الفصل الثالث
السبعون
ليس هناك من يموت بسبب الشيخوخة، أو هكذا سيكون التشريع لو حكم العالمَ خبراءُ التأمين
على الحياة! في شهر يناير من كل عام، وفي نفس الوقت الذي تضيِّق فيه أوتوقراطية الشتاء
القاسية قبضتها البالية، تُصدر حكومة الولايات المتحدة «التقرير المقدم
(
Advance) عن
إحصائيات الوفَيَات النهائية»، والذي يصدُر سنويًّا. ولا تجد في الخمسة عشر سببًا
الكبرى
للوفَيَات، ولا في أي مكان آخر من ذلك المختصر الذي لا رُوح فيه، أيَّ ذكر لأولئك
الذين
يموتون هكذا بدون سبب ما. وبنظامه المهووس، يضع التقرير النمط السريري المحدد لنوع
ما من
المراضة المميتة لكل شخص تسعيني.
١ وحتى لأولئك الذين تقلُّ أعمارهم عن ذلك قليلًا، في أعمدته المنسقة تمامًا. ولا
يسلم حتى أولئك الذين تُكتب أعمارهم بثلاثة أرقام من تلك المسميات المنظمة التي يطلقها
عليهم صانعو الجداول هؤلاء. فهم يطالبون كل إنسان بأن يموت بفعل سبب محدد ومعروف،
ليس فقط
حسب تصنيف وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكية بل وأيضًا وفق القانون الدولي
لمنظمة
الصحة العالمية. وخلال خمس وثلاثين سنة قضيتها كطبيب مسجل، لم تُتَح لي على الإطلاق
الجرأة
على كتابة «الشيخوخة» كسبب للموت في شهادة الوفاة، لمعرفتي بأن ذلك النموذج سيُعاد
إليَّ
مرة أخرى مع ملحوظة موجزة من أحد كتبة السجلات الرسمية يخبرني فيها بأني قد خرقت القانون.
وفي كل مكان من العالم، يُعَد الموت بسبب الشيخوخة مخالفًا للقانون.
ويبدو رجال التأمين على الحياة غير قادرين على قبول تلك الظاهرة الطبيعية إلا لو كانت
شديدة التحديد بحيث تنطبق بسهولة على تصنيف محدد وسهل الوصف. ويتميز التقرير السنوي
لإحصائيات الوفَيَات الفيدرالية بالنظام الشديد، وليس بالخيال الفائق، وبرأيي أنه
لا يعكس
صورة الحياة الحقيقية «والموت الفعلي» بصورة دقيقة، إلا أنه يبقى — مع ذلك — منظمًا
للغاية.
وأنا على يقين من أن هناك الكثيرين ممن يموتون بفعل الشيخوخة وحدها. وبصرف النظر عن
التشخيصات العلمية التي دوَّنتُها في شهادات الوفاة الرسمية التي كنت أقوم بتعبئتها
لإرضاء
مكتب الإحصائيات الحيوية — فقد كنت أعلم أفضل من ذلك.
وفي أية لحظة بعينها، يقيم نحو خمسة في المائة من المسنين في الولايات المتحدة في
إحدى
دور الرعاية الطويلة الأمد. وإذا قضوا هناك أكثر من ستة أشهر، فالغالبية العظمى منهم
لن
تتمكن من مغادرة دور الرعاية تلك على قيد الحياة، ربما باستثناء إقامة نهائية قصيرة
في
المستشفى؛ حيث سيقوم أحد الأطباء حديثي التخرج — في نهاية الأمر — بتعبئة بيانات واحدة
من
شهادات الوفَيَات «الحقيقية» تمامًا.
ما هو السبب الذي يموت من أجله كل أولئك العجائز؟ فبالرغم من أن أطباءهم المعالجين
يسجلون
— حسب ما يمليه عليهم الواجب — أسبابًا محددة؛ مثل: السكتة الدماغية
(
Stroke)، أو القصور القلبي، أو الالتهاب الرئوي، فإن
أولئك العجائز يموتون في واقع الأمر لأن شيئًا ما بداخلهم قد استُهلك تمامًا. وقبل
عصر الطب
الحديث بكثير كان الجميع يفهمون هذه الحقيقة، فقد كتب توماس جيفرسون
٢ في الخامس من شهر يوليو عام ١٨١٤م، عندما كان في الحادية والسبعين، مخاطبًا جون أدامز،
٣ والذي كان في الثامنة والسبعين وقتها، قائلًا: «… لكن آلاتنا ظلَّت تعمل اليوم
لمدة سبعين أو ثمانين عامًا، لذا فعلينا أن نتوقع ذلك، بسبب شيخوخة تلك الآلات، أن
يستسلم
محور هنا، وعجلة هناك، وتُرس الآن، ثم زُنبرك … ومهما حاولنا إصلاحها لفترة مؤقتة
فسيتوقف
الكل عن الحركة في نهاية المطاف.»
وسواء ظهرت الأعراض الجسمانية الظاهرية في المخ
(Cerebrum)، أو في صورة بطء في عمل الجهاز المناعي
المتهالك، فذلك الشيء الذي يضمحلُّ ما هو إلا قوة الحياة ذاتها. ولست في الواقع على
خلافٍ
جوهري مع أولئك الذين يُصِرُّون على استلهام التحديد المَخبري لعلم الأمراض المِجهري
(Microscopic Pathology) من أجل إشباع المطالب
الاستحواذية (Compulsive) لوجهة نظر عالمهم الأحيائي الطبي
(Biomedical) — فأنا أعتقد، ببساطة، أنهم يفتقرون للفهم
الصحيح لِلُبِّ الموضوع.
وبمجرد أن أصبحتُ على وعي بالحياة، بدأتُ عملية طويلة تتمثل في مراقبة شخصٍ ما وهو
يموت
ببطء بفعل الشيخوخة. ولم يولد بعدُ عالِم الإحصاء الذي يستطيع إقناعي بأن السبب المدوَّن
رسميًّا لوفاة جدتي كان أي شيء عدا كونه خرقًا مقننًا للقانون الأكبر للطبيعة. وعند
ولادتي،
كان عمرها ثمانيًا وسبعين سنة، بالرغم من أن أوراق الهجرة المهترئة الخاصة بها تدَّعي
بأنها
كانت تبلغ من العمر ثلاثة وسبعين عامًا فقط. فقبل ذلك بخمسة وعشرين عامًا، وفي منزلها
بجزيرة إيليس
٤ اختارت أن تصبح أصغر مما هي عليه في الواقع، لأنهم أخبروها بأن الرقم ٤٩ سيكون
أكثر قبولًا من الرقم ٥٤ لدى الموظف «الأمريكي» العابس ذي المظهر الشبيه بالجنود،
ببزته ذات
الأزرار النحاسية، والذي سيوجه إليها تلك الأسئلة الجامدة التي افترضت أنها ستكون
حيوية
للغاية بالنسبة لدخولها إلى الولايات المتحدة. ولذلك فأنت ترى أنني لست أول فرد في
عائلتي
دفع به خوفه من الرفض الحكومي إلى اعتماد القليل من شهادة الزور
(
Prejury).
كانت ثلاثة أجيال من عائلتي تتقاسم شقة مكونة من أربع غرف في منطقة برونكس
(Bronx) بمدينة نيويورك، وهم ستة أرواح في مجملهم:
جدتي، وخالتي روز، ووالداي، وشقيقي الأكبر، ثم أنا. وفي تلك الأيام، لم يكن في الحسبان
أن
يُرسَل أحد الوالدين الطاعنين في السن إلى واحدة من دور الرعاية القليلة المتوافرة
وقتها.
وحتى لو توافرت النية، وهو نادرًا ما كان يحدث، فلم يكن هناك سبيل لتحقيقها، ببساطة.
منذ نصف قرن، كان القليل من الناس يريدوننا أن نقوم «بنفي» والد طاعن في السن إلى
إحدى
هذه المؤسسات؛ إذ كان ذلك يُعَد نوعًا من التهرُّب القاسي القلب من المسئولية، وإنكارًا
للحب.
كانت مدرستي الثانوية لا تبعد عن بيتنا المتواضع إلا بمُجمَّع سكني واحد، وحتى المسافة
إلى كلية الطب فيما بعد لم تزد على عشرين دقيقة. وفي كل صباح، كانت جدتي تضع شطيرة
صغيرة
وتفاحة في كيس ورقي بني اللون، أحشره بعدها بين كتبي وذراعي وأنا في طريقي إلى حرم
الجامعة
النضير على التل القريب. وفي أثناء سيري في طريقي، كنت أنضم أحيانًا إلى مجموعة من
الأصدقاء
كنت أعرفهم منذ زمن. ومع بداية الفصل الثاني في الصباح، كان ولا بد أن يصبح الكيس
مدهَّنًا
(Greasy) بسبب طبقات الزبد الكثيفة التي كانت جدتي
المُحبة تضعها دائمًا بسخاء فوق الشطيرة. وحتى اليوم، لا أستطيع أن أرى لطخات الدهن
على
الورق بني اللون بدون أن أُحِس بالألم العذب للحنين إلى الماضي يعتمل في صدري.
وفي الصباح الباكر من كل يوم، كانت خالتي روز ووالدي يختفيان داخل مترو الأنفاق الذي
يحملهما إلى مقر عملهما في صناعة الملابس في حي مانهاتن. تُوفِّيت والدتي عندما كنت
في
الحادية عشرة من عمري، لذلك كنت فتى جدتي المدلل. وباستثناء دخولي إلى المستشفى للعلاج
من
التهاب الزائدة الدودية، وفترتين امتدت كلٌّ منهما نصف شهر في أحد المعسكرات الصيفية
دفع
نفقاتهما قريب لنا ميسور الحال، كنت أقضي أغلب فترات حياتي بقربها. وبدون أن أدرك
ذلك، كنت
أراقب طيلة السنوات الثماني عشرة الأولى من حياتي سقوطها نحو الموت.
عندما يعيش ستة أفراد في شقة مكونة من أربع غرف صغيرة، يكون هناك القليل من الأسرار
بينهم. وخلال السنوات الثماني الأخيرة من حياة جدتي، كانت تتشارك غرفتها مع خالتي
ومعي.
وحتى اليوم الذي أكملتُ فيه آخر ارتباطاتي بالكلية، كنت أقوم بتأدية فروضي الدراسية
على
منضدة رقيقة مفتوحة في وسط غرفة معيشتنا الصغيرة، في الوقت الذي كانت فيه الأنشطة
المنزلية
تجري على بُعد خطوات مني. وعندما كنت أنتهي من الاستذكار، كنت أقوم بطيِّ المنضدة
وكرسيها
المتهالك قبل تنضيدهما على الجدار خلف الباب المفتوح بين بهو المدخل القصير وبين غرفة
المعيشة. وكنت إذا تركت ورائي حتى قصاصة من الورق، كنت أسمع عنها من جدتي.
لم يكن لفظ «الجدة» هو الاسم الذي كنا ننادي به عميدة أسرتنا، لأن اللفظة «جدة»
(
Grandmother) لا تُنطق إلا بالقليل من مقاطع اللغة
الإنجليزية، كان ما أطلقتُه وأخي الأكبر عليها هو المقابل للفظة
Bubbeh في اللغة الييدية
٥ وقد كانت تطلق على أخي اسم هرشل (
Herschel)،
كان اسمه الأصلي هارفي، أما أنا فكانت تناديني باسم شيبسل
(
Shepsel)، وحتى اليوم، يناديني الجميع «شيب»، وأعتبر
ذلك تَذكارًا من جدتي.
ولم تكن حياة جدتي سهلة بأية حال؛ فمثلها مثل كثير من المهاجرين من دول أوروبا الشرقية،
كان زوجها قد سبقها إلى الشواطئ الذهبية لأمريكا وقد اصطحب ولديهما معه، تاركًا زوجته
لسنوات عديدة مع أربع بنات صغيرات في قرية بلاروسية صغيرة. وبعد التئام شمل الأسرة
بسنوات
قلائل، في شقة مزدحمة (لأنه كان هناك أقارب آخرون يتقاسمونها معهم) في شارع ريفنجتون
في
الجانب الشرقي السفلي لمدينة نيويورك، تُوفِّي جدي وولداه في تتابُع سريع، وليس معروفًا
على
وجه التحديد ما إن كانوا قد ماتوا بفعل التدرُّن أو بفعل الإنفلونزا.
وفي ذلك الوقت، كانت ثلاث من البنات الأربع يعملن في مجال صناعة الألبسة، لذلك كانت
الأسرة تحصل على بعض الدخل. واستفادت جدتي من إعانة مالية قدمتها لها إحدى الهيئات
اليهودية
في أن ادَّخرت دولارات كافية لدفع مقدم مزرعة مساحتها مائتا فدان قرب مدينة كلوشستر
بولاية
كونكتيكت منضمةً بذلك إلى عدد كبير من مواطنيها الذين كانوا يفعلون الشيء نفسه. ومثلها
مثل
الآخرين، عملت في الأرض بمعاونة سلسلة من الأُجَراء، واحدًا بعد الآخر، والذين كانوا
في
معظمهم من المهاجرين البولونيين الذين لا يعرفون من اللغة الإنجليزية أكثر مما تعرف
هي. ومن
الصعب معرفة كيف استطاعت هذه «الدينامو» ذات الإرادة الحديدية والتي لا يزيد طولها
على
أربعة أقدام وعشر بوصات، أن تبقى على قيد الحياة خلال تلك الفترة، نظرًا لأن المزرعة
لم تكن
كثيرة المحصول. كان دخلها الرئيسي، والذي كان بالكاد كافيًا لدفع نفقات المزرعة اليومية،
يأتي من التبرعات الصغيرة من الأهل والأصدقاء من الوطن القديم، والذين كانوا يمكثون
هناك
لفترات قصيرة هربًا من تهديد مرض التدرُّن المنتشر في الشارع العاشر لمنطقة مانهاتن
السفلى
في نيويورك.
كانت جدتي — بوصفها ملاذَهم ونبعَ الصبر ضد الصخب المحير للحياة الأمريكية — قد اتخذت
لنفسها دَورًا لا أستطيع أن أصفه إلا بتعبير اللغة الييدية (
Mater et magistra)
٦ بالنسبة لمجموعة
متزايدة العدد من شباب المهاجرين المكافحين. وبالرغم من أنها لم تكن تستطيع النطق
بجملة
إنجليزية واحدة مفهومة، فإنها استطاعت — بصورة ما — أن تتفهَّم قواعد وأنماط المجتمع
الأمريكي. وإذا كان هناك حاخامات العجائب (
Wonder
Rabbis) في الوطن الأم، فإن القبيلة المتنامية وجدت
نبعًا مؤنثًا لمقام الحكمة (
Oracular Stature) في هذا الوطن
الجديد، كما خلعوا عليها لقب «العمة» (
Tante) العظيم
الشأن.
وباعتبارها Tante
Peshe — والتي تُترجَم بصورة غير كاملة إلى «العمة بولين» —
فقد احتضنت جدتي بقوتها تجمعًا كبيرًا وفقيرًا من أبناء وبنات الإخوة والأخوات الذين
يعملون
لحسابهم الخاص، والذين كان بعضهم يقل عنها في العمر قليلًا فحسب. وقد كان لزامًا في
النهاية
أن يتم التخلي عن المزرعة عندما تزوجت البنات جميعًا فيما عدا واحدة. وقبل أن يحدث
ذلك بوقت
طويل، تُوفِّيت الابنة الكبرى (آنا) في العشرينيات من عمرها بسبب حمى النفاس
(Childbed Fever)، كما ارتحل زوجها الشاب بعيدًا سعيًا
وراء حياته الخاصة، تاركًا طفل آنا الرضيع لأمها المكلومة، والتي ربَّته في المزرعة
باعتباره ابْنًا لها، وكان قد اقترب من العشرين عند بيع المزرعة، عندما بدأت مرحلة
برونكس
في حياة أسرتنا.
عندما بلغتُ الحادية عشرة من عمري، كانت خالتي روز هي الابنة الوحيدة الباقية على
قيد
الحياة لجدتي؛ إذ مات أحدهم في طفولته المبكرة، أما الباقون فماتوا على الأرض الأمريكية
التي جلبوا إليها أحلامهم. كان عمر جدتي وقتها تسعًا وثمانين سنة، فتحولت إلى صورة
ضئيلة
منهكة، بَيد أنها احتفظت بجذوة نار الحياة مشتعلة في داخلها، بالكاد، من أجل مصلحة
أحفادها
الثلاثة: شقيقي، وأنا، إضافة إلى أرلين ابنة خالتي البالغة من العمر ثلاث عشرة سنة.
كانت
أرلين قد أتت إلينا قبل ذلك التاريخ بسنتين، عندما تُوفِّيت والدتها نتيجة لإصابتها
بالفشل
الكُلوي؛ وتركتنا بعد ذلك لتعيش مع أسرة والدها عندما أصيبت والدتي بالسرطان بعد بلوغي
الحادية عشرة بقليل. كان السجل الطويل لترمل جدتي مكونًا من تاريخ متواصل من الصراع
والمرض،
والموت. كانت أحلامها قد دُفنت في القبر واحدًا تلو الآخر بوفاة زوجها وستة من أبنائها.
ولم
يتبقَّ وقتَها سوى الخالة روز وثلاثتنا نحن الذين وُلدنا في الأرض التي تحوَّل وعدها
إلى
تحطيم للقلوب. ولا بد أنني لم أبدأ في إدراك كم كانت جدتي طاعنة في السن إلا عندما
تُوفِّيت
والدتي. ومنذ ذكرياتي الأولى، كنت أُسلِّي نفسي من وقت لآخر باللعب العابث بالجلد
الرخو
وغير المرن الموجود على ظهر يديها أو قرب مِرفقيها، بجذبه برفق كقطعة من حلوى «الطوفي»
مشدودة، ثم مراقبته — باندهاش لا يفتر — وهو يعود لهيئته السابقة ببطء، وبفتور يسيرٍ
يجعلني
أفكر بدبس السكر الأسود (Molasses). كانت تضرب على يدي
بحدَّة عندما كنت أفعل ذلك، بضيق ساخر من جرأتي، وكنت أضحك مداعبًا لها حتى تخون عيناها
استمتاعها الشخصي بوقاحتي المصطنعة. وقد كانت — في واقع الأمر — تحب لمستي، كما كنت
أحب
لمستها. وقد أدركت فيما بعد أن بوسعي أن أصنع نُقرة ضحلة في أنسجة ذقنها بالضغط بقوة
على
الجلد الملتصق بالعظم بطرف إصبعي.
كانت الحفرة تستغرق وقتًا طويلًا لتعود إلى ما كانت عليه وتختفي. كنا نجلس معًا صامتين
لرؤية كيف يحدث ذلك. وبمرور الوقت، باتت هذه الحفر أكثر عمقًا، كما استطالت فترة إعادة
امتلائها كثيرًا.
كانت جدتي تتنقل من غرفة لأخرى وهي تنتعل «شبشبًا»
(Slippers) وتتحرك بعناية عظيمة. ومع مرور السنين،
تحولت المِشية إلى جرجرة (Shuffle)، ثم في النهاية إلى نوع
من الانزلاق البطيء، حيث لم تعد القدم تترك سطح الأرض أبدًا. وإذا كان عليها — لأي
سبب من
الأسباب — أن تَزيد من سرعة مِشيتها، كانت تصبح مبهورة النفس
(Short-winded)، فيبدو أنها كانت تجد أنه من الأسهل
عليها التنفس إذا فغرت فاها واسعًا لسحب الهواء. وكانت في بعض الأحيان تدع لسانها
يتدلَّى
خارج شفتها السفلى بقليل، كما لو كانت تأمل في امتصاص بعض الأكسجين الإضافي من خلال
سطح
لسانها. لم أكن أعرف ذلك وقتها بالطبع، لكنها كانت قد بدأت انزلاقها البطيء نحو قصور
القلب
الاحتقاني (Congestive Heart Failure). ومن المؤكد تقريبًا،
أن هذا كان يزداد سوءًا بفعل النقصان المعتبر في كَمية الأكسجين التي يستطيع الدم
العجوز
حملها من الأنسجة الشائخة إلى الرئتين العجوزتين.
بدأت قدرتها على الإبصار تفشل بدورها ببطء؛ ففي البداية كانت مهمتي تنحصر في «ضم»
إبر
حياكتها، ولكنها، عندما وجدت نفسها غير قادرة على توجيه أصابعها، توقفت عن الحياكة
تمامًا،
فكان على الثقوب الموجودة في جواربي وقُمصاني أن تنتظر حتى تحين تلك اللحظات المسائية
القليلة التي كانت تتحسن فيها صحة خالتي روز المتعبة بصورة مزمنة، والتي كانت تسخر
من
محاولاتي الضعيفة لتعليم نفسي الحياكة [عندما أتذكر ذلك، يبدو من الصعب تصديق أنني
كنت
سأصبح جراحًا في يوم من الأيام. كانت جدتي ستصبح فخورة جدًّا ومندهشة للغاية من ذلك].
وبعد
ذلك بعدة سنوات، لم تعد جدتي قادرة على أن ترى بصورة كافية لتقوم بغسل الصحون أو حتى
تنظيف
الأرضية، نظرًا لأنها لم تعد ترى أماكن وجود التراب أو القاذورات. ومع ذلك، فلم تكفَّ
عن
المحاولة، في محاولة يائسة منها للمحافظة حتى على ذلك الدليل الضئيل على كونها ذات
منفعة.
وأصبحت محاولاتها المستمرة للتنظيف مصدرًا لبعض الاحتكاكات اليومية البسيطة التي لا
بد من
أنها قد جعلتها تُحِس بانعزالها المتزايد عن بقيتنا.
وفي أوائل العَقد الثاني من عمري، رأيت الآثار الأخيرة الباقية من المناوشات القديمة
وهي
تضمحل، كما أصبحت جدتي شبه مستكينة (Meek). كانت لطيفة
دومًا معنا نحن الأطفال، لكن تلك الاستكانة كانت شيئًا جديدًا، وربما لم يكن في الأمر
استكانة بقدر كونه نوعًا من الانسحاب، أو الاستسلام للقوة المتنامية للإعاقات الجسدية
التي
كانت تَزيد بصورة طفيفة من انفصالها عنا، وعن الحياة ذاتها.
وبدأت تحدث أشياء أخرى: فبمرور الوقت، جعلت حركة جدتي المتضائلة وعدم اتزانها من المستحيل
عليها أن تنهض للتوجه إلى المرحاض ليلًا، لذلك كانت تنام مع علبة قهوة فارغة كبيرة
من نوع
«مكسويل» تحت سريرها. وفي أغلب الليالي، كنت أصحو من نومي بسبب محاولاتها المرتبكة
للبحث عن
العلبة في الظلام، أو على صوت الدفق الضعيف لبولها الذي يطرق السطح الداخلي للعلبة
المصنوعة
من الصفيح. وكثيرًا ما كنت أرقد بلا حَراك في ظلمة ما قبل الفجر، محملقًا عبر الغرفة
في
جدتي التي كانت ترقد منهكة على فراشها، وهي تمسك بعلبة القهوة عاليًا تحت عباءة نومها
بيد
مضطربة وهي تحاول تثبيت جسدها المترجرج إلى الحَشِيَّة باليد الأخرى.
ولم أستطع على الإطلاق أن أفهم لماذا كان على جدتي أن تستيقظ بكل هذه التكرارية من
أجل
نوباتها الليلية تلك مع علبة القهوة، حتى مرت سنون طويلة تعلمت بعدها أن هناك تناقصًا
ملحوظًا في سعة المثانة البولية يحدث مع التقدم في العمر. وبعكس كثير من المسنين،
فلم تفقد
جدتي حَكْمها (Continence) على البول مطلقًا — بالرغم من
أنني كنت على يقين من حدوث نوبات صغرى من ذلك لم أعرف عنها شيئًا على الإطلاق، ولم
تفضحها
الرائحة الخفيفة للبول إلا في الشهور الأخيرة من حياتها، وحتى في ذلك الوقت، لم تكن
هذه
الرائحة تظهر إلا عندما كنت أقف قريبًا جدًّا منها، أو إذا ضممت هيكلها الواهي إلى
صدري
بشدة.
فقدت جدتي آخر أسنانها عندما كنت في أوائل سِنِي مراهقتي، كانت تحفظ جميع أسنانها
في كيس
صغير للنقود موجود في مؤخرة الدرج العلوي لمكتب كانت تتشاركه مع الخالة روز. ومن الطقوس
السرية لطفولتي، كان التسلل إلى ذلك الدرج والنظر للحظات قليلة باندهاش إلى تلك الأشياء
البيضاء الاثنتين والثلاثين، والتي لم يكن يبدو أي اثنتين منها متشابهتين. وبالنسبة
لي،
كانت تلك الأسنان تُعتبر ركائز متعددة لشيخوخة جدتي، ولتاريخ أسرتنا. وحتى بدون أسنانها،
كانت جدتي تتمكن — بصورة ما — من تناول جميع صنوف الطعام. أما عند اقتراب النهاية،
فقد فقدت
القوة حتى لفعل ذلك، لذا فقد ساءت حالتها الغذائية؛ إذ أضيفَ المدخول الغذائي غير
الكافي
إلى النقصان المعتاد الذي تُحدثه الشيخوخة في كتلة العضلات، مما أدَّى إلى تغيير الشكل
الخارجي لجسمها، مما جعلها تبدو منكمشة مقارنةً بتلك السيدة العجوز القوية، التي تميل
إلى
البدانة قليلًا، والتي عرَفتُها يومًا. كانت التجاعيد قد ازدادت في وجهها، كما ذوى
لون
بشرتها إلى مَسحة من الشحوب الخفيف، كما كان الجلد الذي يكسو وجهها يبدو أكثر تفككًا.
أما
جمالها القديم، والذي احتفظت به حتى تخطَّت التسعين من عمرها، فقد ذبل وضاع في
النهاية.
هناك تفسيرات إكلينيكية بسيطة لتلك الأشياء الكثيرة التي رأيتها خلال سنوات انحدار
جدتي،
لكنها تبدو، بصورة ما، غير مقنعة لي حتى الآن. ومن اليسير تمامًا أن نتحدث عن تلك
العوامل
المسببة، مثل دوران الدم المتناقص الكفاءة إلى الدماغ، أو التنكس الشيخوخي
(
Senescent Degeneration) في الخلايا المخية الذي يصبح
من الضحالة بحيث يلزم المِجهر الإلكتروني لإظهاره. إلا إننا نجد أن هناك انعزالًا
فكريًّا
معينًا في ذلك الوصف البيولوجي الفج لموت ذلك النسيج الحي بالذات، والذي مكَّن «التسعيني»
في يوم من الأيام من التفكير بخواطر واضحة، وجريئة في بعض الأحيان. ويجدر بنا هنا
أن نذكر
أبحاث علماء الفيزيولوجيا (
Physiology)، إضافة إلى تلك
الخاصة بعلماء الغدد الصماء (
Endocrinologists)، وعلماء
السيكولوجية العصبية المناعية (
Psychoneuroimmunologists)،
وأخيرًا علماء ذلك التخصص الحديث المتنامي بسرعة لدراسة طب الشيخوخة
٧ من أجل تفسير كل ما كان عصيًّا على فهم عينيَّ المراهِقتين. لكن هذه الرؤية
الفعلية هي ما يسترعي الانتباه، أي رؤية تلك العملية التي نعيش جميعًا بداخلها على
الدوام.
وبالرغم من أننا محاطون بها جميعًا فإن هناك شيئًا ما بداخل كل منا يدفع بوجه الإدراك
للإشاحة بعيدًا عن الواقع الملازم للشيخوخة التي يعانيها كلٌّ منا؛ فهناك شيء ما بداخلنا
سوف لا يتقبل فورية الإدراك بأن أجسامنا — بالرغم من أننا نشهد ذلك في الشيوخ بصورة
جلية —
تمر بدورها، في الوقت نفسه — وبصورة غامضة — بنفس تلك العملية التي لا هوادة فيها،
والتي
ستؤدي بنا في النهاية إلى الشيخوخة ثم الموت.
وهكذا، كانت خلايا دماغ جدتي قد بدأت في الاحتضار قبل ذلك الوقت بكثير، ربما مثلما
تُحتضَر خلايا دماغي اليوم، وخلايا دماغك أنت أيضًا. ولأنها كانت أكبر بكثير مما أنا
عليه
الآن، ولأنها انسحبت من استثارات العالم المحيط بها، فقد أدَّت الأعداد المتناقصة
لخلاياها
الدماغية، إضافة إلى استجاباتها المتناقصة بدورها، إلى حدوث تغيرات شديدة الوضوح في
سلوكها.
ومثلها مثل أغلب العجائز، باتت ذاكرتها متزايدة الضعف، كما كانت تشعر بالضيق كلما
ذكرها أحد
بذلك. ولأنها كانت معروفة دومًا بالصراحة في تعاملاتها مع الآخرين، بات واضحًا أنها
تشعر
بالضيق ونفاد الصبر عند تعاملها مع تلك القلة من خارج نطاق الأسرة التي قد تضطرها
الظروف
للتعامل معها، كما بدا أنها كانت تثير نفسها عن طريق إهانة حتى أولئك الذين ظلوا يلجئون
إليها لسنين طويلة طلبًا للمشورة. وبعد ذلك جاء الوقت الذي بدأت تجلس خلاله في صمت،
حتى وهي
بصحبة الآخرين. وفي نهاية الأمر، لم تكن تتحدث إلا عندما كانت هناك ضرورة قصوى لذلك،
وذلك
بطريقة جافة تضم القليل من المشاعر.
أما ما كان أشد وضوحًا — وأعترف هنا أنني لم أدرك ذلك إلا فيما بعد — فهو انسحابها
البطيء
من الحياة ذاتها: فعندما كنت صبيًّا صغيرًا، وحتى في بدايات المراهقة، كانت جدتي تصلي
في
الكنيس (Synagogue) في أيام الأعياد المقدسة. وبرغم أنه كان
في نفس صعوبة رحلة الحج عبر المجموعات السكنية الخمس التي تفصلنا عن الكنيس، تمكنت
— بصورة
ما — من مناقشة أهالي المناطق الفقيرة في شوارع برونكس بكتاب صلواتها المهترئ الذي
كانت
تحمله بحرص شديد تحت أحد إبطيها خوفًا من اقترافها خطيئة بتركه ليسقط على الأرض.
كنت أصحبها إلى هناك، وكم أندم الآن على كل لغط كنت أتفوه به متذمرًا. وكم أتمنى
لو أنني
لم أكن أحيانًا — بل كثيرًا — أشعر بالخجل من أن يراني أحد برُفقة هذه السيدة التي
تلف
منديلًا أسود حول رأسها، والتي تجر أذيال حضارة يهودية شرقية
(Shtetl) اندثرت تمامًا، حتى إنها رفضت بعناد أن تندثر
معها.
كان أجداد الآخرين جميعهم يبدون أصغر سنًّا بكثير، وكانوا يتحدثون الإنجليزية، كما
كانوا
مستقلين، أما جدتي فكانت تُذكِّرك ليس فقط بالعالم الضائع ليهود أوروبا الشرقية، بل
وأيضًا
بالصراع المضطرب الذي كنت أستشعره حول كم البقايا
(Detritus) العاطفية التي أطلقُ عليها الآن تلطُّفًا اسم
تراثي الخاص.
كانت جدتي تمسك ذراعي بيدها الأخرى، التي أحيانًا ما كانت تقبض على قماش كمي وأنا
أقودها
ببطء مؤلم عبر الشوارع، ثم لأسفل الدرَج مع مرتادي الكنيس (كانت أسرتنا تصلي في المقاعد
الرخيصة، والتي كانت تدفع نفقاتها بالكاد)، ثم إلى كرسيها وسط أولئك السيدات اللاتي
نطلق
عليهن اسم العجائز، لكن قليلات فقط منهن كنَّ في مثل غربتها أو هدَّهن القلق مثلها.
وبعد
دقائق قليلة، كنت أتركها هناك، عندما يكون رأسها قد انحنى بالفعل فوق ذلك الكتاب القديم
المصطبغ بالدموع، الذي كانت تتلو منه صلواتها منذ سنوات صباها. كانت كلماته مطبوعة
باللغتين
العبرية والييدية، لكنها كانت تتلو صلواتها من الجانب الييدي من الصفحة لأنها اللغة
الوحيدة
التي كانت تتقنها. وخلال الطقوس الطويلة لهذه الاجتماعات في الأيام الدينية المقدسة،
كانت
تتمتم ببطء بتلك الكلمات التي أصبحت قراءتها أكثر صعوبة، ثم مستحيلة في النهاية، مع
مرور
السنين. وقبل وفاتها بنحو خمس سنين، لم تعُد جدتي قادرة على احتمال رحلة السير الطويلة
إلى
الكنيس، حتى بمساعدة حفيدَيها الاثنين. وباعتمادها على ذاكرتها التي كانت لا تزال
سليمة،
بدأت في تلاوة صلواتها في المنزل، وهي جالسة بجوار النافذة المفتوحة كما اعتادت أن
تفعل
خلال جميع أيام السبت التي عرَفتها خلالها. وبعد ذلك بسنوات قليلة أصبح، حتى ذلك،
أكثر مما
تستطيع القيام به. كانت تتمكن بالكاد من رؤية الجُمَل المكتوبة، كما كانت ذاكرتها
للصلوات
التي حفظتها في شبابها قد بدأت في الانهيار. وفي النهاية، كان عليها أن تتوقف تمامًا
عن
أداء صلواتها. وفي الوقت الذي كفَّت فيه جدتي عن تأدية الصلوات، كانت قد توقفت في
الواقع عن
أداء أي شيء آخر. كان تناولها للطعام قد وصل إلى الحد الأدنى. كانت تقضي جل ساعات
النهار
جالسة بهدوء بجوار نافذتها، كما كانت تتحدث عن الموت أحيانًا. ومع ذلك، فلم تكن مصابة
بأي
مرض. وأنا على يقين من أن طبيبًا متحمسًا قد أشار إلى إصابتها بقصور قلبي مزمن، وأضاف
إليه
احتمال وجود بعض التصلُّب العصيدي، وربما وصف لها تناول عقَّار الديجيتال
(Digitalis). أما بالنسبة لي، كان الأمر سيبدو لي أشبه
ما يكون بالتمجيد لتنكُّس (Degeneration) مفاصلها أن أطلق
عليه اسم مرض الفِصال العظمي (التهاب العظم والمفاصل:
Osteoarthritis) كانت الحالة هي التهاب المفاصل بالفعل،
كما كانت مصابة — بالطبع — بقصور قلبي مزمن، لكن السبب في ذلك كان راجعًا فقط إلى
انهيار
تروس وزنبركات جسدها تحت وطأة السنين؛ فلم تُصَب بالمرض في أي يوم من أيام حياتها
المديدة.
ويُصِر علماء الإحصاء الحكوميون والعلماء السريريون على أن تُطلق أسماء لائقة على
الدورة
الدموية البطيئة وعلى القلب العجوز. وليس لديَّ اعتراض على ذلك، ما لم يُصِرَّ هؤلاء
أيضًا
على أن خلع اسمٍ ما على حالة بيولوجية طبيعية يعني بداهة أنها حالة مرضية. ومثل الخلية
العصبية، تُعَد خلية عضلة القلب واحدة من تلك الخلايا التي تفتقر إلى القدرة على التجديد
الذاتي؛ فمع تقدُّمها في العمر، فهي تبلى ببساطة وتموت. ولا تستطيع تلك العمليات الحيوية
التي تقوم طوال فترة الحياة بصنع قطع الغيار للأجزاء المحتضَرة في داخل كل خلية أن
تقوم
بتلك الوظيفة بعد ذلك، كما تتعطل الآلية التي تحلُّ بها القطعة المصنعة حديثًا من
غشاء
الخلية (Cell membrane) أو من إحدى البنى داخل الخلوية، محل
جزء آخر مات نتيجة لفرط الاستخدام. وبعد حياة كاملة من تجديد قِطع الغيار، تنتهي قدرة
الخلايا العصبية والخلايا العضلية على استعادة شبابها بالتدريج. ثم ينهزم تَكتيك التجديد
المستمر داخل كلٍّ من خلايا عضلة القلب بفعل الاستراتيجية الساحقة التي تُحقِّق بها
الشيخوخة هدفها التدميري النهائي. ومثلها في ذلك مثل أسنان جدتي، تتوقف خلايا عضلة
القلب عن
الحياة، واحدة تلو الأخرى فيفقد القلب قوَّته. وتحدث تلك العملية نفسها في الدماغ
وبقية
أجزاء الجهاز العصبي المركزي. وحتى الجهاز المناعي ليست لديه مناعة ضد الشيخوخة.
وتصبح التغيرات التي كانت في البداية كيميائية-حيوية، وداخل خلوية فقط، واضحة في وظيفة
الأعضاء الكاملة. فهناك انخفاض تدريجي في الخرج القلبي أثناء الراحة، وعندما يُجهد
القلب
بالتمارين الرياضية أو الانفعالات، تصبح قدرته على زيادة الخرج القلبي أقل مما تحتاجه
الذراعان والرئتان وجميع أعضاء الجسم الأخرى. ويهبط المعدل الأقصى لضربات القلب السليم
تمامًا بمعدل ضربة واحدة في كل عام، وهو رقم موثوق به لدرجة أنه يمكن تحديده بطرح
العمر من
الرقم ٢٢٠: فإذا كنتَ في الخمسين من عمرك، فمن غير المحتمل أن يتمكن قلبك من أن يزيد
معدل
نبضه إلى أكثر من ١٧٠ ضربة في الدقيقة، حتى تحت تأثير أقسى التمرينات الرياضية أو
الانفعالات العاطفية. وهذه فقط بعض من السبل التي تفقد بها عضلة القلب المتصلبة والشائخة
قدرتها على التكيُّف مع التحديات التي تواجهها بها الحياة اليومية.
ويزداد تباطؤ الدورة الدموية، فيستغرق البطين الأيسر وقتًا أطول ليمتلئ، ووقتًا أطول
لكي
ينبسط بعد الانقباض؛ فتدفع كلٌّ من ضربات القلب قدرًا من الدم أقل مما كان عليه في
العام
السابق، وحتى قدرًا أقل من محتواها. ويميل ضغط الدم للارتفاع بصورةٍ ما، ربما في محاولة
منه
للتعويض؛ فيزيد بمعدل ٢٠ ملم زئبق بين عمر الستين والثمانين. ويصاب نحو ثلث الأفراد
الذين
يبلغون فوق سن الخامسة والستين بارتفاع ضغط الدم.
وليست عضلة القلب وحدها هي التي تموت ببطء بمرور الزمن، بل وجهاز التوصيل القلبي
أيضًا.
فعند سن الخامسة والسبعين، ربما كانت العقدة الجيبية الأذينية قد فقدت نحو ٩٠ في المائة
من
خلاياها، كما تحتوي حُزمة «هيس» (Bundle of His) على أقل من
نصف ما كانت تحتوي عليه من ألياف. وهناك تغيُّرات مشابهة تحدث في تخطيط كهربية القلب
(E.C.G.) وتتماشى مع كل هذا الفقد في النسيجين العضلي
والعصبي، ويمكن التعرف عليها بسهولة على التخطيط المحبَّر.
وعندما تَشيخ المِضخة، تزداد سماكة بطانتها الداخلية وصماماتها. وتظهر التكلُّسات
في
الصمامات وفي العضل؛ فيتغير لون عضلة القلب نوعًا ما بسبب ترسُّب صِبغة ذات لون بني
مُصْفَر
تسمى بالليبوفوكسين (Lipofucsin) في أنسجتها. ومثله مثل وجه
رجل عجوز لوَّحته عوامل الطقس، يُظهر القلب عمره الحقيقي، بل ويتصرف بناءً على ذلك
العمر
أيضًا. وليست هناك حاجة لاستحضار المرض من أجل تفسير قصور القلب. فالقصور القلبي يكثُر
حدوثه بعشر مرات في الأشخاص الأكبر من الخامسة والسبعين عنه في أولئك الذين تتراوح
أعمارهم
بين الخامسة والأربعين والخامسة والستين. وذلك هو السبب المحدد الذي كان يُمكِّنني
من ثلم
(Indent) أنسجة جلد جدتي بسهولة، كما كان ذلك أيضًا —
وبدون شك — هو سبب إحساسها السريع بضيق النفَس. وربما كان ذلك هو سبب كون أكثر أعراض
النوبة
القلبية شيوعًا في المرضى المتقدمين في السن هو الفشل التنفسي الشديد، وليس الصورة
النمطية
لألم الصدر الذي لا يلين.
ولا يتأثر القلب وحده بفعل السنين الماضية، بل وتتأثر الأوعية الدموية بدورها، فتتغلَّظ
جُدُر الشرايين. ومثلها مثل الشخص الذي يضمُّها جسده، فهي تفقد مرونتها، فلا تعود
قادرة على
الانقباض والتوسع بحماس الشباب، لذا يصبح من الصعب على الآليات التنظيمية للجسم أن
تتحكم في
كَمية الدم الذاهبة إلى العضلات والأعضاء المختلفة لإشباع حاجاتها المتغيرة دومًا.
وبالإضافة إلى ذلك، يستمر التصلُّب العصيدي في طريقه المحتوم مع كل سنة تمضي من العمر.
وحتى في غياب البدانة المفرطة الكولسترول، أو التدخين، أو الداء السكري، والتي تجعله
يظهر
في سن أصغر: تستمر الجدر الشريانية في تضيُّقها التدريجي مع تراكم المزيد من العصيدة
(Atheroma) بفعل الاحتكاك المطول لعَقد فوق عَقد
(Decade) من الدماء المتدفقة.
وقبل مُضِيِّ زمن طويل، يحصل كلٌّ من الأعضاء على قدر من الغذاء أقل مما يحتاجه لتأدية
الوظيفة الطبيعية المنوطة به. وعلى سبيل المثال، يقلُّ المعدل الكلي لسريان الدم إلى
الكُلْيتين بنسبة ١٠ في المائة لكل عقد من الزمن يعيشه المرء بعد سن الأربعين. وفي
الواقع
إن جزءًا فقط من تدهور هذين العضوين ينتج عن الحجم المتناقص للخرج القلبي وعن الأوعية
الدموية المتضيقة، لكن هذه العوامل تَزيد من تأثير بعض التغيرات الشيخوخية المعينة
داخل
الكُلْية ذاتها سوءًا. فعلى سبيل المثال، تفقد الكُلْية الطبيعية — فيما بين سن الأربعين
والثمانين — نحو خُمس وزنها، وتتكون مناطق من التندُّب
(Scarring) داخل مادتها ذاتها. ويزيد تغلُّظ الأوعية
الدموية الدقيقة في داخل الكُلْية ذاتها من تناقص معدل سريان الدم فيها، مما ينتج
عنه تدمير
وحدات الترشيح الكُلَوية، والتي هي بالطبع لُب (Crux)
قدرتها على تنقية البول من الملوثات. وبمرور الوقت، تموت نحو نصف وحدات الترشيح هذه.
وتُقلِّل التغيرات الحادثة في تركيب الكُلْية من كفاءتها. فمع التقدم في العمر، تفقد
الكُلْية مقدرتها، ليس فقط على التخلص من الصوديوم الزائد، بل وعلى الاحتفاظ به داخل
الجسم
عند الحاجة إليه، ونتيجة ذلك هي وجود عدم اتزان في حجم الملح والسوائل في جسم الشخص
المسن،
مما يَزيد من احتمالية حدوث إما قصور القلب من ناحية أو الجفاف
(Dehydration) من الناحية الأخرى، وهذا من الأسباب
الأساسية التي تمثل صعوبة كبرى بالنسبة لأطباء القلب المعالجين للشيوخ في تخطِّي الحدود
الضيقة بين خطر زيادة حمل الصوديوم والقصور القلبي من ناحية، وبين خطر جفاف الأنسجة
الشائخة
من الناحية الأخرى.
ونتيجة جميع أوجه القصور السالفة الذكر هي حدوث ميل مُتنامٍ للكُلْية للتقصير في
تأدية
مسئولياتها. وحتى عندما لا تفشل الكُلْية تمامًا، أي عندما تتعثر مسيرتها فقط، فهي
تتعافى
بصورة أبطأ من الكُلْية الشابة، وتصبح أكثر عرضة لأن تخذل مُضِيفها تمامًا تحت تأثير
الضغوط
الشديدة؛ فتُعَد الوفاة بسبب الفشل الكُلَوي من طرق الموت المعروفة عندما يضعُف جسم
المسن
بفعل عوامل مرضية أخرى، مثل المراحل المتأخرة للسرطان أو المرض الكبدي، فتتراكم سموم
الدم،
وتصاب الأعضاء الأخرى — وخصوصًا الدماغ — بالتسمم، وهنا يصبح الموت بفعل ما يسمى باليوريمية
[(Uremia): زيادة البولينا في الدم] حتميًّا، وكثيرًا
ما تسبقه فترة متفاوتة الطول من الغيبوبة. وغالبًا ما يكون الحدث الانتهائي في مرضى
اليوريمية هو حدوث شذوذ في نَظم القلب (أي حدوث لانظمية)
[Arrhythmia] ناتج عن عدم قدرة الكُلْيتين على التخلص
من البوتاسيوم الزائد في الدم. وعادةً ما ينزلق ضحايا الفشل الكُلَوي إليه بدون أن
يشعروا،
ثم يموتون فجأة في لحظة خاطفة من عدم الاتزان القلبي. ونادرًا ما تكون هناك كلمات
أخيرة أو
«ترضِّي فراش الموت» (Deathbed Reconciliation).
وبالرغم من أن الكُلْية هي أكثر أجزاء المسلك البولي تعرُّضًا للتغيرات الشيخوخية،
فإن
المثانة البولية تتأثر بدورها بالشيخوخة؛ فالمثانة أساسًا هي بالون سميك ذو جُدُر
مصنوعة من
العضلات المرنة، ومع تقدُّمها في العمر، يفقد البالون قدرته على الاتساع، ومن ثَم
يصبح غير
قادر على حمل نفس الكَمية من البول التي كان يمكنه حملها من قبل. ويحتاج الشيوخ للتبول
لمرات أكثر، وهذا هو سبب استيقاظ جدتي من النوم مرة أو مرتين ليلًا لتُعافس في الظلام
مع
علبتها المصنوعة من الصفيح.
وتؤثر الشيخوخة أيضًا على التوازن الدقيق بين عضلة المثانة وبين آلية الإغلاق التي
تتمثل
وظيفتها في منع تسرُّب البول إلى الخارج: ونتيجة ذلك هي حدوث نوبات متفرقة من السَّلَس
(Incontinence) في المسنين، والتي تتحول إلى مشكلة كبرى
بالنسبة لبعضهم، خاصة لو تضاعفت بحدوث العدوى، أو متاعب البروستاتا، أو الاختلاط الذهني،
أو
العقاقير. وكثيرًا ما تكون اضطرابات القدرة الإفراغية للمثانة عاملًا مهمًّا في إحداث
عدوى
المسلك البولي، وهو عدو خطِر للشيخ المنهك. ولا تستطيع الخلايا الدماغية أن تتكاثر
— مثلها
في ذلك مثل خلايا عضلة القلب، وهي تبقى على قيد الحياة عَقدًا وراء عَقد من الزمن
لأن
مكوناتها التركيبية المختلفة تُستبدل باستمرار عندما تبلى، مثل كثير من الخلاطات
(Carburetors) أو السدادات فوق المِجهرية
(Ultramicroscopic) وبالرغم من أن علماء بيولوجية
الخلية يستخدمون مصطلحات أكثر غموضًا مما يستخدمه الميكانيكيون [أي تلك الكلمات مثل
العُضَية (organelle)، والإنزيم
(enzyme)، والمتقدرة
(mitochondria)]، إلا إن هذه الكيانات تحتاج إلى آلية
للاستبدال في مثل كفاءة تلك المستخدَمة في نظيرتها الأكثر شيوعًا في مجال إصلاح السيارات.
وتمتلك كلٌّ من أنواع الخلايا — مثلها في ذلك مثل الجسم نفسه، ومثل كلٍّ من أعضائه
— مثيلات
للتروس والعجلات والزنبركات. وعندما تبلى آلية استبدال الأجزاء المعمرة بالجديدة،
لا تستطيع
الخلايا العصبية أو العضلية أن تبقى على قيد الحياة مع التدمير المتواصل لمكوناتها،
والحادث
بداخلها.
وتتطلب آلية استبدال قطع الغيار هذه اشتراك مكونات جزيئية بعينها داخل الخلية، لكن
الجزيئات في الأنظمة الحيوية تتميز بفترة محدودة للحياة: فبعد انقضاء تلك الفترة الموصوفة،
يُغيِّر التعارض المستمر بين بعضها البعض من صفاتها بدرجة كافية لأن تصبح غير قادرة
على
إنتاج قطع غيار جديدة. وعن طريق عملية النهك والإنهاك (wear &
tear)، تصل الخلية إلى أقصى حدود بقائها، وبذلك تؤدي إلى تحديد فترة
بقاء الخلية الدماغية على قيد الحياة، وهذه هي العملية الكيميائية الحيوية التي يطلق
عليها
العلماء اسم الشيخوخة الخلوية (Cellular Aging).
وتموت الخلية الدماغية بالتدريج، وكذلك تفعل رفيقاتها. وعندما يموت جزءٌ كافٍ منها،
يبدأ
الدماغ في الكشف عن عمره الحقيقي. ويفقد الدماغ، في كل عَقد يعيشه بعد سن الخمسين،
اثنين في
المائة من وزنه.
وعندما تُوفِّيت جدتي عن عمر يناهز السابعة والتسعين، كان وزن دماغها يقلُّ بنحو
١٠ في
المائة عما كان عليه عندما وصلت إلى الولايات المتحدة لأول مرة. وتعاني تلافيف المخ
(Gyri) — وهي تلك التلفيفات المرتفعة والمنحنية في
القشرة المخية، والتي نقوم بداخلها بأغلب عمليات التفكير والاستقبال التي تجعل منا
نحن
البشر كائنات مختلفة عن بقية مخلوقات الله — من أشد درجات الضمور وفقد البروز. ويصاحب
ذلك
أن تصبح الوديان الواقعة بينها (الأتلام: Sulci) أكبر
حجمًا، وكذلك تصبح الحجرات المملوءة بالسائل في عمق مادة الدماغ، والمعروفة — مثلها
مثل تلك
الموجودة في القلب — باسم البطينات (Ventricles).
وكما لو كانت من الواسمات البيولوجية للشيخوخة المتطورة، يصبغ الليبوفوكسين خلايا
المادتين البيضاء والرَّمادية على السواء، مما يخلع على الدماغ الضامر مَسحة صفراء
دهنية
تزداد عمقًا مع التقدم في السن. فحتى الشيخوخة تُشفَّر بالألوان
(Color-coded).
ولكونها في مثل وضوح التغيرات المرئية عِيانًا في الدماغ الذابل، تظهر الشيخوخة بصورة
أكثر وضوحًا في المظهر المِجهري لأنسجته. ومن المظاهر المثيرة بصورة خاصة، تناقص عدد
الخلايا العصبية، أو العصبونات (Neurons)، والذي ينتج عن
تلك العملية المميتة من فشل آلية استبدال قطع الغيار التي تم وصفها للتو. وتُعَد الأحداث
التي تقع في القشرة المخية مثالًا لما يحدث في الدماغ ككل، إذ تفقد الباحة الحركية
في
القشرة الجبهية (Frontal Cortex) ما بين ٢٠ و٥٠ في المائة
من عصبوناتها، وتفقد الباحة البصرية في مؤخرة الدماغ نحو ٥٠ في المائة، كما تفقد باحة
الإحساس الجسدي على جانبَي الدماغ نحو نصف عصبوناتها أيضًا. ولحسن الحظ تعاني الباحات
المتعلقة بالوظائف العقلية العليا في القشرة المخية من قدر أقل بكثير من اختفاء الخلايا،
والتي يبدو أن معظمها يتم تعويضه عن طريق عمليات التراكب
(Overlap) والفضول
(Redundancy) الوظيفي. وربما كان الأمر أن تلك
العصبونات المتبقية تَزيد من نشاطها، ولكن مهما كان السبب، فكثيرًا ما تظل تلك القدرات
العقلية — مثل التحليل المنطقي والحكم على الأمور — غير مُعطَّلة حتى المراحل المتأخرة
من
الشيخوخة.
ومن المثير للدهشة أن الأبحاث الحديثة تشير إلى أن بعض العصبونات القشرية تبدو بالفعل
وكأنها أكثر اتساعًا (Abundant) بعد الوصول إلى سن النضج،
وتقع هذه الخلايا في نفس تلك الباحات المحددة التي تتم فيها عمليات التفكير العليا.
وعند
إضافة هذه النتائج إلى الملاحظات الموثقة بأن التفرُّعات الخيطية (والمسماة بالتغصنات:
Dendrites) لكثير من العصبونات تستمر في النمو في
الأصحَّاء من المسنين غير المصابين بمرض ألزهايمر، تصبح الاحتمالات مثيرة للدهشة تمامًا؛
فربما كان علماء الأعصاب قد اكتشفوا بالفعل مصدر تلك الحكمة التي نحب أن نعتقد بأننا
نستطيع
تجميعها مع تقدُّمنا في العمر.
ولذلك، وفيما عدا تلك الباحات شديدة التحديد، نجد أن القشرة المخية لا تفقد عصبوناتها
فحسب، بل وتظهر جميع تلك العصبونات المتبقية تقريبًا علامات الشيخوخة، مع كون عملية
استبدال
الأجزاء داخل الخلوية أقل كفاءة بالتدريج. والمحصِّلة النهائية هي أن الدماغ يصبح
أصغر
حجمًا مما كان عليه في شبابه، كما أنه لا يعمل بنفس الكفاءة التي كان عليها وقتها.
ويظهر
ذلك في الحياة اليومية في جميع أوجه البطء التي نراها يوميًّا في زملائنا المتقدمين
في
السن، ثم سريعًا جدًّا في أنفسنا. وبذلك يصبح الدماغ بطيئًا في عمله، وبطيئًا أيضًا
في
قدرته على الارتداد سريعًا عن الأذى البيولوجي، فهو يتعافى بصورة أقل فاعلية من تلك
الأحداث
التي تُهدِّد بقاءه بالخطر.
وإعاقة الإمداد الدموي هي من أكثر تلك الأحداث خطورة: فعندما تنقطع التروية الدموية
عن
منطقة محددة في الدماغ (وهي مأساة تحدث غالبًا بصورة مفاجئة)، يحدث عَطَب فوري أو
موت
للنسيج العصبي الذي يُغذِّيه الشريان المسدود؛ وهذا هو ما يعنيه اصطلاح «السكتة الدماغية:
Stroke» بالتحديد. ويمكن أن تحدُث السكتات الدماغية
كنتيجة لعدد كبير من الأسباب، لكن أكثر تلك الأسباب شيوعًا في الشيوخ هو التصلب العصيدي
الذي يسد فروع الوعاءين الدمويين الكبيرين اللذَين يُغذِّيان الدماغ، أي الشريانين
الوِداجيين الباطنين الأيمن والأيسر (Internal Carotid
Arteries). ويموت نحو ٢٠ في المائة من ضحايا السكتة الدماغية من نزلاء
المستشفيات بعد النوبة بقليل، كما يحتاج ٣٠ في المائة آخرون إلى رعاية طويلة الأجل
في
المستشفى حتى وفاتهم.
وبالرغم من أن شهادات الوفاة الخاصة بضحايا السكتة الدماغية كثيرًا ما «تُزيَّن»
بمصطلحات
مثل «حادثة مخية وعائية: Cerebrovascular Accident»، أو
«جلطة مخية: Cerebral Thrombus» [في الوقت الحاضر، تُعَد
الكلمة الأنسب هي اللفظة الأبسط والأكثر شمولًا: السكتة الدماغية]، إلا إن الأمر الأكثر
أهمية من المسميات المدونة على الأوراق الرسمية هو ذلك الرقم المكتوب في المساحة الخالية
المخصصة للعمر، إذ يكون مرتفعًا في جميع الحالات تقريبًا. ويعاني الرجال والنساء الذين
تتخطى أعمارهم الخامسة والسبعين، من احتمال يزيد بعشرة أضعاف للإصابة بالسكتة الدماغية
عن
أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة والخمسين والتاسعة والخمسين. وقد كان اصطلاح
«الحادثة المخية الوعائية»، في الواقع، هو ما كان مدونًا على شهادة وفاة جدتي، لكني
أعرف
أفضل من ذلك، كما كنت أعرف أفضل حتى في ذلك الوقت. وبرغم أن الطبيب قد أوضح لي حقيقة
ما
تعنيه كلماته المخرفشة (Scribbled) هذه، إلا إن تشخيصه لم
يكن منطقيًّا بالنسبة لي، كما أنه يعني أقل من ذلك بالنسبة لي الآن. ولو أراد أن يطلق
اسم
«الحدث الانتهائي» على الحادثة المخية الوعائية التي أصابت جدتي، لكان من الممكن أن
أفهم
ماذا كان يعني ذلك، لكن أن يخبرني بأن تلك العملية التي ظلِلت أراقبها لمدة ثماني
عشرة سنة،
قد انتهت بسبب مرض حادٍّ بعينه — حسنًا، فإن ذلك سيكون غير منطقي تمامًا.
وليست هذه مجرد مشكلة معانٍ لغوية (Semantics)، فالفرق
بين الحادثة المخية الوعائية كحدث انتهائي والحادثة المخية الوعائية كسبب للوفاة هو
الفرق
بين رؤية عالمية تتعرف على المد المتواصل للتاريخ الطبيعي وبين رؤية عالمية أخرى تؤمن
بأن
نطاق العلم يتضمن أن نصارع تلك القوى التي تعمل على ثبات بيئتنا وحضارتنا ذاتها.
لست لديًّا،
٨ فأنا أفتخر بالنعم الرائعة للمنجزات العلمية الحديثة، وأنا لا أطالب إلا بأن
نستغل معارفنا المتنامية بحكمة متنامية أيضًا. ففي القرنين السابع عشر والثامن عشر،
حدثت
أول الأمثلة المبكرة للطريقة التجريبية، ومن ثم للعلم، عما أطلق عليه اسم «اقتصاد
الحيوان»
(
The Animal Economy)، وعن اقتصاديات الطبيعة بصورة
عامة. وإذا استطعت فهمهم بصورة صحيحة، فقد كانوا يتحدثون عن ذلك النمط من القانون
الطبيعي
الموجود للحفاظ على بيئة كوكب الأرض وصور الحياة الموجودة فوقه. ويبدو لي أن هذا القانون
الطبيعي قد تطور من خلال المفاهيم الداروينية المباشرة للبقاء الكوكبي
(
Planetary)، وذلك مثلما فعلت جميع أنواع النباتات
والوحوش. ولكي يستمر ذلك، لا يمكن للجنس البشري أن يدمر التوازن أو الاقتصاد، إن أردت
ذلك
عن طريق التلاعب بأحد أهم العناصر الضرورية للبقاء: وهو التجديد المستمر داخل النوع
الواحد
والتنشيط (
Invigoration) المصاحب له ويتطلب التجديد،
بالنسبة للنبات والحيوان على السواء، أن يسبقه الموت، بحيث يمكن تغيير الفرد البالي
بآخر
قوي نشيط، وهذا ما يعنيه اصطلاح الدوائر الطبيعية، فليس هناك شيء مرضي أو معتل بخصوص
هذا
الترتيب، وفي واقع الأمر، إن ذلك هو نقيض الاعتلال. ويُعَد إطلاق اسم مرضي على عملية
طبيعية
الخطوة الأولى في محاولة علاج ذلك المرض، ومن ثَم القضاء عليه، بينما يُعَد القضاء
على
المرض هو الخطوة الأولى نحو إيقاف استمرارية ما نريد المحافظة عليه بالتحديد، والذي
هو —
بطبيعة الحال — نظام وتنظيم الكون الذي نعيش فيه.
ولذلك، كان من الضروري أن تموت جدتي، كما سيكون عليك وعليَّ أن نموت في يوم من الأيام.
ومثلما شهدتُ انحدار قوة الحياة في جدتي، كنتُ موجودًا عندما أطلقَت الإشارة الأولى
لنهايتها، وكان ذلك في باكورة صباح أحد الأيام العادية: كنت وجدتي نقوم بعمل أشياء
عادية،
وكنت قد انتهيت من تناول طعام إفطاري قبل دقائق قليلة، لذلك كنت منهمكًا في مطالعة
صفحة
الرياضة في جريدة «الديلي نيوز» عندما أدركت أن هناك شيئًا غاية في الغرابة في الطريقة
التي
كانت تحاول بها جدتي تنظيف سطح منضدة المطبخ؛ فبالرغم من أننا كنا قد أدركنا منذ زمن
أن هذه
المهام المنزلية تفوق قدراتها، فإنها لم تكفَّ عن المحاولة على الإطلاق، كما بدت غير
مدركة
لحقيقة أن واحدًا منا سيقوم دائمًا بإعادة عمل ما قامت به بعد أن تجرَّ رجليها خارجة
من
الغرفة بجهد جهيد. لكني عندما نظرت من فوق الجريدة، لاحظت أن تمسيداتها
(Strokes) الدائرية الواسعة كانت أقل فاعلية من
المعتاد، أصبحت يدها التي تقوم بالكنس غير محددة الهدف، كما لو كانت تتحرك على هواها
دونما
خطة أو هدف محدد، ولم تعُد تلك الدوائر دائرية الشكل، وسرعان ما تحولت إلى مجرد جرجرات
(Drags) واهنة لا فائدة منها من تلك الخرقة المبللة
التي كانت بالكاد تمسك بها بيدها المتيبسة الزائغة فوق المنضدة بدون أي غرض أو وزن.
كان
وجهها قد التفت إلى الأمام تمامًا، كما بدت وكأنها تنظر إلى شيءٍ ما خارج النافذة
خلف مقعدي
بدلًا من النظر إلى المنضدة الموجودة أمامها. كانت عيناها العمياوان مكسوَّتين بغمامة
من
عدم الإدراك؛ كما كان وجهها خاليًا من التعبير. وحتى أكثر الوجوه سلبية لا بد أن ينمَّ
عن
شيءٍ ما، لكني عرَفت في تلك اللحظة من الفراغ المطلق أنني فقدت جدتي، فصرختُ: «جدتي،
جدتي!»
لكن ذلك لم يُحدث بها أي تغيُّر؛ إذ كانت أبعد من أن تسمعني، وسقطت الخرقة من يدها
ثم
تكوَّمت بدون صوت على الأرض.
ركعتُ بجانبها وصِحتُ باسمها مرة أخرى، لكن صيحاتي كانت فاشلة كمحاولاتي لفهم ما
كان
يجري. وبصورةٍ ما، لا أذكر منها شيئًا الآن، لملمتها وحملتها بمشقة إلى الغرفة التي
كنا
نتشاركها وأرقدتها على سريري، كان تنفُّسها متحشرجًا
(Stertorous) وذا صوت مرتفع، فقد كان يهبُّ في صورة
عواصف طويلة وقوية من أحد جانبَي فمها، كما كانت وجنتها تَخفق كشراع مبتل متلاطم في
كل مرة
كانت تزفر واحدة من تلك الصيحات المنكرة والصادرة من مكانٍ ما في أعماق حلقها. ولا
أستطيع
الآن تذكُّر على أي الجانبين كان ذلك يحدث، إلا أن جانبًا بأكمله من وجهها كان يبدو
جامدًا
ومتيبسًا. هرعتُ إلى الهاتف واستدعيت طبيبًا لم تكن عيادته تبعد عنا كثيرًا، ثم اتصلت
بخالتي روز في مصنع الملابس الذي كانت تعمل به في الجادة السابعة: وصلت إلينا روز
قبل أن
يتمكن الطبيب من الانتهاء من غرفة الانتظار المكتظة بمرضى الصباح الباكر، لكنا كنا
نعرف أنه
ليس هناك ما يمكن أن يفعله على أية حال. وعندما وصل في النهاية، أخبرنا بأن جدتي قد
تعرضت
لسكتة دماغية، وأنها لا يمكن أن تبقى على قيد الحياة لأكثر من أيام معدودة. بَيد أنها
خدعت
الطبيب، وتمسكت بالبقاء على قيد الحياة، واستمسكنا معها، فرفضنا التخلِّي عنها، بل
ولم يخطر
على بال أيٍّ منا أن يُقدِم على العكس. ظلَّت جدتي راقدة في فراشي، بينما احتلَّت
الخالة
روز ذلك السرير المزدوج الذي كانت تتشاركه مع والدتها، كما أحضر لي هارفي ذلك السرير
الصغير
القابل للطي من الغرفة التي كان ينام فيها مع والدنا، فتركه ذلك بلا مأوى، قضى الليالي
الأربع عشرة التالية على الأريكة الموجودة في غرفة المعيشة.
وفي غضون ثمانٍ وأربعين ساعة، بدأنا نشهد أكثر صنوف القسوة التي بدأت الحياة تهجر
بها
أقدم أصدقائها خذلانًا، فلم يعُد الجهاز المناعي المتهالك لجدتي، ولا ساقاها العجوزتان
الصدئتان، قادرين على احتمال تلك الحرب الخاطفة
٩ التي شنَّتها الجراثيم التي كانت قد حشدت جيوشها ضدها. والجهاز المناعي هو
القوة الخفية التي تُتيح لنا الاستجابة لهجوم الأعداء المحتمل للفتك بنا، والذين هم
بدورهم
غير مرئيين بالعين المجردة. وبدون معرفتنا أو اشتراكٍ واعٍ منا، تستمر الخلايا والجزيئات
المناعية الصامتة في تكيُّفها مع الظروف المتغيرة للحياة اليومية وأوجه الرعب غير
المنظورة
فيها. غطَّتنا الطبيعة — وهي أقوى دروعنا، بالرغم من أنها أقوى أعدائنا في الوقت نفسه
—
وأغرقتنا فيها لدرجة أننا نستطيع البقاء على قيد الحياة بالرغم من هذه اللقاءات المستمرة
مع
البيئة التي صنعتها (والتي تحاول المحافظة عليها)، وتواجه، في الوقت نفسه، جميع الكائنات
الحية بتحديات التغلُّب على الأخطار المحدقة بها لاختباراتها المتواصلة. وعندما نَشيخ،
يتحول هذا الغطاء إلى خيوط بالية، ويجف ماء ذلك الإغراق؛ فجهازنا المناعي، مثله مثل
كل شيء
آخر، يستمر في خذلاننا بصورة مُطَّرِدة.
كان تدهور الجهاز المناعي موضوعًا رئيسيًّا لأبحاث علماء الشيخوخة
(Gerontologists) الذين أظهروا وجود عيوب ليس فقط في
استجابة الجسم الشائخ للهجوم، بل وحتى في آليات الاستقصاء التي يتعرف بها على مهاجميه؛
فالعدو يجد أنه من الأيسر عليه أن يخترق الحواجز الخارجية عن طريق خداع حراس المناعة
العجائز؛ وفَور دخوله إلى الجسم، يسحق العدو المدافعين الضعفاء. وفي حالة جدتي، كانت
النتيجة هي إصابتها بالالتهاب الرئوي (Pneumonia).
كان تفكير «وليام أوسلر» متناقضًا حول الالتهاب الرئوي في المسنين؛ ففي الطبعات الأربع
عشرة الأولى لكتابه الشهير «مبادئ وممارسة الأمراض الباطنة» Principles and Practice of Medicine،
كان يسمي ذلك المرض «بالعدو الخاص للشيخوخة» — غير أنه كان يذكر في مواضع أخرى من
كتابه
شيئًا مختلفًا تمامًا: «ربما كان من الممكن أن نطلق على الالتهاب الرئوي اسم صديق
العجائز،
فعندما يسقط الشيخ صريعًا لمرض حادٍّ، قصير وغير مؤلم في كثير من الأحيان، فهو يهرب
بذلك من
تلك المراحل الباردة للتحلُّل، والتي تجعل من المراحل الأخيرة لحياة الجميع مرهقة
بالقدر
الذي هي عليه.»
وليست لديَّ فكرة عما إذا كان الطبيب قد أمر بأن تُحقَن جدتي بالبنسلين لمكافحة «صديق
العجائز»، لكني أشك في حدوث ذلك. وربما بدافع من الأنانية، لم أكن أريد لجدتي أن تموت،
وكذلك كان جميع أفراد الأسرة. ولا بد أن الطبيب كان أكثر واقعية وحكمة منا نحن الذين
رفضنا
أن نتركها للموت.
منعت حالة الغيبوبة (Coma) الثابتة، إضافة لفقدان منعكس
السعال (Cough Reflex)، جدتي من التخلص من المخاط اللزج
للإفرازات التي كانت تصخب في قصبتها الهوائية مع كل نَفَس كانت تتنفسه. توجه هارفي
إلى مخزن
الأدوية القريب منا واكتشف هناك آلة تُستخدم لشفط الإفرازات القيحية المتزايدة التي
كانت
تتصاعد من رئتي الجدة في إعلانٍ صاخب عن الموت الوشيك. وقد مكنته الآلة، والمكونة
من قطعتين
من أنبوب مطاطي تفصل بينهما حجرة زجاجية، من شفط البلغم
(Phlegm) في كل مرة كان يتراكم فيها، وقد كان عليه أن
يضع إحدى النهايتين المطاطيتين للآلة داخل القصبة الهوائية لجدته، والأخرى في فمه
هو. وحتى
الخالة روز لم تتحمل أن تستخدمها، كما كنت أتمكن من استخدامها من آنٍ لآخر، لذلك فقد
كانت
تلك هي هدية هارفي لجدته، أو على الأقل ما كنا نظنه هدية.
وبهذه الطريقة، تغلَّبت جدتي على الالتهاب الرئوي، كما تغلَّبت حتى على السكتة الدماغية.
وربما كانت دموعنا وصلواتنا أكبر أهمية من آلة الشفط التي تعمل بالفم، والتي استخدمها
هارفي، ومن الأشلاء الباقية من قوة جهازها المناعي المتهالك. ومهما كان السبب، فقد
أفاقت من
غيبوبتها ببطء، كما استعادت قدرًا كبيرًا من حديثها ودرجة محدودة من الحركة، وقد عاشت
كما
كانت تعيش من قبل تقريبًا لأشهر قليلة إضافية، من أجلنا نحن أكثر من كونه لأجلها هي.
وقد
انقضت، في النهاية، أيام حياتها؛ فقد أصيبت بسكتة دماغية ثانية في الساعات الأولى
لصباح أحد
أيام الجُمَع القارسة البرد من شهر فبراير، وحسب التقاليد اليهودية، فقد وُورِيَ جسدُها
الثرى في أصيل اليوم نفسه.
أمتلك ما يطلِق عليه البعض اسم الذاكرة الفوتوغرافية، وبالرغم من أنها تهجرني أحيانًا
عندما أكون في مسيس الحاجة إلى نصوصها المتراكمة، كانت في أغلب الأحيان حليفًا يُعتمد
عليه
في توثيق حياتي. لكنَّ هناك بعضًا من مخزوني الهائل من الصور — والذي أودُّ لو أفقِده،
ومنه
صورة فتى في الثامنة عشرة يقف بمفرده بجانب النعش الخشبي البسيط لسيدة عجوز يستطيع
التعرف
عليها بصعوبة، برغم أنه كان قد قبَّل بدموعه وجنتها غير المستجيبة منذ ما لا يزيد
على اثنتي
عشرة ساعة فحسب. فالجسم المسجَّى في النعش كان يبدو مختلفًا تمامًا عما كانت تسمى
بِبُوبَة؛
كان منكمشًا، وفي بياض الشمع. كانت هذه الجثة قد تقلَّصت بخروج الحياة منها.
يتم تدريب الأطباء اليوم على التفكير في الحياة، وفي الأمراض التي تتهددها فقط. وحتى
علماء باثولوجية تشريح الجثث (Autopsy)، والذين يقومون
بتشريح أجساد الموتى، يبحثون عن أدلة علاجية تُستخدم لمصلحة الأحياء في النهاية؛ فما
يفعلونه هو، في الأساس، عبارة عن إرجاع الساعة للوراء لمدة ساعات أو أيام قلائل إلى
وقت كان
فيه قلب الميت لا يزال نابضًا بالحياة، من أجل إعادة تمثيل الجريمة التي سلبت من مريضهم
حياته ذاتها.
ومَن منا يفكر تجاه الموت بصفاء أكثر هم عادة من الفلاسفة أو الشعراء، لا الأطباء.
وبالرغم من ذلك، كان هناك عدد قليل من الأطباء الذين أدركوا أن الموت وما بعده لا
يتجاوز
حدود الوضع البشري (Human Condition)، ولذلك فهو يستحق
اهتمام المعالج أيضًا.
ومن أولئك الأطباء، كان توماس براون (Browne) الذي عاش في
ذلك القرن السابع عشر غير العادي، عندما كانت «الطريقة العلمية»، والتحليل الاستقرائي
(Inductive Analysis) في مستهل تأثيرهما على تفكير
المثقفين، مما جعلهم يتشككون في صحة حقائق كانت عزيزة جدًّا على آبائهم. نشر براون
— في عام
١٦٤٣م — دُرَّة أدبية صغيرة للتأمل، كان عنوانها اللاتيني هو Religio Medici (أي: دين الطبيب)، ووصفها
بقوله إنها: «تمرين خالص موجَّه إليَّ شخصيًّا.» وعادةً ما تُطبع المخطوطة الصغيرة
مع
مجموعة من الكتابات حول صنوف العذاب الوشيكة للمحتضَر، تحت عنوان «رسالة إلى صديق»،
وفيها
كتَب المؤلف ما يلي: «لقد وصل إلى الحد الذي أصبح فيه نصف نفسه تقريبًا، وترك جزءًا
كبيرًا
وراءه لم يحمله معه إلى القبر.»
كثيرًا ما وقفت بجوار أُسَر بجانب فراش الموت، وشهدت المنظر الذي يرونه أمام أعينهم،
وهم
يتساءلون عن سبب اختلاف الموقع عما توقعوه، ولماذا يبدو أنه عليهم وحدهم تحمُّل ما
يدركونه
وقتها على أنه تفرُّد بالعذاب. وكان ذلك «التفرد» هو ما ظننت أنني أُجبرت على التعايش
معه
عند وفاة جدتي ثم لاحقًا مع صورة تلك الجثة الغريبة.
وتَفعَم قوة الحياة أنسجتنا بحيويتها النابضة وتجعلها منتفخة بفخر البقاء على قيد
الحياة.
وسواء ارتحلت تلك القوة بفرقعة — كما فعلت مع إرف لبسينر — أو بنحيب متقطع طويل —
مثلما
فعلت مع جدتي — فكثيرًا ما تترك وراءها دليلًا على اللاواقع المنكمش. وعندما احتضن
تشارلز لامب
١٠ جثة الكوميدي البريطاني الشهير «ر. و. إليستون:
Elliston»، دفعه ذلك إلى كتابة: «يا إلهي، كم تبدو يا
صديقي ضئيلًا، وكذلك سنبدو جميعًا — بما فينا الملوك والقياصرة — مجردين استعدادًا
للرحلة
الأخيرة.»
وقد كتب براون نفسه قائلًا: «لست أخاف كثيرًا من الموت، بقدر إحساسي بالخزي وقتئذٍ؛
إنه
ذلك العار والهوان لطبائعنا البشرية، والذي يستطيع في أية لحظة أن يُشوِّهنا لدرجة
أن
أصدقاءنا المقربين، وزوجاتنا وأطفالنا يقفون وجِلين منا وهم نافرون.»
وربما طمأنتني كلمات توماس براون، أو كلمات لامب، لو كانت ذُكِرَت لي عند نعش جدتي،
ولا
بد أن ذلك اليوم كان سيمر عليَّ أيسر بكثير؛ كما كانت ذكراها ستصبح أقل إيلامًا، لو
أنني
عرَفت وقتها أنه ليست جدتي وحدها، ولكن كل إنسان آخر، يصبح أكثر ضآلة بالفعل عند وفاته؛
فعندما تفارق الرُّوح البشرية الجسد، فهي تحمل معها الحشو الحيوي للحياة ذاتها، وعندها
لا
تبقى سوى تلك الجثة التي لا حياة فيها، والتي هي أقل من كل ما عداها في جَعْلِنا
بشرًا.
وعند استرجاع ذكريات تلك السنين التي انقضت لتوِّها، ربما تعرفت أيضًا على عمومية
تجرِبة
الموت في جملة تجدها في كتاب براون كتبها قبل ما ذكرناه بصفحات قلائل، يقول فيها:
«مهما كان
العذاب والآلام التي تكتنف مجيئنا إلى عالم لا نعرفه، فإنه ليس بالأمر الهين أن
نتركه.»