الفصل الثاني
بطاقة المعايدة، وكيف تفشل؟
مثلما يعلم جميع الأطفال، يشبه القلب في شكله كثيرًا بطاقة المعايدة
(
Valentine)
١ ويتكون القلب بالكامل من عضلة تسمى بعضلة القلب (
Myocardium)، تغلف فراغًا مركزيًّا
كبيرًا ينقسم بدوره إلى أربع غرف. وهناك جدار رأسي من النسيج الحي يمتد من الأمام
للخلف
يسمى بالحاجز (
Septum)،
يُقسم ذلك الفراغ الكبير إلى قسمين: أيمن وأيسر، كما تَقسم طبقة رقيقة — تقع بزاوية
قائمة
على الحاجز — كلًّا من هذين القسمين إلى جزء علوي وآخر سفلي، مما ينتج عنه في النهاية
أربع
غرف منفصلة.
ولأن كلًّا من هذه الأقسام الأربعة يتمتع بقدر من الاستقلالية عن بقية الأقسام، كثيرًا
ما
يسمَّى كلٌّ من القسمين الواقعين على يمين أو يسار الحاجز الرأسي بالقلب الأيمن أو
الأيسر.
وعلى أي من الجانبين، تخترق الطبقة الرقيقة التي تفصل القمة عن القاع فرجة مركزية
تحتوي على
صمام ذي اتجاه واحد يتيح للدم أن يمر بسهولة من الغرفة العليا [والمسماة بالأُذَين
Atrium] إلى
الغرفة السفلى [والمسماة بالبُطَين Ventricle]. وفي القلب السليم، تغلق الصمامات تمامًا
عندما يمتلئ البطين بالدماء، وذلك لمنع الدم من الارتجاع
(Regurgitation) إلى الأذين ثانية. ويُعَد الأذينان
أساسًا كغرفتين مستقبلتين — كما يُعَد البطينان أساسًا كغرفتين ضاخَّتين: ونتيجة لذلك،
فليس
من الضروري أن يكون ذك الجزء من عضلة القلب المحيط بالجزء العلوي من القلب في نفس
سماكة
الجزء المحيط بالبطينين الأكثر قوة والواقع تحتهما.
ونجد لذلك — بصورةٍ ما — أننا لا نمتلك قلبًا واحدًا بل اثنين، ملتصقين جنبًا إلى
جنب عن
طريق حاجز طولي؛ ولكلٍّ منهما غرفة علوية للاستقبال وأخرى سفلية للضخ. ولكلٍّ من القلبين
وظيفة مختلفة تمامًا عن الآخر؛ فوظيفة القلب الأيمن هي استقبال الدم المستعمل — أي
الراجع
من أنسجة الجسم — ثم دفعه لمسافة قصيرة خلال الرئتين، حيث تتم تهويته بالأكسجين الطازج؛
ويستقبل القلب الأيسر بدوره الدم الغني بالأكسجين، والعائد من الرئتين، ثم يضخه بقوة
إلى
باقي أجزاء الجسم. واعترافًا بهذا التقسيم للعمل، فرَّق الأطباء بين سبيلي الدم هذين
—
بإطلاق اسم الدورة الدموية الصغرى على أحدهما، واسم الدورة الدموية الكبرى على
الآخر.
وتبدأ دورة دموية كاملة بالشريانين الكبيرين اللذين يتلقيان الدم الداكن المفتقر
للأكسجين
من القسمين العلوي والسفلي للجسم؛ وتنعكس سعة، وموارد، ومواقع هذين الوعاءين الأزرقين
الكبيرين النسبية، على الأسماء التي أطلقها عليهما أطباء الإغريق منذ أكثر من خمسة
وعشرين
قرنًا خلت: الوريدان الأجوفان العلوي والسفلي (Superior & Inferior Venae Cavae). ويفرغ
الأجوفان دماءهما في الأذين الأيمن، ومنه يسري الدم عبر الفتحة المزودة بصمام (الصمام
الأذيني البطيني الأيمن أو الصمام ثلاثي الشرفات Tricuspid Valve) إلى البطين الأيمن، والذي يضخه بقوة
ضغط تعادل وزن عمود من الزئبق يبلغ طوله نحو خمسة وثلاثين ملليمترًا، إلى وعاء دموي
يسمى
بالشريان الرئوي (Pulmonary
Artery — من اليونانية Pulmone بمعنى الرئة)، والذي يتفرع بعد
ذلك بقليل إلى مسارين مختلفين يؤدي كل منهما إلى إحدى الرئتين. وبعد تجديد حيويته
في
الرئتين بفعل الأكسجين المرتشِح عبر أكياس هوائية مجهرية تسمى بالأسناخ
(Alveoli: من
اللاتينية بمعنى أحواض أو أقسام صغيرة)، يُكمل الدم — والذي تحول الآن إلى اللون الأحمر
الزاهي — دورته الدموية الصغرى عن طريق عودته إلى الأذين الأيسر، عبر الشرايين الرئوية،
ليوجه بعد ذلك إلى البطين الأيسر — ومنه إلى جميع أجزاء الجسم، حتى أقصى خلية في أبخس
(Toe) القدم الكبير. ولأن إنتاج مثل هذه العصرة القوية
يحتاج إلى ضغط مقداره نحو ١٢٠ ملليمترًا من الزئبق، فيَزيد عرض عضلة البطين الأيسر
عن نصف
البوصة، مما يمنحها أقوى جدران الغرف الأربع وأكثرها سُمكًا. وبدفعها لنحو ٧٠ ملليمترًا
من
الدم في كل انقباضة، تدفع هذه العضلة القوية نحو سبعة ملايين لترًا من الدم يوميًّا،
من
خلال مائة ألف ضربة قوية ومتواترة. وتعد الآلية التي يعمل بها القلب الحي من أفضل
حذائق
(Masterpieces) الطبيعة.
وتستلزم هذه السلسلة من الأحداث المعقدة توافقًا شديد الدقة يتم الوصول إليه من خلال
إشارات تُرسَل عبر ألياف مجهرية تنبع من تكتلات إهليلجية الشكل
(Ellipse) من الخلايا الواقعة قرب قمة الأذين الأيمن،
وبالتحديد في جداره الخلفي قريبًا للغاية من مدخل الوريد الأجوف العلوي. وفي هذه النقطة
بالتحديد، يُفرغ الأجوف حمولته من الدم إلى الأذين، ويبدأ الدم رحلته الدورانية عبر
القلب
والرئتين، ولذلك لا يمكن أن تكون هناك نقطة أكثر ملاءمة كموقع للمحفز
(Stimulus) الذي يتسبب في وقوع جميع هذه الأحداث. وهذه
القطعة الصغيرة من الأنسجة، والمسماة بالعقدة الجيبية الأذينية (Sinoatrial Node; SA node)، هي الناظمة
(Pacemaker) التي توجه النبض القلبي المتناسق.
وتحمل حزمة من الألياف إشارات العقدة الجيبية الأذينية إلى محطة تقع بين الأذينين
والبطينين (ولذلك تسمى بالعقدة الأذينية البطينية Atrioventricular node; AV node)، وتُنقَل منها إلى
عضلات البطينين عن طريق شبكة شجيرية من الألياف المسماة بحُزمة «هيس»
(Bundle of
His) المسماة باسم مكتشفها — وهو عالم تشريح سويسري عاش في
القرن التاسع عشر، وقضى معظم سنوات عمره في جامعة لايبتزيج (Leipzig) الألمانية.
والعقدة الجيبية الأذينية هي المولِّد (Dynamo) الداخلي
الشخصي للقلب، فقد تؤثر الأعصاب الخارجية على معدل نبض القلب، لكن توصيل الكهربية
من العقدة
الجيبية الأذينية هو الذي يحدد النظمية (Rhythmicity)
العجيبة لإيقاعها الذي لا يخطئ. وقد أعلن حكماء الحضارات القديمة — وقد عقدت الدهشة
ألسنتهم
في كل مرة يرون فيها قلبًا مكشوفًا لحيوان ما — أن الآلية الخارقة لتلك القطعة من
اللحم
المستقلة بصورة متميزة، يجب أن تكون موضع سكنى الرُّوح البشرية.
ويُعَد الدم مجرد عابر سبيل داخل حجرات القلب الأربع؛ فهو لا يكف عن الحركة لتغذية
بطاقة
المعايَدة العضلية تلك — والتي تنشغل ضرباتها المقتضبة
(Syncopated) بعصر الدم في طريقه عبر الدورة الدموية.
ونظرًا للحاجة الماسَّة للغذاء الكافي التي يتطلبها عملها الشاق، تُغذَّى عضلة القلب
عن
طريق عدد من الأوعية الدموية المستقلة والمحددة — والتي تسمى بالشرايين التاجية
(Coronary
Arteries)، وذلك لأنها تنبع في صورة شرايين دائرية تلتف حول
القلب مثل التاج. وتهبط فروع الشرايين التاجية الرئيسية باتجاه قمة القلب، معطية فريعات
متشعبة تغذي عضلة القلب التي تقذف بصورة متواترة بالدم الأحمر الزاهي الغني بالأكسجين.
وفي
حالة الصحة، تكون تلك الشرايين التاجية صديقة القلب، لكنها تخونه عند مرضها في تلك
اللحظات
التي يكون فيها أحوج ما يكون إليها.
وكثيرًا ما تخون الشرايين التاجية ذلك القلب الذي يُفترض أن تقيم أوَده، لدرجة أن
خيانتها
تكون سببًا لنصف جميع حالات الوفاة في الولايات المتحدة على الأقل. وهذه الأوعية التي
تُطبِّق مبدأ «أحبك الآن، والآن لا أحبك!» تكون أرحم بالجنس اللطيف منها بأولئك الذين
ارتحلوا أكثر للصيد والقنص؛ فليس الاحتشاء القلبي أقل حدوثًا في النساء فحسب، بل ويميل
أيضًا لأن يحدث فيهن في سن متأخرة: فمتوسط العمر الذي تقع فيه نوبة الاحتشاء الأولى
في
النساء هو منتصف الستينيات من العمر، لكن الرجال يتعرضون لمعالجة هذه التجرِبة المرعبة
قبل
ذلك العمر بعشر سنين. وبرغم أن الشرايين التاجية في ذلك العمر تكون قد بلغت الحد الحرج
في
تضيقها، والكافي لتهديد حيوية عضلة القلب. تبدأ هذه العملية عندما يبلغ عمر الضحية
أقل من
ذلك بكثير، وقد أظهرت دراسة شهيرة أُجريت على الجنود الذين قُتلوا إبان الحرب الكورية
أن
نحو ثلاثة أرباع أولئك الشبان كانوا مصابين بقدر من التصلب العصيدي في شرايينهم التاجية.
ويمكن أن نجد درجات متفاوتة من هذه الحالة المرضية في جميع البالغين الأمريكيين تقريبًا؛
حيث تبدأ في الظهور في سن المراهقة، وتزداد سوءًا بتقدم العمر.
وتتخذ المادة السادَّة شكلَ كُتلٍ بيضاء مصفرَّة تسمى بالرقائق (Plaques)، تكون شديدة الالتصاق بالبطانة
الداخلية للشريان، وتنتأ نحو قناته المركزية. وتتكون هذه الرقائق من خلايا وأنسجة
ضامة
(Connective Tissues)، مع وجود لب مركزي مكون من
النُّفايات الخلوية (Debris) مع نوعية مألوفة من المواد
الدهنية المعروفة بالشحم: Lipid (من اليونانية Lipos بمعنى الدهن أو الزيت). ولأن أغلب
تركيب الرقائق يكون من المواد الدهنية، تسمى الرقيقة بالعصيدة (Atheroma) من اليونانية
Athere بمعنى
السَّخِينة (طعام يشبه العَصِيدة: Gruel) أو الرَّهِيَّة (الخَطِيفة:
Porridge) +
oma، وهي تدل
على وجود ورم أو نمو شاذ.
ولأن عملية تكوُّن العصيدة هي أكثر أسباب تصلب الشرايين شيوعًا، فعادةً ما يطلَق
على
المرض اسم التصلب العصيدي (Atherosclerosis)، أي تصلب الشرايين بفعل
العصيدات.
ومع تنامي العصيدة، تصبح أكبر حجمًا وتميل للاندماج مع الرقائق المجاورة لها، في
نفس
الوقت الذي تمتص فيه الكالسيوم من مجرى الدم. ونتيجة لذلك، تتراكم كتلة هائلة من العصيدات
المتقشرة (Crusted)، والتي تبطن الوعاء الدموي لمسافة
كبيرة، مما يجعله متزايد الخشونة والصلابة والضيق. وقد تم تشبيه الشريان المصاب بالتصلب
العصيدي بقطعة طويلة من أنبوبة مستهلكة وقليلة الصيانة، تبطن قطرَها الداخلي ترسباتٌ
كثيفة
وغير منتظمة من الصدأ أو الرواسب المكدسة.
وحتى قبل أن نعرف أن سبب الذبحة الصدرية والاحتشاء القلبي يرجع إلى تضيق الشرايين
التاجية، بدأ عدد قليل من الأطباء في تدوين الملاحظات المتعلقة بقلوب أولئك الأشخاص
الذين
تُوفُّوا بفعل هذه العملية. فكان إدوارد جينر (Edward Jenner) — وهو نفسه مكتشف اللقاح ضد مرض الجدري
(Smallpox)، في عام ١٧٩٨م — طالبًا متعمقًا لعلم
الأمراض، واتخذ لنفسه نهجًا خاصًّا بتشريح جثث أكبر عدد ممكن ممن يُتوفَّون من مرضاه
(كان
الأطباء في تلك الأيام يقومون بأنفسهم بفحوص ما بعد الوفاة). ونتيجة لعملياته التشريحية
تلك، بدأ جينر يشك في أن التضيق الذي اكتشفه في الشرايين التاجية للجثث التي يقوم
بتشريحها
ذو عَلاقة مباشرة بأعراض الذبحة الصدرية التي كان يشتكي منها أولئك المرضى إبان حياتهم.
وكتب في رسالة بعث بها لأحد أصدقائه عن تجرِبته في تشريح أحد هذه القلوب قائلًا:
«لقد اصطدم مِبضعي بشيء من الصلابة والخشونة لدرجة انثنائه. سأتذكر نظري إلى سقف
الغرفة، الذي كان قديمًا ومتهالكًا، مما جعلني أشك في أن بعض الجبس قد سقط عنه.
ولكن بعد تمحيص أكثر دقة، ظهر السبب الحقيقي: كانت الشرايين التاجية قد تحولت إلى
قنوات عظمية.»
وبرغم ملاحظات جينر، وبرغم الزيادة التدريجية في فهم الطريقة التي يؤذي بها انسداد
الشرايين التاجية القلب، كان علينا أن ننتظر حتى عام ١٨٧٨م قبل أن يتمكن أحد الأطباء
من
تشخيص احتشاء عضلة القلب بصورة صحيحة؛ فقد أرسل الدكتور آدم هامر (Adam
Hammer) من مدينة سانت لويس — وهو لاجئ ألماني فرَّ من القمع الذي تلا
ثورات عام ١٨٤٨م الفاشلة — إلى إحدى المَجلات الطبية في فيِنَّا تقريرًا عن حالة مرضية
بعنوان:
Ein Fall von thrombotischem Verschlusse einer der Kranzarterien
des Herzen
[حالة من الانسداد الخَثاري في أحد الشرايين التاجية للقلب]
وهنا يظهر التواء مثير في اللغة ذاتها؛ فالاصطلاح الألماني للشريان التاجي هو
Kranzarterie، حيث تعني لفظة Kranz إكليلًا أو تاجًا من الأزهار، أي
إنه يمنح بذلك معنًى جديدًا تمامًا وشاعريًّا للغاية لصورة القلب كبطاقة للمعايدة
(Valentine
Image). فقد استُدعي هامر للاسترشاد برأيه في فحص رجل في
الرابعة والثلاثين سقط مريضًا بصورة مفاجئة. كان الرجل في حالة انهيار متزايدة السوء
لدرجة
أن وفاته أصبحت وشيكة. وبرغم أن الأطباء كانوا يعرفون الآلية التي يحدث بها الإقفار
الدموي
لعضلة القلب، فإن تشخيص الاحتشاء، كنتيجة لذلك، لم يكن قد تم التوصل إليه، أو حتى
التفكير
فيه، على الإطلاق. وأثناء مراقبته لوفاة مريضه، بلا حول ولا قوة، اقترح هامر على زميله
أن
شريانًا تاجيًّا مسدودًا تمامًا قد أدَّى إلى موت عضلة القلب، لذا قرر أن إجراء تشريح
ما
بعد الوفاة كان ضروريًّا لإثبات صحة نظريته الجديدة. بَيد أنه لم يكن بالأمر الهين
أن يحصل
على تصريح الأسرة المكلومة في فقيدها بإجراء التشريح، لكن هامر الخبير استطاع أن يظفر
بالموافقة بعد تقديم حفنة من الدولارات في الوقت المناسب، وهي الحَلول
(Solvent) الأبدي للتردد البشري، أو كما وصفها بصراحة
شديدة في مقاله: «في وجه هذا العلاج الشامل، حتى أعمق أوجه الارتياب — بما فيها الدينية
—
تستسلم في نهاية الأمر.» وقد كوفئ إصرار هامر هذا بأن وجد عضلة القلب شاحبة وذات لون
بني
مائل للصفرة (مما يعني وجود الاحتشاء)، بالإضافة إلى أنه وجد أحد الشرايين التاجية
مسدودًا
تمامًا، مما يثبت صدق حدسه.
وخلال العقود التالية، ازداد رسوخ أسس مرض القلب الإقفاري واحتشاء عضلته بالتدريج.
ومع
اختراع جهاز تخطيط القلب الكهربي (Electrocardiograph) في
عام ١٩٠٣م، أصبح الأطباء قادرين على اتباع الإشارات التي ينقلها جهاز التوصيل الكهربي
للقلب، والمكون من مجموعة من الألياف. وسرعان ما تعلموا تفسير تلك الخطوط الحادثة
بفعل
التغيرات الكهربية التي تقع عندما تتعرض عضلة القلب لتهديد تناقص إمدادها الدموي.
وقد
اكتُشِفت التقنيات التشخيصية الأخرى حثيثًا، بما فيها حقيقة أن عضلة القلب المصابة
تفرز بعض
المواد الكيميائية أو الإنزيمات (Enzymes) التي يساعد وجودها في الدم — والذي يمكن
التعرف عليه بسهولة — على تشخيص الاحتشاء.
وتتضمن كل نوبة منفردة من الاحتشاء ذلك الجزء من عضلة القلب الذي يغذيه نفس الشريان
التاجي الذي أصابه الانسداد، وهو جزء يبلغ حجمه في الغالب نحو اثنتين إلى ثلاث بوصات
مربعة
في المساحة السطحية. والمتهم المحدد في نحو نصف الحالات هو الشريان التاجي الأمامي
النازل
الأيسر (Left Anterior Descending Coronary Artery)، وهو
وعاء دموي يمر عبر الجزء الأمامي من القلب نزولًا إلى قمته؛ وهو ينتهي بالتفرع إلى
شرايين
فرعية تغذي عضلة القلب. وتعني الإصابة المعتادة لهذا الشريان أن نحو نصف حالات الاحتشاء
تشمل الجدار الأمامي للبطين الأيسر، والذي يغذَّى جداره الخلفي بالشريان التاجي الأيمن،
والذي يتعرض لنحو ثلاثين إلى أربعين في المائة من حالات الانسداد. بينما يغذَّى الجدار
الوحشي (الجانبي: Lateral) بالشريان التاجي الملتف الأيسر —
والذي يصاب بنحو ١٥ إلى ٢٠ في المائة من حالات الانسداد.
ويصاب البطين الأيسر — وهو أقوى أجزاء المِضخة القلبية، ومصدر القوة العضلية التي
تغذي
جميع أعضاء وأنسجة الجسم — في جميع النوبات القلبية تقريبًا؛ إذ إن كل سيجارة، وكل
كُمْزة
(Pat) من الزبد، وكل شريحة من اللحم، وكل ارتفاع في ضغط
الدم، تَزيد من تصلب جدر الشرايين التاجية ومن مقاومتها لجريان الدم فيها.
وعندما تكتمل عملية الانسداد في أحد الشرايين التاجية فجأة، تنتج فترة من الحرمان
الحاد
من الأكسجين. وإذا بلغ عوز الأكسجين من الشدة والطول درجة لا يمكن معها لخلايا العضلة
المخدرة، والتي حُرمت من الإمداد الدموي بصورة فورية، أن تستعيد حيويتها، يُتبع ألم
الذبحة
الصدرية بالاحتشاء القلبي، إذ يتحول نسيج عضلة القلب المصاب من الشحوب الشديد للإقفار
الدموي إلى الموت البواح. وإذا كانت المنطقة الميتة صغيرة لدرجة أنها لم تقتل المريض
بتسببها في حدوث الرجفان البطيني أو شذوذ في نظم القلب في مثل خطورته، تظل العضلة
المصابة —
والتي أصبحت الآن منتفخة ومتورمة — قادرة على المحافظة على استمساكها الحثيث بالوجود
حتى
تغييرها بنسيج نَدَبي (Scar Tissue)، عن طريق عملية من
الشفاء التدريجي. لكن المنطقة التي تتكون من مثل هذا النسيج تصبح غير قادرة على الاشتراك
في
الدفع القوي لبقية أجزاء عضلة القلب.
وفي كل مرة يتعافى فيها المرء من نوبة قلبية من أي حجم كانت، يكون قد فقد جزءًا صغيرًا
آخر من عضلة القلب، ليَزيد بذلك من حجم النسيج النَّدَبي، كما تقل قوة ذلك البطين
قليلًا.
ومع تطور مرض تصلب الشرايين، يضعف البطين بالتدريج حتى ولو لم تكن هناك نوبات قلبية
صريحة. وقد لا تعلن انسدادات الشرايين التاجية الفرعية الصغرى عن نفسها بأية علامات،
ولكنها
تستمر — مع ذلك — في إضعاف قوة الانقباض القلبي. ويبدأ القلب في نهاية الأمر في القصور؛
فمرض القصور القلبي المزمن (Chronic Heart Failure) — وليس
النهاية المفاجئة لأمثال جيمس مكارتي — هو ما يتسبب في وفاة نحو أربعين في المائة
من ضحايا
مرض الشرايين التاجية.
وتُحدِّد أمزجةٌ متباينة من الظروف المهيِّجة والتلف النسيجي، نوعَ ودرجة الخطر الذي
يتعرض له كل قلب بذاته في أية مرحلة محددة من انحداره. وقد يكون أحد العوامل أو غيره
سائدًا
عند نقطة محددة؛ فأحيانًا تكون القابلية للتقلص أو التخثر الدموي في الشريان التاجي
المسدود
جزئيًّا، وأحيانًا تكون عضلة القلب العليلة التي اضطرب جهاز توصيلها الكهربي المحطم
وأصبح
مفرِط الاستثارة، لدرجة أنه يصاب بالرجفان بفعل أتفه المحفزات. ويرجع السبب في أحيان
أخرى
إلى جهاز التوصيل ذاته، إذ يصبح بطيئًا ومتثاقلًا في توصيل الإشارات العصبية؛ لذا
فهو
يتعثر، ويزداد بطئا، وربما يتسبب في إيقاف القلب تمامًا. وأحيانًا يكون السبب راجعًا
إلى
بطين كثير التندب والضعف لدرجة لا يستطيع معها قذف قدر كاف من الدم الذي صُبَّ فيه
من
الأذين.
وعند إضافة تلك العشرين في المائة من مرضى القلب الذين يُتوفَّون من جراء نوبتهم
القلبية
الأولى — مثل جيمس مكارتي — إلى أولئك الذين يموتون فجأة بعد أسابيع أو سنوات من المرض
المتزايد السوء، تصل نسبة الوفَيَات المفاجئة إلى نحو ٥٠ إلى ٦٠ في المائة من أولئك
المصابين بمرض القلب الإقفاري، أما بقية المرضى فيموتون ببطء — وبلا راحة — خلال واحدة
من
تنويعات ما يسمى بقصور القلب الاحتقاني المزمن (Chronic Congestive Heart Failure). وبرغم أن (وربما
بسبب أن) نسبة الوفَيَات بسبب النوبات القلبية قد تناقص بنحو ثلاثين في المائة خلال
العَقدين أو العقود الثلاثة الأخيرة، فقد ارتفعت نسبة الوفَيَات نتيجة لقصور القلب
الاحتقاني بنسبة الثلث.
وقصور القلب الاحتقاني المزمن هو النتيجة المباشرة لعدم مقدرة عضلة القلب المتندبة
والضعيفة على الانقباض بقوة كافية لدفع حجم الدم الضروري مع كل انقباضة. وعندما لا
يمكن ضخ
الدم الذي ولج في القلب بالفعل إلى الأمام بكفاءة إلى الدورتين الدمويتين الصغرى والكبرى،
يرتجع بعضه إلى تلك الشرايين التي أتى منها، مما ينتج عنه ضغط خلفي (Back
Pressure) في الرئتين والأعضاء الأخرى التي يرتجع الدم منها. وكنتيجة
لذلك الاحتقان، تندفع بعض مكونات الدم السائلة من خلال الجدر المسرِّبة لأصغر الأوعية
الدموية، مما ينتج عنه تورم أو وَذَمة (Edema) الأنسجة
المحيطة به. وتمنع بذلك الأعضاء مثل الكُلْيتين والكبد من تأدية وظائفها بفاعلية،
وهي حالة
تزداد سوءًا بفعل حقيقة أن المِضخة الضعيفة للبطين الأيسر تدفع كَمية من الدم المؤكسج
حديثًا أقل من تلك التي تصل إليها، مما يقلل من تلك التغذية الواصلة إلى الأعضاء المتورمة
بالفعل. وبهذه الطريقة، يصاحب البطءَ العامَّ للدورة الدموية انخفاضُ معدل جريان الدم
الداخل إلى الأنسجة والخارج منها.
ويتسبب الضغط الرجوعي للدم الذي لم يتم دفعه بالقوة الكافية في انتفاخ غرف القلب
وبقائها
متمددة. وتزداد سماكة عضلة البطين، في محاولة منها لتعويض ضعفها الذاتي. وبذلك يتضخم
القلب
ويصبح أكبر حجمًا — بَيد أنه مجرد مُدَّعٍ متفاخر
(Braggadocio).
وبشق الأنفس، يسرع القلب من معدل ضرباته محاولًا ضخ قدر أكبر من الدم. وقبل مضي زمن
طويل،
يجد القلب نفسه في مأزق متزايد السوء من الاضطرار — مثل أليس
Alice — للإسراع أكثر فأكثر للمحافظة على هذا المعدل.
وتتطلب تلك الجهود المضنية للقلب المتغلظ والمتوسع
(Distended) كَمية من الأكسجين تزيد على تلك التي
تستطيع الشرايين التاجية المتضيقة توفيرها، مما يزيد من تلف عضلة القلب المتخاذلة
— بل
وربما ظهرت شذوذات جديدة في نَظم القلب. وبعض تلك الشذوذات مميت — مثل الرجفان البطيني
واضطرابات النظم الشبيهة به، والتي تقتل نحو نصف مرضى القصور القلبي.
ولذلك، وبصرف النظر عن قدر التفاخر المحتوى في جعجعته، يستمر القلب المصاب بالقصور
في
الفشل، في ضرب من الحلقات المفرغة لمحاولة إخفاء أوجه قصوره عن طريق مضاعفة جهوده
لتعويضها.
وقد صاغ ذلك أحد الزملاء من اختصاصيِّي أمراض القلب بقوله: «يجلب القصور القلبي قصور
القلب!» ويعني هذا أن صاحب ذلك القلب في طريقه إلى الموت.
وتصاب الضحية بعسر متزايد في التنفس، حتى بفعل أقل مجهود؛ إذ لم يعد القلب ولا الرئتان
قادرين على الاستجابة لزيادة الجهد المطلوب منهما بذله. ويعاني بعض المرضى من صعوبة
في
الاستلقاء لأكثر من برهة وجيزة، وذلك لأنهم يحتاجون للوضع المنتصب، مع مساعدة الجاذبية
في
تصريف السوائل الفائضة عن رئاتهم. وقد التقيت الكثير من المرضى الذين أصبح النوم مستحيلًا
لديهم إلا إذا تم رفع الرأس والكتفين بحشايا عديدة، وحتى عندئذ كانوا معرضين لنوبات
من
انقطاع النفَس المرعب خلال الليل. ويعاني مرضى القصور القلبي من وهن مزمن وبلادة،
نتيجة
لمزيج من الجهد الإضافي الذي يتطلبه التنفس، والتغذية القاصرة للأنسجة التي تنتج عن
انخفاض
الخرج القلبي (Cardiac Output).
ويؤدي الضغط الدموي المرتفع، والذي ينتقل من الوريدين الأجوفين راجعًا إلى أوردة الجسم
المختلفة، إلى تورم القدمين والكاحلين، ولكن عندما يصبح المريض حبيس الفراش، تُجبر
الجاذبية
السوائل على التجمع في أنسجة الجزء الأسفل من الظهر والفخذين. وبرغم أن هذه الصورة
قد باتت
نادرة في يومنا هذا، فإنه لم يكن من المستغرب — أثناء سني دراستي في كلية الطب — أن
ترى
مريضًا يجلس منتصبًا في سريره، ببطنه ورجليه المنتفختين بالسوائل، وهو يدفع بنفَسه
إلى ما
يشبه التنهد التشنجي لكتفيه، وفمه مفتوح على مصراعيه خلال صراعه المرير من أجل كل
نفس لاهث
منفرد، كما لو كانت تلك هي آخر فرصة لإبقائه على قيد الحياة. وفي الأفواه المنفرجة
لأولئك
المحاربين في معركة خاسرة لمصلحة الوفاة الوشيكة، يمكن للمرء دائمًا أن يجد اللون
الأزرق
للشفتين واللسان المحروم من الأكسجين — والتي تكون شديدة الجفاف — برغم أن المريض
المحتضَر
يكون غارقًا في سوائله الداخلية.
كان الأطباء يخشون فعل أي شيء قد يَزيد من سوء القلق الذي يكون قد وصل بالفعل إلى
مرحلة
جحوظ العينين في رجل مغمور بأنسجته المشبعة بالمياه، مكتفين بالاستماع إلى الخرخرة
(الأزيز:
Wheeze) المرعبة، وعذاب حشرجة الموت الذي يعالجه. وفي
تلك الأيام الخوالي، لم يكن لدينا الكثير لنقدمه لمثل هذا المريض الميئوس من شفائه
المعذب،
غير المسكنات، مع معرفتنا الكاملة والرحيمة بأن كل قدر ضئيل من الراحة إنما يعجل بحدوث
النهاية المحتومة.
وبالرغم من أن هذه المشاهد قد أصبحت أكثر ندرة في الوقت الحالي، فإنها تحدث في بعض
الأحيان بالفعل. كتب إليَّ مؤخرًا أستاذ جامعي في طب القلب قائلًا: «هناك الكثير من
المرضى
المصابين بقصور قلبي احتقاني في مراحله الانتهائية والمستعصية على العلاج، ممن تصبح
ساعاتهم
— وربما أيامهم — الأخيرة متعبة، وربما بائسة بفعل غرقهم؛ بينما لا يستطيع الأطباء
فعل شيء
سوى المراقبة العاجزة، واستخدام المورفين للتسكين … وليس ذلك بالمخرج المبهج من الحياة.»
وليس القلب وحده هو الذي يمتلك وسائل أخرى متعددة للقتل، فهناك أيضًا التلف الطويل
المدى
الذي تسببه الأنسجة الغارقة والمصابة بفقر الدم (الأنيميا). فالأعضاء المستهلكة تصاب
هي
الأخرى بالفشل في النهاية. وعندما تنتهي الكُلْيتان أو الكبد تنتهي كذلك الحياة. والفشل
الكُلوي — أو اليوريمية Uremia — هو المُخرج من الحياة لبعض
مرضى القلب، وكذلك — أحيانًا — يكون القصور في وظائف الكبد، والذي كثيرًا ما يُعبِّر
عن
نفسه بظهور اليرقان (Jaundice).
ولا يكتفي القلب بخداع نفسه بالنشاط المفرط، فقد يخدع أيضًا تلك الأعضاء التي قد
تكون
قادرة على مساعدته على الخلاص من متاعبه في أوقات الشدائد؛ فيجب أن تكون الكُلى قادرة
على
ترشيح كَمية كافية من الأملاح الإضافية والمياه الموجودة في الدم لتقليل الحِمْل على
القلب،
لكن قصور القلب الاحتقاني يدفعها لفعل عكس ذلك تمامًا؛ فلأن الكُلى تستشعر بصورة صحيحة
أنها
تتلقى كَمية من الدم تقل عن المعدل الطبيعي، فهي تعوض ذلك بإفراز هُرمونات تقوم بإعادة
امتصاص الأملاح والمياه التي تم استرشاحها بالفعل، وبذلك يعاد ضخها إلى الدورة الدموية.
ونتيجة ذلك هي أن يزداد الحجم الكلي للسوائل في الجسم بدلًا من أن يتقلص، وبذلك تضيف
المزيد
من المشاكل الملقاة على عاتق القلب المرهق بالفعل. وبهذا يكون القلب المصاب بالقصور
قد خدع
الكُلْيتين ونفسه في الوقت ذاته: فيتحول نفس العضو ذاته (Self-Same Organ) — والذي يحاول أن يكون
له صديقًا — إلى عدوه اللدود.
وتمثل الرئتان الثقيلتان الرطبتان — بدورتهما الدموية البطيئة — أرضًا خصبة لتكاثر
الجراثيم والالتهاب المتقدم، وإلى ذلك يعود سبب وفاة كثير من مرضى القلب بالالتهاب
الرئوي
(
Pneumonia). لكن الرئتين الثقيلتين والرطبتين ليستا
بحاجة لمساعدة الجراثيم في تنفيذ عمليات القتل المنوطة بهما: فسوء مفاجئ لحالتهما
الغارقة
في المياه — يسمى بالوَذَمة الرئوية الحادة (
Acute Pulmonary
Edema) — هو الحدث الانتهائي المعتاد في المرضى المصابين بمرض قلبي
طويل المكوث. وسواء كان ذلك بسبب تلف قلبي حديث، أو بسبب حِمل زائد مؤقت ناتج عن مزاولة
مجهود عضلي غير متوقع أو حالة نفسية طارئة، أو ربما مجرد ملح زائد في الشطيرة.
٢ يتراكم حجم السائل الزائد، ومن ثم يفيض ليُغرق الرئتين. ويحدث بعد ذلك جوع
الهواء (
Air Hunger)
الشديد بسرعة، فيبدأ التنفس المكركر (
Gurgling) والمخرخر
(
Wheezing). وتؤدي الأكسجة الضعيفة للدم إلى موت الدماغ
أو الرجفان البطيني وغيره من أنماط النظم الشاذة، والتي لا رجعة فيها. وفي هذه اللحظة
— وفي
جميع أنحاء العالم — هناك من يموتون بهذه الطريقة.
ويتمثل موت بعض أولئك المرضى في التاريخ المرضي لرجل آخر شهدت موته. ويمكن — في الإطار
المرجعي لمرض القلب المزمن — أن نسمي هوراس جيدنز (Horace Giddens) باسم كل إنسان، فتفاصيل مرضه تسجِّل
بدقة متناهية أحد الأنماط المألوفة في المقر الذي ينحدر إليه بلا هوادة مرض الإقفار
القلبي.
كان جيدنز مصرفيًّا ناجحًا في الخامسة والأربعين من عمره يعيش في إحدى مدن الجنوب
الأمريكي الصغيرة عندما التقى طريقانا في أواخر الثمانينيات. كان قد عاد لتوِّه إلى
بيته من
إقامة مطولة في مستشفى جامعة جونز هوبكنز في مدينة بالتيمور، حيث أخرجه طبيبه من المستشفى
يائسًا، على أمل أن يحدث إبطاء، أو على الأقل تلطيف لتقدُّم الذبحة الصدرية والقصور
القلبي
المتزايد السوء لديه؛ كان كل علاج معروف تقريبًا قد استُخدم معه بلا نجاح يُذكر. ولما
كان
زواج جيدنز مفعمًا بالمشاحنات، أقدم على الرحلة الصعبة إلى مدينة بالتيمور ليفصل نفسه
عن
العداء المثير للأعصاب لزوجته — ريجينا — بنفس الدرجة التي كان ينشُد بها الراحة لقلبه
المريض. لكن الوقت كان قد فات؛ فقد وجد أن مرضه متقدم بحيث لم تكن هناك من فائدة ترجى
من
أيٍّ من أنواع العلاج المعروفة. وبعد إجراء جميع أنواع الفحوص والمشاورات الممكنة،
أخبره
أطباء المستشفى الجامعي — بكل ما وسعهم من اللطف — أنه حتى هم لا يستطيعون مساعدته؛
فلم يكن
ممكنًا علاجه بأي شيء فيما عدا المسكنات. وبالنسبة لهوراس جيدنز، لم يكن هناك جدوى
من
عمليات الرأب الوعائي (Angioplasty) أو عمليات الترقيع (التخطية:
Bypass)، أو
حتى زرع القلب. كنت أقوم بزيارة اجتماعية محضة لمنزله في تلك الأمسية التي عاد فيها
من
بالتيمور ليواجه بشجاعةٍ حتميةَ موته في أية لحظة. وبرغم أنه كان من المعروف أن جيدنز
كان
عائدًا إلى المنزل في تلك الليلة، فإن زوجته اللامُبالية بدا أنها لا تعرف شيئًا،
بل ولا
تكترث بالموعد المحدد لحضوره المرتقب. وعندما ولَج المنزلَ بالفعل، كنت أجلس بهدوء
على أحد
المقاعد، وكنت أستمع لمناقشات أفراد الأسرة بدون الاشتراك فيها. كان دخوله إلى البيت
لحظة
من العسير متابعتها: هرع جيدنز الطويل القامة والهزيل، وهو يجرُّ قدميه جرًّا، إلى
غرفة
المعيشة. كان مقطَّب الحاجبَين، كما كان يتنفس بصعوبة بالغة، وكانت كتفاه الضيقتان
ممسوكتين
جيدًا في القبضة الحانية لخادمة الأسرة المحبة. ومن خلال صورة كبيرة موضوعة فوق البيانو،
كان بوسعي أن أدرك أنه كان في الماضي رجلًا وسيمًا قويًّا، أما الآن فقد كان وجهه
الأشهب
مرهقًا وساهمًا. كان يمشي متصلبًا: وكأنما يكلفه ذلك مشقة جمَّة، كما كان يسير بحرص
شديد،
كما لو كان غير واثق من اتزانه؛ وكان من الضروري مساعدته لكي يتمكن من الجلوس على
مقعده.
كنت على علم بالتاريخ المرضي لجيدنز مع الذبحة الصدرية، كما كنت أعرف أنه نجا من
نوبات
متناهية الشدة ومتعددة من احتشاء عضلة القلب. وعندما رأيت المشقة الشديدة لحركة كتفيه
الناحلتين مع كل نفَس انتيابي (Paroxysmal)، حاولت تخيل
الحالة التي كان عليها قلبه، كما حاولت أن أستحضر في مخيلتي تلك العناصر المختلفة
للطريقة
التي خذله بها. فبعد نحو أربعين سنة من عملي كطبيب، صار ذلك النوع من التخمينات هاجسًا
مألوفًا لديَّ عندما أجد نفسي — اجتماعيًّا — في حضرة المرضى. أصبح هذا الأمر ضربًا
من
البحث الآلي، أي نوعًا من الاختبار الذاتي. وبطريقته الشديدة الخصوصية، يُعَد نوعًا
من
الاندماج الوجداني (Empathy) أيضًا؛ فأنا أفعله على الدوام،
بدون تفكير مني تقريبًا، وأنا على يقين من أن كثيرًا من زملائي الأطباء يقومون بعمل
الشيء
نفسه.
كان ما تخيلت وجوده خلف عظمة القَص لهوراس جيدنز هو قلب متضخم مترهل، لم تعد لديه
القدرة
على أن ينبض بأية قوة يمكن تشبيهها بالطاقة النشطة. كان هناك ما يزيد على ثلاث بوصات
من
جداره العضلي قد استُبدلت بها ندبةٌ ضخمة بيضاء اللون، كما كانت هناك مناطق كثيرة
أصغر
حجمًا من التندب بالمثل. وبعد كل ضربات قليلة، كان هناك انقباض تقلصي
(Spasmodic) شاذ نابع من بؤرة متمردة أخرى في البطين
الأيسر، مما يدمر حتى تلك المحاولات الفاشلة من العضلة للمحافظة على نظمها الثابت.
كان الأمر يبدو وكأن كلًّا من الأجزاء المختلفة لكلٍّ من البطينين تحاول الإفلات
من
الآلية (Automaticity) الداخلية للعملية بِرُمَّتها، في
الوقت الذي تحاول فيه العقدة الجيبية الأذينية أن تحافظ على سلطتها المتلاشية. وكنت
أعرف
هذه العملية جيدًا؛ إذ قطعت شدة الإقفار الدموي تيار الإشارات المنتظمة التي كانت
العقدة
الجيبية الأذينية في قلب جيدنز تحاول نقلها إلى بطينيه. بدأ البطينان اللذان حُرما
من
استقبال نداءاتهما المعتادة، وبصورة محمومة، في إطلاق نبضات خاصة بهما، بحيث تبدأ
كل نبضة
من أية بقعة عشوائية في عضلة القلب في اختيار أن تستجيب للتحدي! وتؤدي أية زيادة طفيفة
في
الإجهاد (الكرب: Stress)، أو أي نقص في الأكسجة إلى تلك
الحالة التي يطلق عليها الفرنسيون، بصورة ملائمة للغاية: «الفوضى البطينية»
Ventricular Anarchy، وذلك لأن الانقباضات المضطربة
وغير المؤثرة تنتشر في أي، وكل، اتجاه داخل عضلة القلب، مما ينتج عنه ذلك التسارع
غير
المتناسق تمامًا، والمعروف بتسرع النبض البطيني (Ventricular Tachycardia)، ثم الرجفان البطيني. وعندما
لاحظت خطوات جيدنز غير الواثقة، كان بوسعي أن أدرك مدى اقترابه من تلك السلسلة من
الأحداث
الانتهائية.
كان الوريدان الأجوفان والأوردة الرئوية منتفخة ومتوترة بفعل ضغط الدم الراجع إليها
بسبب
ضعف القلب. وتشبه الرئتان الجاسئتان قطعتين من الإسفَنج الرَّمادي المائل للزرقة والمشبع
بالماء، وقد أرهقتهما الوذَمة المنتفخة بحيث تتمكنان بالكاد من الصعود والهبوط مثل
ذلك
الزِّق (المنفاخ: Bellows) الوردي اللطيف الذي كانتا عليه
يومًا. وذكَّرتْني هذه الصورة الدموية كلها بتشريح شاهدتُه لجثة رجل شنق نفسه، كان
وجهه
القرمزي الممتقع اللون محتقنًا ومتورمًا، مما يجعل من التعرف على ملامحه — المكتظة
بالدم
(Plethoric) — كإنسان، بالكاد ممكنًا.
كان جيدنز قد عاش حياة طيبة، فقد تحمَّل بعزم فلسفي تلك المراجم والسهام التي كانت
تطلقها
عليه زوجته الشريرة، وكرَّس حياته لرعاية ابنته ذات السبعة عشر ربيعًا، والتي كانت
تحبه
حبًّا جمًّا، وللوفاء بتلك الثقة التي وضعها بين يديه أهل بلدته الذين نال إعجابهم
واحترامهم بفضل القوة البسيطة للنزاهة، وحكمة الإدارة المالية السليمة لمدخراتهم.
أما الآن،
فقد عاد إلى منزله لكي يموت.
عندما رأيت منخريه (Nostrils) يلتهبان مع كل نفَس يتناوله
بصعوبة، لم يكن بوسعي فعل شيء سوى ملاحظة أن طرف أنف جيدنز كان مُزْرَقًّا قليلًا،
وكذلك
كانت شفتاه. كانت رطوبة رئتيه تعوق الأكسجة الكافية لأعضاء الجسم. كما كان يمشي وهو
يجر
قدميه بصعوبة نتيجة لأن كاحليه وقدميه كانت من التورم بحيث بدت وكأنها ستبرز من طرفي
حذائه
الذي أصبح ضيقًا للغاية بسبب اللحم الشديد الاختناق بداخله، لقد كان كل عضو في جسد
الرجل
الغارق في المياه يحتفظ في داخله بقدر من التوذم.
كان فشل مِضخة القلب مجرد جزء من السبب الذي جعل السَّير يمثل كل هذا الجهد الهائل
بالنسبة لجيدنز؛ فلا بد أنه كان مدركًا، مع شدة ألمه، للجهد الذي ينفقه على كل خطوة
يخطوها،
لعلمه بأن أية زيادة طفيفة في نشاطه قد ينتج عنها ذلك الألم المرعب للذبحة الصدرية،
حيث لم
تعد القنوات الشديدة التضيق لشرايينه التاجية قادرة على توصيل أية كَمية إضافية من
الدم.
جلس جيدنز في مقعده الوثير، وتحدث لبرهة قصيرة مع أفراد عائلته، غير متنبه لوجودي
على ما
يبدو. كان يحس بالتعب الجسدي والرُّوحاني؛ لذا صعد بمشقة تلك الدرجات المؤدية إلى
غرفة
نومه، متوقفًا لمرات عديدة للنظر إلى أسفل والتمتمة ببضع كلمات لزوجته. وعندما رأيته
يفعل
ذلك، تذكرت ممارسة شائعة بين من يُطلَق عليهم اسم (المعاقون القلبيون
Cardiac
Cripples) من أجل إخفاء الحالة المتقدمة لمرضهم: فالمريض
الذي يحس ببداية نوبة الذبحة الصدرية أثناء تجواله اليومي، يجد أنه من المفيد أن يتوقف
وأن
يحملق باهتمام مصطنع في نافذة أحد الحوانيت حتى يختفي الألم. كان أستاذ الطب المولود
في
برلين، والذي كان أول من وصف لي عملية حفظ ماء الوجه (وربما حفظ الحياة ذاتها) هذه
التي كان
يسميها باسمها الألماني Schaufenster
schauen: أو التسوق عبر واجهات الحوانيت. استخدم جيدنز
استراتيجية تسوق الواجهات هذه لكي تمنحه مهلة كافية تمامًا لتجنب المتاعب الخطيرة
التي قد
يتعرض لها أثناء شقه لطريقه لأعلى ببطء متجهًا إلى فراشه.
مات هوراس جيدنز في أصيل يوم ممطر بعد ذلك بأسبوعين فقط. وبرغم وجودي فإنني فلم أكن
قادرًا على تحريك إصبع لمساعدته؛ إذ لم يكن بوسعي فعل شيء سوى الجلوس بصمت عندما كانت
زوجته
تتعدَّى عليه بألفاظها النابية، حتى أمسك حلقه بيديه فجأة كما لو كان محملقًا في الطريق
العنيف للذبحة المشعة التي هاجمته. وبدأ يلهث، مع ازدياد شحوبه بصورة مفاجئة، ثم تحسس
طريقه
— بيد مرتعشة — إلى محلول النتروجلسرين الذي كان موضوعًا فوق منضدة قهوة أمام الكرسي
المتحرك الذي كان جالسًا عليه، بَيد أنه لم يستطع سوى لف أصابعه حوله، فسقط المحلول
من يده
المرتعشة إلى الأرض وانسكب فوقها، مُريقًا ذلك الدواء الثمين الذي كان من الممكن أن
يقوم
بتوسيع شرايينه التاجية بدرجة تكفي بالكاد لإنقاذه. وعندئذ أصابه الذعر، وانفجر في
نوبة من
التعرق البارد، وتوسل إلى زوجته — ريجينا — أن تستدعي الخادمة، التي كانت تعرف مكان
قنينة
الدواء الإضافية، بَيد أنها لم تحرك ساكنًا. وعندما ازداد اهتياجه حاول الصراخ، لكن
الصوت
الوحيد الذي صدر عن فمه كان همسة مبحوحة، أضعف من أن تُسمع خارج الغرفة. كانت رؤية
النظرة
المرتسمة على وجهه محطمة للقلوب، إذ كان الرجل قد أدرك عدم جدوى جهوده المختنقة.
أحسست بأن عليَّ أن أهرع لمساعدة جيدنز، لكن شيئًا ما جعلني أتسمَّر في مقعدي فلم
أفعل
شيئًا على الإطلاق، وكذلك لم يفعل أحد غيري، فقد قفز بصورة محمومة مفاجئة من كرسيه
المتحرك
إلى الدرج، وتخطى الدرجات الأول كعدَّاء يحاول يائسًا أن يبذل آخر وحدة من طاقته ليصل
إلى
بر الأمان. لكنه انزلق عندما بلغ الدرجة الرابعة، وأخذ يلهث بجوع شديد للهواء، وتوقف
عن
صعوده ثم — وبجهد منهك عظيم من الانتهائية الغاضبة — وصل إلى مقصده على ركبتيه. تجمدت
في
مكاني، وحملقت بنظري لأعلى الدرج ورأيت رجليه تخوران، وسمع جميع من كان في الغرفة
صوت تكوم
جسده للأمام، وهو يبتعد عن الأنظار تمامًا.
كان جيدنز لا يزال على قيد الحياة، بالكاد قامت ريجينا — بالأسلوب البارد لقاتل محترف
—
باستدعاء اثنين من الخدم لحمله إلى غرفته. واستُدعي طبيب الأسرة على عجل، غير أنه
في غضون
دقائق قليلة، وقبل وصول الطبيب بكثير، كان مريضه المصاب قد مات.
وبرغم أني افترضت أن الآلية المحددة التي قتلت هوراس جيدنز كانت هي الرجفان البطيني،
فإنها ربما كانت وذَمة رئوية حادة، أو تلك الحالة الانتهائية المسماة بالصدمة القلبية
المنشأ (Cardiogenic Shock)، حيث يبلغ البطين الأيسر من
الضعف بحيث لا يستطيع المحافظة على ضغط دموي كافٍ للبقاء على قيد الحياة. ومن أولئك
الذين
سيصابون بمرض القلب الإقفاري منا، ستتسبب تلك الحالات المرضية الثلاث في حدوث الغالبية
العظمى من الوفَيَات. ويمكن لهذه الحالات أن تحدث أثناء النوم، كما يمكن لها أن تحدث
بسرعة
لدرجة أنه قبل مُضِيِّ دقائق معدودة تكون لحظة الوفاة قد حانت. وإذا توافرت المساعدة
الطبية، فيمكن التقليل من أسوأ مصاحِباتها — وهو الألم — باستخدام المورفين أو غيره
من
المخدرات (Narcotics). ويمكن لمنجزات العلوم الطبية
الأحيائية الحديثة أن تؤجل حدوث هذه الحالات المرضية لسنوات عديدة، بَيد أن كل انتصار
على
مرض القلب الإقفاري ليس إلا نصرًا مؤقتًا؛ فسيستمر التطور الذي لا هوادة فيه لمرض
التصلب
العصيدي، وسيموت في كل عام أكثر من نصف مليون أمريكي لأن نظام الطبيعة يتطلب ذلك.
فبرغم أن
هذا يبدو كتناقض ظاهري، فإن الموت الطبيعي هو السبيل الوحيد لبقاء جنسنا البشري.
ويمكنني الآن أن أوضح سبب كوني غير قادر على تحريك ساكن لمساعدة ذلك الرجل التعيس
الحظ
الذي كان يُحتضَر أمام ناظريَّ: كنت أشاهد مأساة هوراس جيدنز وأنا أجلس مرتاحًا في
مقعدي
بالصف السابع لأحد المسارح، في عرض لرائعة ليليان هيلمان
(Hellman) المسماة بالثعالب الصغار
(Little
Foxes). كان وصفها السريري البالغ الدقة لشخصية درامية تموت
بفعل مرض القلب الإقفاري — في عام ١٩٠٠م — من الدقة بحيث إنه لم يكن ليصبح أكثر دقة
لو كتبه
مختص بأمراض القلب. كانت مقاطع كاملة من وصفي السابق عبارة عن مستخلصات من توجيهات
الآنسة
هيلمان المسرحية. ومن المؤكد أن الطبيب الثقة الذي فحص جيدنز في مستشفى جامعة جونز
هوبكنز
هو نفسه وليام أوسلر الذي ذكرتُ بعضًا من كلماته قبل عدة صفحات.
وتُصوِّر كتابات هيلمان — بدقة متناهية — نفس الطريقة التي يموت بها اليوم كثير من
ضحايا
الإقفار الدموي التاجي. وذلك لأنه برغم كل التأجيل وتَكتيكات تحسين راحة المرضى التي
أوجدها
الطب الحديث في معركته ضد المرض القلبي، فكثيرًا ما يكون المشهد الأخير في صراع القلب
المريض — الآن، ونحن على مقربة من بزوغ فجر القرن الحادي والعشرين — مشابهًا تمامًا
لذلك
الذي كان بطله الرئيسي هو هوراس جيدنز منذ قرن كامل من الزمان.
وبرغم أن كثيرًا من ضحايا مرض القلب الإقفاري لا يزالون يموتون خلال نوبتهم المرضية
الأولى، مثل جيمس مكارتي، فإن كثيرًا منهم يتبع تطورًا مرضيًّا شبيهًا بذلك الذي اتخذه
هوراس جيدنز، حيث يبقى المريض على قيد الحياة بعد حدوث الاحتشاء الأولي أو آثار الإقفار
القلبي، ثم يتبع ذلك بفترة طويلة من الحياة الحذرة. وفي زمن جيدنز، كانت تلك «الحياة
الحذرة» تتكون مما يوحي به اللفظ تمامًا؛ أي كونها حياة خالية من الإرهاق البدني أو
النفسي.
وقد كان عقَّار النتروجلسرين يوصف لإجهاض نوبات الذبحة الصدرية، بالإضافة إلى نوع
متوسط
القوة من المسكنات للتغلب على القلق. وربما كانت ثمة إنكارية
(Nihilism) علاجية شائعة في ذلك الوقت بين أطباء
المستشفيات الجامعية، هي السبب في أنهم لم يحبذوا استخدام عقَّار الديجيتال
(Digitalis) لزيادة قوة انقباض البطين الأيسر. وربما لم
يكن الديجيتال ليمنع انقباض الشرايين التاجية الذي ربما كان سببًا في وفاة جيدنز،
إلا إنه
كان من المؤكد أن يقلل من قصور القلب الاحتقاني الذي عانى منه بشدة خلال أشهر حياته
الأخيرة.
أما اليوم، فقد تغيرت الأمور كثيرًا؛ إذ يعكس تنوع الخيارات المتاحة لعلاج مرض القلب
الإقفاري تتابع منجزات العلوم الطبية الأحيائية ذاتها، والتي تتراوح بين تلك التغيرات
الطفيفة في الأنماط المعيشية إلى عمليات زراعة القلوب. ويقوم الإقفار الدموي بفعله
التدميري
بطرق متعددة تحتاج عضلة القلب إلى المساعدة لمواجهة كلٍّ منها، بينما تتمثل وظيفة
اختصاصي
القلب في تقديم هذه المساعدة. ومن أجل القيام بهذه المهمة، يجب عليه (أو عليها) معرفة
طبيعة
ذلك العدو وتفاصيل الاستراتيجية التي يعتمدها في أي هجوم محدد ينفذه. ويبدأ اختصاصي
القلب
تحديدًا بتقييم الحالة الراهنة لقلب مريضه وشرايينه التاجية، بالإضافة إلى تقييم احتمال
أن
يكون سوء الحالة وشيكًا لدرجة يتحتم معها اتخاذ تدابير إيجابية وقائية لمنع حدوثه.
وللوصول
إلى هذه الغاية، اختُرعت مجموعة من الاختبارات المعملية التي تستخدم اليوم على نطاق
واسع،
إذ أصبحت أسماؤها ومختصراتها جزءًا من اللهجة المألوفة للمرضى وأصدقائهم: مثل اختبار
إجهاد
التاليوم (Thalium Stress
Test)، واختبار (MUGA)، والتخطيط الوعائي التاجي
(Coronary
Angiogram)، ومسح القلب بفائق الصوت
(Cardiac
Ultrasonography)، ومنظار هولتر (Holter’s monitor)، وغيرها من الأمثلة
كثير.
وحتى مع وجود المعلومات الموضوعية التي توفرها لنا مثل هذه التحاليل، يظل من المستحيل
تقديم النصح السديد للمريض بدون أن نفهم الكثير عن حياته وعن شخصيته. ولا يكفي قياس
ذلك
الجزء من الدم المحتوى الذي يتم ضخه مع كل انقباضة للبطين أو أن نعرف القطر المتبقي
(Residual Calibre) للشريان التاجي الضيق، أو آليات
انقباض عضلة القلب، أو طاقة الخرج القلبي (COP)، أو
الحساسية المفرطة لجهاز التوصيل الكهربي للقلب تجاه المحفزات والمثيرات، أو أي من
تلك
العوامل الأخرى التي تُحدَّد بصورة دائبة ومجردة في المختبرات ووحدات التشخيص بالأشعة
السينية. فيجب على اختصاصي أمراض القلب أن يكون متمتعًا بحس واضح بأنماط الضغوط الموجودة
في
حياة المريض واحتمالية تغييرها.
ويمثل التاريخ العائلي، وأنماط التغذية والتدخين، واحتمالية مطاوعة النصائح الطبية،
والخطط والآمال المستقبلية، واعتمادية وجود نظام للدعم من قبل أفراد الأسرة والأصدقاء،
بالإضافة إلى نمط الشخصية وإمكانية تغييره لو لزم الأمر، عواملَ لا بد من أن تُمنح
وزنًا
مناسبًا في عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بالعلاج وبالمستقبلية طويلة المدى. ومهارة
اختصاصي القلب كطبيب هي التي تمكنه من مصادقة مريضه وفهمه؛ فمن موروثات فن الطب إدراك
أن
للتحاليل المَخبرية والعقاقير فوائد قليلة بدون الأحاديث المصاحبة لها.
وبعد الانتهاء من التحاليل ومن الحديث، يجيء وقت العلاج. ويوجَّه العلاج نحو تقليل
الإجهاد الذي يتعرض القلب له، وبناء احتياطي لتمكينه من العودة إلى حالته الطبيعية
على
المدى الطويل، إضافة إلى إصلاح تلك الشذوذات المحددة التي تُكتشف من خلال التحاليل
المَخبرية. ومن المستبطن في جميع المعالجات ضرورة عمل كل ما يمكن لإبطاء تطور التصلب
العصيدي، على اعتبار أنه لا يمكن إيقافه بصورة كاملة. ومن التضمينات الأخرى أطروحة
أن القلب
أكبر أهمية بكثير من كونه مجرد مِضخة غبية فاترة أخرى، فهو مشارك حساس ودينامي في
مؤسسة
الحياة، وهو قادر على التكيف والمواءمة، وبصورة ما على إصلاح نفسه.
وقد وصف وليام هيبردين — دون أن يدري — في عام ١٧٧٢م، ما يمكن أن نعرفه اليوم كمثال
نمطي
على الطريقة التي يمكن بها لبرنامج تدريبي جيد أن يبني مقدرة القلب على الاستجابة
لتلك
اللحظات من التحدي عندما يُطلب منه القيام بعمل إضافي. فقد كتب عن مرضى الذبحة الصدرية
قائلًا: «أعرف رجلًا حدد لنفسه مهمة يومية، فهو يقوم بنشر الخشب لمدة نصف الساعة —
وقد شُفي
من علته تقريبًا.» وبرغم أن المنشار اليدوي قد استُبدل اليومَ بالدراجة الثابتة. فإن
المبدأ
يبقى واحدًا في الحالتين.
وهناك مجموعة متنوعة من العقاقير المتوافرة لمساعدة عضلة القلب — وجهازه الخاص بالتوصيل
—
في مقاومتهما لآثار الإقفار الدموي، ومن المؤكد أنه سيكون هناك المزيد من هذه العقاقير
في
المستقبل. وهناك عقاقير يمكن استخدامها في غضون الساعات القليلة التي تلي انسداد أحد
الشرايين التاجية، والتي تهدف لإذابة الخثرة الدموية التي تكونت لتوِّها والتي تسببت
في
وقوع المشهد الأخير من عملية الانسداد في الوعاء الدموي المصاب بالتصلب العصيدي. وهناك
عقاقير لتقليل استثارة (Irritability) عضلة القلب، ولمنع
حدوث التقلص، ولتوسيع الشرايين التاجية، ولتقوية ضربات القلب، ولتقليل تسارع معدل
ضربات
القلب، ولطرد الحِمل الإضافي من الماء والأملاح الموجودة في قصور القلب الاحتقاني،
ولخفض
ضغط الدم، ولتخفيف الشعور بالقلق. ويحمل كلٌّ من هذه العقاقير معه احتمال حدوث آثار
جانبية
غير مرغوب فيها، وخطرة أحيانًا. ويمكن — بالطبع — استخدام بعض العقاقير الأخرى المتوافرة
لعلاجها.
ويسير اختصاصيو القلب اليوم على خيط رفيع بين تجفيف المريض الذي بلغ من الضعف حدًّا
لا
يمكنه معه أن يعيش بصورة طبيعية، وبين إضافة حِمل كبير من السوائل التي تجعله في خطر
الانزلاق إلى قصور قلبي احتقاني خطير.
ولم تسهم أعاجيب الإلكترونيات في مجال من مجالات الضعف البشري مثلما أسهمت في معالجة
أمراض القلب. وبرغم أن التشخيص كان هو المستفيد الأساسي من هذه المعجزات، فقد تحسن
العلاج
أيضًا بفضل جهود علماء الفيزياء والمهندسين المتعاملين بمثل هذه الباطنيات
(Esoterica). فلدينا الآن ناظمات تقوم بعمل العقدة
الجيبية الأذينية، وهي تحفز بأمان حدوث ضربات قلبية ثابتة ومتوقعة. وهناك مزيلات الرجفان
(Defibrillators) التي لا تقوم بإعادة توكيد التحكم
عندما تصبح آلية القلب غير متزنة فحسب، بل وتتمتع بخاصية إضافية هي إمكانية زرعها
داخل جسم
المريض مباشرة، بحيث تكون استجابتها للنظم الشاذ آلية وفورية.
ابتكر الجراحون واختصاصيو القلب عمليات جراحية لتحويل مجرى الدم حول انسدادات الشرايين
التاجية، وأخرى لتوسيع الأوعية المتضيقة بواسطة بالونات خاصة، وهي التقنيات المعروفة
نسبيًّا باسم غرائس تخطية الشرايين التاجية (Coronary Artery Bypass Graft —
CABG) [وهنا قد يُنطق الاختصار الإنجليزي
CABG — كما هو متوقع —
«Cabbage» أي كرنب!]، أو بعمليات رأب الأوعية الدموية
(Angioplasty).
وعندما تفشل جميع السبل، نجد أحيانًا أحد المرضى المستوفين للمتطلبات اللازمة لإزالة
قلبه
بالكامل واستبداله بقلب مستعمل سليم. وعند الاختيار الدقيق للمريض المناسب في جميع
هذه
العمليات، تكون هناك نسب مرتفعة للنجاح. ومع ذلك، فبعد كل واحدة منها تستمر عملية
التصلب
العصيدي في لعقها للحياة. وربما تنسدُّ الشرايين التي تم توسيعها مجددًا، كما قد تتكون
عصيدات جديدة في داخل الأوعية المزروعة، بل وكثيرًا ما تعود علامات الإقفار الدموي
لصحبتها
القديمة لعضلة القلب.
وبرغم أننا قد نؤجل من وقوع تلك العملية، فإن ضحايا التصلب العصيدي التاجي يموتون
بصورة
شبه مؤكدة بفعل إصابتهم هذه، وربما يحدث ذلك بصورة غير متوقعة، عندما يبدو أن المريض
مستجيب
للعلاج بصورة حسنة، ربما بفعل الآثار التدريجية لقصور القلب الاحتقاني.
وبرغم أن العلامات الصريحة لقصور القلب الاحتقاني تُرى اليوم بصورة أقل مما كان عليه
الأمر في الماضي، قبل اختراع الوسائل الناجعة لإخفائها، فإن المرض يظل قوة مؤثرة في
وفاة
الكثير من المرضى المصابين بمرض القلب الإقفاري، فعندما يبلغ القلب من الضعف بحيث
يصاب
بالقصور الاحتقاني، تصبح النظرة المستقبلية سيئة؛ إذ يموت نحو نصف الضحايا في غضون
خمس
سنوات. وكما ذكرنا سابقًا، فمع الانخفاض الحاد في عدد النوبات القلبية الفعلية في
السنوات
الأخيرة، ظهرت زيادة هائلة في معدلات حدوث الفشل القلبي، وهي زيادة يُتوقع لها أن
تستمر.
فهناك اليوم كثير من أمثال هوراس جيدنز، وقليل من أمثال جيمس مكارتي.
ويرجع ذلك إلى أسباب متعددة، من أوضحها أن الأطباء — إضافة إلى وسائل الخدمات الاجتماعية
— حسَّنوا بصورة كبيرة من مقدرتهم على التعامل الناجح مع تلك المواقف الطارئة التي
يخلفها
احتشاء عضلة القلب. فالاستجابة السريعة لرجال الإسعاف
(Paramedics) المدربين والمهرة، والنقل الفعَّال إلى
غرفة الطوارئ بالمستشفى، تعني تقديم علاج أفضل في الساعات الأولى الحرجة، كما أن العناية
المركزة داخل المستشفى تحسنت بصورة هائلة. ولكنَّ هناك عاملًا آخر — على نفس الجانب
من
الأهمية على الأقل — نتج عن الطرق الأكثر فاعلية للرعاية الطبية على وجه العموم، وهو
بقاء
أعداد متزايدة من الناس على قيد الحياة حتى أرذل العمر، أي حتى بلوغ السن التي يؤدي
فيها
ضعف مقدرة القلب على ضخ الدم وما يليها من قصور القلب الاحتقاني، إلى حدوث مشكلات
صحية
بصورة أكثر شيوعًا.
انخفض معدل حدوث القصور القلبي في الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن الخمسين بصورة فعلية،
أما
الزيادة الكبرى في معدلات الحدوث فتقع في المجموعة العمرية الأكبر من خمسة وستين عامًا.
ويعاني أكثر من مليوني أمريكي من إحدى درجات القصور القلبي التي تحدُّ من نشاطهم وتقلص
حيويتهم. وعندما يصبح قصور القلب شديدًا، فهو يحمل معه معدلًا للوفَيَات يُقدَّر بنحو
خمسين
في المائة خلال سنتين. ويموت بسببه نحو خمسة وثلاثين ألف أمريكي سنويًّا، وبرغم أنه
رقم يقل
بكثير عن ٥١٥٠٠٠ — وهو عدد الذين يصابون بأزمات قلبية فعلية — فإنه يُعَد رقمًا كبيرًا
بالفعل.
ويموت أولئك الذين لم تستسلم قلوبهم للتوقف بفعل الرجفان البطيني في نهاية الأمر،
بفعل
العوامل السابقة الذكر؛ فليس بوسعهم التنفس بصورة كافية لأكسجة الدم، ولم تعد الكُلْيتان
ولا الكبد قادرة على تخليص الجسم من المواد السامة، كما تتفشى الجراثيم في أجهزة أجسامهم،
أو أن أجسامهم، ببساطة، لم تعد قادرة على المحافظة على ضغط دموي كافٍ للبقاء على قيد
الحياة، وللإبقاء بصورة خاصة على وظائف الدماغ. وتسمى هذه الحالة الأخيرة بالصدمة
القلبية،
وتُعَد، مع الوَذَمة الرئوية، أكثر أعداء القلب تعرضًا للمكافحة في وحدات العناية
المركزة
وفي غرف الطوارئ بالمستشفيات. وسينتصر المرضى وحلفاؤهم من أفراد الفريق الطبي في معظم
هذه
المعارك، بصورة مؤقتة على الأقل. ولأني رأيت مثل هذه الفرق الطبية في مرات لا حصر
لها في
مناوشاتهم العنيفة هذه، بل ولأني كثيرًا ما اشتركت في مثل هذه الفرق — أو قُدت أفرادها
— في
السنوات الخوالي، أستطيع الشهادة على وجود الشراكة المتناقضة (Paradoxical
Partnering) بين الحزن البشري وبين التصميم السريري الشرس على
الانتصار، والذي تحفزه أوجه الاستعجال (Urgencies) التي
تتوارد على عقل كل محارب متحمس. ويعكس الانفعال الشديد الحدة للكل أكثر من مجرد حاصل
جمع
أجزائه، ومع ذلك يُنفَّذ هذا العمل المحموم، بل وقد تنجح مساعيه في بعض الأحيان.
وتتبع جميع عمليات الإنعاش (
Resuscitation) — والتي تتسم
بالفوضى بالقدر الذي تبدو عليه — نمطًا أساسيًّا واحدًا، فسرعان ما يحاط المريض —
والذي
يكون غائبًا عن الوعي في الغالبية العظمى من الحالات نتيجة لنقص مدخول الدم إلى دماغه
—
بأفراد فريق تتلخص وظيفته في جذبه من الحد الأقصى للحياة عن طريق إيقاف رجفان قلبه،
أو عكس
الوَذَمة التي ألمَّت برئتيه، أو كليهما. وسرعان ما يتم دفع أنبوب للتنفس عبر فمه
إلى قصبته
الهوائية حتى يمكن دفع الأكسجين تحت الضغط لتوسيع رئتيه المتجهتين للغرق سريعًا. وإذا
كان
المريض مصابًا بالرجفان، يتم تثبيت مدارئ (
Paddles) معدنية
عريضة على صدره قبل إطلاق شرارة كهربية مقدارها ٢٠٠ جول
٣ خلال قلبه، في محاولة لإيقاف تلوِّيه العقيم، على أمل عودة النبض المنتظم، كما
يحدث في أحيان كثيرة.
وإذا لم يرجع النبض الفعَّال، يبدأ أحد أعضاء الفريق بتطبيق ضغط متواتر على القلب،
عن
طريق دفع كُلوة يده لأسفل تجاه أخفض جزء من عظمة القَص بمعدلٍ قدره ضغطة واحدة في
كل
ثانية.
وعن طريق عصر البطينين بين استواء عظمة القص المطواعة من الأمام وبين العمود الفقري
من
الخلف، يندفع الدم خارجًا من القلب إلى الجهاز الدوري لإبقاء الدماغ والأعضاء الحيوية
الأخرى على قيد الحياة. وعندما يكون هذا النوع من التدليك القلبي الخارجي فعَّالًا،
يمكن
الإحساس بوجود النبض (Pulse)، سواء في العنق أو في
الأُرْبِيَّة (Groin). وبرغم أن كثيرين قد يظنون خلاف ذلك،
فإن التدليك الخارجي عبر الصدر السليم يؤدي للحصول على نتائج أفضل بكثير من التدليك
اليدوي
المباشر الذي كان الطريقة الوحيدة المعروفة عند لقائي الحزين مع عصيان عضلة قلب جيمس
مكارتي
منذ ما يقارب الأربعين عامًا.
وعند هذه النقطة من عملية الإنعاش، تكون خطوط التسريب الوريدي قد تم تثبيتها لحقن
العقاقير القلبية، كما يتم تركيب أنابيب بلاستيكية واسعة تسمى بالخطوط المركزية
(Central Lines) بطريقة استكشافية إلى الأوردة الكبرى.
وللعقاقير المتنوعة التي يتم حقنها خلال أنابيب التسريب الوريدي أغراض متنوعة: فهي
تساعد
على التحكم في نظم القلب (Rhythm)، وتقليل قابلية عضلة
القلب للاستثارة، كما تقوي من قوة انقباضه، وتدفع السائل الزائد خارج الرئتين لتقوم
الكُلْيتان بإخراجه. وتختلف كل عملية من عمليات الإنعاش عن الأخرى، فبرغم تشابه النمط
العام
لهذه العمليات، فإن كل حدث بعينه، وكل استجابة للتدليك أو للعقاقير، ورغبة كل قلب
في العودة
للحياة، تختلف عن كل ما عداها.
أما الشيء الوحيد المؤكد — سواء كان منطوقًا أم ضمنيًّا — فهو أن الأطباء والممرضات
والفنيين لا يحاربون الموت فحسب، لكنهم يحاربون شكوكهم بالمثل. ففي أغلب عمليات الإنعاش،
يمكن أن تتلخص هذه الشكوك في صورة سؤالين رئيسيين: هل نقوم بفعل الشيء الصحيح؟ وهل
من
الضروري أن نقوم بفعل أي شيء على الإطلاق؟ ففي كثير جدًّا من الحالات، لا يُكتب النجاح
لأي
شيء. وحتى عندما تكون الإجابة الصحيحة على كلٍّ من السؤالين هي «نعم» مشحونة بالمشاعر،
فكثيرًا ما يكون الرجفان قد تخطى إمكانية الإصلاح، حيث تصبح عضلة القلب غير مستجيبة
لفعل
العقاقير، كما يصبح القلب المتزايد الترهل مستعصيًا على التدليك، ثم يرفض الاستجابة
في
النهاية لعملية الإنعاش، وعندما يُحرَم الدماغ من الأكسجين لأكثر من الفترة الحرجة
التي
تمتد من دقيقتين لأربع على الأكثر، يصبح تلفه غير مرتجع.
وفي الواقع إن كثيرًا من الناس يظلون على قيد الحياة بعد توقف القلب
(Cardiac Arrest)، وأقل منهم بالطبع يكون أولئك المرضى
الشديدو الاعتلال والذين يصابون بتوقف القلب في أثناء إقامتهم في المستشفى، فلا يُتوقع
أن
يخرج حيًّا من أولئك المرضى المحتجزين في المستشفيات لهذا السبب سوى ١٥ في المائة
ممن هم
دون سن السبعين، وصفر في المائة تقريبًا من أولئك الذين تخطوا ذلك العمر، وذلك حتى
لو كُتب
لفريق الإنعاش القلبي الرئوي النجاح في مساعيهم المحمومة بصورة ما. وعندما يتوقف القلب
خارج
المستشفى، فلا يُتوقع أن يعيش سوى ٢٠–٣٠ في المائة من الضحايا، وهم في أغلب الأحيان
أولئك
الذين يستجيبون بسرعة لعمليات الإنعاش القلبي الرئوي. وإذا لم تكن هناك استجابة في
الوقت
الذي يصل فيه المريض إلى غرفة الطوارئ بالمستشفى، تصبح احتمالية البقاء على قيد الحياة
معدومة تقريبًا. ويكون الجزء الأكبر ممن يستجيبون — مثل إرف لبسينر — هم ضحايا الرجفان
البطيني.
يلاحظ الشبان والشابات المتشبثون حدقاتِ (Pupils) عيونِ
مرضاهم وهي تستجيب للاستثارة الضوئية، ثم تتوسع حتى تتحول إلى حلقات كبيرة ثابتة من
السواد
غير المُنْفذ للضوء. وهنا يوقف أعضاء الفريق محاولاتهم على مضض، في حين يتحول المشهد
كله من
تلك الصورة الحية للإنقاذ البطولي الوشيك إلى انكسار النفس الكئيب المتعلق بالفشل.
يموت المريض بمفرده بين غرباء عنه، فبالرغم من أن أفراد الفريق الطبي يكونون حَسنِي
النية، ومتحمسين، وملتزمين التزامًا لا يلين بإنقاذ حياته، فإنهم يظلون مجرد غرباء
عنه.
فليست هناك كرامة في هذا الموقف. وعندما يوقف أولئك المؤاسون
٤ الطيبون جهودهم المضنية، ترى الغرفة وقد تناثرت بها مخلفات تلك الحملة
المفقودة، بصورة تزيد حتى على تلك التي كانت عليها غرفة مكارتي في تلك الليلة البعيدة
لوفاته. وفي وسط هذا الدمار ترقد الجثة هامدة، وقد فقدت كل جاذبيتها بالنسبة لأولئك
الذين
كانوا، منذ دقائق معدودة، يبذلون قصارى جهدهم ليكونوا منقذين لذلك الرجل الذي كانت
رُوحه
تسكنها.
والذي حدث هو المرحلة النهائية لسلسلة متواصلة من الأحداث البيولوجية. فسواء كانت
مبرمجة
بواسطة الجينات، أو ناتجة عن العادات الشخصية للمتوفَّى أثناء حياته، أو — كما هي
الحال في
أغلب الأحيان — من مزيج منهما معًا. تصبح الشرايين التاجية لذلك الرجل غير قادرة على
جلب دم
كافٍ لتغذية عضلة قلبه؛ فتصبح ضربات القلب غير فعالة، ويُترك الدماغ لمدة طويلة بدون
أكسجين
كافٍ، ثم يموت الرجل. ويعاني نحو ٣٥٠٠٠٠ أمريكي من توقف القلب سنويًّا، تموت الغالبية
العظمى منهم؛ إذ يحدث أقل من ثلث النوبات داخل المستشفى، وكثيرًا ما لا يكون هناك
إنذار
بقرب قدوم هذا الرحيل النهائي. وبصرف النظر عن قدر الإقفار الدموي الذي تحمَّله القلب
في
السابق، فقد يكون قصوره مفاجئًا. وفي نحو عشرين في المائة من الناس — مثلما حدث للبسينر،
قد
يحدث ذلك حتى بدون ألم. ومهما كان الغموض الذي يكتنف مثل هذه الوفاة، فقد فرضه عليها
الأحياء. ومن الصفات المميزة للرُّوح البشرية أن الانتصارات السابقة — خلال الحياة
— على
تلك الأحداث البغيضة التي يعالجها أغلبنا عند الموت، أو أثناء خطونا الحثيث نحو لحظاتنا
الأخيرة في الحياة.
ولا ترجع تجرِبة الموت إلى القلب وحده، فهي عملية تشترك فيها جميع أنسجة الجسم، كلٌّ
بطريقته وسرعته الخاصة. والكلمة الفاعلة هنا هي عملية وليس فعل، أو لحظة، أو أي اصطلاح
آخر
يشير ضمنًا إلى تلك اللحظة الخاطفة من الزمن التي تغادر فيها الرُّوح الجسد.
وفي الأجيال السابقة، كانت نهاية نبض القلب المتخاذل تؤخذ كعلامة دالة على انتهاء
الحياة،
كما لو كان الصمت المفاجئ الذي يتلوها يحمل في طيَّاته إشارة صامتة للنهاية. كانت
هذه لحظة
محددة، يمكن تسجيلها في تاريخ الحياة، وهي تعني التوقف التام بعد كلمتها الختامية.
أما اليوم، فالقانون يُعرِّف الوفاة — بعدم تحديد للمعالم ملائم تمامًا — على أنها
توقف
وظائف الدماغ. وبالرغم من أن القلب قد يظل نابضًا، كما قد يستمر نخاع العظام الغافل
في
إنتاج المزيد من خلايا الدم، فلا يمكن لقصة حياة أي إنسان أن تستمر بعد وفاة دماغه.
ويموت
الدماغ بالتدريج، مثلما حدث بالنسبة لإرف لبسينر. وتموت بالتدريج، كذلك، كل خلية من
خلايا
الجسم، بما فيها تلك المولودة للتو في نخاع العظم. وتسلسل الأحداث التي تفقد بها خلايا
وأعضاء الجسم قواها الحيوية تدريجيًّا في تلك الساعات القليلة التي تسبق والتي تلي
الإعلان
الرسمي عن حدوث الوفاة، هو الآلية البيولوجية الحقيقية للاحتضار، وستناقَش بالتفصيل
في فصل
لاحق. إلا إنه من الضروري أولًا أن نصِف ذلك النمط الطويل من الاحتضار؛ والمسمى
بالشيخوخة.