الأمل ومريض السرطان
لا يتعلم الطبيب الشاب درسًا يزيد أهمية عن تلك النصيحة التي تخبره بألا يسمح لمريضه بأن يفقد الأمل على الإطلاق، حتى ولو كان من الواضح أنه في طور الاحتضار. ومن مضامين تلك الموعظة التي تتردد كثيرًا، استنباط أن المصدر الذي يستمد منه المريض الأمل هو الطبيب ذاته، وما يطلبه من مصادر أخرى؛ وبذلك فلا يملك سوى الطبيب قوة منح الأمل، أو إمساكه، أو حتى سلبه. وهناك قدر كبير من الحقيقة في ذلك الافتراض، لكنه ليس كل شيء. فما يتخطى حدود المؤسسة الطبية — وما يتخطى حدود حتى قدرات طبيب المرء الخاص، مهما كانت درجة تلطُّفه — هي تلك القوة التي تنتمي بحق للمريض ومن يحبونه. وسأكتب في هذا الفصل والتالي له، عن أناس في المرحلة النهائية من السرطان، وعن بعض أنماط الأمل الخاصة بهم، وكيف رأيت حالتهم الصحية وهي تتحسن، أو تزداد سوءًا، وأحيانًا كانوا يتحطمون كلية.
ويمكنني أن أجادل بأنه من بين الأنواع العديدة للأمل التي يمكن للطبيب أن يساعد مريضه في العثور عليها قُرب نهاية حياته، نجد أن ذلك النوع الذي يضم بقية الأنواع الأخرى مجتمعة، هو الاعتقاد بأنه يمكن تحقيق نصر نهائي، يقهر وعده ذلك القُرب من العذاب والأسى. وفي كثير من الأحيان يُسيء الأطباء فهم مكونات الأمل، باعتقادهم أن ذلك يشير فقط للشفاء أو لفتور المرض. وهم يشعرون بأنه من الضروري أن ينقلوا إلى المريض الذي أقعده السرطان، بالاستنباط إن لم يكن بالتقرير الفعلي، تلك الرسالة الخاطئة بأنه لا يزال بالإمكان الحصول على أشهر أو سنوات من الحياة الخالية من الأعراض المرضية. وعندما يُسأل طبيب تامُّ الأمانة واللطف، فيما عدا ذلك، عن سبب إقدامه على ذلك، فمن المرجَّح أن تكون إجابته ضربًا من القول بأن ذلك «لأنني لا أريد أن أسلبه أمله الوحيد.» ويتم ذلك مع وجود أفضل النوايا الحسنة، لكن الجحيم الذي عبَّدَت تلك النوايا الحسنة الطريق المؤدية إليه، يصبح في كثير من الأحيان جحيم العذاب الذي يجب على الشخص المغرَّر به أن يقطعه، قبل أن يستسلم للموت المحتوم.
كان هارفي نولاند رجلًا صحيح البدن في الثانية والستين من عمره، وأحيانًا كان يزور عيادة الطبيب عندما كانت تقلقه شكوى مرضية بعينها، ولكنه — فيما عدا ذلك — لم يكن يميل للخضوع للفحوصات الطبية. كان يحمل من عشرة إلى خمسة عشر رطلًا إضافيًّا فوق هيكله المكتنز، لكنه كان بالكاد يُعتبر بدينًا. كان عمله كشريك تنفيذي في إحدى شركات المحاسبة الكبرى في نيويورك مصدرًا عظيمًا لسروره ورضاه، بالرغم من أنه كان يتطلب ساعات عمل طويلة ومسئولية جسيمة، ومع ذلك، فلم يكن العمل هو مركز حياة شقيقي. كانت سعادة هارفي تُستثمر في أسرته. وهو لم يتزوج حتى بلغ نهاية العَقد الرابع من عمره، ولم يصبح أبًا إلا بعد أن تخطى سن الأربعين. وربما كان ذلك — بالإضافة إلى الطبيعة المضطربة لحياة كلٍّ منا أثناء نضوجنا أنا وهو — هو سبب كون قُرب أفراد أسرته من بعضهم البعض أصبح أهم حقيقة في حياته تقريبًا كما لو كان ذلك مقدسًا لكونه أتى إليه كنعمة متأخرة.
وفي ذات صباح من شهر نوفمبر من عام ١٩٨٩م، اتصل بي هارفي عبر الهاتف ليخبرني بأنه كان يعاني من اضطرابات وآلام هضمية منذ أسابيع عدة، وأن طبيبه قد اكتشف في الأمسية السابقة وجود ورم في الجانب الأيمن من بطنه. وكان من المقرر أن تُجرى له صورٌ بالأشعة السينية في وقت لاحق من ذلك اليوم، وذلك للتيقن من التشخيص، ولذلك أراد أن يحيطني علمًا بما كان يجري. حاول أن يتحدث معي بطريقة الأمر الواقع، لكننا مررنا بالكثير معًا بحيث لم يكن بوسعه أن يخدعني. كما أنه لم ينخدع بتلك الكلمات المطمئنة التي تمكنت من النطق بها. فحتى ذلك الذي كان من أكثر الرجال سذاجة، لم يكن بالإمكان إخراجه من قلقه بالحديث المعسول. كان الواحد منا يستشف ما في مخيلة الآخر، كما يفعل الأشقاء عادة، لكنني الوحيد — منا — الذي عرَفت بالتحديد قدر السوء الذي قد ينطوي عليه مثل هذا التشخيص. كان وجود كتلة مؤلمة في رجل في الثانية والستين من العمر، مع وجود مشكلات هضمية وتاريخ عائلي للإصابة بسرطان الأمعاء، سيثبت بصورة شبه مؤكدة أنه ورم خبيث يسد الأمعاء جزئيًّا، وأنه من المرجَّح أن يكون مثل هذا السرطان قد بلغ من التقدم مرحلة تستحيل فيها المعالجة الفعالة.
أكَّدت الأشعة السينية صدق مخاوفي، فتم إدخال هارفي إلى مستشفى جامعي كبير. اختار ذلك المركز الطبي لأن عمله كان قد أتاح له فرصة التعامل مع أحد كبار أعضاء قسم الجهاز الهضمي هناك. وكان الجرَّاح الذي رشحته بعيدًا عن المستشفى لحضور مؤتمر طبي، كما بدا أن الاكتمال الوشيك لانسداد الأمعاء يحتم التدخل الجراحي الفوري. وعلى ذلك، أجرى العملية الجراحية رجل غير معروف شخصيًّا بالنسبة لي، لكن طبيب الجهاز الهضمي المعالج كان أثنى على براعته كثيرًا. وُجد أن هارفي مصاب بسرطان شديد الضخامة في الأمعاء، والذي غزا الأنسجة المحيطة بالقسم الأيمن من القُولون، بالإضافة إلى جميع العقد اللمفاوية التي تصرِّفه تقريبًا. كان الورم قد رسَّب كتلًا منه في العديد من الأسطح والأنسجة داخل التجويف البطني، كما أصاب بالنقائل ستة مواضع على الأقل في الكبد، كما أغرق ساحة جريمته كلها في ملء البطن من السائل المشبع بالخلايا السرطانية، فلم يكن من الممكن أن تكون الموجودات أسوأ من ذلك على الإطلاق.
وبطريقةٍ ما، تمكَّن فريق الجراحين من إزالة ذلك الجزء من الأمعاء الذي نشأ فيه الورم أولًا، وبذلك أمكن تخطي الانسداد المعوي الذي كان يعاني منه هارفي. لكنه كان من المحتم أن تُترك بقية الكتل السرطانية في أماكنها، في كثير من الأنسجة وفي الكبد. وما إن تماثل هارفي للشفاء من آثار العملية الجراحية، حتى كان عليَّ تناول موضوعين توءمين هما الصدق والمعالجة. كان عليَّ أن أتخذ القرارات بنفسي، وذلك لأنه كان من الواضح أن شقيقي سينفِّذ ما أشير به عليه، لكن كيف يمكن لي أن أكون موضوعيًّا في محاولة اتخاذ الأحكام السريرية على من يجري في عروقه دمي؟ ومع ذلك، فلم أستطع تجاهل مسئولياتي بالتحجج بعاطفية الأخ الأصغر الذي عرَف أن أول أصدقاء طفولته بسبيله للموت. كان فِعل ذلك بمثابة نوع من التخلي، ليس عن هارفي وحده، بل وأيضًا عن زوجته لوريتا، وابنيهما اللذَين بلغا عمر الدراسة الجامعية.
لم يكن هناك أي احتمال بوجود توجيه، أو حتى فهم، من قِبَل أطباء هارفي، والذين كانوا في ذلك الحين قد أظهروا أنهم لامبالون بصورة غير قابلة للتأثر، إضافة إلى كونهم متقوقعين على أنفسهم. بدا أولئك بعيدين تمامًا عن حقيقة مشاعرهم الشخصية، ناهيك عن الإحساس بأيٍّ من مشاعرنا نحن. وعندما كنت أراهم يخطِرون بتصنُّع للأهمية من غرفة لأخرى خلال جولاتهم المتعجلة على المرضى، كنت أحس داخل نفسي بشعور أشبه ما يكون بالامتنان لتلك المآسي التي مررت بها في حياتي، والتي جعلتني مختلفًا عنهم. أقنعتني عقود من مراقبة الاختصاصيين الجامعيين رفيعي التدريب، والذين هم زملائي، بحساسية الغالبية وبانعزالية الأقلية النسبية منهم. وفي هذا الموقع، تبدو القلة القليلة مسئولة عن إعداد مسرح الأحداث.
ولوجود ذلك الحِمل فوق كتفيَّ، اقترفت سلسلة من الأخطاء. لكن كوني ارتكبتها مع وجود ما كان يبدو كأفضل النوايا الحسنة، لا يلطف من حدة ما أشعر به حيالها عند التذكر. وأصبحت مقتنعًا بأن إخبار شقيقي بالحقيقة المطلقة «سيسلبه أمله الوحيد.» ومع ذلك، فقد فعلت الشيء نفسه الذي حذَّرت الآخرين من فعله.
بحثت في مستشفى هارفي عن ذلك الطبيب الذي يتمتع بالخبرة في ذلك العلاج التركيبي. وتركت لغرائزي كأخ أن تقهر حكمي كجرَّاح قضى حياته المهنية في معالجة المصابين بذلك المرض المميت. ولكن ما الذي أقنعني بأن مصادفة طبية فريدة قد حدثت بصورة ما، من أجل حلٍّ ما، كان ذهني المنطقي يعلم بأنه غير قابل للحل؟ هل فكَّرت حقيقةً في أن هناك شفاءً محتملًا، أو حتى علاجًا تلطيفيًّا معقولًا، ظهر بصورة سحرية في نفس تلك اللحظة التي اكتُشف فيها أن شقيقي مصاب بسرطان كنت أعرف أنه يتخطى الحدود القصوى لأي علاج كان؟ وعند التفكر فيما حدث، أجد أنني لست على يقين مما اعتقدت بوجوده وقتها. ويبدو أنني كنت مدفوعًا فقط بعجزي عن أن أخبر هارفي بحقيقة مستقبلية مرضه.
لم أقوَ على مواجهة شقيقي، والنطق بتلك الكلمات التي توجَّب أن تقال؛ فلم أستطع تحمُّل ذلك الحِمل الوشيك بإيذائه، ولذلك استبدلت احتمال الراحة التي قد تصاحب الوفاة غير المتوقعة، بذلك «الأمل» الذي يساء فهمه، والذي اعتقدت بأني أمنحه له.
ويُعَد الإنكار واحدًا من عاملين يتسببان بصورة هائلة في تعقيد نوايانا الحسنة، عندما نحاول — كأطباء أو كأحباء لشخص محتضَر — أن نعتبره مشاركًا كاملًا في الخيارات التي يتوجب اتخاذها خلال الأيام المتبقية. والقليل فقط من المحتضَرين، ممن يتمتعون بفهم واضح لحتمية العملية المرضية لديهم، لديهم الاستعداد لمغالبة تلك المحاولات البطولية والمُوهِنة لمحاربة نهاية تبدو وشيكة. ومع ذلك، «فالفهم الواضح لحتمية العملية المرضية لديهم»، والذي يغرقه التعليل والمنطق أحيانًا، بالإضافة إلى الإنكار الذي هو من العوامل الكبرى التي تعوق الطريق. والإنكار، على سبيل المثال، هو من العوامل المؤثرة في حدوث تلك التكرارية المدهشة التي يرفض بها المحتضَرون مواجهة اقتراب الظروف التي كانوا يتوقعونها عندما وقَّعوا، أثناء تمتعهم بالصحة، على توجيهات مسبقة تحظر إجراء المحاولات الكبرى للإنعاش. أما في وقت الأزمات الفعلية، فلن تجد من يريد لحياته أن تنتهي، ومن الطرق الجيدة التي يتجنبه بها العقل الواعي، هي أن ينكر العقل الباطن وجود ما يوشك أن يقع.
وفي محاولتي لفعل الشيء الصحيح بالنسبة لهارفي، أصبحت ما أرادني أن أكونه، فأشبعت بذلك الفعل كلًّا من خياله نحوي، وخيالي أنا أيضًا؛ بكوني ذلك الشقيق الطفل الذكي الذي توجه للدراسة في كلية الطب، والذي كبر ليكون ذلك العرَّاف الطبي الذي يعرف كل شيء، والذي يقدر على كل شيء. لم يكن بوسعي أن أحرمه من أمل كان يبدو أنه محتاج إليه. فتظاهرت بأني سأقود قوى الطب الحديثة لإنقاذه من على حافة الموت. وهذه هي الصورة الذاتية شبه الواعية الأكثر انتشارًا بالنسبة لجميع الأطباء، التي أقنعتني عينا شقيقي بالاستسلام لها. وإذا كنت أكثر حكمة، أو لو استشرت أولئك الزملاء غير المهتمين، والذين كانوا يعرفونني جيدًا، لكان من الممكن أن أدرك أن طريقتي في منح هارفي ذلك الأمل الذي طلبه، لم تكن مجرد خداع، بل — باعتبار ما كنا نعرفه وقتها عن سُمِّية تلك العقاقير الاختبارية — مصدرًا شبه مؤكد للألم الإضافي لكلٍّ منا.
استلزمت حالة هارفي الصحية إدخاله للمستشفى ثلاث مرات أخرى، خلال تلك الشهور العشرة التي بقي خلالها على قيد الحياة بعد العملية الجراحية. أُدخل المستشفى لمراقبة بداية العلاج الكيميائي. وعند اقتراب النهاية، كان عليه أن يعود إلى هناك عندما تسببت الرواسب السرطانية النامية في انسداد أمعائه مرة أخرى، بصورة كاملة في هذه المرة. انفك الانسداد تلقائيًّا، ليتيح له بالكاد تناول كَميات من السوائل بالفم كافية لتجنب العملية الجراحية، لكنها غير كافية حتى للمحافظة على حالته الغذائية السابقة، والتي كانت متدهورة أساسًا. وفي مثل صعوبة الفترة الأخيرة التي قضاها في المستشفى، كانت تلك الفترة السابقة لها، والتي تركت وراءها أقسى الذكريات.
وخلال تلك الأيام الثلاثة التي ظل هارفي خلالها يدلِف داخلًا وخارجًا من حالة الغيبوبة في ذلك الدهليز الصاخب في المستشفى، بينما كانت حرارته تتراوح بين ١٠٢ و١٠٤ درجات فَهرنهايت، وبالرغم من الجهود الشجاعة التي كانت تبذلها الممرضات المرهقات في محاولة منهن لتقديم حد أدنى من الرعاية على الأقل لكل شخص، وبالرغم من المساعدة التي قدمتها لهارفي زوجته وأبناؤه، فقد ظل لفترات زمنية طويلة غارقًا في ذلك الإسهال السائل الذي كان ينساب منه تلقائيًّا من حين لآخر، كرد فعل للتأثير المدمر للعقاقير على جهازه الهضمي. وحتى تلك الفترات التي كان فيها فاقدًا للوعي لم تكن صافية تمامًا، ولم يكن في أغلب الأحيان مدركًا لا للبيئة المحيطة به ولا لحالته الصحية.
دفع هارفي ثمنًا باهظًا في ذلك الوعد الذي لم يتحقق للأمل. منحتُه الفرصة لمحاولة تحقيق المستحيل، بالرغم من أنني كنت أعلم أن هذه المحاولة ستتم على حساب قدر هائل من العذاب. أما فيما يتعلق بشقيقي، فقد نسيت، أو على الأقل تناسيت، تلك الدروس التي تعلمتها من عقود من الخبرة العملية. وقبل ذلك بثلاثين سنة، عندما لم يكن قد بدأ استخدامُ العلاج الكيميائي، كان من المرجَّح أن يموت هارفي في نفس المدة تقريبًا التي تُوفِّي خلالها في النهاية، بنفس الهزال الشديد «الحَرَض»، والقصور الكبدي، واضطراب التوازن الكيميائي المزمن، لكن وفاته كان من الممكن أن تخلو من الدمار الإضافي الذي نتج عن المعالجات الفاشلة، وعن ذلك المفهوم الخادع «للأمل» — والذي كنت مترددًا في أن أسلبه وأسرته، بالإضافة إلى نفسي، إياه. وعندما كنت أوضح معدلات حدوث السُّمِّية الخطيرة لبعض أنواع العلاج اليائسة، والتي تُعتبر احتمالات نجاحها ضئيلة، اختار بعض مرضاي المصابين بسرطان متقدم، بحكمة، ألا يفعلوا شيئًا، ووجدوا أملهم بطرق أخرى.
وبحلول الوقت الذي تعافى فيه هارفي من تلك النوبة التي كادت تودي بحياته، بدأت النقائل التي أصابت كبده — والتي استجابت في البداية للعلاج الجديد بالانكماش بمعدل ٥٠٪ — في التضخم من جديد. ولهذا السبب، وباعتبار حقيقة أن المناطق الأخرى المصابة بالورم لم تتوقف عن النمو على الإطلاق، كان من الواضح أنه لم يعد هناك أي مبرر لاستمرار العلاج الكيميائي. لذا فقد عاد إلى بيته لكي يموت هناك.
كان من الضروري حجزه في المستشفى مرة أخرى، عندما تسبب النمو المُطَّرِد للسرطان في انسداد أمعائه في النهاية. وبذلك أصبحت مناطق كثيرة من الأمعاء الدقيقة ملتصقة بتلك الكتلة الورمية المتنامية، لدرجة أصبحت الجراحة معها مستحيلة. وعندما بدا أن الموقف قد بلغ مداه، انفتحت الأمعاء تلقائيًّا بدرجة تسمح بالكاد لإعادة هارفي إلى المنزل. وفي هذه المرة، طلبتُ الجرَّاح الذي اخترته أول مرة ليتولى مسئولية الحالة، وسأظل مدينًا له على الدوام بسبب منحه لكلٍّ منا إحساسًا بالالتزام واللطف، بالإضافة إلى الحصافة.
وعندما كنت أتوجه لزيارته، كنت أجلس مع هارفي على الأريكة، حيث يحاول كلٌّ منا أن يرفع من معنويات صاحبه. وفي مرات قليلة، عندما كنت أنفرد به لفترة وجيزة، كنا نتحدث عن لوريتا وعن الأولاد، وعن كيف ستسير الأمور بعد وفاته. وأحيانًا كنا لا نتحدث عن ذلك المستقبل الذي سيفقده، بل عن ذلك الماضي البعيد الذي كان يبدو كالأمس، عندما كنا صبيين في حي برونكس نتحدث إلى جدتنا باللغة الييدية. ولَّت تلك المضايقات التافهة والمشاجرات التي كانت تحدث من آن لآخر، عندما يتزوج شقيقان يتمتع كلٌّ منهما بشخصية قوية، وتسير حياة كلٍّ منهما في اتجاه مختلف. ومما أراحني خلال تلك الأسابيع الأخيرة، أنني ذكَّرت هارفي بالأوقات العصيبة العديدة التي مررت بها منذ عقود عدة، عندما كان هو الشخص الوحيد الذي كان يعرف كيف يساعدني. فقبل ذلك بأكثر من عشرين سنة، كنت قد هجرت كل ما يمتُّ لي في الحياة بصلة، وارتحلت إلى شاطئ كئيب بعيد، ولم أعُد من هناك إلا لعلمي أنه لم يشُك يومًا في أنني سأعود. ومهما كان التباعد الذي كان يقع بيننا أحيانًا، فلم يشُك أحدنا في محبة الآخر له، لكنه أصبح من المهم اليوم أن يُصرِّح بذلك كلٌّ منا. كنت أُقَبِّله في كل مرة كنت أغادر فيها إلى نيو هافن، وكانت المرة الأخيرة قبل يومين من نهاية معاناته الطويلة، بهدوء وهو يرقد على نفس الفراش الذي تَشاركه لسنوات طويلة مع زوجته لوريتا.
ولست أول من نادى بأننا نحتاج كمرضى، وكأفراد في أُسَر المرضى، وحتى كأطباء، أن نجد الأمل بطرق أخرى، أي بطرق أكثر واقعية من السعي وراء تلك المعالجات الخادعة والمحفوفة بالمخاطر. وفي رعاية الحالات المرضية المتقدمة، سواء كانت تلك سرطاناتٍ أو غيرَها من القتلة الراسخة العزم والثبات، يجب إعادة تعريف الأمل. وقد عرَّفني بعض من أشد مرضاي اعتلالًا، عن أنماط الأمل التي يمكن أن توجد عندما يكون الموت مؤكدًا. وبوُدِّي لو تمكنت من تقرير أنه كان هناك الكثير من مثل أولئك الأشخاص، لكنه كان هناك، في واقع الأمر، قليل منهم فقط. ويبدو أن كل واحد منا تقريبًا، يريد أن يحظى بفرصة من خلال تلك الإحصائيات الواهية التي يقدمها أطباء الأورام للمصابين بأمراض متقدمة. وهم عادةً ما يتعذبون من أجل ذلك، ويرقدون منهكين طوال أشهر حياتهم الأخيرة من أجله، لكنهم يموتون على أي حال، بعد أن تسببوا في تضخيم تلك الأحمال التي يتوجب عليهم، وعلى أحبائهم، أن يحملوها على أكتافهم نحو اللحظات الأخيرة. وبالرغم من أن أي إنسان قد يتوق إلى موت هادئ، فإن الغريزة الأساسية للبقاء على قيد الحياة تُعتبر قوة أشد تأثيرًا بكثير.
منذ نحو عشر سنوات، توليت رعاية رجل قاده يأسه وخوفه الشديد من العلاج إلى البحث عن الأمل بطرق أخرى غير الجهود الطبية. تخلى عن احتمال الشفاء وأصبح راضخًا لحتمية وفاته، أو على الأقل مصممًا على أنه إذا كانت هناك معجزات بسبيلها للحدوث، فستأتي من داخله هو، وليس من طبيب أورام متحمس.
كان روبرت دي ماتيس محاميًا وزعيمًا سياسيًّا في إحدى مدن كونكتيكت الصغيرة في التاسعة والأربعين من عمره، كما كان يرتعب من الأطباء. وقبل ذلك بأربع عشرة سنة، كنت قد عالجته من إصابات شديدة ألمَّت به نتيجة لحادث سيارة، وذُهلت من عدم قدرته، خلال فترة حجزه في المستشفى، على احتمال الضيق البسيط، أو حتى مجرد احتمال حدوثه. ولم يُخفِّف كون زوجته، كارولين، ممرضة — ولو ذرة — من القلق الذي كان يغمره بصورة واضحة لمجرد اقتراب شخص يرتدي معطف الأطباء الأبيض. أخبرتني كارولين ذات مرة بأنه اعتاد على أن يُصِر على أن تبدل زي عملها قبل أن تغادر المستشفى الذي تعمل به، لأن رؤية ذلك المعطف الأبيض في منزله سيصيبه بالرعب.
تفاعل بوب، كما كان متوقعًا، بصورة هستيرية، عندما علم بأنه سيحتاج إلى إجراء عملية جراحية رفض إجراءها بإصرار شديد. وعندما هدأ قليلًا، بدأ في التذمر والشكوى، بل وفي توجيه السباب قليلًا، لكن الإلحاح الصبور لزوجته أقنعه بالموافقة في النهاية. ولست أعتقد بأنني اصطحبت إنسانًا أكثر ذعرًا منه إلى غرفة العمليات. وأحاول دائمًا أن أبقى بجانب المريض في أثناء تخديره، بحيث أستطيع التحدث إليه والإمساك بيده، لكن البقاء بجوار بوب كان تجرِبة جديدة عليَّ تمامًا. وبعد ذلك، كان عليَّ أن أدلك أصابعي لدقائق عدة قبل أن أبدأ بالتعقيم، نظرًا لأنه قام على ما يبدو بعصرها لدرجة أوقفت جريان الدم خلالها، عند ذلك الوقت الذي استسلم فيه للتخدير مترددًا.
وبالرغم من أنه لم يكن هناك حتى الآن دليل مرئي على وجود نقائل بعيدة، فإنه كان من الواضح أن السرطان الذي أصاب بوب كان شديد الشراسة. ومع وجود هذا الغزو المتوسع للأوعية الدموية والقنوات اللمفية، كان وجود أعداد كبيرة من الخلايا السرطانية في الدوران الدموي حقيقة مؤكدة. وكان من المؤكد بنفس الدرجة تقريبًا، أنه كانت هناك بالفعل بعض الرسوبات السرطانية في الكبد، والتي كانت إما لا تزال مجهرية، وإما أنها كانت تقع ببساطة أعمق من أن يمكن تحسسها بالفحص السريري. وكانت مجرد مسألة وقت، قبل أن تُظهر دليلًا واضحًا على وجودها. كانت مستقبلية مرض بوب مريعة.
كان بوب دي ماتيس صريحًا وواضحًا كما كان يدل عليه مظهره، كما كان يتمتع بأذن جيدة للتملص. طالَبَ بأن يعرف ما كان يواجهه تمامًا؛ فلم يكن يسمح بإغفال أي من التفاصيل الدقيقة. وبرغم سلوكي مع شقيقي هارفي فقد حاولت دائمًا أن أمهد السبيل للمرضى لكي يطالبوا بالإفصاح الكامل عن حالتهم المرضية، ورحبت بأسئلته، بالرغم من أنني توقعت أنني قد أندم على تلك الصراحة التي يبدو أنه كان مُصِرًّا عليها. ومنحته ما طلبه، وأنا أتوقع أن ينخرط في نوبة هستيرية، قبل أن يدلِف إلى حالة من الاكتئاب الشديد. لكن ذلك لم يحدث على الإطلاق.
توجب تأجيل العلاج الكيميائي لسبب خاص بالأشخاص الذين يتميزون بالبدانة المفرطة وحدهم تقريبًا؛ كانت الطبقة الشحمية الهائلة الموجودة تحت جلد بوب من الكثافة بحيث لم أقوَ على التفكير في كيفية إغلاقها بعد الجراحة، خوفًا من تكوُّن خرَّاج خفيٍّ في أعماقها. ومن أجل ضمان حدوث شفاء نظيف، اضطررت لتركها مفتوحة لتلتحم وحدها من القاعدة إلى القمة، مما تطلَّب استمرار تأجيل العلاج بالأدوية لفترة زمنية مطولة. وعندما حان الوقت أخيرًا للبدء بها، كانت النقائل السرطانية في الكبد لهذا الورم المتنامي سريعًا، قد نمت إلى حجم يكفي لاكتشافها من خلال دراسات النظائر المشعة.
وقبل اعتماد مقرر علاجي معين، التقى طبيب الأورام مع «بوب» للحصول على ما وصفه لاحقًا (طبيب الأورام)، في خطاب وجهه لي بقوله إنه: «مناقشة مطوَّلة وصريحة»، والتي قام خلالها «بتوضيح المدى الذي بلغه المرض النَّقِيلي، وإخباره بأنه إذا لم يجد العلاج الكيميائي في حالته، فمن المرجَّح أن تتدهور حالته سريعًا، مما قد يفضي به إلى الموت في غضون ثلاثة إلى ستة أشهر.» وقرر أن بوب كان: «شاكرًا للغاية للمناقشة الصريحة، كما احتفظ بمسلك حذر التفاؤل، لكنه واقعي في الوقت نفسه.»
وبحلول ذلك الوقت، كان بوب قد استعاد الأرطال العشرين التي فقدها من وزنه منذ العملية الجراحية، كما لم يكن يعاني من أية أعراض مرضية. وفي واقع الأمر، كان يشعر بالعافية بصورة ملحوظة. أدرك أن الأدوية لن تتمكن من شفائه، لكنها تُستخدم «بطريقة مساندة أو وقائية»، كما صاغها طبيب الأورام. وأشك في أن بوب توقع حتى حدوث ذلك، والاحتمال الأرجح، أنه كان يجاري الموقف من أجل كارولين وابنتهما ليسا ذات الاثنين والعشرين ربيعًا. وتم البدء بالعلاج.
وفي غضون أسبوعين، كان بوب قد أصيب بحُميات مرتفعة، بالإضافة إلى إمساك متناوب الحدوث مع الإسهال. كان الجلد الموجود بين أليتيه الضخمتين قد أصيب بالاهتراء والاحمرار نتيجة للتأثير الحارق للبراز الطري. ولذلك كان من الضروري إيقاف العلاج الكيميائي. وعند هذا الوقت تقريبًا، أصبحت العقاقير المنومة ضرورية من أجل السيطرة على بداية الألم الذي كان ناتجًا عن تنامي حجم النقائل الكبدية. وسرعان ما عجز بوب عن التوجه إلى مقر عمله.
أصر بوب على ألا يختلف عيد الميلاد الأخير في حياته عن تلك الأعياد السابقة. وعندما فتحت البابَ كارولين، التي كانت تبتسم بشجاعة، خطوت عبر العتبة إلى بيت تم إعداده لأسعد الحفلات. كانت المائدة قد أُعِدَّت لتكفي لنحو خمسة وعشرين فردًا، كما عُلِّقت الزينات، فيما اختفى جذع شجرة عيد الميلاد التي زُيِّنت بذوق رفيع، تحت أكوام من الهدايا. لم يكن من المقرر أن يبدأ توافُد المدعوين قبل ساعة على الأقل، لذا كان لدينا، أنا وبوب، متسع من الوقت لكي نناقش السبب الحقيقي وراء زيارتي. كنت قد جئت للحديث عن جمعية الرباط — فقد أردت أن يحصل بوب على جميع امتيازاتها. كانت هناك حدود لما يمكن لليسا أن تفعله بمفردها، خصوصًا وقد أصبحت حالة والدها تزداد سوءًا في كل يوم.
جلس كلٌّ منا في مواجهة الآخر على جانب السرير الذي استأجره بوب من المستشفى، وبعد فترة أمسكت بإحدى يديه في راحتي. وقد أفادني ذلك، بصورة ما، في التمكن من الحديث بيسر. كنا رجلين من عمر واحد، ولكن بتجرِبتين في الحياة متباينتين تمامًا، كما كان أحدنا قد أوشك على استنفاد ما تبقى له من حياة مستقبلية. ولكن بوب كان قادرًا، خلال الوقت القصير المتبقي من حياته، على رؤية نوع من الأمل خاص به وحده. وكان أمله في أن يبقى بوب دي ماتيس حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأن يذكره الناس بالطريقة التي عاش حياته بها. وكان إعداد هذا الاحتفال الأخير بعيد الميلاد بأفضل صورة ممكنة، عنصرًا أساسيًّا في تحقيق هذا الأمل. أخبرني بأنه، بعد ذلك، سيكون مستعدًّا لتقبُّل مساعدة ممرضات جمعية الرباط على تمضية أيامه الأخيرة بسلام.
وأثناء توديعي لهذا الرجل الفريد، الذي وجد شجاعة لم أحلم حتى بأنها ممكنة بالنسبة له، كنت أنا من كاد حلقه يختنق من التأثر. كان صبر بوب قد بدأ ينفد لكي يبدأ تلك العملية المجهدة لارتداء ملابسه قبل وصول ضيوفه، كما كنت أمثل بالنسبة له تذكيرًا بما كان يتوجب عليه فعله بعد انتهاء الحفل. وأثناء تأهُّبي للخروج إلى ذلك الليل الثلجي في الخارج، ناداني ثانية من غرفة نومه، لكي يحذرني من تلك التلال الزلقة في الخارج: «إن الجو خطير في الخارج، يا دكتور … إن عيد الميلاد ليس وقتًا مناسبًا للوفاة.»
وعندما انصرف جميع المدعوين — وهم أصدقاء كثيرون منذ سنوات طويلة، بل وعقود، والذين لن يراهم بعد ذلك على الإطلاق — وعاد بوب إلى فراشه، سألته كارولين عما كانت عليه الليلة. ولا تزال حتى يومنا هذا تذكر كلماته بالتحديد: «ربما كانت تلك واحدة من أفضل ليالي عيد الميلاد التي شهدتها في حياتي» ثم أضاف قائلًا: «تدرين، كارولين، أنه على المرء أن يعيش جيدًا قبل وفاته.»
وبعد انقضاء عيد الميلاد بأربعة أيام، تم إدراج بوب ضمن برنامج الرعاية المنزلية لجمعية الرباط المحلية، وليس قبل ذلك الموعد. فبالإضافة إلى الغثيان والقيء، والألم الناتج عن تنامي كتل السرطان في الكبد والحوض، بدأ يعاني من حُميات مرتفعة. وفي عشية السنة الجديدة، كانت درجة حرارته قد بلغت ١٠٦ درجات فَهرنهايت. وأحيانًا كان الإسهال المائي الذي أصابه خارجًا عن السيطرة، وكثيرًا ما كان يصيبه بدون سابق إنذار. وبالرغم من أن الوضع كان من السوء بحيث بدا من المستحيل أن يزداد سوءًا، فإنه قد ساء بالفعل. وفي نهاية الأمر، وفي الحادي والعشرين من يناير، وافق بوب على إدخاله إلى العنابر الداخلية لفرع جمعية الرباط لولاية كونكتيكت في مدينة برانفورد. وفي ذلك الوقت، كان بالإمكان تحسُّس كبده، الذي يجب ألا يزيد حجمه في الأحوال الطبيعية عن حافة الضلوع، على مسافة أكثر من عشر بوصات تحت ذلك المستوى (حتى عبر جدار بطنه الذي كان لا يزال شديد السماكة). كان الكبد شديد التضخم، كما كان مكوَّنًا من خلايا سرطانية في معظمه. وبرغم الحالة المتقدمة من سوء التغذية التي كان عليها، كانت الملاحظات الإدارية لجمعية الرباط تقرر أنه «كان لا يزال مفرط البدانة».
وبرغم تردده في الاستسلام، اعترف بوب بأنه قد استراح بصورة هائلة عند إدخاله إلى دار الرعاية الداخلية. عاد قلقه المستبطن واضطرابه للظهور كمشكلتين، مما تطلَّب حقنه بجرعات عالية من المهدئات، إضافة إلى المورفين. لم يكن قادرًا إلا على تناول كَميات محدودة من السوائل عن طريق الفم؛ لذلك بدا، بعد حجزه في دار الرعاية، أن جسمه كان يزداد ضعفًا في كل ساعة. وبقي على صراعه من أجل أن ينهض ليتبول، كما كان يبذل محاولات فاشلة للمشي. وبصرف النظر عن تقبُّله للموت، فقد بدا غير قادر على التخلي عن الحياة.
وبعد ظهر اليوم الثاني من حجز بوب في دار الرعاية، أصبح فجأة أكثر هِياجًا مما كان عليه من قبل. بدأت كارولين وليسا في البكاء لأنه لم يكن بمقدورهما مساعدته عندما قال بأنه يريد أن يموت في تلك اللحظة، على الفور. وعندما بدأ يتوسل إليهما، فتح ذراعيه اللتين كانتا لا تزالان مستديرتين، وقرَّب إليه المرأتين بذلك الحضن القديم للحماية الذي عرَفاه جيدًا من خلال مرات لا تحصى في الماضي. ثم تضرَّع إليهما قائلًا: «عليكما أن تخبراني بأنه لا بأس في أن أموت. لن أموت قبل أن تخبراني بأنه لا بأس عليَّ في أن أموت.» ولم يكن مستعدًّا لقبول أي شيء سوى موافقتهما، ولم يهدأ إلا بعد أن منحتاه تلك الموافقة. وبعد ذلك بلحظات قلائل، التفت إلى كارولين قائلًا: «أريد أن أموت.» ثم أضاف، بما يشبه الهمس: «لكني أريد أن أعيش.» وبعد ذلك، أصبح الرجل هادئًا تمامًا. وظل بوب غائبًا عن الوعي لأغلب فترات اليوم التالي. وعند حلول بعد الظهر، لم يكن قد نبس ببنت شفة، لكن كارولين كانت واثقة من أنه كان لا يزال قادرًا على سماع صوتها. كانت تتحدث إليه برقة متناهية، وهي تخبره كيف كانت حياته مهمة بالنسبة لهما، عندما انفرج وجهه فجأة عن ابتسامة عريضة، كما لو كان يرى شيئًا بديعًا من خلال عينيه المغمضتين. تحدثت إليَّ كارولين لاحقًا بقولها: «مهما كان ذلك الذي رآه، فلا بد أنه كان شيئًا جميلًا.» وبعد ذلك بخمس دقائق، كان بوب قد مات.
كانت الجنازة ضخمة للغاية. كانت أشبه ما تكون بأحد الأحداث الشعبية في مدينة بوب. كان المحافظ حاضرًا، كما كان هناك حرس للشرف من رجال الشرطة الذين التقوا نعشه عند الكنيسة. ودُفن مع رسالة وداع وُضعت في جيب سترته، من ابنته ليسا. وأثناء إنزال النعش المصنوع من خشب الكَرَز إلى القبر، لاحظ عم كارولين أن غطاءه كان ملطخًا ببقعة صغيرة، حيث سقطت عليه دموع ليسا.
تم دفن بوب في مقبرة كاثوليكية تبعد نحو عشرة أميال عن منزلي. لم تكن هناك تماثيل في تلك التلال المستديرة من المقابر المعتنى بها جيدًا، كما لو كان ذلك لتأكيد تساوي الجميع عند الموت؛ لم تكن هناك سوى شواهد القبور لتحديد مواضع الراحة الأبدية. توجهت لزيارة قبر بوب عندما كنت أخط تلك الصفحات الأخيرة، لتقديم احتراماتي لرجل وجد معنًى جديدًا لحياته عندما عرَف أنه على وشك الموت. علمني أن الأمل يمكن أن يوجد حتى عندما يصبح الخلاص مستحيلًا. نسيت ذلك الدرس بصورةٍ ما، عندما تُوفِّي شقيقي بعد ذلك بعَقد من الزمن، لكن ذلك لا يقلل من مصداقيته.