الفصل الثاني عشر
الدروس المستفادة
كثيرًا ما يُنهي الحاخامات (Rabbis) خطبهم الجنائزية
بمقولة: «عسى أن تكون ذكراه مباركة.» وهي تركيبة خاصة من الكلمات، تبدو غريبة على
الحاضرين
من غير اليهود، وانتظرت أن أسمعها في الكنائس، بدون فائدة. وبالرغم من أن هذه الكلمات
تُعبِّر عما هو أمنية واضحة للجميع، فإن هذه الفكرة البسيطة تتطلب من كل منا قدرًا
أكبر من
التأمل في معانيها، وليس في دور العبادة وحدها.
ويمكن أن يوجد الأمل الذي أسبغ قدرًا من السكينة على بوب دي ماتيس، في تلك الذكرى
التي
يستطيع خلقها، والأهمية التي تعنيها حياته بالنسبة لأولئك الذي بقُوا على قيد الحياة
بعد
رحيله. كان بوب رجلًا عاش بإدراك مستمر بأن وجود المرء ليس مجرد فترة محدودة، بل يتعرض
للخطر المستمر للنهاية غير المتوقعة. وهنا تقع بذرة ذلك القلق الفظيع الذي ينتج عن
الأمور
الطبية، ولكن هنا أيضًا، يوجد المركز الإنتاشي (germinal)
لتقبله، عندما يعلن المرض النهائي عن نفسه.
وأعظم كرامة قد نجدها في الموت، هي كرامة الحياة السابقة له. وهذا هو نوع الأمل الذي
نستطيع جميعًا تحقيقه، وأطولها بقاءً. ويقبع الأمل في المعنى الذي احتوته حياة كل
منا.
وهناك بعض صور الأمل الأخرى الأكثر مباشرة، لكن هناك البعض الآخر مما يستحيل تحقيقه.
وخلال ممارستي الطبية، كنت أؤكد دائمًا لمرضاي المحتضَرين أنني سأفعل كل ما بوسعي
لمنحهم
موتًا سهلًا، لكنني رأيت حتى ذلك الأمل، في أحيان كثيرة للغاية، يتحطم أمام عيني،
برغم كل
ما بذلته من جهد. وهناك أوجه للفشل في عمل جمعية الرباط أيضًا، حيث الهدف الوحيد هو
الراحة
والسكينة. ومثلي في ذلك مثل كثير من زملائي، فقد خرقت القانون غير مرة لتيسير وفاة
مريضٍ
ما، نظرًا لأن وعدي له، سواء كان ذلك ضمنيًّا أم منطوقًا، لم يكن من الممكن أن يتحقق
ما لم
أفعل ذلك.
والوعد الذي نستطيع المحافظة عليه، والأمل الذي يمكننا منحه، هما حتمية ألا يُترك
رجل أو
امرأة ليموت وحيدًا. ومن بين الطرق الكثيرة للموت وحيدًا، لا بد أن أقلها راحة وأكثرها
عزلة، يحدث عندما تُحجب عن المحتضَر معرفة حتمية اقتراب وفاته. وهنا أيضًا، كثيرًا
ما يكون
اعتماد أسلوب «لم أستطع أن أسلبه أمله» هو بالتحديد كيف أن تحقيق نوع مطمئن على وجه
الخصوص
من الأمل يتم تثبيطه بصورة مطلقة. وما لم نكن مدركين لكوننا بصدد الاحتضار، وما لم
نعرف
ملابسات وفاتنا بقدر ما هو متاح لنا، فلن نستطيع المشاركة في أي نوع من الاستكمال
النهائي
لعَلاقاتنا مع من يحبوننا. وبدون مثل هذا الاستكمال
(Consummation)، وبصرف النظر عن وجودهم في ساعة الوفاة،
سنبقى غير معتنًى بنا ومنعزلين. وذلك لأن الوعد بالصحبة الرُّوحانية قرب النهاية هو
ما
يمنحنا الأمل، بصورة تزيد كثيرًا عما يمنحه مجرد إزالة المخاوف المتعلقة بالبقاء،
جسديًّا،
بدون أن يرافقنا أي إنسان.
ويتحمل المحتضَرون أنفسهم مسئولية ألا ينخدعوا بتلك المحاولات الخاطئة للمحافظة على
أولئك
الذين تتشابك حياتهم مع تلك الخاصة بهم. رأيت ذلك النمط من الوحدة، بل وتآمرت على
تنفيذه
بغباء، قبل أن أعلم ما هو خير من ذلك.
وعندما لم تعد جدتي متمتعة بصحتها، تولَّت خالتي روز بالتدريج تدبير شئون منزلنا،
وأمومة
الولدين اللذين يضمهما. وحتى ذلك الدور الأمومي القيادي
(Matriarchal)، آلَ إليها عندما تخلَّت جدتي عن
الاضطلاع به عامًا بعد عام. وفي ساعة مبكرة من كل صباح، كانت روز تتوجه إلى عملها
في حياكة
الألبسة النسائية لدى أحد صانعي الملابس في الشارع الثالث والسبعين، وكانت تعود إلى
المنزل
بعد عشر ساعات، لتقوم بتنظيف البيت وإعداد طعام العشاء. لم يكن يهود العالم القديم
يحصلون
على طعامهم بسهولة، كانت وجبة المساء بالنسبة لنا نتيجة لقدر كبير من العمل الشاق.
وبالرغم
من أنني أبعد اليوم كثيرًا عن المنزل رقم ٢٣١٤ في جادة «موريس»، سواء من الناحية المكانية
أو الزمنية، إلا إن ذكريات الأمس عن أمسيات الخميس لا تزال واضحة تمامًا في ذهني،
عندما
تكون الخالة روز قد قامت بتنظيف وتلميع كل ركن من الشقة استعدادًا لعطلة يوم السبت
(Sabbath)، قبل أن تُلقي بجسمها على الفراش، قرب منتصف
الليل، وقد خارت قواها تمامًا. وفي السادسة من صباح اليوم التالي، تكون قد استيقظت
من نومها
وتوجهت إلى عملها.
كانت روز تفعل ما بوسعها لكي تبدو لهجتها جافة (Brusque)،
لكن أسلوبها كان مكشوفًا. كانت تمتلك زوجًا من تلك العيون الزرقاء التي كانت تميز
مجموعتنا
الصغيرة، وكان التماع البريق فيهما مؤكد الحدوث، في أعقاب نوبة من الغضب، كما يفعل
الخَلَف
(Aftermath) المشمس الذي يلي هطول المطر لفترة قصيرة في
وقت الصيف. كانت تنخدع بسهولة إذا احتضنتها، وعندما كبِرنا، كانت حاجتها لأن تبدو
صُلبة لا
تلين أمام ولديها، قد أظهرت نفسها ببطء في صورة الحب الحقيقي الذي كان متخفيًّا وراءها.
وبالرغم من أنني، وهارفي، كنا نستطيع عادةً أن نستفز تعنيفها لنا لدرجة أنها لم تكن
تتردد
في التعبير عنه لدى ظهور أي من الجوانب الأقل إثارة للإعجاب في سلوكنا، كنا — مع ذلك
— نخشى
رفضها، والذي كان، في حالتي، يتخذ شكل التنديد
(Denunciation)، عادةً بلغة ييدية فصيحة، بمنظوري
للحياة برُمَّته وبشخصيتي ككل. كانت الخالة روز بالنسبة لي هي «الأنا الأعلى»
(superego)
الذي تربى في قرى الوطن الأم، وكنا — هارفي وأنا — نعشقها.
وخلال العام الثاني من تدريبي العملي على الجراحة، عندما كانت روز في أوائل السبعينيات
من
عمرها، عالجت حكة (Itching) عامة متدرجة الظهور في جميع أجزاء جسدها، وبعد
ذلك بفترة ظهرت غدة لمفاوية متضخمة تحت أحد إبطيها. وأظهرت الخِزْعة
(Biopsy) وجود ورم لمفاوي «لمفوم» عدواني. وتولى علاجها
اختصاصي بأمراض الدم (Hematologist) عطوف ومتفهم، وحقق
هَدْأة (remission) ممتازة للمرض باستخدام أحد عناصر العلاج
الكيميائي المبكرة، وهو عقَّار الكلورامبوسيل
(Chlorambucil). وبعد أشهر قلائل، وعندما عاود المرض الخالة
روز التي بدأت تضعف، تآمرت مع هارفي — بموافقة ابنة عمنا أرلين — على إقناع اختصاصي
الدمويات بأنها يجب ألا تعلم شيئًا عن التشخيص الحقيقي لمرضها.
وحتى بدون أن ندرك ذلك، اقترفنا واحدًا من أسوأ الأخطاء التي يمكن أن تُرتكب خلال
المرض
النهائي؛ قررنا بالخطأ جميعًا، بمن فينا روز ذاتها، وبخلاف جميع مبادئ حياتنا المشتركة
معًا، أن حماية بعضنا البعض من الاعتراف الصريح بحقيقة مؤلمة، لهو أكبر أهمية من تحقيق
مشاركة نهائية قد تستجلب راحة طويلة الأمد، وربما بعض أوجه الكرامة، من تلك الحقيقة
المؤلمة
للموت. فقد حرمنا أنفسنا مما كان يجب أن يكون لنا.
وبالرغم من أنه لم يكن هناك شك في أن روز كانت تعلم بأنها ستموت بفعل السرطان، فإننا
لم
نتحدث معها عن ذلك على الإطلاق، كما أنها لم تفتح الموضوع إطلاقًا. كانت قلقة بشأننا،
كما
كنا قلقين بشأنها، وكان كل جانب منا على يقين من أن الأمر أقوى من احتمال الجانب الآخر.
كنا
نعرف النتيجة النهائية للمرض، وكذلك هي؛ لكننا أقنعنا أنفسنا بأنها لا تدري، بالرغم
من أننا
كنا نحس بأنها على علم بالأمر، كما لا بد أنها أقنعت نفسها بأننا لا ندري، بالرغم
من أنها
كانت تدرك لا محالة أننا نعلم. وعلى ذلك، أصبح الأمر أشبه ما يكون بذلك السيناريو
الذي
كثيرًا ما يُلقي بظلاله على تلك الأيام القليلة الأخيرة في حياة مرضى السرطان؛ كنا
نعرف —
وكانت تعرف — وكنا على علم بأنها تعرف — كما كانت على علم بأننا نعرف — ولكن أحدًا
منا لم
يكن ليتحدث عن الموضوع عندما كنا نجتمع معًا. حافظنا على «لغز الكلمات»
(Charade) هذا حتى النهاية. حُرمت الخالة روز، وكذلك
حُرمنا نحن، من ذلك التجمع الذي كان من اللازم حدوثه، عندما كان علينا في النهاية
أن نخبرها
بما أعطته حياتها لنا. وبهذا المنظور، ماتت خالتي روز وحيدة.
وهذه الوحدة الرهيبة هي موضوع رواية تولستوي المعنونة «وفاة إيفان إلييتش». وبالنسبة
للأطباء الممارسين على وجه الخصوص، تُعتبر تلك رواية مُرعبة في دقتها الموحشة، وفي
الدروس
التي تُعلِّمها لنا. وكان تولستوي يكتب كما لو كان متمتعًا بمعرفة فطرية أعظم بكثير
من أي
معرفة كان من الممكن أن يكتسبها خلال حياته، وإلا كيف كان بوسعه أن يَحدس تلك الوحدة
الرهيبة لوفاة جُعلت وحيدة نتيجة لإخفاء الحقيقة، «تلك الوحدة التي كان يمر بها إيفان
إلييتش، أثناء رقاده ووجهه ملتفت نحو ظهر الأريكة، لهي وحدة وسط مدينة مكتظة بالسكان،
ووسط
دائرة من أقاربه وأصدقائه المقربين، وهي وحدة لا تجد أعمق منها في أي مكان آخر، سواء
في
أعماق البحار، أو في باطن الأرض …؟» لم يكن بوسع إيفان هذا أن يتشارك معرفته الرهيبة
مع أي
إنسان، «وبذلك، فقد كان عليه أن يعيش على حافة الهلاك وحيدًا، بدون وجود أي إنسان
يفهمه أو
يشفق عليه.»
لم يكن إيفان محاطًا بأناس يحبونه، وربما كان ذلك، بصورةٍ ما، هو سبب ركونه لأن يتمنى،
ولو قليلًا، لو كان موضعًا للشفقة، وهي حالة تفتقد للجلال بحيث لن ينزلق إليها برغبته
سوى
قلة منا عند نهاية حياتهم. ويبدو أن مصدر محاولة زوجته للخداع، هو تصميمها هي على
ألا تتعرض
للآثار العاطفية التي تنتج عن معرفة الحقيقة. وسواء كانت أوجه الخداع تلك ناتجة عن
الاحتقار، أم عن عاطفة سيئة التوجيه، فهي تترك ضحيتها لمواجهة وداعه وحيدًا. وفي حالة
زوجة
إيفان، كانت الوصاية (Patronizing) هي الأساس الذي اعتمدته لإقناع نفسها بأن
وفاة زوجها ستكون أيسر بالنسبة لكليهما إذا لم تتم مناقشتها على الإطلاق. ولم تكن
تفكر هنا
إلا في نفسها هي، وليس في زوجها، الذي كان مرضه المميت مصدر إزعاج بالنسبة لها، بل
وحِملًا
على منزلها أيضًا. وفي هذا الجو، لم يجد إيفان القوة على مواجهة نتيجة إجبار زوجته
على فتح
الموضوع:
كان عذاب إيفان الرئيسي متمثلًا في كذبة، وقد تقبَّل الجميع بصورةٍ ما، كذبة أنه
كان مريضًا فحسب، لكنه ليس في طور الاحتضار، وأنه كان بحاجة فقط لأن يبقى هادئًا،
وأن يثق بالأطباء، وبعد ذلك سيخرج من هذه المحنة سليمًا معافًى. لكنه كان يعلم بأنه
مهما فعل، فلن ينتهي الأمر على شيء، اللهم فيما عدا المزيد من العذاب المُضني
والموت. عذَّبته تلك الكذبة؛ وعذَّبه أنهم لم يكونوا راغبين في الاعتراف بما كان
يعلمه الجميع، بمن فيهم هو شخصيًّا، حيث فضلوا الكذب عليه فيما يتعلق بموقفه الذي
لا يحسد عليه، بالإضافة إلى إشراكه في تلك الكذبة هو أيضًا. وتلك الكذبة التصقت
به،
حتى خلال تلك الليلة التي مات فيها؛ وتلك الكذبة، التي تميل لتصغير الفعل الغريب
والمهيب لموته إلى نفس المستوى الذي تمثله الزيارات، والستائر، وسمك الحَفْش
(Sturgeon) بالنسبة لطعام العشاء — كان الأمر
مؤلمًا بصورة بشعة بالنسبة لإيفان إلييتش. وياللعجب! ففي كثير من الأحيان، عندما
كانوا يقومون بتمثيل هذه المسرحية الهزلية لمصلحته، كان على بُعد شعرة من الصياح
فيهم قائلًا:
«كفوا عن كذبكم السخيف هذا! فأنتم تعلمون كما أعلم أنا تمامًا أنني أُحتضَر، لذا
فلتكفوا عن كذبكم على الأقل.»
لكن القوة على فعل ذلك لم تُواتِه على الإطلاق.
وهناك عامل آخر أيضًا كثيرًا ما يتآمر في أيامنا هذه على عزل المريض بداء مميت. ولست
أستطيع التفكير في كلمة أصدق وصفًا لذلك من عدم الجدوى (Futility). وقد تبدو المعالجة في مواجهة
احتمالات كبرى للفشل، عملًا بطوليًّا بالنسبة للبعض، لكن ذلك في أغلب الأحيان هو إحدى
صور
الأذى الإجباري للمرضى؛ فهو يطمس معالم الصراحة ويُظهر انقسامًا أساسيًّا بين مصالح
المرضى
وأفراد أسرهم من ناحية، وبين الأطباء على الناحية الأخرى.
وتوضح الفلسفة الأبوقراطية (Hippocratic) أن شيئًا يجب
ألا يكون أكبر أهمية بالنسبة للطبيب من مصلحة مريضه الذي يأتي إليه طلبًا للرعاية.
وبالرغم
من أننا نعيش الآن في عصر قد تتعارض فيه أحيانًا مصالح المجتمع ككل مع تقييم الطبيب
فيما
يتعلق بما هو أفضل شيء بالنسبة لكل من مرضاه على حدة، فلم يكن هناك على الإطلاق أي
شك في أن
هدف الرعاية الطبية هو قهر المرض وتخفيف المعاناة. ويتعلم كل دارس للطب في مرحلة مبكرة
للغاية أنه قد يكون من الضروري أحيانًا أن تزيد من معاناة المريض من أجل التغلب على
مرضه،
وأن هناك القليل فقط ممن لا يتفهمون، ومن ثم يتقبلون، تلك الضرورة. ويصدق هذا القول
بصفة
خاصة بالنسبة لتلك الأمراض البالغ عددها مائة أو تزيد، والتي تمثل الأنماط المتنوعة
للسرطان، حيث تنتج عادةً عن توليفات من الجراحات الفعالة، والعلاج الإشعاعي والكيميائي،
فتراتٌ من الإنهاك وغيرها من صنوف العذاب المؤقتة، إن لم تكن مضاعفات صريحة. وهناك
قليل من
الناس سيرغبون، عندما يواجَهون بتشخيص مرض خبيث محتمل الشفاء، في الكف عن الصراع إذا
كانت
هناك فرصة معقولة لأن تتوافر إحدى صور المعالجة الواعدة، من أجل تخفيف ويلات مرضهم
أو
شفائه. أما فعل أقل من ذلك فهو ليس من صور تحمُّل العذاب
(Stoicism)، بل من صور الغباء.
وتتمثل، مجددًا، تلك المعضلة التي تواجه كلًّا منا عندما نجد أنفسنا في مثل هذه المواقف،
في استخدام اللغة. وهنا نجد أوجه الغموض العملية هي الكلمات مثل: «معقولة» و«واعدة».
وفي
مثل هذه المسميات التي تبدو واضحة محددة، في حين هي غامضة في الحقيقة، ينكشف الانشقاق
الذي
كثيرًا ما يكون موجودًا بالفعل بين أهداف الأطباء وبين أهداف أولئك الذين يعالجونهم.
وعلى
حساب تحميل تلك الصفحات بالمزيد من السير الذاتية، سأستخدم تطوري المهني كطبيب لتوضيح
ذلك
التقدم الطفيف الذي ينتقل من خلاله دونما قصد طالب الطب الشاب، الذي لم يكن يبغي سوى
العناية بإخوانه المرضى، إلى مثال حي (embodiment) لحلَّال
المشاكل الطبية الأحيائية.
قبل أن يصبح عمري مكونًا من رقمين، كنت قد رأيت الأمل (اخترت الكلمة عامدًا) الذي
يجلبه
وجود الطبيب بالنسبة للأسرة القلقة. كانت هناك طوارئ مرعبة كثيرة خلال فترة مرض والدتي
الطويل، حتى قبل تلك السنوات التي بدأت فيها انزلاقها نحو الموت. كان مجرد معرفة أن
أحدًا
قد توجه لاستخدام هاتف مخزن الأدوية في مخابرة الطبيب، ومعرفة أنه في الطريق، تُغيِّر
من
الجو العام في شقتنا الصغيرة من حالة العجز المرعب، إلى حالة من الإحساس بالاطمئنان،
وإلى
أن ذلك الموقف المخيف قد يمكن حله بسلام بصورةٍ ما. كان الرجل — ذلك الرجل الذي كان
يخطو
عبر عتبة الباب بابتسامة وجو من الثقة، والذي كان ينادي كلًّا منا باسمه، والذي كان
يدرك
أننا كنا في أشد الحاجة للتطمين وحده، والذي كان يحمله دخوله ذاته إلى منزلنا، هو
الرجل
الذي أردت أن أكونه.
كان هدفي من أن أصبح طبيبًا هو أن أكون ممارسًا عامًّا في منطقة برونكس بنيويورك.
وخلال
العام الأول من دراستي بكلية الطب، تعلمت كيف يعمل الجسم البشري؛ وفي العام الثاني،
تعلمت
كيف يمرض. أما خلال العامين الثالث والرابع، فقد بدأت أفهم كيف أفسر القصص المرضية
التي كنت
أحصل عليها من مرضاي، كما تعلمت كيفية دراسة الأدلة الجسمانية والكيميائية التي تنتج
عن
الأمراض التي تصيبهم، وهو ذلك المزيج من الموجودات الواضحة والخفية، والذي أطلق عليه
عالم
الباثولوجيا الإيطالي الذي عاش في القرن الثامن عشر، جيوفاني مورجاني
(Morgagni): «صرخات أعضاء الجسم المعذبة.» درست الطرق
المتنوعة للاستماع إلى مرضاي والنظر إليهم، بحيث أقدر على تفسير تلك الصرخات والتمييز
بينها. وعُلِّمت كيفية فحص فتحات الجسم (Orifices)، وقراءة
صور الأشعة السينية، والبحث عن معانٍ لحالات الدم والفضلات الإخراجية للأوصاف المتباينة.
وبمرور الوقت، كنت قد عرَفت أي الفحوص أطلب بالتحديد، بحيث يمكنني استخدام الأدلة
الأكثر
وضوحًا، في التعرف على التغيرات المستبطنة التي هي جزء من المرض. وتسمى هذه العملية
بالفيزيولوجية المرضية (Pathophysiology). ويُعَد التمكن من
أنماطها الملتوية هو السبيل إلى فهم تفاصيل الطرق التي تنحرف بها الآليات الطبيعية
للحياة
الصحية، وأن تفهُّم تفاصيل الفيزيولوجية المرضية، هو امتلاك مفتاح التشخيص، والذي
لن يوجد
من دونه شفاء. ويُعَد سبيل كل طبيب في تناول الأمراض المستعصية هو تحديد التشخيص ثم
تصميم
وتنفيذ خطة للعلاج المحدد. وأسمِّي ذلك السبيل باللغز
(RIDDLE)، وقد كتبته بحروف كبيرة حتى لا يكون هناك شك
في هيمنته على ما سواه من الاعتبارات. ويُعَد الرضا الناتج عن حل ذلك اللغز هو جائزته
الخاصة، والوقود الذي يحرك الآلات السريرية لأرفع الاختصاصيِّينِ الطبيين تدريبًا.
وهو
مقياس كل طبيب لقدراته الخاصة؛ وهو أهم مكونات صورته المهنية الشخصية.
عندما أنهيت دراستي في كلية الطب، كنت قد اكتشفت أبعادًا أعظم في السعي وراء التشخيص،
والتحديات المتزايدة دومًا لتنفيذ المعالجات الناجعة. أصبح الهدف هو فهم تطور العملية
المرضية، من أجل أن يصبح بالإمكان مهاجمتها باستخدام الاختيار الصحيح من بين الاستئصال،
والإصلاح، والتبديل الكيمياحيوي، أو أي من تلك الأنماط المتنوعة التي تظهر باستمرار.
كانت
السنوات الست لتدريبي العملي بمثابة إعداد لي، لكي أستطيع مواجهة كل من الجوانب المختلفة
للُّغز، والتي تحولت عند نهاية تلك الفترة إلى أروع ما في حياتي. وفي داخلي، كان أساتذتي
قد
استنسخوا أنفسهم.
عدَلتُ عن رغبتي في أن أعود لكي أصبح طبيبًا محليًّا في حي برونكس أو أي مكان مشابه.
ولم
أنسَ على الإطلاق حاجتي لأن أمثل لمرضاي ما كان الممارس العام يمثله بالنسبة لأسرتنا،
لكنني
أدركت الآن أن تلك الصورة لم تعد تمثل أكثر الصور إعجابًا بالنسبة لي. كان ذلك «اللغز»
قد
استوعبني تمامًا، لذا كان الطبيب الذي أعتبره مَثَلي الأعلى هو أفضل من يجيد حل
اللغز.
وحاولت طوال حياتي المهنية، وأعتقد أن الغالبية العظمى من الأطباء يفعلون ذلك بدورهم،
أن
أكون ذلك الطبيب الذي قادني مثاله لأن أختار المعالجة كمهنتي في الحياة. وكانت هناك،
بجوار
ذلك المثال، صورة أقوى تأثيرًا، وهي ذلك التحدي الذي يحفز العمل بأكبر قدر من الإقناع؛
أي
التحدي الذي يجعل كلًّا منا نحن الأطباء في محاولة دائمة لتطوير مهاراتنا؛ وهو التحدي
الذي
ينتج عنه السعي المحموم نحو التشخيص والعلاج؛ والتحدي الذي أفرز ذلك التقدم المذهل
في الطب
السريري لأخريات القرن العشرين، ولا يتمثل ذلك التحدي، والذي هو في مقدمة التحديات،
في
رفاهية الفرد البشري في المقام الأول، بل في حل لغز المرض الذي أصابه.
ونحن نسعى لمعالجة مرضانا بذلك التعاطف الذي يمثل عاملًا أساسيًّا في شفائهم، كما
نحاول
دائمًا إرشادهم لكي يتخذوا تلك القرارات التي نعتقد أنها ستؤدي إلى تفريج معاناتهم.
لكن ذلك
لا يكفي للمحافظة على قدراتنا وتطويرها، أو حتى المحافظة على حماسنا، وذلك اللغز هو
ما يوجه
أمهر أطبائنا وأكثرهم تكريسًا.
وفي واحدة من وصاياه (Precepts)، كتب «أبوقراط» قائلًا:
«حيثما وجد حب الإنسانية، يوجد أيضًا حب فن الطب»، ويصدُق اليوم هذا القول كما كان
صادقًا
على الدوام؛ فلو كان العكس هو الصحيح، لكان عبء رعاية إخواننا المرضى قد أثبت سريعًا
أنه
غير محتمل. وعلى الرغم من ذلك، فلا تستمد أسعد لحظات الشفاء التي نحس بها من أفعال
قلوبنا،
بل من تلك الخاصة بعقولنا، حيث تكون المشاعر أكثر حدة. وقد توصلت لإدراك الحقيقة،
وحتى
ضرورة كونها كذلك. ويجب علينا، كأطباء، أن نواجه حقيقة أنفسنا في كل مرة نتولى فيها
رعاية
إنسان آخر؛ كما يجب علينا، كمرضى، أن نتفهم أن السعي الذي يدفع الطبيب لمحاولة حل
اللغز قد
يتعارض أحيانًا مع مصالحنا عند نهاية الحياة.
ويجب أن يعترف كل من الاختصاصيين الطبيين بأنه أحيانًا يقنع مرضاه بالخضوع لإجراءات
تشخيصية أو علاجية في مرحلة من مرضهم تبعد كثيرًا عن المنطق، لدرجةٍ يكون معها من
الأفضل أن
يبقى اللغز مستغلقًا. وكثيرًا ما يحدث قرب النهاية، إذا كان الطبيب قادرًا على استبصار
ما
بأعماق نفسه، أن يدرك الأخير أن قراراته ونصائحه إنما تنبع عن عجزه عن التخلي عن حل
اللغز
والتسليم بهزيمته، إذا ما بقيت هناك أية فرصة لحله، وبرغم كونه عطوفًا ومتفهمًا للمريض
الذي
يعالجه، فإنه يسمح لنفسه بأن ينحو بتعاطفه جانبًا نظرًا لأن إغراء اللغز يكون من القوة
بحيث
يتسبب، مع العجز عن التوصل لحله، في جعله من الضعف بمكان.
ويمتلئ الأطباء بالرهبة من مرضاهم، مما يخلق نوعًا من التحويل
(Transference) — بالمعني الحقيقي للكلمة في لغة
التحليل النفسي، ويرغبون في إسعادهم، أو على الأقل ألا يكونوا سببًا في إزعاجهم. ويعتقد
البعض بأن الأطباء يعلمون دائمًا ما يفعلون بكل تحديد، وتُعتبر هذه الحيرة معادية
(Alien) تمامًا بالنسبة لأولئك «الاختصاصيين الفائقين»
(Superspecialists) الذين يعالجون أشد المرضى اعتلالًا
في المستشفيات. وهم مقتنعون بأنه كلما ارتفع مستوى اعتماد الطبيب للتقنيات المتطورة
(Hi-Tech)، زاد اقتناع المرضى بأن الرجال والنساء الذين
يتولون معالجتهم، دائمًا تكون لديهم أسباب علمية وجيهة لتحبيذ نمط الفعل الذي
يعتمدونه.
وكثيرًا ما تكون لدى المرضى، بدورهم، أسباب جوهرية لعدم استكمال المعالجة — عندما
لا يوجد
سوى احتمال ضعيف ومتضائل لبقائهم على قيد الحياة. وبعض هذه الأسباب فلسفي أو رُوحاني،
وبعضها عملي تمامًا، بينما يكون بعضها ناتجًا ببساطة عن الاقتناع بأن ما يحصل عليه
المرء
بعد صراع طويل من أجل التعافي، لا يستحق ما يُبذل من أجل الوصول إليه. وكما قالت لي
ذات
مرة، إحدى ممرضات الأورام الحكيمات: «بالنسبة لبعض الناس، لا يبرر حتى التيقن من تخطِّي
أسابيع الضيق والعذاب، دفع الثمن الجسدي أو العاطفي الذي يتوجب عليهم بذله.» وأثناء
كتابتي
لهذه السطور، كانت بجواري بطاقة متابعة حالة الآنسة هازِل ولش، وهي امرأة في الثانية
والتسعين كانت تعيش في وحدة النقاهة التابعة لمجمع سكني مخصص للمسنين يبعد نحو خمسة
أميال
عن مستشفى جامعة ييل في نيو هافن. وبالرغم من يقظتها الذهنية، كانت محتاجة إلى الرعاية
التمريضية للوحدة نظرًا لتلك الحالة المتقدمة من التهاب المفاصل والانسداد الناتج
عن التصلب
العصيدي في شرايين رجليها، والتي جعلتها غير قادرة على السير بدون مساعدة. وأثناء
فترة
مرضها الحاد الذي عالجتها منه، كان اسمها موجودًا على قائمة الانتظار شبه الاختياري
(Semielective) لاستئصال أحد أصابع قدمها اليسرى، والذي
أصابه الموات (الغرغرينا: Gangrene). كانت تتناول أدوية
مضادة للالتهاب، من أجل علاج التهاب المفاصل الشديد، كما كانت خلال فترة هدأة
(Remission) ابيضاض الدم المزمن (اللوكيميا). «كان محور
هنا، وعجلة هناك، وتُرس هنا، وزنبرك هناك» قد توقف عن العمل، ولو كان جيفرسون معي،
لنصحني
قائلًا بأنه من الغباء أن نحاول منع الآلة ككل من التوقف عن العمل كلية.
وبعد ظهر الثالث والعشرين من فبراير ١٩٧٨م بقليل، سقطت الآنسة ولش على الأرض مغشيًّا
عليها، بوجود إحدى مساعدات التمريض. نقلتها إحدى سيارات الإسعاف إلى غرفة الطوارئ
بمستشفى
جامعة ييل في نيو هافن، حيث لم يوجد لديها ضغط للدم يمكن قياسه؛ كانت العلامات المرضية
الجسمانية متوافقة مع التهاب الصِّفاق الشديد
(Peritonitis). وبعد حقنها في الوريد سريعًا بالمحاليل، تم
إنعاشها لدرجة تسمح بأن تخضع لفحص سريع بالأشعة السينية، كشف عن وجود كَمية كبيرة
من الهواء
الطليق في تجويفها البطني. كان التشخيص واضحًا؛ فمما لا شك فيه أنها كانت تعاني من
انثقاب
في جهازها الهضمي، وكان أكثر المواضع احتمالًا هو قرحة «الاثنا عشري»، بعد المعدة
بقليل.
وعندما أصبحت واعية تمامًا وعقلانية التفكير، رفضت الآنسة ولش أن تُجرَى لها عملية
جراحية، وبلكنة شمالية عريضة، أخبرتني بأنها أقامت فوق ظهر هذا الكوكب «لمدة طويلة
كافية،
أيها الشاب»، وأنها لا ترغب في الاستمرار. وقد قالت إنه لم يعد هناك من تعيش لأجله
… كانت
المساحة المخصصة في أعلى لوحة بياناتها لاسم أقرب أقربائها تحمل اسم أحد ضباط الحراسة
في
بنك كونكتيكت الوطني. أما بالنسبة لي، وأنا أقف بجوار سريرها وأنا صحيح البدن تمامًا
ومحاط
خارج ذلك المكان بأفراد أسرتي وأصدقائي، فلم يكن قرارها ذا مغزى بالنسبة لي. واستخدمت
كل ما
استطعت أن أسوقه من حجج وبراهين لإقناعها بأن الصفاء الناصع لذهنها، واستجابة اللوكيميا
التي أصابتها للعلاج، كانا يعنيان أن أمامها سنوات طيبة لتحياها. وكنت صريحًا تمامًا
في
إخبارها بأن فرصتها في التعافي من الجراحة المطلوبة، وباعتبار الحالة التي وصل إليها
تصلب
شرايينها والالتهاب الصِّفاقي، كانت لا تزيد عن نسبة واحد إلى ثلاثة. قلت لها: «ولكن،
نسبة
واحد إلى ثلاثة، آنسة ولش، لهي أفضل كثيرًا من الموت المحقق، وهو ما سيحدث إن لم تسمحي
لنا
بإجراء الجراحة.» بدا ذلك الحديث مثبِتًا لصحته ذاتيًّا، ولم يكن بوسعي أن أتخيل أنه
يمكن
لأي إنسان تبدو عليه مثل حصافتها، أن يعتقد بعكس ذلك. أصرَّت على عنادها، لذا تركتها
لتفكر
في الأمر بمفردها، بينما كانت فرصها في النجاة تتضاءل بمرور الدقائق.
عُدت بعد مُضي ربع ساعة. كانت مريضتي في وضع نصف الجلوس على سريرها، وهي تنظر إليَّ
عابسة، كما لو كنت صبيًّا شقيًّا في منتصف العمر. ومدَّت يدها لتمسك بيدي، وهي تحملق
بشدة
في عيني مباشرة، كما لو كانت تكلفني بمهمة كئيبة ستعُدُّني مسئولًا عن فشلها بصفة
شخصية،
وقالت: «سأفعلها، ولكني أفعل ذلك فقط لأني أثق بك» شعرت بعد ذلك، فجأة، بأنني أقل
ثقة في أن
ما أفعله هو الصواب.
اكتشفت، أثناء الجراحة، وجود انثقاب هائل في «الاثنا عشري»، لدرجة أن إصلاحه تطلَّب
جراحة
جذرية أكبر مما توقعت. كانت المعدة قد أصبحت شبه مفصولة تمامًا عن «الاثنا عشري»،
كما لو
كان انفجار قد فصلها عنه؛ كانت بطن الآنسة ولش ممتلئة بالعصائر الهضمية الكاوية، كما
كانت
هناك قطع كاملة من طعام الغداء الذي تناولته قبل الجراحة بدقائق. فعلت ما كان ضروريًّا،
ثم
أغلقت البطن، وأدخلت مريضتي التي كانت لا تزال غائبة عن الوعي إلى وحدة العناية الجراحية
المركزة. لم تكن لديها الاستثارة التنفسية الكافية للتنفس، لذا بقي أنبوب التخدير
في قصبتها
الهوائية.
وعند نهاية الأسبوع، كانت صحة الآنسة ولش قد بدأت بالتحسن، بالرغم من أنها لم تكن
مدركة،
ذهنيًّا، بصورة كافية لاستيعاب ما كان يجري من حولها. صفا ذهنها تمامًا في نهاية الأمر،
استغلَّت كل لحظة من زياراتي التي كانت تتكرر مرتين يوميًّا في التحديق فيَّ مؤنبة،
قبل أن
يمكن إزالة أنبوب التنفس من بين أحبالها الصوتية بعد ذلك بيومين. وعندما كان بوسعها
التحدث،
لم تُضِع وقتًا قبل أن تخبرني بتلك الخدعة القذرة التي ارتكبتُها عندما لم أدعها تموت
كما
أرادت. زججت بها في ذلك الأمر، وأنا على يقين من أنني كنت أفعل الصواب، وفي وجود ما
اعتقدت
أنه دليل حي، حاولت إثبات صحة ذلك. وبعد كل شيء، ظلَّت على قيد الحياة. لكنها كانت
ترى
الأمور بنظرة مختلفة، ولم تتردد في إخباري بأنني خنتها بتهوين المصاعب التي واجهتها
في فترة
ما بعد الجراحة. ولأني كنت أعلم أن الآنسة ولش كانت سترفض إجراء الجراحة المنقذة لحياتها،
لو كانت على علم بتلك الأمور التي كثيرًا ما يواجهها المسنون من المصابين بتصلب الشرايين
في
وَحَدات العناية الجراحية المركزة، أغفلت في وصفي للأيام المتوقعة بعد العملية الجراحية،
ما
كان من المتوقع، حقيقةً، أن تعالجه. قالت إنها قد عانت الكثير، وإنها لم تعد تثق فيَّ
بعد
الآن. كان من الواضح أنها واحدة من أولئك الناس الذين كان البقاء على قيد الحياة بالنسبة
لهم لا يستحق تكلفته، كما أنني لم أكن قريبًا بما فيه الكفاية لتوقُّع ماهية هذه الكلفة.
وبالرغم من أن نواياي لم تعد كونها الرغبة في خدمة ما أدركت أنه في مصلحتها، فقد كنت
مذنبًا
بأسوأ أنواع فرض الرعاية الأبوية (Paternalism). لقد أخفيت
بعض المعلومات لأنني خشيت أن المريضة ستستغلها في اتخاذ ما اعتقدتُ أنه قرار خاطئ.
وبعد أسبوعين من انتقالها مجددًا للإقامة في غرفتها القديمة بالمجمع السكني، أصيبت
الآنسة
ولش بسكتة دماغية شديدة، ومن ثم ماتت في أقل من يوم واحد. وتقيُّدًا بالتعليمات التي
كتبتها
بحضور ضابط الوصاية عليها خلال زيارته لها بعد خروجها من المستشفى، فلم تُبذل أية
محاولة
لمنحها أي شيء سوى الرعاية التمريضية. فلم تكن ترغب في أي تكرار لتجرِبتها الحديثة،
وقد
عبرَتْ عن ذلك بوضوح شديد في تقريرها المكتوب. وبالرغم من أن الرضح
(Trauma) الناتج عن الالتهاب الصِّفاقي، ثم الجراحة،
اللذَين تعرضت لهما، زادا بوضوح من احتمال إصابتها بالسكتة الدماغية، شككت في أن غضبها
المستمر من خداعي المتعمد لها قد لعب دورًا بالمثل. ولكن ربما كان العامل الأكبر أهمية
في
وفاة مريضتي هذه، هو ببساطة رغبتها في عدم البقاء على قيد الحياة، والذي أحبطته جراحتي
الخرقاء. انتصرت على ذلك اللغز، لكنني فقدت المعركة الكبرى للرعاية الإنسانية
للمرضى.
ولو كنت قد أخذت بعين الاعتبار تلك العوامل التي وصفتها في الفصول التي تتناول الشيخوخة
من هذا الكتاب، لما كنت تسرعت في التوصية بإجراء العملية الجراحية. وبالنسبة للآنسة
ولش، لم
يكن لذلك الجهد ما يبرره، بصرف النظر عن قدر النجاح الذي تحقق، كما أنني لم أكن من
الحكمة
بحيث أدرك ذلك. أما الآن، فأنا أرى الأمور بصورة مختلفة. وإذا أتيحت لي الفرصة لمعايشة
ذلك
الموقف ثانية، أو أي موقف مهني مشابه، فسأستمع أكثر للمريضة، وسأطلب منها أن تستمع
إليَّ
بصورة أقل. كان هدفي هو مغالبة اللغز؛ أما هدفها هي فكان استغلال مرضها المفاجئ كسبيل
للموت
يحوطه الجلال. والذي تخلَّت عنه لمجرد إسعادي.
وهناك كذبة في الفقرة التي انتهيتَ من قراءتها لتوِّك، فقد ضمنتها قول إنني كنت سأتصرف
بطريقة مختلفة، برغم علمي بأنني غالبًا ما كنت سأتصرف بنفس الطريقة تمامًا، وإلا تعرضت
لاحتقار زملائي الأطباء. وفي مثل تلك الأمور يصطدم علماء الأخلاق والفضيلة بأرض الواقع،
وهم
يحاولون أن يحكموا على أفعال الأطباء الممارسين، لأنهم لا يستطيعون رؤية الخنادق الدفاعية
من مناطق رؤيتهم البعيدة. وتنص مبادئ مهنة الجراحة على ألا يُترك مريض قابل للإنقاذ
مثل
الآنسة ولش ليموت، إذا كان لعملية جراحية مباشرة أن تنقذه. أما نحن الذين قد نخرق
هذه
القاعدة الأساسية، مهما كانت دوافعنا «إنسانية» — فنحن نفعل ذلك على مسئوليتنا الخاصة.
وإذا
نظر أحد الجراحين للقرار الذي اتخذته، فسيكون ذلك القرار سريريًّا تمامًا، ويجب هنا
ألا
توضع الأخلاقيات (Ethics) في الاعتبار. ولو كنت قد تركت
الآنسة ولش تموت بدون جراحة، لكان عليَّ أن أدافع عن تلك النتيجة خلال المؤتمر الجراحي
الأسبوعي (حيث كان القرار سيبدو بالتأكيد قراري الشخصي، وليس قرارها هي)، أمام الزملاء
المتشددين الذين سيبدو موتها أمامهم كضرب من الخطأ في تقدير حالة المريضة، إن لم يكن
كإهمال
جسيم في تنفيذ واجبي المحدد لإنقاذ حياتها. ومن شبه المؤكد أنني كنت سأتلقى توبيخًا
شديدًا،
لفشلي في رفض مثل هذه الرغبة التي تبدو عارية من المنطق. وبوسعي أن أتخيل ما كنت سأسمعه
عندئذ: «كيف سمحت لها أن تتحدث معك بخصوص ذلك الأمر؟» … «هل يعني مجرد أن امرأة عجوزًا
كانت
تريد الموت، أن تكون أنت شريكًا في ذلك؟» … «على الجراح أن يتخذ القرارات السريرية
فحسب،
والقرار السريري الصائب في هذه الحالة كان أن تُجرَى الجراحة، ولتدع المواعظ لرجال
الدين!»،
وذلك صورة من صور الضغط الذي يمارسه الأقران (Peer
pressure)، والذي لن أكون مجترئًا بما فيه الكفاية لكي أدَّعي أنني أتمتع
بالمناعة تجاهه. فبصورة أو بأخرى، ستنتصر معتقدات طب التقنيات العالية، كما تفعل دائمًا
في
أغلب الأحوال.
لم تكن معالجتي للآنسة ولش مبنية على أهدافها هي، بل على أهدافي الخاصة، وعلى المبادئ
المتعارف عليها لتخصصي. وقد واصلت نوعًا من العبث
(Futility) الذي حرمها من ذلك النوع الخاص من الأمل الذي
كانت تتوق إليه — وهو أملها في أن تغادر هذا العالم بدون تدخل منها عندما تحين الفرصة.
وبصرف النظر عن عدم وجود أقارب لها، كان بوسعي، والممرضة، أن نتوقع أنها لن تموت وحيدة،
على
الأقل في حدود ما يستطيع الغرباء المتعاطفون تقديمه لشخص عجوز بلا أصحاب. لكن الذي
حدث في
الواقع، هو أنها عانت من ذلك المصير الذي يتعرض له الكثير ممن يُتوفَّون في المستشفيات
في
أيامنا هذه، وهو أن تُفصل عن الواقع بنفس تلك التقنيات الأحيائية والمقاييس العملية
التي
يُفترض فيها أن تعيد الناس إلى الحياة الهادفة.
وتقوم الشاشات (Monitors) التي لا تنفك تصفِّر وتصرخ
(squeal)،
وفحيح أجهزة التنفس الصناعي والحشايا الزنبركية، والإشارات الإلكترونية التي تنبض
بألوان
متعددة — أي ترسانة التقدم التكنولوجي بكاملها — بدور الخلفية للتكتيكات التي نُحرم
عبرها
من تلك السكينة التي يجب أن نمتلك الحق الكامل في أن نحلم بها، كما ننفصل عن تلك القلة
من
الناس الذين لن يتركونا نموت منفردين. ومن خلال تلك الطرق، تعمل التكنولوجيا الحيوية
— التي
وُجدت أساسًا لتوفير الأمل — على سلبه في حقيقة الأمر، كما تترك الناجين منا يتحسرون
على
تلك الذكريات النهائية الحية، والتي تنتمي بحق لأولئك الذين يجلسون بقربنا عندما تقترب
أيامنا من نهايتها.
ويحمل كل من التطورات العلمية أو السريرية في طياته مضمونًا ثقافيًّا، وآخر رمزيًّا
في
كثير من الأحيان. ويمكن النظر إلى اختراع السماعة الطبية
(Stethoscope) في عام ١٨١٦م، على سبيل المثال، كبداية
لتلك العملية التي قام الأطباء من خلالها بإبعاد أنفسهم عن مرضاهم. وفي الواقع أن
ذلك
التفسير لدور هذه الآلة الطبية، قد اعتمده بعض المعلقين الطبيين في زمن كان ذلك يُعَد
فيه
أحد مميزات السماعة، حيث إنه ليس هناك الكثير من الأطباء الممارسين، سواء في ذلك الوقت
أو
الآن، ممن يشعرون بالراحة عندما يضعون آذانهم فوق صدر مريض. وحتى يومنا هذا، يبقى
ذلك
السبب، بالإضافة إلى كون السماعة دليلًا مرئيًّا على المكانة الاجتماعية لحاملها،
من
الأسباب غير المعلنة لشهرة هذه الآلة الطبية. ولا يحتاج المرء سوى أن يُمضي ساعات
قليلة في
المرور السريري مع الأطباء الشبان، لكي يلاحظ الأدوار العديدة التي يلعبها ذلك الدليل
الدامغ على السلطة والانعزال.
وعند النظر إلى السماعة الطبية من المنظور السريري البحت، فهي لا تعدو كونها آلة
لنقل
الأصوات؛ وبنفس المنطق، يمكن اعتبار وحدة العناية المركزة مجرد غرفة للكنز الخفي للأمل
الخاص بالتقنيات العالية، في داخل تلك القلعة التي نعزل فيها المريض من أجل أن نتمكن
من
رعايته بصورة أفضل. وتمثل هذه الأماكن المقدسة الخفية أنقى صور إنكار مجتمعنا لطبيعية
(Naturalness)، وحتى لضرورة، الموت. وتقوم العناية
المركزة، مع ما فيها من انعزال وسط الغرباء، بإخماد أمل كثير من المحتضَرين في ألا
يتم
التخلي عنهم في ساعاتهم الأخيرة. ولكنه يتم التخلي عنهم، في واقع الأمر، بالرغم من
النوايا
الحسنة لأفراد طاقم الرعاية المحترف رفيعي المهارات، والذين يعرفونهم بالكاد.
وفي أيامنا هذه، يُعتبر النمط السائد هو إخفاء الموت عن الأنظار. ويطلق المؤرخ الاجتماعي
الفرنسي فيليب آرييه (Ariés)، في عرضه الكلاسيكي للطقوس
المتعلقة بالاحتضار، على هذه الظاهرة الحديثة اسم «الموت الخفي» (Invisible
Death). وهو يوضح أننا نعتبر الاحتضار قبيحًا وقذرًا، وأننا لم نعد
نتحمل بسهولة مزيدًا مما هو قبيح وقذر. ولتلك الأسباب يجب أن يُخفى الموت، وأن يتم
في أماكن
منعزلة:
بدأت عملية الوفاة الخفية في المستشفيات بصورة محدودة للغاية في الثلاثينيات
والأربعينيات من القرن العشرين، قبل أن تنتشر بصورة واسعة بعد الخمسينيات … فلم
تعد
حواسنا اليوم تقدر على احتمال تلك المناظر والروائح التي كانت تمثل جزءًا من الحياة
اليومية للقرن الثامن عشر، بالإضافة إلى العذاب والمرض. انسحبت التأثيرات
الفيزيولوجية من الحياة اليومية، إلى ذلك العالم المعقم للصحة، والطب، والوفاة.
ويتمثل التعبير المتكامل عن ذلك العالم، في المستشفى، بنظامها الخلوي … وعلى الرغم
من أن ذلك لا يُعترف به في جميع الحالات، فإن المستشفيات منحت للأسر مكانًا يمكن
فيه إخفاء ذلك العليل المُشين، الذي لا يستطيع أن يتحمله العالم، ولا هم … أصبحت
المستشفيات محلًّا للموت المنفرد.
وتحدث نحو ثمانين بالمائة من وفَيَات الأمريكيين اليوم في المستشفيات. وارتفعت هذه
النسبة
منذ عام ١٩٤٩م، حيث لم تكن تتعدَّى الخمسين بالمائة؛ وفي عام ١٩٥٨م، بلغت النسبة ٦١
بالمائة، أما في عام ١٩٧٧م، فقد كانت ٧٠ بالمائة. ولا ترجع تلك الزيادة لكون الكثيرين
جدًّا
ممن يموتون كانوا بحاجة لمستوى مرتفع من الرعاية الحرجة، والذي لا يمكن توفيره سوى
داخل
جدران المستشفيات. وتُعَد هنا الرمزية الثقافية لعزل المحتضَرين ذات مغزى، بالقدر
نفسه الذي
يكون عليه المنظور السريري البحت لتحسين الوصول إلى الإمكانات التخصصية والأفراد المدربين،
وربما كانت تلك ذات مغزى أكبر بالنسبة للمرضى أنفسهم.
أصبح الموت المنفرد معروفًا جيدًا في أيامنا هذه، لدرجة أن مجتمعنا بدأ ينظم صفوفه
ضده،
كما يجب علينا أن نفعل تمامًا. ومن حكمة تلك الوثائق القانونية التي تسمى بالتوجيهات
المسبقة (Advance directives)، إلى تلك الفلسفات المشبوهة
لما يسمى بجمعيات الانتحار، هناك العديد من الخيارات المتاحة، كما أن الهدف النهائي
لكل
منها يتشابه في جميع الحالات: وهو المحافظة على التيقن من أنه عند اقتراب النهاية،
فسيكون
هناك ذلك النوع من الأمل على الأقل — وهو أن لحظاتنا الأخيرة لن يوجهها المهندسون
الطبيون،
بل أولئك الذين يعرفون من نكون.
وهذا الأمل، أي الاطمئنان إلى أنه لن تكون هناك جهود غير ضرورية، هو تأكيد على أن
الكرامة
التي يجب أن نسعى إليها في الموت، هي التقدير الذي يُظهره الآخرون لما كان المرء عليه
أثناء
حياته. وهي كرامة تنبع عن حياة عاشها صاحبها جيدًا، وعن تقبُّل المرء لوفاته كعملية
ضرورية
للطبيعة، لكي تسمح لحياة نوعنا البشري أن تستمر من خلال أطفالنا نحن، وأطفال الآخرين.
وهي
أيضًا ذلك الاعتراف بأن الحدث الحقيقي الذي يقع عند نهاية حياتنا هو الموت، وليس محاولاتنا
لمنع وقوعه. استحوذت علينا، بصورةٍ ما، أعاجيب العلم الحديث، لدرجة أن مجتمعنا أصبح
يضع
تركيزه على الجانب الخطأ. والمحتضَر هو الأمر المهم؛ فالممثل الرئيسي في تلك الدراما
هو
الرجل المحتضَر، ولا يعدو القائد النشيط لتلك الفرقة المتظاهرة بالانهماك في العمل
من
منقذيه المحتمَلين، كونه متفرجًا (Spectator)، وحتى في ذلك، فهو يفعل ذلك من بعيد ودونما
اهتمام.
وفي الأزمان الغابرة، كانت ساعة الوفاة — إذا ما سمحت الظروف، تُرى كوقت للقدسية
الرُّوحانية (Spiritual sanctity)، وللاجتماع الأخير مع
أولئك الذين سنُخلِّفهم وراءنا. ويتوقع المحتضَرون أن يحدث هذا الموقف هكذا، لذا فلم
يكن من
السهولة بمكان أن نحرمهم ذلك. كان ذلك هو عزاءهم وعزاء من يحبونهم في مواجهة الفراق،
وخصوصًا في مواجهة تلك المآسي التي تكون قد سبقته في أغلب الأحيان. وكان ذلك الاجتماع،
بالنسبة للكثيرين، مركزًا ليس فقط للإحساس بأنهم مُنحوا «موتًا طيبًا»، بل وللأمل
الذي رأوه
في وجود الله والإيمان بالحياة الآخرة.
ومن المثير للسخرية أن أجد من الضروري، عند إعادة تعريف الأمل، أن ألفت الانتباه
إلى أمر
كان يمثل — حتى وقت قريب — المَحِلَّة (
Precinct) ذاتها
التي يبحث فيها أغلب الناس عن ذلك الأمل. ويلجأ المحتضَرون اليوم إلى الله وللوعد
بالحياة
الآخرة، عندما توشك الحياة المعاصرة على الانتهاء، بصورة أقل مما كان يحدث في أي وقت
آخر من
تلك الألف الثانية للميلاد. ولا يحق لأفراد الرعاية الطبية أو للمتشككين
(
Skeptics) أن يشككوا بعقيدة شخص آخر، خصوصًا عندما
يكون ذلك الآخر مواجهًا لحياة الخلود. وقد عُرف عن اللاأدريين،
١ وحتى الملحدين (
Atheists)، أنهم يجدون السلوى
في الالتجاء إلى الدين في مثل تلك المواقف، وهنا يجب احترام ذلك التغير الشديد في
قلوبهم.
وكم من مرة سمعت فيها، حين كنت جراحًا شابًّا، طبيبًا أو ممرضة يسخران من طقوس الموت
لإحدى
الطوائف الغريبة، لأنها «أقرب ما تكون لأن تخبره بأنه سيموت»، ثم تراه، أو تراها،
يتلكأ في
استدعاء رجل الدين الذي ربما كان وجوده، لو أن المريض كان على علم بحقيقة الأمر، سيفضله
المريض عن وجود الطبيب نفسه! ومنذ سنوات خلت، كان المستشفى الذي أعمل به يضم تصنيفًا
مرضيًّا يسمى بقائمة الخطر (
Danger List). وعندما كانت تلك
القائمة تضم اسمًا لأحد الكاثوليك، كان القس التابع له المريض يُستدعى على الفور.
ومن بين
الأسباب العديدة التي أدَّت إلى اختفاء مثل هذه القوائم، نجد التردد الرسمي في التسبب
في
«إفزاع» المريض، بأن يجد في غرفته شخصًا يرتدي مسوح الرهبان، لأن ذلك كثيرًا ما يكون
أول
تلميح للمريض بأن حياته بسبيلها للانتهاء. وبمثل تلك الطرق، كانت السلطات الرسمية
للمستشفيات تنكر الأمل، لدرجة أنه حتى العقائد الدينية كانت تقوَّض من أجل تحقيق ذلك
الهدف.
وأحيانًا ما يكون مصدر الأمل للمحتضَر ضعيفًا، مثل تمنِّي البقاء على قيد الحياة حتى
تخرُّج الابنة، أو حتى مثل قضاء إجازة ذات مغزًى خاص. وتوثق الكتابات الطبية لقوة
مثل ذلك
الأمل، فهي تصف أحداثًا حافظ فيها الأمل ليس على حياةٍ، بل وعلى تفاؤل رجل أو امرأة
في طور
الاحتضار، للمدة الضرورية المطلوبة. ويستطيع جميع الأطباء، والكثير من أفراد الجمهور
العادي، أن يخبرونا عن أشخاص بقُوا على قيد الحياة، على الرغم من أسوأ التوقعات، من
أجل
حضور عيد أخير للميلاد، أو انتظارًا لرؤية وجه محبوب عائد من أحد الأصقاع النائية.
والدرس المستفاد في كل من هذه الحالات معروف جيدًا. فالأمل لا يوجد فقط في توقُّع
الشفاء،
أو حتى في توقع حدوث هدأة للضيق الحالي. بالنسبة للمريض المحتضَر، سيظهر في جميع الحالات
أن
الأمل في الشفاء لهو أمل كاذب في نهاية المطاف، بل وكثيرًا ما يتحول حتى الأمل في
تخفيف
معاناته إلى رماد بدوره. وعندما يحين أجلي، سألتمس الأمل في معرفة أنني لن أتعذب،
ولن أخضع،
بقدر المستطاع، لأي محاولات لا ضرورة لها للإنعاش؛ وسألتمسه في التيقن من أنني لن
أُترك لكي
أموت وحيدًا؛ كما أنني ألتمسه الآن، في الطريقة التي أحاول أن أعيش بها حياتي، بحيث
يستفيد
أولئك الذين يقدرون قيمتي، من فترة بقائي على الأرض، وأن أُخلِّف لهم ذكريات مريحة
عما كان
يعنيه كل منا بالنسبة للآخر.
وهناك من يتلمسون الأمل في الإيمان، وفي اعتقادهم بوجود الحياة الآخرة؛ بينما يتطلع
البعض
الآخر إلى مفترق طرق في حياته، أو نقطة يتم فيها الوصول إلى هدف منشود؛ بل إن هناك
البعض
ممن يتركز أملهم في المحافظة على نوع من التحكم الذي يوفر لهم سبل اختيار لحظة وفاتهم،
ويعني ذلك — بصورة فعلية — أن تنتهي حياتهم بدون معوقات. ومهما كان الشكل الذي يتخذه
ذلك،
فيجب أن يجد كل منا الأمل بطريقته، أو بطريقتها، الخاصة.
وهناك نوع من الهَجر (Abandonment)، يشيع بصورة خاصة بين
المرضى الذين يقتربون من الموت بالسرطان، ويتطلب ذلك النوع منا التعليق. وأشير هنا
إلى
الهجر من قِبَل الأطباء. ونادرًا ما يرغب الأطباء في الاستسلام. فما دام قد بقي هناك
أي
احتمال للتمكن من حل اللغز، فسيستمرون في المحاولة، وأحيانًا يستلزم الأمر تدخُّل
أفراد
الأسرة، أو المريض ذاته، لوضع حد للتدريبات الطبية على العبثية. وعلى الرغم من ذلك،
فعندما
يصبح من الواضح أنه لم يعد هناك لغز يمكن تركيز الانتباه عليه، يفقد الكثير من الأطباء
ذلك
الحافز الذي يُبقي على حماسهم. وفي الوقت الذي يستمر فيه الحصار الطويل، حيث يفشل
العلاج
تلو الآخر، تميل أوجه الحماسة تلك للتنحِّي جانبًا. وعندئذ يميل الأطباء للاختفاء
بدورهم،
عاطفيًّا؛ أما جسديًّا، فكثيرًا ما لا يفعلون شيئًا إلا أن يختفوا.
تم ذكر الكثير من الأسباب لتفسير هجر الأطباء لمرضاهم عندما تصبح حالتهم المرضية
ميئوسًا
منها. وتمت الإشارة إلى بعض الدراسات، والتي تشير إلى أن الطب — من بين جميع المهن
الأخرى —
يبدو أنه أكثر المهن اجتذابًا للأفراد الذين يتمتعون بأوجه شخصية عالية للقلق نحو
الموت.
فنحن نصبح أطباء لأن قدرتنا على العلاج تعطينا سلطة على ذلك الموت الذي نخشاه كثيرًا،
بينما
يحمل فقد هذه السلطة تهديدًا خطيرًا، لدرجة أننا نُضطر للهرب بعيدًا عنه، ومن ثَم
عن أولئك
المرضى الذين يُجسِّدون ضعفنا. والأطباء هم أناس ينجحون، وتلك هي الطريقة التي يتمكنون
بها
من التغلب على المنافسة الرهيبة التي يلقاها كل منهم في سبيل الحصول على شهادته الطبية،
وعلى تدريبه العملي، ثم على وظيفته، ومثلهم مثل غيرهم من ذوي المواهب الرفيعة، فهم
يحتاجون
إلى تأكيد مستمر لقدراتهم. فأن تفشل يعني أن تتحمل لطمات لصورتك الشخصية، والتي قليلًا
ما
يتحملها أفراد تلك المهنة التي هي أكثر المهن أنانية (egocentric) على الإطلاق.
تأثرت بعامل آخر في شخصيات الكثير من الأطباء، ربما كان مرتبطًا بالخوف من الفشل:
وهو
حاجة للسيطرة على الأمور، تتخطى في حجمها حدود المعقول بالنسبة لأغلب الناس. وعندما
تُفقد
هذه السيطرة، يضيع ذلك الشخص الذي يحتاجها، بصورةٍ ما، ولذا فهو يتعامل بشكل سيئ مع
نتائج
عجزه. وفي محاولة للمحافظة على سيطرته، يقنع الطبيب نفسه — بدون وعي منه في الغالب
— بأنه
يعلم أفضل من المريض أي السبل أفضل بالنسبة له. وهو يقدم من المعلومات ذلك القدر الذي
يعتقد
أنه ملائم فحسب، وبهذا فهو يؤثر على اتخاذ المريض لقراره بطرق لا يدرك أنها تخدم مصلحته
هو.
كان ذلك النوع من «الرعاية الأبوية» هو بالتحديد مصدر خطئي في معالجة الآنسة ولش.
وذلك العجز عن مواجهة التبعات التي يتضمنها فقدان السيطرة، يؤدي في أحيان كثيرة بالطبيب
إلى الهرب من المواقف التي لم يعد لقوته فيها وجود، ومن المؤكد أن يلعب ذلك دورًا
في عملية
التخلي عن المسئوليات، والتي كثيرًا ما تقع عند نهاية حياة المريض. وفي الصياغة المنسقة
التي يراها في «اللغز» وفي الطريقة المنهجية التي يعتمدها في الوصول إلى الحل، يصنع
الطبيب
من الاضطراب نظامًا، ويجد القوة على ممارسة سلطته على المرض، والطبيعة، وعالمه الخاص.
وعندما لا يكون هناك لغز، سيقلل مثل هذا الطبيب من اهتمامه، أو يفقده كلية. فالبقاء
لرؤية
انتصار الطبيعة الجامحة يعني الاعتراف بعجزه الشخصي.
أو أن الطبيب قد يحتفظ، بعد أن يخسر المعركة الكبرى، بقدر ضئيل من السطوة من خلال
فرض
هيمنته على عملية الاحتضار، وذلك من خلال التحكم في مدتها وتحديد اللحظة التي يسمح
فيها
بانتهائها. وبهذه الطريقة، فهو يحرم المريض وأسرته من السيطرة التي هي من حقهم. وفي
أيامنا
هذه، لا يموت الكثير من المرضى من نزلاء المستشفيات، إلا عندما يقرر أحد الأطباء أن
الوقت
المناسب لذلك قد حان. وأعتقد، باستثناء الفضول والتحدي الذي يمثله حل المشكلات — وهما
من
العناصر الأساسية للبحث الجيد — أن وهم السيطرة على الطبيعة يقبع في أساس العلم الحديث
ذاته. وبالرغم من كل ما أُوتِيَت من فن وفلسفة، فقد أصبحت مهنة الطب الحديث، بصورة
كبيرة،
تمثل تمرينًا للعلوم التطبيقية، مع استحضار هدف الغزو هذا في الأذهان. وليس الهدف
النهائي
للعالِم هو المعرفة من أجل المعرفة فحسب، بل المعرفة التي تهدف إلى قهر ما يراه معاديًا
في
البيئة المحيطة بنا. وليس هناك من بين أفعال الطبيعة (أو الطبيعة ذاتها) ما هو أشد
عداءً من
الموت. ففي كل مرة يموت فيها أحد المرضى، يتم تذكير طبيبه بأن سيطرته، وسيطرة الجنس
البشري
ككل، على القوى الطبيعية محدودة، وأنها ستظل كذلك على الدوام. فستنتصر الطبيعة في
النهاية
دائمًا، كما يجب عليها أن تفعل من أجل المحافظة على بقاء نوعنا البشري.
تم توقُّع، وتقبُّل، الانتصار النهائي للطبيعة منذ أجيال عديدة سابقة لجيلنا. وكان
الأطباء أكثر استعدادًا بكثير للتعرف على علامات الهزيمة، كما كانوا أقل صلفًا في
إنكارها.
فُقِدَ تواضع مهنة الطب في مواجهة قوى الطبيعة، وضاع معه بعض المرجعية الأخلاقية للأزمان
الغابرة. ومع التزايد الهائل في كم المعرفة العلمية، ظهر انخفاض هائل في الاعتراف
بأننا لا
زلنا نمتلك السيطرة على أقل بكثير مما نرغب فيه. ويتقبل الأطباء ذلك التوهم
(conceit) [بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ] بأن العلم قد
منحنا قوة هائلة، ومن ثَم فهُم وحدَهم، يمثلون القضاة الذين يمكن لهم تحديد الكيفية
التي
يمكن بها الاستفادة من مهاراتنا. وبدلًا من التواضع العظيم الذي كان من الواجب أن
يصاحب تلك
المعرفة الهائلة، ظهرت الغطرسة الطبية: فحيث إنه بوسعنا فعل الكثير، فليست هناك حدود
لما
يمكن محاولة فعله اليوم، ولهذا المريض بالذات!
وكلما زادت دقة تخصص الطبيب، زاد احتمال كون «اللغز» هو حافزه الأساسي. ونحن نَدين
للانهماك الطبي في محاولة حل ذلك «اللغز»، بالتطورات السريرية الكبرى التي يستفيد
منها جميع
المرضى؛ وندين أيضًا للانهماك الطبي في محاولة حل اللغز، بخيبة أملنا عندما نزكي توقعات
الأطباء التي لا يستطيعون تحقيقها، والتي ربما لم يكن من الواجب أن يُطلب منهم تحقيقها
في
المقام الأول. ويُعَد «اللغز» كالمغناطيس (Lodestone) بالنسبة للطبيب، كعالم تطبيقي؛ وكطائر
القُطْرُس (Albatross)،
بالنسبة له كمقدم للرعاية الإنسانية.
ويُعَد علماء الأورام (Oncologists) من أكثر الناس
تصميمًا في القطاع الطبي، فهم مستعدون لتجرِبة أي جهد نهائي لمنع وقوع ما هو محتوم
— ويمكن
أن تراهم يقفون وراء المتاريس، عندما يكون بقية المدافعين قد طووا أعلامهم وانسحبوا.
ومثلهم
مثل كثير من زملائهم المتخصصين، يمكن أن يتَّسم علماء الأورام بالتعاطف والإحسان؛
فهم من
المرجح، عند التعامل مع المرضى، يتدارسون أنماط العلاج ومضاعفاتها المحتملة باستفاضة،
ثم
يضعون خطة للعمل، ويخلقون عَلاقات حميمة مع الأفراد والأسر على حدٍّ سواء. ومع ذلك،
فهم
كثيرًا ما يفعلون ذلك حتى بدون أن يتمكنوا من التوصل إلى فهم حقيقي للطبيعة الرُّوحانية
لأولئك الذين يعالجونهم، أو لردة فعلهم الموضوعية نحو الوجه غير المحدد المعالم للموت،
والذي يكتنف مساعيهم على الدوام. ويؤسفني القول بأن تلك هي الحقيقة بالنسبة للغالبية
العظمى
من الاختصاصيين الذين يعالجون أشد أمراضنا تعقيدًا. وعندما أنظر لتلك السنوات الثلاثين
التي
قضيتها في الممارسة الطبية، يتزايد إدراكي بأنني كنت ذلك الحلَّال للمشاكل، أكثر من
كوني
ذلك الرجل من حي برونكس، والذي كانت أمنيته الوحيدة هي أن يرعى مرضاه.
وإذا كففنا عن أن نتوقع من الكثير من أطبائنا تنفيذ ما ليس بوسعهم، فمَن ذا الذي سيوجهنا،
كمرضى، لاتخاذ القرارات العقلانية؟ فهؤلاء الأطباء، في المقام الأول، لا يزال بوسعهم
توجيهنا. وفي واقع الأمر، أن المعلومات التي يبوحون بها تصبح أكثر قيمة بمجرد أن نعتاد
على
استخدامها كمجرد سبيل لفهم الفيزيولوجية المرضية التي يعرفونها تمام المعرفة. ولو
علم
أطباؤنا الاختصاصيون بأنهم يفتقدون للقوة اللازمة للسيطرة على حكمنا على الأمور، لكانوا
أقل
استعدادًا لإبلاغنا بالأمور بطريقة تؤثر على القرار الذي يريدوننا أن نتخذه. ويطيب
لكل مريض
أو مريضة أن يدرس مرضه أو مرضها، وأن يعلم عنه ما يكفيه للتعرف على بداية ذلك الوقت
الذي
يصبح فيه المزيد من العلاج محلًّا للجدل. وتبدأ عملية التعلم تلك بمعرفة الكيفية التي
يعمل
بها الجسم البشري الطبيعي، والتي تبسِّط كثيرًا التعرف على الطرق التي يصاب الجسم
بالمرض من
خلالها. ومن الواضح أن السرطان عملية ملائمة بصورة خاصة لمثل هذا الأسلوب، لذا فلن
يتخطى
تنفيذه قدرات سوى نسبة مئوية ضئيلة من الناس.
وعند مناقشتي «للُّغز»، لم أتحدث عن ذلك الطبيب الذي يتعرض للافتتان به بدرجة أقل
من تلك
التي يتعرض لها الاختصاصي. وستبقى العَلاقة بين المريض وبين طبيبه الأساسي مفتاح العلاج،
كما كان الأمر منذ تلك الأيام التي وضع فيها «أبوقراط» تأملاته حولها. وعندما لا يمكن
إيجاد
علاج شافٍ للمرض، تكتسب هذه العَلاقة أهمية قصوى.
وسيروق لحكومتنا أن تدعم مفهوم طب العائلة (Family
practice) والرعاية الصحية الأولية، والذي يجب أن يكون محل التركيز
الأكبر في أية خطة لتقديم خدمات الرعاية الصحية. ويستحق تمويل برامج التدريب على هذه
الخطط
في كليات الطب والمستشفيات التعليمية، أن يصبح أولوية كبرى، كما يجب تشجيع التكريس
(Dedication) الذي يُظهره أولئك الشبان الموهوبون. ومن
بين جميع الفوائد المحتملة لمثل هذا النظام، لا أستطيع أن أفكر في واحدة أكثر قيمة
من ذلك
التأثير الإنساني (Humanizing
effect) الذي يمكن أن يُسبِغه على الطريقة التي نموت بها.
ونحن نتحمل من المشاق عند الموت الكثير، بحيث يجب ألا نضيف إليها بطلب المشورة من
المتخصصين
الغرباء وحدهم، في الحين الذي يمكن أن ترشدنا فيه بصيرة العَلاقة المديدة بيننا وبين
طبيبنا
الخاص.
ونحن نتحمل ما هو أكثر من الألم والأسى عندما نفارق الحياة. ومن بين أثقل الأحمال
التي
نواجهها، نجد الندم، والذي يستحق كلمة عند هذه النقطة. فهناك قطع إضافية من المتاع
التي
يتوجب علينا حملها معنا إلى القبر، وهي محتومة كالموت، إضافة لكونه من المرجح أن تسبقها
فترات عصيبة — خصوصًا بالنسبة لضحايا السرطان. لكننا نستطيع، بصورةٍ ما، أن نُخلِّص
أنفسنا
من حِملها إذا توقعنا حدوثها. وبهذه أعني تلك الخلافات غير المحلولة، وجروح العَلاقات
التي
لم تُشفَ بعد، والطاقات المعطلة، والعهود التي لم تتم المحافظة عليها، والسنوات التي
لن
نحياها على الإطلاق. وستكون هناك، بالنسبة لكل منا تقريبًا، أعمال لم تُنجَز بعد.
ولا ينجو
من ذلك سوى أولئك الذين بلغوا من الكبر عتيًّا، ولكن ليس في جميع الحالات.
وربما يجب أن يكون مجرد وجود أشياء لم تُنجَز، بمثابة مرضاة في حد ذاته؛ على الرغم
من أن
تلك الفكرة قد تبدو متناقضة لأول وهلة. ليس هناك من ليس لديه الكثير من «العهود ليحفظها،
والأميال ليقطعها، قبل أن يخلد إلى النوم الأبدي» سوى من مات منذ زمن بعيد، في الحين
الذي
بقي فيه على قيد الحياة ظاهريًّا؛ وليست حالة الخمول تلك بالمرغوبة. ونكون قد أحسنَّا
صنعًا
إذا أضفنا إلى النصيحة القائلة بأننا يجب أن نعيش كل يوم من أيام حياتنا كما لو كان
الأخير،
نصيحة أخرى تقول بأننا يجب أن نعيش كل يوم من حياتنا كما لو كنا سنعيش على الأرض
للأبد.
ونكون قد أحسنَّا صنعًا أيضًا، إذا تجنبنا حملًا آخر لا ضرورة له، بتذكر تحذير روبرت
بيرنز (Burns) عن أفضل الخطط الموضوعة. ونادرًا ما يتصرف
الموت، إن فعل، طبقًا لخططنا أو حتى طبقًا لتوقعاتنا. ويرغب كل منا في أن تتم عملية
احتضاره
بالطريقة اللائقة، وهي النسخة العصرية من فن الموت (ars moriendi)، وجمال اللحظات الأخيرة للحياة. ومنذ
بدأ البشر في الكتابة لأول مرة في تاريخهم، فقد سجلوا رغبتهم في نهاية مثالية أطلق
البعض
عليها اسم «الموت الجيد» (Good death)، كما لو كان أي منا
سيصبح في يوم من الأيام قادرًا على التيقن من ذلك أو على امتلاك أي سبب لتوقع حدوثه.
وهناك
معوقات لعملية اتخاذ القرار يجب تحاشيها، إضافة إلى أنماط من الأمل يجب السعي وراءها،
لكننا
— بعد ذلك — لا بد أن نغفر لأنفسنا إذا لم نتمكن من تحقيق إحدى الصور المسبقة للموت
اللائق.
وللطبيعة مهمة يتوجب عليها تنفيذها. وهي تنفذ مهمتها بتلك الطريقة التي تبدو أكثر
ملاءمة
لكل فرد خلقته قوتها. فقد جعلَتْ ذلك عرضةً للإصابة بأمراض القلب وذاك بالسكتة الدماغية،
وآخر بالسرطان، ويصاب أحدهم بالمرض بعد فترة طويلة من بقائه على الأرض، بينما يصاب
به الآخر
بعد فترة قصيرة للغاية، على الأقل من وجهة نظرنا نحن. وقد صنعت «اقتصاديات الحيوان»
تلك
الظروف التي يحل من خلالها أحد الأجيال محل الجيل السابق له. ففي مواجهة تلك القوى
والدورات
الطبيعية التي لا هوادة فيها، لا يمكن أن يكون هناك انتصار مقيم.
وعندما تحين اللحظة في النهاية، حيث لا مهرب من إدراك أننا قد وصلنا إلى النقطة التي
قال
عنها «جوشانان هاكادوش» في رواية براوننج (Browning):
«عندما تدوس أقدامنا طريق الجسد كله»، ومن المفروض علينا أن نتذكر أنه ليس فقط طريق
الجسد
كله، بل وطريق الحياة كلها، والذي يحتفظ بخططه الخاصة تجاهنا. وبالرغم من أننا نجد
طرقًا
ماهرة لتأجيل تنفيذ تلك الخطط، فإنه ليس هناك من سبيل لإبطال فعلها. وحتى الانتحار
يخضع
لهذه الدورة، وحسبما نعلم، إن الفعل الذي اقترفوه كان مصممًا ضمن خطة كبرى، مما يوفر
لنا
مثالًا آخر على القوانين الراسخة للطبيعة و«اقتصادها الحيواني». وقد جعل شكسبير «يوليوس
قيصر» (Julius Caesar) يعبر عن ذلك بقوله:
من بين كل الأعاجيب التي سمعتها حتى الآن،
يبدو لي أن أكثرها غرابة أن أجد الرجال خائفين؛
لأني أرى أن الموت، نهاية ضرورية، وسيأتي عندما يحين الأجل.