيه منذ كنا طفلين نلعب «البيسبول» في حي برونكس، خلال تلك الساعات القليلة من الراحة التي كنا نحصل عليها قبل توجهنا لعملنا بعد انتهاء الدوام المدرسي. أعاد المرض لهارفي، بصورةٍ ما، تلك البراءة القديمة التي كان عليها في أوائل سني مراهقته، بالإضافة إلى ثقته. بدا كمن عاد إلى صباه مجددًا، أي ذلك الأخ الأكبر الذي طالما لجأت إليه طلبًا للمشورة والمساعدة. أما أنا، وأنا في عنفوان صحتي، فبقيت رجلًا ناضجًا كما أنا. وعزمت خلال تلك الأيام التالية للعملية، على أن أتولى حماية شقيقي من الكَرْب الذي يتعذب به من يدركون أن لا أمل في الشفاء. وبنظرة استرجاعية، أدركت الآن أنني كنت أحاول أن أحمي نفسي أيضًا.
ولست على علم بوجود أي نوع من العلاج الكيميائي، أو المناعي، يمكنه أن يوقف مسيرة السرطان المتقدم. وفي مدينة نيو هافن «ناقشت الحالة» (وهي كناية عما قمت به بالفعل، وهو مسح أدمغة علماء الأورام خلال بحثي عن معجزة) مع الزملاء. وحاولت في أحيان كثيرة أن أناقش الأمر مع أطباء هارفي، وهو ما وجدت أنه اختبار في تحمُّل الإحباط ودرس في العجرفة الطبية. وقد سمعت عن علاج تجريبي جديد يستغل مزيجًا غريبًا من عقَّارين اثنين بطريقة لم تُستخدم من قبل. ويثبط العقَّار الأول — وهو ٥-فلورويوراسيل (5-fluorouracil) — تلك العمليات الاستقلابية الخاصة بالخلايا السرطانية. أما الثاني — وهو الإنترفيرون (Interferon) — فهو يُظهر وجود خواص مضادة للأورام بطرق لم يتم فهمها تمامًا حتى الآن. قلل برنامج العلاج بهذين العقَّارين من حجم كتلة الورم في أحد عشر من بين تسعة عشر مريضًا، وهم يمثلون المجموعة الوحيدة، من أي حجم كانت، والتي أُخضعت لهذا العلاج الجديد الذي لم يحقق الشفاء في أي من أولئك المرضى. وعانت تلك المجموعة الصغيرة من المرضى المعالَجين، من تشكيلة من الآثار الجانبية الكبرى، كما كانت هناك وفاة ناتجة عن ذلك العلاج الكيميائي.

بحثت في مستشفى هارفي عن ذلك الطبيب الذي يتمتع بالخبرة في ذلك العلاج التركيبي. وتركت لغرائزي كأخ أن تقهر حكمي كجرَّاح قضى حياته المهنية في معالجة المصابين بذلك المرض المميت. ولكن ما الذي أقنعني بأن مصادفة طبية فريدة قد حدثت بصورة ما، من أجل حلٍّ ما، كان ذهني المنطقي يعلم بأنه غير قابل للحل؟ هل فكَّرت حقيقةً في أن هناك شفاءً محتملًا، أو حتى علاجًا تلطيفيًّا معقولًا، ظهر بصورة سحرية في نفس تلك اللحظة التي اكتُشف فيها أن شقيقي مصاب بسرطان كنت أعرف أنه يتخطى الحدود القصوى لأي علاج كان؟ وعند التفكر فيما حدث، أجد أنني لست على يقين مما اعتقدت بوجوده وقتها. ويبدو أنني كنت مدفوعًا فقط بعجزي عن أن أخبر هارفي بحقيقة مستقبلية مرضه.

لم أقوَ على مواجهة شقيقي، والنطق بتلك الكلمات التي توجَّب أن تقال؛ فلم أستطع تحمُّل ذلك الحِمل الوشيك بإيذائه، ولذلك استبدلت احتمال الراحة التي قد تصاحب الوفاة غير المتوقعة، بذلك «الأمل» الذي يساء فهمه، والذي اعتقدت بأني أمنحه له.

نظرت إلى هاتين العينين الصبيانيتين الواثقتين الزرقاوين، فرأيت شقيقي يسألني الخلاص. كنت أعرف أنني غير قادر على توفير ذلك الخلاص، لكنني كنت أعلم أيضًا أنني لن أستطيع أن أدفع نفسي لحرمانه من ذلك الأمل الذي كنت أشعر أحيانًا باحتمال تحقيقه. تحدثت معه عن السرطان الذي أصاب قُولونه، وعن النقائل التي أصابت الكبد، لكني اخترت ألا أكشف له عن المدى الذي بلغته الرسوبات السرطانية في أجزاء الجسم الأخرى، ولا عن أهمية ذلك السائل. ولم أفكر في أي وقت من الأوقات أن أُشركه فيما كنت أعرف أنه المستقبلية المؤكدة تقريبًا بأنه لن يبقى على قيد الحياة حتى الصيف المقبل. وبكل الصور الممكنة، رجعت إلى تلك الحكمة الأبوية (Paternalistic) المُساء فهمها لأولئك الأساتذة الجامعيين الذين علَّموني منذ جيل مضى، والتي تقول: «شارك الآخرين في أوجه تفاؤلك، واحتفظ بأوجه تشاؤمك لنفسك.»
وخلال كل ما ذكرته، كنت أتناول دلائلي من عينَي هارفي ومن كلماته. ولا يمكن لأي طبيب عالج مرضى السرطان أن يُغفل على الإطلاق تلك القوة التي للآلية اللاشعورية التي نسميها بالإنكار (Denial)، والتي تمثل كلًّا من الصديق والعدو بالنسبة للشخص الشديد الاعتلال. ويحمي الإنكار في الحين الذي يعوق فيه، كما يلطِّف للحظةٍ ما يجعله أكثر صعوبة في النهاية. وبقدر ما أثمِّن محاولة الدكتورة إليزابيث كوبلر روس (Kuebler-Ross) لتصنيف سلسلة متتابعة من ردود الفعل تجاه التشخيص بالإصابة بمرض مميت، فكل طبيب متمرس يعرف جيدًا أن بعض المرضى لا يزيد على الإطلاق، صراحة على الأقل، عن حدود الإنكار، بينما يحتفظ كثيرون غيرهم بجزء كبير منه حتى النهاية، على الرغم من جميع الجهود التي قد يبذلها الطبيب في تفسير كل قضية في وقت ظهورها. وكثيرًا ما يتم إنكار تلك التفسيرات ذاتها، والتي تتناول قوة تأثير الإنكار. كان هارفي نولاند يمتلك عقلًا رفيع الطراز، وأذنين مرهفتَي السمع، ناهيك عن تلك البصيرة الثاقبة، والتي يتشارك فيها مع أولئك الذين اعتادوا على مواجهة الأزمات. ومع ذلك، كان عليَّ — مرارًا وتكرارًا — أن أعود للوراء بفعل حجم إنكاره، حتى قرب أيامه الأخيرة. كان هناك شيءٌ ما بداخله يرفض تصديق الأدلة التي تقوم حواسه بتجميعها. فقد أخمد صخب أمله في أن يعيش، توسلات أمله في أن يعرف.

ويُعَد الإنكار واحدًا من عاملين يتسببان بصورة هائلة في تعقيد نوايانا الحسنة، عندما نحاول — كأطباء أو كأحباء لشخص محتضَر — أن نعتبره مشاركًا كاملًا في الخيارات التي يتوجب اتخاذها خلال الأيام المتبقية. والقليل فقط من المحتضَرين، ممن يتمتعون بفهم واضح لحتمية العملية المرضية لديهم، لديهم الاستعداد لمغالبة تلك المحاولات البطولية والمُوهِنة لمحاربة نهاية تبدو وشيكة. ومع ذلك، «فالفهم الواضح لحتمية العملية المرضية لديهم»، والذي يغرقه التعليل والمنطق أحيانًا، بالإضافة إلى الإنكار الذي هو من العوامل الكبرى التي تعوق الطريق. والإنكار، على سبيل المثال، هو من العوامل المؤثرة في حدوث تلك التكرارية المدهشة التي يرفض بها المحتضَرون مواجهة اقتراب الظروف التي كانوا يتوقعونها عندما وقَّعوا، أثناء تمتعهم بالصحة، على توجيهات مسبقة تحظر إجراء المحاولات الكبرى للإنعاش. أما في وقت الأزمات الفعلية، فلن تجد من يريد لحياته أن تنتهي، ومن الطرق الجيدة التي يتجنبه بها العقل الواعي، هي أن ينكر العقل الباطن وجود ما يوشك أن يقع.

أما العائق الآخر في مواجهة المشاركة الكاملة، فهو رفض كثير من المرضى لممارسة حقهم في الفكر المستقل وتحديد المصير الذاتي. وبكلمات أخرى، للسيطرة على أنفسهم. استخدم المحلل النفسي والباحث القانوني، جاي كاتز (Katz)، اصطلاح الاستقلالية النفسية (Psychological Autonomy) للتعبير عن ذلك الحق في الاستقلالية. لكن كثيرًا من المرضى الذين هدَّتهم ويلات المرض أو قهرتهم ملابسات موقف مؤلم، سيكونون غير مستعدين أو غير قادرين عاطفيًّا، على الاستفادة من تلك الاستقلالية. فليس من السهل تناول الحاجة للرعاية والإعفاء من المسئوليات تحت مثل هذه الظروف، كما أنها قد تؤدي إلى اعتماد قرارات خاطئة. لكنه من الممكن تلطيف حدة المشكلة إذا تأمل فيها كلٌّ من المريض ومقدمي الرعاية الصحية معًا. وعندما يتم ذلك، فسيقرر الرجل المحتضَر أحيانًا أنه يريد المشاركة بصورة أكثر إيجابية مما كان يتصور من قبل. أما إذا لم يفعل ذلك، فيجب أن يُحترم ذلك أيضًا.

وفي محاولتي لفعل الشيء الصحيح بالنسبة لهارفي، أصبحت ما أرادني أن أكونه، فأشبعت بذلك الفعل كلًّا من خياله نحوي، وخيالي أنا أيضًا؛ بكوني ذلك الشقيق الطفل الذكي الذي توجه للدراسة في كلية الطب، والذي كبر ليكون ذلك العرَّاف الطبي الذي يعرف كل شيء، والذي يقدر على كل شيء. لم يكن بوسعي أن أحرمه من أمل كان يبدو أنه محتاج إليه. فتظاهرت بأني سأقود قوى الطب الحديثة لإنقاذه من على حافة الموت. وهذه هي الصورة الذاتية شبه الواعية الأكثر انتشارًا بالنسبة لجميع الأطباء، التي أقنعتني عينا شقيقي بالاستسلام لها. وإذا كنت أكثر حكمة، أو لو استشرت أولئك الزملاء غير المهتمين، والذين كانوا يعرفونني جيدًا، لكان من الممكن أن أدرك أن طريقتي في منح هارفي ذلك الأمل الذي طلبه، لم تكن مجرد خداع، بل — باعتبار ما كنا نعرفه وقتها عن سُمِّية تلك العقاقير الاختبارية — مصدرًا شبه مؤكد للألم الإضافي لكلٍّ منا.

استلزمت حالة هارفي الصحية إدخاله للمستشفى ثلاث مرات أخرى، خلال تلك الشهور العشرة التي بقي خلالها على قيد الحياة بعد العملية الجراحية. أُدخل المستشفى لمراقبة بداية العلاج الكيميائي. وعند اقتراب النهاية، كان عليه أن يعود إلى هناك عندما تسببت الرواسب السرطانية النامية في انسداد أمعائه مرة أخرى، بصورة كاملة في هذه المرة. انفك الانسداد تلقائيًّا، ليتيح له بالكاد تناول كَميات من السوائل بالفم كافية لتجنب العملية الجراحية، لكنها غير كافية حتى للمحافظة على حالته الغذائية السابقة، والتي كانت متدهورة أساسًا. وفي مثل صعوبة الفترة الأخيرة التي قضاها في المستشفى، كانت تلك الفترة السابقة لها، والتي تركت وراءها أقسى الذكريات.

كان ابن هارفي، سيث (Seth)، قد حصل على إجازة لمدة عام من دراسته للعمل في أحد الكيبوتزات٢ في إسرائيل، لكنه عاد من هناك ليصبح مقدم الرعاية الرئيسي لوالده، نظرًا لأن هارفي كان قد أصر على ألا تنقطع زوجته لوريتا عن عملها الصباحي في إحدى الكليات المجتمعية المحلية. اتصل بي سيث هاتفيًّا في مساء يوم الجمعة، ليخبرني بأن والده قد ظل ممدَّدًا على إحدى النقالات خارج غرفة الطوارئ بالمستشفى ليومين، وهو يعاني من آثار السُّمِّيات الدوائية الحادة، بينما كانت تعاوده حالة الغيبوبة بين الحين والآخر. وكان سيث، ووالدته لوريتا وشقيقته سارة، يتناوبون البقاء بجوار هارفي، على الرغم من أنه كثيرًا ما لم يكن مدركًا لوجودهم. ولم يكن هناك أي سرير شاغر في أيٍّ من أدوار المبنى بأسره. وكانت الآثار السامة للأدوية — في صورة غثيان، وإسهال، وتثبيط قدرة نخاع العظم لإنتاج كريات الدم البِيض — تمثل مشكلة منذ البداية، إلا إنها أصبحت في الآونة الأخيرة غير محكومة بصورة متزايدة. ومن الواضح أن الأمور أصبحت خارجة عن السيطرة في ذلك الوقت. كان الأستاذ الجامعي الذي هو طبيب الأورام المعالج لهارفي قد سافر بعيدًا لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، في الحين الذي بدا فيه زملاؤه المتدربون غير مهتمين، أو غير قادرين على فعل الكثير، اللهم فيما عدا الأمر بتركيب محلول للتنقيط الوريدي.
عندما وصلت إلى المستشفى في الصباح التالي، وجدت كل شبر في غرفة الطوارئ المكتظة مشغولًا. كان هناك سبع نقالات على الأقل، ازدحم بها الممر الضيق، ورقد فوقها عدد من أكثر الناس الذين رأيتهم اعتلالًا، منحشرين في منطقة واحدة صغيرة، وبدا أغلبهم مصابًا إما بالإيدز أو بسرطان في مراحله المتقدمة. وأثناء تلمُّسي لطريقي بعناية عبر المسافات الضيقة الموجودة بين المرضى وبين أفراد أسرهم وأصدقائهم القلقين، نظرت لأعلى فرأيت ابن أخي يقف مكتئبًا بقرب إحدى النقالات (gurney) التي كان أبوه الغائب عن الوعي راقدًا فوقها. وعند أقدام النقالة، كانت ابنة أخي جالسة، وقد حدَّبت ظهرها وهي تنظر إلى أرضية الغرفة. نظرت تجاهي وحاولت أن تحييني بابتسامة واهنة، لكن دموعها سبقتها فانهمرت على خديها.

وخلال تلك الأيام الثلاثة التي ظل هارفي خلالها يدلِف داخلًا وخارجًا من حالة الغيبوبة في ذلك الدهليز الصاخب في المستشفى، بينما كانت حرارته تتراوح بين ١٠٢ و١٠٤ درجات فَهرنهايت، وبالرغم من الجهود الشجاعة التي كانت تبذلها الممرضات المرهقات في محاولة منهن لتقديم حد أدنى من الرعاية على الأقل لكل شخص، وبالرغم من المساعدة التي قدمتها لهارفي زوجته وأبناؤه، فقد ظل لفترات زمنية طويلة غارقًا في ذلك الإسهال السائل الذي كان ينساب منه تلقائيًّا من حين لآخر، كرد فعل للتأثير المدمر للعقاقير على جهازه الهضمي. وحتى تلك الفترات التي كان فيها فاقدًا للوعي لم تكن صافية تمامًا، ولم يكن في أغلب الأحيان مدركًا لا للبيئة المحيطة به ولا لحالته الصحية.

تحدثت إلى الطبيبة المقيمة القلقة، والتي ظلت تنادي مكتب إدخال المرضى مرارًا وتكرارًا، محاولة أن تجد مكانًا لأكثر مرضاها اعتلالًا، فوافقت على القيام بمحاولة أخيرة، وشعرت بالسعادة لتلك الفرصة التي أُتيحت لي لاستخدام اتصالاتي الطبية في مساعدة واحد منهم على الأقل في الحصول على سرير حقيقي. ولا بد أنها كانت نوبة عمل مسجل (Clerk) سريع التأثر، لأن الخطة قد آتت ثمارها. ففي خلال ساعتين، كان هارفي موجودًا في الطابق العلوي، في أحد طوابق الرعاية. وأثناء دفعنا لنقالته نحو المصعد، اختلست نظرة أخيرة محملة بالشعور بالذنب باتجاه المسافة الواقعة بطول تلك التي أخليناها، حيث كان صبي منهك لا يزيد عمره كثيرًا عن ابن أخي يرقد بين الحياة والموت على نقالة مغطاة ببطانية. كان يتحدث برقة إلى صديقه المرتجف، وهو شاب آخر يقترب من الموت بفعل الإيدز.

دفع هارفي ثمنًا باهظًا في ذلك الوعد الذي لم يتحقق للأمل. منحتُه الفرصة لمحاولة تحقيق المستحيل، بالرغم من أنني كنت أعلم أن هذه المحاولة ستتم على حساب قدر هائل من العذاب. أما فيما يتعلق بشقيقي، فقد نسيت، أو على الأقل تناسيت، تلك الدروس التي تعلمتها من عقود من الخبرة العملية. وقبل ذلك بثلاثين سنة، عندما لم يكن قد بدأ استخدامُ العلاج الكيميائي، كان من المرجَّح أن يموت هارفي في نفس المدة تقريبًا التي تُوفِّي خلالها في النهاية، بنفس الهزال الشديد «الحَرَض»، والقصور الكبدي، واضطراب التوازن الكيميائي المزمن، لكن وفاته كان من الممكن أن تخلو من الدمار الإضافي الذي نتج عن المعالجات الفاشلة، وعن ذلك المفهوم الخادع «للأمل» — والذي كنت مترددًا في أن أسلبه وأسرته، بالإضافة إلى نفسي، إياه. وعندما كنت أوضح معدلات حدوث السُّمِّية الخطيرة لبعض أنواع العلاج اليائسة، والتي تُعتبر احتمالات نجاحها ضئيلة، اختار بعض مرضاي المصابين بسرطان متقدم، بحكمة، ألا يفعلوا شيئًا، ووجدوا أملهم بطرق أخرى.

وبحلول الوقت الذي تعافى فيه هارفي من تلك النوبة التي كادت تودي بحياته، بدأت النقائل التي أصابت كبده — والتي استجابت في البداية للعلاج الجديد بالانكماش بمعدل ٥٠٪ — في التضخم من جديد. ولهذا السبب، وباعتبار حقيقة أن المناطق الأخرى المصابة بالورم لم تتوقف عن النمو على الإطلاق، كان من الواضح أنه لم يعد هناك أي مبرر لاستمرار العلاج الكيميائي. لذا فقد عاد إلى بيته لكي يموت هناك.

وعند تلك النقطة، تم استدعاء جمعية الرباط٣ المحلية. كنت أحد أعضاء مجلس إدارة فرع جمعية الرباط لولاية كونكتيكت، واستفاد الكثير من مرضاي المصابين بالمراحل النهائية للسرطان من الرعاية التي يقدمها أولئك الأطباء والممرضات المتفانون. وهدف أولئك هو الراحة، ويتضمن مفهومهم للراحة شمولية (Totality) حياة كلٍّ من مرضاهم وأفراد أسرهم. بدأ أعضاء جمعية الرباط المحلية عملهم على الفور، فأوضحوا للوريتا كيف يمكنها تنظيم شئون بيتها بطرق تصل بالضيق الذي يمكن أن يحس به هارفي إلى الحد الأدنى. كما تم تدريب سيث على تقديم الأدوية المضادة للألم وللغثيان، كما تعلم بعض التقنيات المفيدة في مساعدة والده على التنقل داخل المنزل.

كان من الضروري حجزه في المستشفى مرة أخرى، عندما تسبب النمو المُطَّرِد للسرطان في انسداد أمعائه في النهاية. وبذلك أصبحت مناطق كثيرة من الأمعاء الدقيقة ملتصقة بتلك الكتلة الورمية المتنامية، لدرجة أصبحت الجراحة معها مستحيلة. وعندما بدا أن الموقف قد بلغ مداه، انفتحت الأمعاء تلقائيًّا بدرجة تسمح بالكاد لإعادة هارفي إلى المنزل. وفي هذه المرة، طلبتُ الجرَّاح الذي اخترته أول مرة ليتولى مسئولية الحالة، وسأظل مدينًا له على الدوام بسبب منحه لكلٍّ منا إحساسًا بالالتزام واللطف، بالإضافة إلى الحصافة.

وحتى مع الزيارات المتكررة لأفراد جمعية الرباط، والرعاية المتفانية التي كان يقدمها سيث، والذي أصبح وقتها رفيق هارفي الدائم، وممرضته أيضًا، ظل من الصعب السيطرة على الألم والضعف المتزايد اللذَين كان يعالجهما هارفي. ولم يسمح ضيق المسلك الهضمي بالاحتفاظ إلا بقدر ضئيل من التغذية؛ أما العلاج فكان يُعطَى عن طريق التحاميل (اللَّبوس: Suppositories). كان هارفي قد فقد بالفعل قدرًا كبيرًا من وزنه، لكن الحَرَض الذي أصابه كان الآن يزداد سوءًا بسرعة.

وعندما كنت أتوجه لزيارته، كنت أجلس مع هارفي على الأريكة، حيث يحاول كلٌّ منا أن يرفع من معنويات صاحبه. وفي مرات قليلة، عندما كنت أنفرد به لفترة وجيزة، كنا نتحدث عن لوريتا وعن الأولاد، وعن كيف ستسير الأمور بعد وفاته. وأحيانًا كنا لا نتحدث عن ذلك المستقبل الذي سيفقده، بل عن ذلك الماضي البعيد الذي كان يبدو كالأمس، عندما كنا صبيين في حي برونكس نتحدث إلى جدتنا باللغة الييدية. ولَّت تلك المضايقات التافهة والمشاجرات التي كانت تحدث من آن لآخر، عندما يتزوج شقيقان يتمتع كلٌّ منهما بشخصية قوية، وتسير حياة كلٍّ منهما في اتجاه مختلف. ومما أراحني خلال تلك الأسابيع الأخيرة، أنني ذكَّرت هارفي بالأوقات العصيبة العديدة التي مررت بها منذ عقود عدة، عندما كان هو الشخص الوحيد الذي كان يعرف كيف يساعدني. فقبل ذلك بأكثر من عشرين سنة، كنت قد هجرت كل ما يمتُّ لي في الحياة بصلة، وارتحلت إلى شاطئ كئيب بعيد، ولم أعُد من هناك إلا لعلمي أنه لم يشُك يومًا في أنني سأعود. ومهما كان التباعد الذي كان يقع بيننا أحيانًا، فلم يشُك أحدنا في محبة الآخر له، لكنه أصبح من المهم اليوم أن يُصرِّح بذلك كلٌّ منا. كنت أُقَبِّله في كل مرة كنت أغادر فيها إلى نيو هافن، وكانت المرة الأخيرة قبل يومين من نهاية معاناته الطويلة، بهدوء وهو يرقد على نفس الفراش الذي تَشاركه لسنوات طويلة مع زوجته لوريتا.

وخلال الأيام العديدة التي تلت مراسم الدفن، كنت أتوجه يوميًّا، مع سيث وسارة، لتلاوة الصلاة الجنائزية، القادش (Kaddish)، في الكنيس الذي توجهت إليه قبل أقل من سنتين لحضور حفل عشاء أقيم على شرف هارفي، بمناسبة انتهاء فترة عمله كرئيس للكنيس. كنت أحفظ كلمات الصلاة عن ظهر قلب، نظرًا لأنني كثيرًا ما احتجت إليها منذ ذلك الصباح البارد من شهر ديسمبر منذ ما يزيد على نصف القرن، عندما وقفت مع هارفي على حافة قبر والدتنا المفتوح، عندما ردَّدناها لأول مرة.
في هذا العصر الذي يتميز بالتقدم التقني في المجالات الطبية الأحيائية، وحيث يتراقص أمام أعيننا بصورة يومية ذلك الاحتمال المستفز لوجود معجزات علاجية، يصبح إغراء رؤية الأمل في العلاج عظيمًا، حتى في تلك المواقف التي تتطلَّب فيها الحصافة والمنطق عكس ذلك. وفي أحيان لا تحصى، يكون الاحتفاظ بذلك الأمل ضربًا من الخداع، والذي يثبت على المدى الطويل في أحيان أكثر كونه مضرَّة (Disservice)، بدلًا من ذلك النصر الواعد الذي كان يبدو عليه في البداية.

ولست أول من نادى بأننا نحتاج كمرضى، وكأفراد في أُسَر المرضى، وحتى كأطباء، أن نجد الأمل بطرق أخرى، أي بطرق أكثر واقعية من السعي وراء تلك المعالجات الخادعة والمحفوفة بالمخاطر. وفي رعاية الحالات المرضية المتقدمة، سواء كانت تلك سرطاناتٍ أو غيرَها من القتلة الراسخة العزم والثبات، يجب إعادة تعريف الأمل. وقد عرَّفني بعض من أشد مرضاي اعتلالًا، عن أنماط الأمل التي يمكن أن توجد عندما يكون الموت مؤكدًا. وبوُدِّي لو تمكنت من تقرير أنه كان هناك الكثير من مثل أولئك الأشخاص، لكنه كان هناك، في واقع الأمر، قليل منهم فقط. ويبدو أن كل واحد منا تقريبًا، يريد أن يحظى بفرصة من خلال تلك الإحصائيات الواهية التي يقدمها أطباء الأورام للمصابين بأمراض متقدمة. وهم عادةً ما يتعذبون من أجل ذلك، ويرقدون منهكين طوال أشهر حياتهم الأخيرة من أجله، لكنهم يموتون على أي حال، بعد أن تسببوا في تضخيم تلك الأحمال التي يتوجب عليهم، وعلى أحبائهم، أن يحملوها على أكتافهم نحو اللحظات الأخيرة. وبالرغم من أن أي إنسان قد يتوق إلى موت هادئ، فإن الغريزة الأساسية للبقاء على قيد الحياة تُعتبر قوة أشد تأثيرًا بكثير.

منذ نحو عشر سنوات، توليت رعاية رجل قاده يأسه وخوفه الشديد من العلاج إلى البحث عن الأمل بطرق أخرى غير الجهود الطبية. تخلى عن احتمال الشفاء وأصبح راضخًا لحتمية وفاته، أو على الأقل مصممًا على أنه إذا كانت هناك معجزات بسبيلها للحدوث، فستأتي من داخله هو، وليس من طبيب أورام متحمس.

كان روبرت دي ماتيس محاميًا وزعيمًا سياسيًّا في إحدى مدن كونكتيكت الصغيرة في التاسعة والأربعين من عمره، كما كان يرتعب من الأطباء. وقبل ذلك بأربع عشرة سنة، كنت قد عالجته من إصابات شديدة ألمَّت به نتيجة لحادث سيارة، وذُهلت من عدم قدرته، خلال فترة حجزه في المستشفى، على احتمال الضيق البسيط، أو حتى مجرد احتمال حدوثه. ولم يُخفِّف كون زوجته، كارولين، ممرضة — ولو ذرة — من القلق الذي كان يغمره بصورة واضحة لمجرد اقتراب شخص يرتدي معطف الأطباء الأبيض. أخبرتني كارولين ذات مرة بأنه اعتاد على أن يُصِر على أن تبدل زي عملها قبل أن تغادر المستشفى الذي تعمل به، لأن رؤية ذلك المعطف الأبيض في منزله سيصيبه بالرعب.

كان بوب من نوع الرجال الذين لا تُوجَّه إليهم الأوامر. بدا أنه فخور بعناده، ومن بين خصائص هذه الشخصية إهماله التام لصحته. ولم يكتفِ بإهمال صحته فحسب، بل وأهمل كل ما يتعلق بجسده، باستثناء شهيته الهائلة للطعام الجيد. وبالرغم من أن طوله كان خمسة أقدام وثماني بوصات (١٧٠ سم) فقد بلغ وزنه ٣٢٠ رطلًا (١٤٥ كجم). وبالنسبة لأفراد أسرته، ودائرة كبيرة من الأصدقاء، وأهالي البلدة الكثيرين الذين كانوا يلجئون إليه لحل مشاكلهم، كان ذلك الرجل الذي يبدو كارهًا للبشر، يُعَد رجلًا عطوف القلب أليف المعشر. ومع ذلك، كان للنظرة الأولى إليه تأثير مجبِر لخَوَر القلب. كان حادًّا في ولائه، كما كان في مشاجراته؛ فهو رجل اعتاد على الاحترام. نتج عن الطبيعة البشعة لصوته الحصيب (Gravelly) المنخفض النبرات، أن كانت حتى كلماته الرقيقة تبدو كهدير الرعد.
ولم يكن يبدو من مظهر بوب أنه كان من ذلك النوع الذي يمكن أن ترتعد فرائصه لمرأى شابة تحمل بيدها حقنة تحت-جلدية (Hypodermic). وكان يضحك من خوفه هذا، لكن ذلك كان أحيانًا يعوق تقديم الرعاية الطبية الملائمة له، كما منعني غير مرة، أثناء حجزه في المستشفى بعد تعرضه للحادث، من معالجة جروحه بطريقة صحيحة.
ومع وجود كل هذه الذكريات من سن الرابعة عشرة في الخلفية، فلم أشعر بالسعادة عندما اتصل بي طبيب بوب في إحدى الأمسيات من منتصف شهر مايو. تم حجز بوب في ذلك الصباح بعد أن تبرَّز كَمية كبيرة من الدم الطازج، وكان يُجرى له نقل الدم في جناح الأمراض الباطنية. وعندما رأيته، كان منظره يوحي بدليل مثير جعلني أظن أنه ظل ينزف كَميات ضئيلة من الدماء خلال الشهور القليلة الماضية، قبل أن يصيبه ذلك النزيف الحالي الحاد. قرر بأنه ظل يعاني من ألم بطني متزايد السوء تدريجيًّا منذ شهر فبراير. وقرر أيضًا وجود اختلاف طفيف، لكنه محدد، في رائحة برازه. ولم يتغير اللون، لكن الرائحة الجديدة كانت من الوضوح بحيث لا تخطئها الأنف، كانت ناتجة عن وجود الدم في البراز. وقبل شهر، عندما أفلحت كارولين في النهاية في حمله على زيارة طبيب الأمراض الباطنية، برغم تذمُّره طيلة الطريق إلى العيادة، أجريت له سلسلة من الصور الشعاعية، والتي أظهرت وجود تآكل سطحي في «الاثنا عشري» (Duodenum)، ولكن لم تكن هناك قرحة. وقد لُوحظ وجود بعض التغلظ في الصمام اللفائفي الأعوري (ileocecal valve)، وهو النقطة التي تدخل فيها الأمعاء الدقيقة إلى القُولون. وشعر بوب بالاطمئنان لأنه لم يُعثر على أي ورم.
توقف النزيف الحاد في غضون ساعات قلائل من حجز بوب في مستشفى جامعة ييل بمدينة نيو هافن، وكان من الممكن إجراء تقييم كامل لحالة جهازه الهضمي. تم تركيز الانتباه على القُولون، عوضًا عن القسم العلوي من القناة المعوية، نظرًا للتغلظ الفريد الذي ظهر في صور الأشعة السينية، بالإضافة إلى القليل من العلامات الجسدية. ولم تعترِنا الدهشة عندما لم يُظهِر التنظير الليفي الضوئي المعروف بمنظار القُولون (Colonoscope)، وجودَ تغلظ — بل ورم — عند الصمام اللفائفي الأعوري.

تفاعل بوب، كما كان متوقعًا، بصورة هستيرية، عندما علم بأنه سيحتاج إلى إجراء عملية جراحية رفض إجراءها بإصرار شديد. وعندما هدأ قليلًا، بدأ في التذمر والشكوى، بل وفي توجيه السباب قليلًا، لكن الإلحاح الصبور لزوجته أقنعه بالموافقة في النهاية. ولست أعتقد بأنني اصطحبت إنسانًا أكثر ذعرًا منه إلى غرفة العمليات. وأحاول دائمًا أن أبقى بجانب المريض في أثناء تخديره، بحيث أستطيع التحدث إليه والإمساك بيده، لكن البقاء بجوار بوب كان تجرِبة جديدة عليَّ تمامًا. وبعد ذلك، كان عليَّ أن أدلك أصابعي لدقائق عدة قبل أن أبدأ بالتعقيم، نظرًا لأنه قام على ما يبدو بعصرها لدرجة أوقفت جريان الدم خلالها، عند ذلك الوقت الذي استسلم فيه للتخدير مترددًا.

أصابنا ما رأيناه خلال الجراحة بالصدمة. كنت أتوقع أن أجد ورمًا صغيرًا نسبيًّا أصيب بالتقرح بصورة تكفي بالكاد للتسبب في النزيف، لكن ما فوجئت به لم يكن يقلُّ عن كونه (وأنا أنقل هنا ما كُتب في تقرير تشريح ما بعد الوفاة) «سرطانة غُدِّية حَرْشَفية (Adenosquamous) أولية فقيرة التمايز، بدأت في جزء من الأعور ملاصق للصمام اللفائفي الأعوري، وتُظهر غزوًا عبر الجدار (Transmural) إلى الدهن حول القُولوني (pericolic)، مع إصابات لمفاوية ووعائية متوسعة، بالإضافة إلى وجود النقائل في ثمانية من أصل سبع عشرة عقدة لمفاوية.» وقد كان مركز الورم منتخرًا (necrotic) ومتقرحًا في العمق، مما سبَّب تلك النوبة من النزيف الحاد.

وبالرغم من أنه لم يكن هناك حتى الآن دليل مرئي على وجود نقائل بعيدة، فإنه كان من الواضح أن السرطان الذي أصاب بوب كان شديد الشراسة. ومع وجود هذا الغزو المتوسع للأوعية الدموية والقنوات اللمفية، كان وجود أعداد كبيرة من الخلايا السرطانية في الدوران الدموي حقيقة مؤكدة. وكان من المؤكد بنفس الدرجة تقريبًا، أنه كانت هناك بالفعل بعض الرسوبات السرطانية في الكبد، والتي كانت إما لا تزال مجهرية، وإما أنها كانت تقع ببساطة أعمق من أن يمكن تحسسها بالفحص السريري. وكانت مجرد مسألة وقت، قبل أن تُظهر دليلًا واضحًا على وجودها. كانت مستقبلية مرض بوب مريعة.

كان بوب دي ماتيس صريحًا وواضحًا كما كان يدل عليه مظهره، كما كان يتمتع بأذن جيدة للتملص. طالَبَ بأن يعرف ما كان يواجهه تمامًا؛ فلم يكن يسمح بإغفال أي من التفاصيل الدقيقة. وبرغم سلوكي مع شقيقي هارفي فقد حاولت دائمًا أن أمهد السبيل للمرضى لكي يطالبوا بالإفصاح الكامل عن حالتهم المرضية، ورحبت بأسئلته، بالرغم من أنني توقعت أنني قد أندم على تلك الصراحة التي يبدو أنه كان مُصِرًّا عليها. ومنحته ما طلبه، وأنا أتوقع أن ينخرط في نوبة هستيرية، قبل أن يدلِف إلى حالة من الاكتئاب الشديد. لكن ذلك لم يحدث على الإطلاق.

لم يكن هناك أي انفجار عاطفي، ولا حتى قدر ضئيل منه، بل حل محله الهدوء والعقلانية، والتسليم بالأمر الواقع. ومنذ زمن بعيد يرجع إلى أيام خطبتهما، أخبر بوب زوجته كارولين (وحتى اليوم، هي لا تعرف لذلك سببًا)، بأنه لا يتوقع أن يعيش حتى يبلغ عيد ميلاده الخمسين، وكانت نبوءته على وشك أن تتحقق. وعند نهاية أولى مناقشاتنا معًا بعد العملية الجراحية، كان بوب قد عرَف أنه سيموت بالسرطان، كما خطط لأن يدع ذلك يحدث بدون تدخل من أحد. لم يكن رجلًا متدينًا، لكنه كان يتمتع بثقة مطلقة في نفسه، والتي أصبحت في تلك المرحلة أشبه ما تكون بجهاز لحفظ التوجه والتوازن (Gyroscope)، يقوم بتثبيت الوقت المتبقي في حياته.
أجرى بوب حساباته بدون استشارة أطباء الأورام. وباعتبار (وبرأيي؛ على الرغم من) الحالة المتقدمة للمرض، قُدِّم له خيار المشورة (Consultation) بعد أن بدأت الفكرة في ذهن كل من زوجته وطبيب الأمراض الباطنية. ولم يكن هو ولا أنا متحمسَين لهذه الفكرة، بَيد أنه وافق على التحدث إلى أحد أطباء الأورام، لغير ما سبب سوى أن يُرضي كارولين، والتي كانت مصممة على ألا تترك أي احتمال للعلاج من دون استكشافه. وعند تلك النقطة (وحتى الآن، بعد مُضي أكثر من عَقد من الزمن)، لم أصادف على الإطلاق ولو تجرِبة واحدة لم تُفد فيها المشورة مع اختصاصي الأورام في التوصل إلى توصية للمعالجة، باستثناء تلك التي كان المرض فيها قد تم اكتشافه في مرحلة مبكرة للغاية، بحيث كان من المؤكد أنه شُفي نتيجة للجراحة. ولم تشذ حالة بوب عن تلك القاعدة، وقد ضغطت كارولين عليه لكي يقبل المقرر العلاجي المعروض عليه.

توجب تأجيل العلاج الكيميائي لسبب خاص بالأشخاص الذين يتميزون بالبدانة المفرطة وحدهم تقريبًا؛ كانت الطبقة الشحمية الهائلة الموجودة تحت جلد بوب من الكثافة بحيث لم أقوَ على التفكير في كيفية إغلاقها بعد الجراحة، خوفًا من تكوُّن خرَّاج خفيٍّ في أعماقها. ومن أجل ضمان حدوث شفاء نظيف، اضطررت لتركها مفتوحة لتلتحم وحدها من القاعدة إلى القمة، مما تطلَّب استمرار تأجيل العلاج بالأدوية لفترة زمنية مطولة. وعندما حان الوقت أخيرًا للبدء بها، كانت النقائل السرطانية في الكبد لهذا الورم المتنامي سريعًا، قد نمت إلى حجم يكفي لاكتشافها من خلال دراسات النظائر المشعة.

وقبل اعتماد مقرر علاجي معين، التقى طبيب الأورام مع «بوب» للحصول على ما وصفه لاحقًا (طبيب الأورام)، في خطاب وجهه لي بقوله إنه: «مناقشة مطوَّلة وصريحة»، والتي قام خلالها «بتوضيح المدى الذي بلغه المرض النَّقِيلي، وإخباره بأنه إذا لم يجد العلاج الكيميائي في حالته، فمن المرجَّح أن تتدهور حالته سريعًا، مما قد يفضي به إلى الموت في غضون ثلاثة إلى ستة أشهر.» وقرر أن بوب كان: «شاكرًا للغاية للمناقشة الصريحة، كما احتفظ بمسلك حذر التفاؤل، لكنه واقعي في الوقت نفسه.»

وبحلول ذلك الوقت، كان بوب قد استعاد الأرطال العشرين التي فقدها من وزنه منذ العملية الجراحية، كما لم يكن يعاني من أية أعراض مرضية. وفي واقع الأمر، كان يشعر بالعافية بصورة ملحوظة. أدرك أن الأدوية لن تتمكن من شفائه، لكنها تُستخدم «بطريقة مساندة أو وقائية»، كما صاغها طبيب الأورام. وأشك في أن بوب توقع حتى حدوث ذلك، والاحتمال الأرجح، أنه كان يجاري الموقف من أجل كارولين وابنتهما ليسا ذات الاثنين والعشرين ربيعًا. وتم البدء بالعلاج.

وفي غضون أسبوعين، كان بوب قد أصيب بحُميات مرتفعة، بالإضافة إلى إمساك متناوب الحدوث مع الإسهال. كان الجلد الموجود بين أليتيه الضخمتين قد أصيب بالاهتراء والاحمرار نتيجة للتأثير الحارق للبراز الطري. ولذلك كان من الضروري إيقاف العلاج الكيميائي. وعند هذا الوقت تقريبًا، أصبحت العقاقير المنومة ضرورية من أجل السيطرة على بداية الألم الذي كان ناتجًا عن تنامي حجم النقائل الكبدية. وسرعان ما عجز بوب عن التوجه إلى مقر عمله.

ازدادت النقائل ضخامة بسرعة مذهلة، وأصيب بوب باليرقان (Jaundice) بسبب استبدال نسيج كبده بالخلايا السرطانية بصورة مُطَّرِدة. وظهرت دلائل تشير لوجود كتلة ورمية في الحوض، لذا فسرعان ما تورَّمت رجلاه بفعل الوَذَمة (Edema) التي تنتج عندما تنسدُّ الأوردة التي تصرف الجزء السفلي من الجسم، بفعل الورم السرطاني الذي يضغط عليها. وبعد مرور فترة من الزمن، كان بوب يستطيع بالكاد أن يتجول بداخل المنزل. ونظرًا لارتباط كارولين بعملها، بقيت ليسا في المنزل لتتولى رعايته. وقد قالت لي بعد ذلك بسنوات: «لقد قضينا الكثير من الليالي الطويلة نتحدث عن أنفسنا وعن بعضنا البعض. وبالرغم من قربنا من بعضنا البعض في السابق، ازددنا اقترابًا بمرور تلك الشهور الأخيرة.»
وفي وقت مبكر من عشية عيد الميلاد، قمت بإحدى الزيارات المنزلية. كان آل دي ماتيس يسكنون منطقة محاطة بالغابات في التلال الواقعة حول أطراف المدينة التي كان بوب، ولسنوات طويلة، هو القوة المحركة لحياتها السياسية. كان الجليد قد بدأ في التساقط قبل ساعات قليلة، كما لو كان ذلك من أجل تحقيق أمنية عيد الميلاد لرجل محتضَر. وبالنسبة لبوب، كانت تلك العطلة متمثلة على الدوام في صورة ذلك الانبساط الذي تُجسِّده روايات «ديكنز» لبدايات القرن التاسع عشر، حيث يضع نفسه في وسط صحبة لطيفة المعشر من الانبساط الاحتفالي. وفي مثل تلك الليلة من كل عام منذ زواجهما، كان المنزل يمتلئ بالضيوف من كل صنف ولون، والذين كانت السمة المشتركة الوحيدة بينهم، هي أن مضيفهم كان يستمتع بوجوده بينهم. كان في أحسن حالاته عند وجوده وسط حشد من الناس، وكلما كان مرح أولئك أكثر، كانت حاله أفضل. ووسط مثل هذه الصحبة، كان قلبه يزداد حجمًا، كما تتسع معنوياته لتصبح في مثل ضخامة جسده. وحتى عبوسه المعتاد كان يغيب في ذلك الجو البهيج. وفي عيد الميلاد، كان بوب دي ماتيس يصبح كلًّا من مستر فزيوج والبخيل المتحول٤ في الوقت نفسه. كانت عادته، في واقع الأمر، أن يتلو — ليس أن يقرأ، بل يتلو من الذاكرة — قصة ترنيمة عيد الميلاد (A Christmas Carol) لزوجته كارولين وابنته ليسا، في كل عام عند بداية العطلة تمامًا. ولم أُصَب بالدهشة عندما علمت أن ديكنز (Dickens) كان كاتبه المفضل، وأن تلك القصة كانت كتابه المفضل لديكنز.

أصر بوب على ألا يختلف عيد الميلاد الأخير في حياته عن تلك الأعياد السابقة. وعندما فتحت البابَ كارولين، التي كانت تبتسم بشجاعة، خطوت عبر العتبة إلى بيت تم إعداده لأسعد الحفلات. كانت المائدة قد أُعِدَّت لتكفي لنحو خمسة وعشرين فردًا، كما عُلِّقت الزينات، فيما اختفى جذع شجرة عيد الميلاد التي زُيِّنت بذوق رفيع، تحت أكوام من الهدايا. لم يكن من المقرر أن يبدأ توافُد المدعوين قبل ساعة على الأقل، لذا كان لدينا، أنا وبوب، متسع من الوقت لكي نناقش السبب الحقيقي وراء زيارتي. كنت قد جئت للحديث عن جمعية الرباط — فقد أردت أن يحصل بوب على جميع امتيازاتها. كانت هناك حدود لما يمكن لليسا أن تفعله بمفردها، خصوصًا وقد أصبحت حالة والدها تزداد سوءًا في كل يوم.

جلس كلٌّ منا في مواجهة الآخر على جانب السرير الذي استأجره بوب من المستشفى، وبعد فترة أمسكت بإحدى يديه في راحتي. وقد أفادني ذلك، بصورة ما، في التمكن من الحديث بيسر. كنا رجلين من عمر واحد، ولكن بتجرِبتين في الحياة متباينتين تمامًا، كما كان أحدنا قد أوشك على استنفاد ما تبقى له من حياة مستقبلية. ولكن بوب كان قادرًا، خلال الوقت القصير المتبقي من حياته، على رؤية نوع من الأمل خاص به وحده. وكان أمله في أن يبقى بوب دي ماتيس حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأن يذكره الناس بالطريقة التي عاش حياته بها. وكان إعداد هذا الاحتفال الأخير بعيد الميلاد بأفضل صورة ممكنة، عنصرًا أساسيًّا في تحقيق هذا الأمل. أخبرني بأنه، بعد ذلك، سيكون مستعدًّا لتقبُّل مساعدة ممرضات جمعية الرباط على تمضية أيامه الأخيرة بسلام.

وأثناء توديعي لهذا الرجل الفريد، الذي وجد شجاعة لم أحلم حتى بأنها ممكنة بالنسبة له، كنت أنا من كاد حلقه يختنق من التأثر. كان صبر بوب قد بدأ ينفد لكي يبدأ تلك العملية المجهدة لارتداء ملابسه قبل وصول ضيوفه، كما كنت أمثل بالنسبة له تذكيرًا بما كان يتوجب عليه فعله بعد انتهاء الحفل. وأثناء تأهُّبي للخروج إلى ذلك الليل الثلجي في الخارج، ناداني ثانية من غرفة نومه، لكي يحذرني من تلك التلال الزلقة في الخارج: «إن الجو خطير في الخارج، يا دكتور … إن عيد الميلاد ليس وقتًا مناسبًا للوفاة.»

نفذ بوب جميع ما خطط له لتلك الليلة. طلب من زوجته أن تطفئ الريوستات٥ حتى لا يتمكن ضيوفه من رؤية العمق الكامل لما أصابه من يرقان في ذلك الضوء الخافت. وأثناء تناول العشاء، جلس بوب على رأس تلك المائدة السعيدة الصاخبة، وتظاهر بتناول الطعام، بالرغم من أنه كان قد مضى وقت طويل منذ فقد القدرة على تناول كَميات من الطعام كافية لتغذيته بصورة ملائمة. وفي كل ساعتين من تلك الليلة الطويلة، كان الرجل يجر قدميه بعناء متوجهًا نحو المطبخ، حتى تتمكن كارولين من حقنه بالمورفين حتى يتمكن من احتمال ألمه.

وعندما انصرف جميع المدعوين — وهم أصدقاء كثيرون منذ سنوات طويلة، بل وعقود، والذين لن يراهم بعد ذلك على الإطلاق — وعاد بوب إلى فراشه، سألته كارولين عما كانت عليه الليلة. ولا تزال حتى يومنا هذا تذكر كلماته بالتحديد: «ربما كانت تلك واحدة من أفضل ليالي عيد الميلاد التي شهدتها في حياتي» ثم أضاف قائلًا: «تدرين، كارولين، أنه على المرء أن يعيش جيدًا قبل وفاته.»

وبعد انقضاء عيد الميلاد بأربعة أيام، تم إدراج بوب ضمن برنامج الرعاية المنزلية لجمعية الرباط المحلية، وليس قبل ذلك الموعد. فبالإضافة إلى الغثيان والقيء، والألم الناتج عن تنامي كتل السرطان في الكبد والحوض، بدأ يعاني من حُميات مرتفعة. وفي عشية السنة الجديدة، كانت درجة حرارته قد بلغت ١٠٦ درجات فَهرنهايت. وأحيانًا كان الإسهال المائي الذي أصابه خارجًا عن السيطرة، وكثيرًا ما كان يصيبه بدون سابق إنذار. وبالرغم من أن الوضع كان من السوء بحيث بدا من المستحيل أن يزداد سوءًا، فإنه قد ساء بالفعل. وفي نهاية الأمر، وفي الحادي والعشرين من يناير، وافق بوب على إدخاله إلى العنابر الداخلية لفرع جمعية الرباط لولاية كونكتيكت في مدينة برانفورد. وفي ذلك الوقت، كان بالإمكان تحسُّس كبده، الذي يجب ألا يزيد حجمه في الأحوال الطبيعية عن حافة الضلوع، على مسافة أكثر من عشر بوصات تحت ذلك المستوى (حتى عبر جدار بطنه الذي كان لا يزال شديد السماكة). كان الكبد شديد التضخم، كما كان مكوَّنًا من خلايا سرطانية في معظمه. وبرغم الحالة المتقدمة من سوء التغذية التي كان عليها، كانت الملاحظات الإدارية لجمعية الرباط تقرر أنه «كان لا يزال مفرط البدانة».

وبرغم تردده في الاستسلام، اعترف بوب بأنه قد استراح بصورة هائلة عند إدخاله إلى دار الرعاية الداخلية. عاد قلقه المستبطن واضطرابه للظهور كمشكلتين، مما تطلَّب حقنه بجرعات عالية من المهدئات، إضافة إلى المورفين. لم يكن قادرًا إلا على تناول كَميات محدودة من السوائل عن طريق الفم؛ لذلك بدا، بعد حجزه في دار الرعاية، أن جسمه كان يزداد ضعفًا في كل ساعة. وبقي على صراعه من أجل أن ينهض ليتبول، كما كان يبذل محاولات فاشلة للمشي. وبصرف النظر عن تقبُّله للموت، فقد بدا غير قادر على التخلي عن الحياة.

وبعد ظهر اليوم الثاني من حجز بوب في دار الرعاية، أصبح فجأة أكثر هِياجًا مما كان عليه من قبل. بدأت كارولين وليسا في البكاء لأنه لم يكن بمقدورهما مساعدته عندما قال بأنه يريد أن يموت في تلك اللحظة، على الفور. وعندما بدأ يتوسل إليهما، فتح ذراعيه اللتين كانتا لا تزالان مستديرتين، وقرَّب إليه المرأتين بذلك الحضن القديم للحماية الذي عرَفاه جيدًا من خلال مرات لا تحصى في الماضي. ثم تضرَّع إليهما قائلًا: «عليكما أن تخبراني بأنه لا بأس في أن أموت. لن أموت قبل أن تخبراني بأنه لا بأس عليَّ في أن أموت.» ولم يكن مستعدًّا لقبول أي شيء سوى موافقتهما، ولم يهدأ إلا بعد أن منحتاه تلك الموافقة. وبعد ذلك بلحظات قلائل، التفت إلى كارولين قائلًا: «أريد أن أموت.» ثم أضاف، بما يشبه الهمس: «لكني أريد أن أعيش.» وبعد ذلك، أصبح الرجل هادئًا تمامًا. وظل بوب غائبًا عن الوعي لأغلب فترات اليوم التالي. وعند حلول بعد الظهر، لم يكن قد نبس ببنت شفة، لكن كارولين كانت واثقة من أنه كان لا يزال قادرًا على سماع صوتها. كانت تتحدث إليه برقة متناهية، وهي تخبره كيف كانت حياته مهمة بالنسبة لهما، عندما انفرج وجهه فجأة عن ابتسامة عريضة، كما لو كان يرى شيئًا بديعًا من خلال عينيه المغمضتين. تحدثت إليَّ كارولين لاحقًا بقولها: «مهما كان ذلك الذي رآه، فلا بد أنه كان شيئًا جميلًا.» وبعد ذلك بخمس دقائق، كان بوب قد مات.

كانت الجنازة ضخمة للغاية. كانت أشبه ما تكون بأحد الأحداث الشعبية في مدينة بوب. كان المحافظ حاضرًا، كما كان هناك حرس للشرف من رجال الشرطة الذين التقوا نعشه عند الكنيسة. ودُفن مع رسالة وداع وُضعت في جيب سترته، من ابنته ليسا. وأثناء إنزال النعش المصنوع من خشب الكَرَز إلى القبر، لاحظ عم كارولين أن غطاءه كان ملطخًا ببقعة صغيرة، حيث سقطت عليه دموع ليسا.

تم دفن بوب في مقبرة كاثوليكية تبعد نحو عشرة أميال عن منزلي. لم تكن هناك تماثيل في تلك التلال المستديرة من المقابر المعتنى بها جيدًا، كما لو كان ذلك لتأكيد تساوي الجميع عند الموت؛ لم تكن هناك سوى شواهد القبور لتحديد مواضع الراحة الأبدية. توجهت لزيارة قبر بوب عندما كنت أخط تلك الصفحات الأخيرة، لتقديم احتراماتي لرجل وجد معنًى جديدًا لحياته عندما عرَف أنه على وشك الموت. علمني أن الأمل يمكن أن يوجد حتى عندما يصبح الخلاص مستحيلًا. نسيت ذلك الدرس بصورةٍ ما، عندما تُوفِّي شقيقي بعد ذلك بعَقد من الزمن، لكن ذلك لا يقلل من مصداقيته.

أخبرتني كارولين بأن بوب خطط، عندما كان لا يزال متمتعًا بصحته، لكي تُنقش كلماته المفضلة من كتابه المفضل لديكنز، على شاهد قبره، لكني لست مستعدًّا حتى الآن لمعرفة تأثيرها عند رؤيتها بالفعل. أما ما كان منقوشًا بالفعل على القبر، فقد كان تلك القطعة التأبينية (Epitah) التي اختار بوب دي ماتيس أن نذكره بها: «وقد قيل عنه دائمًا إنه كان يعرف جيدًا كيف يحتفل بعيد الميلاد.»
١  Humpty Dumpty: شخصية خيالية شبيهة بالبيضة في روايات الأطفال، سقطت من فوق جدار ولم تستطع أن تلمَّ شتاتها مرة أخرى، في رواية لويس كارول «أليس في بلاد العجائب». (المترجم)
٢  Kibbutz: التعاونيات الزراعية بالعبرية. (المترجم)
٣  Hospice: هيئة للرعاية الصحية تقوم بتوفير الزيارات المنزلية والإشراف على رعاية المصابين بأمراض في مراحلها الأخيرة. (المترجم)
٤  Transformed scrooge and Mr. Fezziwing: من الشخصيات الروائية لتشارلز ديكنز. (المترجم)
٥  Rheostat: آلة لتنظيم قوة التيار الكهربي بإدخال مقادير مختلفة من المقاومة في الدائرة الكهربية. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤