اختارت جدتي لنفسها طريقًا «للتخلص من كل شيء» — لو استعرت اصطلاح توماس براون، والذي
يُعَد بالكاد اختيارًا فريدًا. فالسكتة الدماغية هي ثالث أكثر أسباب الوفَيَات شيوعًا
في
دول العالم المتقدمة، حسب تقارير منظمة الصحة العالمية، ويموت بسببها أكثر من مائة
وخمسين
ألف أمريكي سنويًّا، مما يمثل نحو ثلث الحالات التي تصاب بالسكتة الدماغية، ويُترك
ثلث آخر
بإعاقة شديدة مستديمة. ولا يفوق قوتها السلَّابة
(Marauding) سوى أمراض القلب والسرطان. وبعد فترة زمنية
طويلة انخفضت فيها معدلات حدوثها، حدثت فترة من الثبات في السنوات الأخيرة. يبلغ معدل
حدوث
السكتة الدماغية في الوقت الحاضر نحو ٠٫٥-١ لكل ألف من السكان سنويًّا. لكن هذا الرقم
يشمل
جميع الفئات العمرية للسكان. ومع تقدُّم الناس في العمر، يزداد احتمال إصابتهم بالسكتة
الدماغية بصورة طبيعية. وليست هناك تقديرات احتمالية للسيدات اليهوديات القَعودات
(Sedentary)، واللاتي ظلِلن يتناولن الطعام الكُشير
(Kosher) [الكُشير هو الطعام الذي يحل لليهود أكله]
الغني بالكولسترول لمدة تقترب من القرن. لكننا نعرف تلك التقديرات بالنسبة لمجموعة
عشوائية
من ألف أمريكي أو أوروبي غربي من الرجال والنساء الذين تزيد أعمارهم على الخامسة والسبعين،
فسيصاب من ٢٠ إلى ٣٠ في المائة منهم بالسكتة الدماغية سنويًّا، فيبلغ معدل الخطر بالنسبة
لأكبر معمرينا نحو ثلاثين ضعفًا لمعدله في البقية الباقية منا.
وتُعَد السكتة اصطلاحًا كثير الشيوع (Ubiquitous) لدرجة
أن هناك أحيانًا بعض الغموض حول الطريقة التي نستخدمه بها: فبالنسبة للطبيب، تمثل
السكتة
الدماغية عيبًا في الوظيفة العصبية ناتجًا عن انخفاض معدل سريان الدم عبر شريان محدد
مغذٍّ
للدماغ. وإضافة إلى ذلك، فلا بد لهذا الاضطراب أن يستمر لأكثر من أربع وعشرين ساعة
لكي يسبب
النوبة المسماة بالسكتة الدماغية، ويُصنَّف ما عدا ذلك كنوبة إقفارية عابرة
(Transient Ischemic Attack). وبالرغم من أن النوبات
الإقفارية العابرة عادةً ما تزول في غضون ساعة واحدة، فإن بعضها يظل لفترة أطول نسبيًّا
قبل
أن تختفي أعراضها.
وإذا بدا كل ذلك مألوفًا، فلذلك سببٌ وجيه؛ فالآلية أساسًا هي تلك التي ينتج بها
القصور
القلبي عندما يفشل أحد شرايينه في توصيل الكَمية المنوطة به من الدماء. وهي نفس تلك
الآلية
العامة للإقفار الدموي — أي إيقاف جريان الدم وجفاف الأنسجة — والتي هي دالة مألوفة
على قتل
الخلايا في أجزاء كثيرة من الجسم. وقد أدَّت تلك الآلية إلى وفاة جيمس مكارتي، وإلى
وفاة
جدتي، وهي التي ستؤدي، بصورةٍ ما، إلى وفاة كلٍّ منا، ممن هم الآن على قيد الحياة.
وتقوم
هذه الآلية بعملها عن طريق خنق أنسجة الضحية، ويتوقف جريان الدم لنفس السبب الذي يتوقف
به
في الشرايين التاجية تمامًا، عندما تصل عملية تكون العصيدة
(Atheroma) إلى الحد الحرج الذي ينسد فيه تمامًا أحد
فروع الشريانين الوِداجيين الداخليين. وربما ينتج هذا الانسداد عن اكتمال عملية التصلب
العصيدي في ذلك الفرع الشرياني بالذات، أو لأن نُدفة من إحدى الصفائح
(Plaques) قد انفصلت عن جدار شريان أكبر وانقذفت
كصِمَّة (Embolus) نحو الدماغ، متسببة في انسداد وعاء دموي
كان متضيقًا بالفعل.
وقد تنتج السكتة الدماغية والإقفار الدموي المصاحب لها عن مظهر مختلف تمامًا من مظاهر
تلك
المتلازمة الهائلة المسماة بالمرض المخي الوعائي (Cerebrovascular
Disease)، وبالتحديد من نزيف في مادة الدماغ ذاتها، والذي يحدث في
المسنين دائمًا تقريبًا عن ارتفاع مزمن في ضغط الدم. ونتيجةً للضعف المسبق في جداره،
والذي
ينتج عن تحمُّله لسنوات من الضغط الدموي المرتفع بصورة غير طبيعية، يتمزق الوعاء الدموي
الهش في نقطة محددة بفعل التصلب العصيدي، مما يتسبب في اندفاع الدم إلى النسيج الدماغي
المحيط. ويحمل مثل هذا النزيف داخل المخ (Intracerebral)
ضعف معدل الخطر، الذي يبلغ ٢٠ في المائة، والذي يُقدَّر عادة لحالات السكتة الدماغية
السادَّة (Occlusive). ويسبب النزيف نحو ربع حالات السكتة
الدماغية، بينما يسبب الانسداد الوعائي بقية الحالات.
ولكي يحافظ الجسم على آلة الدماغ فاعلة بكفاءة، فهو يستهلك قدرًا كبيرًا من الطاقة.
وتُستمَد كل هذه الطاقة تقريبًا من قدرة الأنسجة على تحطيم سكر العنب (الجلوكوز:
Glucose) إلى مكوناته الأولية وهي ثاني أكسيد الكربون
والماء، وهي عملية كيميائية حيوية تتطلب وجود مستوًى مرتفع من الأكسجين. ولا يمتلك
الدماغ
القدرة على الاحتفاظ بأي مخزون لديه من الجلوكوز، فهو يعتمد على وجود إمداد فوري ومستمر
يصل
إليه عن طريق الدم الشرياني الجاري. ومن الواضح أن ذلك ينطبق أيضًا على الأكسجين؛
لذلك فلا
يتطلب الأمر سوى دقائق معدودة قبل أن ينضب مَعين الدماغ المصاب بالإقفار الدموي منهما
قبل
اختناقه. وتتميز العصبونات بالحساسية المفرطة تجاه الإقفار الدموي؛ فتبدأ التغيرات
التدميرية غير المرتجعة في الحدوث خلال خمس عشرة إلى ثلاثين دقيقة من بداية انقطاع
التروية
الدموية، وبعد ما لا يزيد على الساعة من بداية الإقفار الدموي، يصبح احتشاء أجزاء
مهمة من
النسيج الدماغي أمرًا حتميًّا.
وتتباين الأعراض المرضية الناتجة عن تحطُّم الخلايا، وذلك حسب الوعاء الدموي المحدد
الذي
أصابه الانسداد. وبالرغم من أن هناك ما لا يقل عن ستة من فروع الشريان الوِداجي الباطن
المعرضة للانسداد بصورة خاصة، فإن الوعاء الدموي الأكثر تعرضًا للسكتة الدماغية الإقفارية
هو أحد الشريانين المخيين الأوسطين. ويُغذِّي الشريان المخي الأوسط (Middle
Cerebral Artery) بالدم أغلب السطح الوحشي
(Lateral) لنصف الكرة المخي وبعض المراكز الواقعة
عميقًا تحت القشرة المخية، كما يغذي المناطق الحسية والحركية الكبرى في القشرة المخية،
وهي
المناطق المسئولة عن حركات اليدين والعينين، بالإضافة إلى النسيج العصبي المختص بعملية
السمع، وتلك المنطقة المسئولة عما يسمى بالوظائف العقلية العليا، مثل الإدراك والتفكير
المنظم، والحركات الإرادية والتنسيق المتكامل بين جميع هذه الملكات.
وفي النصف المهيمن (Dominant) من الدماغ (وهو النصف
الأيمن لمن يستخدمون اليد اليسرى، والأيسر للبقية — وهي ٨٥٪ منا)، يغذي الشريان المخي
الأوسط المناطق الحسية والحركية المتعلقة باللغة. ويفسر لنا هذا النمط المحدد من التوزيع
الجغرافي، لماذا يفقد الكثير من ضحايا السكتة الدماغية قدراتهم على التعبير والفهم
للغة
المنطوقة والمكتوبة.
ولا ينتج كثير من سكتات الشريان المخي الأوسط عن انسداد فعلي في موقعها، بل بفعل
نُدف من
المواد المتكسرة عن العصيدة المتقشرة في الشريان الوِداجي الباطن الرئيسي، أو من القلب
نفسه
في صورة ندف صغيرة من جلطة قديمة متعضية (Organized).
ويتحول الجزيء المنطلق إلى صِمَّة (Embolus). ونقابل هنا
أحد الاصطلاحات التي أضافها رودلف فيرشوف، والذي اشتقه من اللفظة اليونانية
embolos بمعنى
الإسفين أو السِّدادة، والمستمَدة بدورها من كلمتين بمعنى «يلقي» و«يقذف للداخل».
وهكذا،
تعني اللفظة حرفيًّا أن هناك صِمَّة قد قُذفت إلى داخل الشريان، وأنها ستنطلق مع التيار
الدموي حتى تحشر نفسها في جزء ضيق من الوعاء الدموي، حتى ينسد ذلك الوعاء تمامًا.
وفي تلك
الحالات الأكثر شيوعًا، حيث يكون الانسداد غير ناتج عن صِمَّة، فهو ينتج عن استكمال
تكوُّن
العصيدة. وفي كلٍّ من الموقفين، يفقد النسيج الذي يغذيه الوعاء الدموي المسدود مصدر
إمداده
بالأكسجين والجلوكوز على الفور، وفي غضون دقائق معدودة يصبح جريحًا بما يكفي لتسبيب
الأعراض
المرضية. وإذا لم يُزَل الانسداد على الفور، ستموت تلك المنطقة من الدماغ بفعل
الاحتشاء.
وإذا كان على المرء تسمية العامل المشترك في جميع الوفَيَات، سواء كان ذلك العامل
خلويًّا
أم كوكبيًّا (Planetary)، فسيكون — بدون شك — هو نقص
الأكسجين. ويقال إن الدكتور ميلتون هيلبرن (Helpern)، والذي
ظل يشغل منصب كبير مفتشي صحة مدينة نيويورك لمدة خمسة وعشرين عامًا، قد حدد تلك الحقيقة
بوضوح في جملة واحدة: «قد ينتج الموت عن عدد كبير من الأمراض والاضطرابات، لكن السبب
الفيزيولوجي المستبطن في جميع الحالات هو تحطُّم دورة الأكسجين في الجسم.» وبالرغم
من أن
هذا التصريح قد يبدو شديد البساطة بالنسبة لعالم الكيمياء الحيوية المتحذلق، فإنه
مع ذلك
يبقى شديد الشمول.
ويكون كثير من السكتات الدماغية من الصِّغَر بحيث لا تُحدث أعراضًا فورية مؤثرة،
أو أنها
تُحدث أعراضًا قليلة تدل على وقوعها، لكن هذه السكتات الصغيرة تتراكم بمرور الزمن،
ويصبح
الدليل على حدوث تدهور تدريجي واضحًا حتى بالنسبة لأكثر الباحثين تهاونًا. ذكر والتر
ألفاريز (Alvarez)، وهو أحد أطباء الجيل الماضي العظام في
مدينة شيكاغو، ذات مرة أن «سيدة عجوزًا حكيمة» قالت له: «إن الموت مستمر في التهام
قطع
صغيرة مني.» ويقرر وصفه السريري بوضوح ما يلي:
«كانت ترى أنها — مع كل نوبة من الدُّوار، أو الإغماء، أو اختلاط الذهن — تصبح
أكبر بقليل، وأضعف قليلًا، وأكثر تعبًا بقليل؛ فقد أصبحت خطواتها أكثر ترددًا،
وذاكرتها أقل موثوقية، وخطها أصعب في قراءته، واهتمامها بالحياة أقل حدَّة. كانت
تعرف أنها — لمدة عشر سنوات أو تزيد — تتحرك صوب القبر، خطوة بخطوة.»
وعن أولئك الذين تخونهم دورتهم الدموية المخية، يذكر المؤرخون أن وليام أوسلر قال:
«إن
أولئك الناس يستغرقون في موتهم وقتًا يماثل ذلك الذي استغرقوه في النمو.»
ويَدِين نحو ١٠ في المائة من المسنين الذين يتم تشخيصهم بالخَرَف
(Dementia) بحالتهم تلك لسلسلة من السكتات الدماغية
الصغرى، وهو مفهوم اكتسب شهرته بفضل ألفاريز في عام ١٩٤٦م، بعد أن لاحظ حدوث ذلك في
والده.
وتتميز هذه العملية — والتي تسمى اليوم بخرَف الاحتشاءات المتعددة
(Multi-infarct Dementia) — بسلسلة شاذة من التدهورات
المفاجئة الضئيلة. ومن المثير للدهشة، أن هذا النوع من تصلُّب الشرايين المخية قد
وصفه
أولًا «ألويس ألزهايمر» Alois Alzheimer، عالم الأعصاب
الألماني في عام ١٨٩٩م، وقبل ثماني سنوات من وصفه لذلك النوع المختلف تمامًا من التدهور
العقلي، والذي نطلق عليه اليوم اسم «مرض ألزهايمر».
وقد تحدث العملية الغامضة لاحتشاء الدماغ مرارًا وتكرارًا، مما ينتج عنه تراكم تنكسات
شاذة متدرجة في الوظائف المخية لمدة قد تصل إلى عَقد كامل أو تزيد، حتى تتدخل سكتة
دماغية
كبرى أو عملية مميتة أخرى لإحداث استكمال مفاجئ للغرض النهائي لذلك التطور المرضي
البطيء.
وتتسبب الاحتشاءات الكبرى الناجمة عن السكتة الدماغية في الشريان المخي الأوسط، في
حدوث
فقدان سمعي وضعف يبلغ مداه في ذلك الجانب من الوجه وفي الطرفين على الجانب المعاكس
لنصف
المخ الذي حدثت فيه السكتة؛ وتتسبب هذه الاحتشاءات أيضًا في حدوث حالة مرضية تسمى
بالحُبْسة
الكلامية (Aphasia) — أي فقدان القدرة على التعبير اللفظي —
بالرغم من أن الفهم يميل لأن يبقى بدرجة معقولة. وينتج عن انسداد أوعية دموية أخرى
عدد كبير
من الأعراض المرضية، التي تتحدد ليس فقط بالمنطقة التي تغذيها تلك الأوعية، بل وأيضًا
حسب
كَمية الغذاء التي تجلبها الدورة الدموية الرادفة
(Collateral) التي قد تتوافر من الأوعية السليمة
المجاورة. وتتراوح العلامات المألوفة للسكتة الدماغية بين الاضطرابات اللغوية والبصرية،
والشلل، والفقد الحسي، وصعوبات التوازن. وكثيرًا ما تتسبب السكتات الكبرى في حدوث
الغيبوبة.
فإذا كانت السكتة متوسعة بما فيه الكفاية، أو إذا حدثت مضاعفات أخرى مثل انخفاض الضغط
الدموي أو الخرج القلبي نتيجة للقصور القلبي أو اللانظمية، يمتنع التعافي، وقد تزيد
منطقة
الإقفار الدموي بالفعل. وإذا زادت هذه المنطقة إلى حدٍّ معين، يبدأ النسيج الدماغي
في
التورُّم. ونظرًا لكونه محصورًا بالحدود الصُّلبة للجمجمة، يصاب الدماغ المتورم بتلف
إضافي
نتيجة لدفعه نحو الأغشية المحيطة به وغطائه العظمي، كما يمكن أن يُدفع جزء منه للأسفل،
نحو
طَيَّة في هذه الأغشية تفصل بين الدماغ العلوي والدماغ السفلي، أو جذع الدماغ
(Brain stem)، أي تلك التي تفصل الجزء المفكر من الدماغ
عن ذلك الجزء المختص بالآليات الأكثر ميكانيكية مثل التحكم القلبي والتنفسي، وبوظائف
الهضم
والمثانة البولية، إضافة إلى مجموعة من الوظائف الأخرى. وعند حدوث ذلك، يتسبب الضغط
الناتج
في حدوث تلف بالغ لمراكز جذع الدماغ التي تتحكم في وظائف القلب والتنفس لدرجة أن الوفاة
تحدث بعد ذلك سريعًا نتيجة لِلَّانظمية أو القصور القلبي والتنفسي.
وليس انهيار الوظائف الحيوية سوى جزء فقط من مجموعة كبيرة من الآليات المحتملة التي
يمكن
أن تقتل بها السكتة الدماغية نحو خُمس ضحاياها أو يزيدون، عندما يكون السبب هو النزيف
الناتج عن ارتفاع الضغط الدموي. وإذا كان التلف الدماغي جسيمًا، تضطرب جميع أنواع
التحكم
الطبيعية في الجسم، وقد يصبح الداء السكري الموجود مسبقًا خارجًا عن السيطرة لدرجة
أن
معدلات حموضة الدم ترتفع لدرجة تستحيل معها الحياة، وقد تتعطل وظائف الرئتين أحيانًا
كنتيجة
لشلل عضلات جدار الصدر، وقد يرتفع ضغط الدم إلى معدلات خطيرة، وهذه بعضٌ من أكثر المضاعفات
المميتة شيوعًا للسكتات الدماغية الكبرى.
وعندئذ يكون الطريق الذي سلكته جدتي هو الالتهاب الرئوي، وتتعرض رئتا العجوز، بصورة
تزيد
عن معدلات تعرُّض بقية أجهزة وأعضاء الجسم، باستثناء الجلد، لكل أذًى تستطيع أن توقعه
بيئتنا الملوثة. وسواء فقدت المرونة (Elasticity) لذلك
السبب، أو — ببساطة — بفعل العملية الشيخوخية العادية، فسيؤدي مرور الزمن إلى نقصان
قدرة
الرئتين على الانتفاخ بالهواء (Inflation) وإخراجه
(Deflation) بصورة تامة. كما تضعف آليات طرد المخاط،
وتصبح مسالك الهواء المتضيقة بالفعل أكثر عرضة لأن تمتلئ بالمواد المشبعة بالنُّفايات
(Debris)، ويزداد الموقف سوءًا بفشل الرئتين في
المحافظة على نِسب ملائمة من الرطوبة والحرارة في فروع الشُّعَب الدقيقة. وتتضاعف
هذه
المعوقات الفيزيقية المحضة بإنتاج منخفض للأجسام المضادة الموضعية كجزء من الاستجابة
المناعية المتناقصة بصورة عامة في المسنين.
وتظل جراثيم الالتهاب الرئوي في انتظار ظهور أي هجوم إضافي قد يَزيد من تثبيط دفاعات
العجوز المحطمة بالفعل. وتلعب الغيبوبة دور الحليف المثالي لتلك الجراثيم؛ فهي تزيل
جميع
السبل الواعية لمقاومة افتراسها، وقد تحطم آلية دفاعية أساسية مثل منعكس السعال، فأي
قدر
ضئيل من القيء أو الأجسام الغريبة التي كانت ستُطرد بقوة في الظروف الطبيعية، عند
أول علامة
على غزوها للمسلك الهوائي، تصبح الآن العربة التي تمتطيها الجراثيم الغازية المنتصرة
نحو
الأنسجة التنفسية، وتنتفخ عند ذلك أكياس الهواء المِجهرية المسماة بالأسناخ
(Alveoli)، كما تُدمَّر بفعل الالتهاب. ونتيجة لذلك،
يُمنع التبادل اللازم للغازات، وينخفض أكسجين الدم في الحين الذي يمكن أن يتراكم فيه
غاز
ثاني أكسيد الكربون حتى يصبح من المستحيل الإبقاء على الوظائف الحيوية للجسم. وعندما
تقل
معدلات الأكسجين عن الحد الحرج، يعبِّر الدماغ عن ذلك بالمزيد من الموت الخلوي، كما
يعبر
القلب عن ذلك بالرجفان أو التوقف، وهنا ينتصر الالتهاب الرئوي.
وللحرب الخاطفة التي يشنها الالتهاب الرئوي طريقة أخرى للقتل؛ إذ يعمل مركز قيادته
المتعفن (Putrid) في الرئة كبؤرة تستطيع منها الجراثيم
القاتلة أن تشق طريقها إلى مجرى الدم، وأن تتوزع إلى جميع أعضاء الجسم. وتُطلِق هذه
العملية
— التي يطلق عليها الأطباء اسم الإنتان (Sepsis) أو إنتان
الدم (Septicemia)، بينما يُطلِق عليها كل من عداهم اسم
تسمم الدم — سلسلة من الأحداث الفيزيولوجية التي ينتج عنها انهيار تماسك القلب والرئتين
والأوعية الدموية والكُلْيتين والكبد، مع انخفاض شديد نهائي في ضغط الدم إلى معدلات
الصدمة،
والتي يليها حدوث الوفاة.
وفي حالات الإنتان، لا تستطيع حتى أقوى المضادات الحيوية صد الهجوم الساحق للجراثيم.
وسواء كان الحدث الانتهائي هو الالتهاب الرئوي، أو القصور القلبي، أو حُماض
(Acidosis) الداء السكري غير المتحكَّم فيه، تبقى
الحقيقة الجلية عن السكتة الدماغية أنها توجد دائمًا برُفقة أصدقائها؛ وهي القوات
الواسعة
الانتشار لقتلة العجائز. فالسكتة الدماغية هي، ببساطة، جزء واحد من طيف واسع من الأمراض
المخية الوعائية الانتهائية، والتي لا يمكن إيقافها على الإطلاق عن انتهاجها لطريقها
المرسوم، في الحين الذي يمكن فيه أن تتسارع بإيذاء النفس. وقد أضاف هنري جاردينر
(Gardiner)، والذي أعد طبعة عام ١٨٤٥م التي أمتلكها
لكتاب توماس براون، إلى ملاحقها أمثولة (Quotation) طويلة
لفرنسيس كوارلز (Quarles)، وهو أديب من القرن السابع عشر،
ربما كان قائل العبارة التالية: «يظل من ضمن قدرات الإنسان؛ إما أن يسرِّع بتساهل،
أو أن
يقصِّر بنشاط — ولكن ليس أن يطيل أو أن يمد — حدود حياته الطبيعية.» ثم أضاف كوارلز،
في
لحظة من الحكمة السامية، قائلًا: «وهو لا يمتلك من الفنون (إذا امتلك أيًّا منها)
سوى فن
إطالة شمعته (Taper) التي يستفيد منها لأقصى درجة.» فليست
هناك أي طريقة لثني الشيخوخة عن أداء دورها المريع، لكن الحياة الحافلة بالمنجزات
تعوض، من
حيث الكيف، ما لا تستطيع إضافته من حيث الكم.
ويشترك كثير من الأطباء، خصوصًا أولئك الذين يقضون جل وقتهم في المختبرات، مع علماء
الإحصاء في عدم الاعتقاد بضرورة الموت بفعل التقدم في السن. ولو كان أولئك قد قرءوا
التقرير
الذي كتبته عن الأيام الأخيرة في حياة جدتي، لكانوا الآن بدون شك أشاروا إلى أن الالتهاب
الرئوي وغيره من العَداوى قد أصبح — في النهاية — يمثل ثاني أكبر أسباب الوفَيَات
المعروفة
شيوعًا عند بلوغ الإنسان تلك السن المتقدمة جدًّا — وهي سن الخامسة والثمانين — في
حين يمثل
التصلب العصيدي أكثر هذه الأسباب شيوعًا. كانت جدتي مصابة بالاثنين، ولذلك ربما يدَّعي
أولئك الأطباء أن طريقتها في الوفاة تدعم نظريتهم الشاملة، وقد يطالبون بتدخُّل فعال
لعلاج
تلك المرضيات المحددة من أجل إطالة الحياة، ويُعَد ذلك بالنسبة لي حذلقة أكثر من كونه
علمًا.
وأنا أقر أولئك الأطباء في وجهة نظرهم تلك، لكن هناك أدلة عديدة على أن للحياة حدودها
الطبيعية الغريزية؛ وعند بلوغ هذه الحدود، تخبو شمعة الحياة ببساطة، حتى في غياب أي
مرض أو
حادث محدد.
ولحسن الحظ أن أغلب الأطباء السريريين، والذين يقصرون ممارستهم الطبية على رعاية المسنين،
قد وصلوا لفهم هذه الحقائق. ويجب تكريم علماء الشيخوخة على الإسهامات الجليلة التي
قدموها
حتى الآن في مجال تفسير المرضيات التي تصيب أولئك الذين ينهزمون ببطء بفعل العيوب
التي تصيب
قواهم الشائخة المضمحلة، بَيد أنهم يستحقون إعجابنا أكثر بسبب الحنان الذي يضيفونه
إلى
عملهم. وقد ناقشت ذلك مؤخرًا مع أستاذ في طب الشيخوخة في الجامعة التي أعمل بها، وهو
الدكتور ليو كوني، الذي لخص بعد ذلك وجهة نظره في مقطعين جَزْلين من أحد خطاباته:
«يُعَد أغلب علماء الشيخوخة في مقدمة أولئك الذين يعتقدون بوجوب منع تلك التدخلات
العنيفة التي تهدف، ببساطة، إلى إطالة الحياة. وعلماء الشيخوخة هم الذين يتحدَّون
باستمرار علماء الكُلى الذين يُخضعون ذوي السن المتقدمة للغاية للدِّيال (الغسيل
الكُلَوي)، وعلماء الصدر (Pulmonologists)، والذين
ينبِّبون (intubate) أناسًا لا يمتلكون مؤهلات
البقاء على قيد الحياة. وحتى الجراحون الذين يبدون غير قادرين على منع مباضعهم عن
المرضى الذين ستكون إصابتهم بالالتهاب الصِّفاقي
(Peritonitis) طريقة رحيمة للموت. ونحن نأمل في
تحسين نوعية الحياة بالنسبة للأفراد الطاعنين في السن، وليس في إطالة مدتها. ونحن
نأمل بذلك في أن الشيوخ يتمتعون بالاستقلالية ويعيشون حياة كريمة لأطول فترة ممكنة.
ونحن نعمل لتقليل معدل حدوث السلس (incontinence)،
وللتغلب على اختلاط الذهن، ولمساعدة العائلات على التعامل مع الأمراض الفتاكة، مثل
مرض ألزهايمر.»
ويمكننا أن ننظر إلى علماء الشيخوخة بصورة أساسية كأطباء الرعاية الأولية للمسنين؛
أي حل
الجيل الحالي لمشكلة غياب طبيب العائلة القديم، والذي كان يعرف مرضاه كما كان يعرف
أمراضهم.
وإذا كان عالم الشيخوخة اختصاصيًّا، فسيكون تخصصه هو الشخص العجوز بكامله. وفي أواخر
عام
١٩٩٢م، كان هناك ٤٠٨٤ طبيبًا مسجلًا للشيخوخة فقط في الولايات المتحدة بأسرها، في
الوقت
نفسه الذي كان فيه نحو ١٧٠٠٠ اختصاصيٍّ بأمراض القلب.
وقد يتشكك المرء بأجزاء محددة من الأدلة التي سُقتها عند قولي بأن الحدود الطبيعية
لحياة
الفرد تتيح له القليل من التلاعب (Tampering). وقد أجريت في
الواقع دراسات شديدة التفصيل على الشيوخ الذين ظلوا بصحة جيدة. وفي هذه الأبحاث، تم
تقييم
التغيرات النوعية للعمر في الوظائف الجسمية للرجال والنساء الذين لا يعانون من عمليات
مرضية
من المتوقع أن تؤثر على تلك الوظائف. وقد كانت النتائج كما وصفتها، إذ تستمر العملية
الشيخوخية، بصرف النظر عن أي شيء آخر قد يقع. ويمكن القول بأن الشيخوخة تمثل كلًّا
من
الاستقلالية (Independence) والاعتمادية
(Codependence) في الوقت نفسه؛ بمعنى أنها تساهم بدون
شك في حدوث المرض، في الوقت نفسه الذي قد يتسارع فيه المرض بسببها. لكن الجسم يستمر
في
التقدم في العمر، سواء في وجود المرض أم في غيابه. ويتركز اختلافي مع وجهة نظر كثير
من
أولئك الباحثين المعمليين الذين يدرسون فيزيولوجية الشيخوخة، حول فلسفة المعالجة فعندما
يكون من الممكن التعرف على مرضٍ ما بإطلاق اسم عليه، تصبح جوائحه هدفًا للمعالجة بهدف
الوصول إلى الشفاء المحتمل. وهذا، في نهاية الأمر، هو السبب الحقيقي الذي يجعل من
الطبيب
العلمي الحديث اختصاصيًّا. وبغض النظر عن السبب الذي يذكره من تخفيف المعاناة البشرية،
وبغض
النظر عن إخلاصه في جهده، فالطبيب الاختصاصي العادي يفعل ما يقوم به لأنه غارق وسط
ألغاز
المرض، ولأنه يتوق لهزيمته عن طريق حل كل معضلة يواجهه بها عقله البحاث
(Inquisitive)، سواء كان باحثًا أم طبيبًا ممارسًا. وفي
كلٍّ من طرفَي الحياة — أي في المجموعتين العمريتين الطفولية والشيخوخية — يُعَد المرضى
محظوظين لحصولهم على الرعاية من قِبل واحد من الأطباء الذين يقابلون اليوم طبيب
العائلة.
ويُعَد تشخيص المرض واستقصاء سبل التغلب عليه بذكائه، هي التحديات التي تحفز كل اختصاصي
حاذق في عمله، وهو مغرم بعلم الأمراض (الباثولوجيا). وعندما يواجَه بحقيقة عجزه عن
علاج
المرض، فكثيرًا ما يعرض المعالج المحتمل، وإذا كانت هناك معضلة غير قابلة للحل بطبيعتها،
فلا يمكنها أن تجتذب انتباه سوى قسم ضئيل من الأطباء الذين يعالجون أجهزة الجسم وأنماطه
المرضية المحددة. وتُعَد الشيخوخة غير قابلة للحل بقدر كونها حتمية، وبخلع أسماء الأمراض
القابلة للعلاج على أعراضها المرضية، يُبقي الكثير من الاختصاصيين، الذين يلجأ إليهم
المسنون طلبًا للرعاية، على ألغاز هذه الأمراض وعلى افتتانهم بها، وهم يعتقدون أيضًا
بأنهم
يمنحون المرضى نوعًا من الأمل، بالرغم من أن الأمل سيثبت في النهاية أنه لا مبرر له.
وفي
هذه الأيام (إن أمكنني استعارة اصطلاح من لهجة السوق المعاصرة) ليس من الصحيح — من
وجهة
النظر السياسية — الاعتراف بأن هناك البعض ممن يموتون بفعل الشيخوخة.
هل من الممكن أن يكون هناك شك في أن العمليات الجسدية الداخلية المرتبطة بالشيخوخة
تحتم
جعل المرء أكثر عرضة للموت؟ … وهل هناك شك في أننا نصبح، في كل عام، أقل قدرةً على
حشد
القوى اللازمة لمجابهة الأخطار المميتة التي تحدق بنا باستمرار؟ … وهل هناك شك في
أن هذه
القدرة المتناقصة هي نتيجة للوهن الإضافي التدريجي في قوى أنسجتنا وأعضائنا؟ … وهل
هناك من
شك في أن هذا الوهن هو نتيجة التدهور العام في البنية والوظائف الطبيعية للجسم؟ …
هل هناك
من شك في أن هذا التدهور العام — سواء حدث في محرك لآلة أم في إنسان — سيؤدي في النهاية
إلى
فقد الوظيفة؟ … وهل هناك أدنى شك في أن توماس جيفرسون كان يدرك ما كان يتحدث عنه؟
…
وفي الحقيقة، إن الفهم الذي عبَّر عنه جيفرسون قديم قِدَم الدهر. وفي أقدم الكتب الطبية
الباقية في الصين، أو في أي مكان آخر — «هوانج تي ناي شنج سو وِن» (أي مأثورات الإمبراطور
الأصفر في الطب الباطني)، والذي كُتب منذ نحو ٣٥٠٠ عام خَلَت — يوجه الطبيب المثقف
«شي بو»
النصح إلى الإمبراطور الأسطوري بخصوص الشيخوخة، ويقول له ما نصه:
«عندما يشيخ الرجل، تصبح عظامه يابسة وهشة مثل القش (تخلخل العظام:
Osteoporosis)، وينخسف لحمه، ويكون هناك هواء
أكثر في صدره (النُّفَاخ Emphysema)، وآلام داخل
معدته (عسر الهضم المزمن)، وهناك شعور غير مريح داخل قلبه (الذبحة الصدرية أو رفرفة
لانظمية مزمنة) وتنكمش مؤخرة عنقه وكتفيه، كما يلتهب جسده بالحُمَّى (عداوى المسلك
البولي المزمنة)، وتتجرد عظامه وتُترك عارية من اللحم (فقدان كتلة العضل الغث)،
وقد
تجحظ عيناه أو تغوران. وعندما يمكن رؤية نبض الكبد (قصور الجانب الأيمن للقلب)،
لكن
العين لا تستطيع بعدئذ تمييز الحياكة (السادُّ:
Cataract)، سيضرب الموت ضربته. ويمكن إدراك
حدود حياة رجلٍ ما عندما لا يستطيع ذاك الرجل التغلب على أمراضه؛ وهنا يحين موعد
وفاته.»
والسؤال الأكبر هنا ليس هو ما إن كانت الشيخوخة تؤدي إلى الوهن
(Debility)، وعدم القدرة على التغلب على الأمراض، ثم
الموت. ولكن «لماذا» يشيخ الأفراد أساسًا؟ … كان الواعظ الإكليروسي
(Ecclesiastic: نسبة إلى سِفر الجامعة في التوراة) من
بين الأوائل في الحضارة الغربية الذين أشاروا إلى «أن لكل شيء سببًا، كما أن لكل غرض
تحت ظل
السماء وقتًا محددًا: فهناك وقت للميلاد، كما أن هناك وقتًا للموت.» لكن هذه النغمة
تبدو
مألوفة لدرجة أن صداها يتردد في كتاباتنا في جميع الحقب الزمنية. فقد كتب هوميروس،
قبل ذلك
الواعظ، قائلا: «يشبه الجنس البشري أوراق الشجر؛ فعندما يُزهر جيل، يذبُل جيل آخر.»
وهناك
أسباب وجيهة لأن يفسح المجالَ جيلٌ للجيل الذي يليه، كما أوضح ذلك خطابٌ آخر لتوماس
جيفرسون
كتبه إلى جون أدامز الذي كان على نفس القدر من الجلال، قرب انتهاء حياته: «هناك نضج
لوقت
الوفاة — وذلك بالنسبة للآخرين وبالنسبة لأنفسنا — وعندها يصبح من المنطقي أن نسقط،
وأن
نفسح مجالًا لنمو آخر. وعندما نعيش جيلنا حتى النهاية، يجب ألا نأمل في أن نتعدى على
جيل
آخر.»
وطريق الطبيعة هو «ألا نتعدى على جيل آخر.» وتثبت الملاحظة البسيطة أنه كذلك، ثم يصبح
من
الضروري أن تقدم لنا الطبيعة بعض الأدلة المؤكدة على أننا، مثل أوراق هوميروس، سنصل
تدريجيًّا إلى المرحلة التي فيها «سنسقط ونفسح مجالًا لنمو آخر.» كما صاغها الفلاح
المهذب
جيفرسون. وقد حاول العلماء من كل التخصصات تحديد الآلية التي تفعل بها الكائنات الحية
ذلك،
إلا أننا لا نعرف كُنْهَها على وجه التحديد حتى الآن.
وهناك، في الأساس، خطان منطقيان منفصلان لتفسير عملية الشيخوخة — يركز أحدهما على
التلف
المُطَّرِد والمستمر الذي يصيب الخلايا والأعضاء بفعل العملية المألوفة لتنفيذ وظائفها
الطبيعية في البيئة العادية للحياة اليومية. وكثيرًا ما تسمى هذه بنظرية النهك والإنهاك
(Wear and Tear Theory). وتقترح الأخرى أن الشيخوخة
تنتج عن وجود فترة حياة محددة مسبقًا بالعوامل الوراثية تتحكم ليس فقط في فترة حياة
كلٍّ من
الخلايا، بل وفي الأعضاء وفي الكائن الحي بأكمله، مثلنا نحن أيضًا. وفي أوصاف هذه
الفرضية
الأخيرة، كثيرًا ما نستحضر صورة «شريط وراثي» يبدأ عمله في نفس اللحظة التي تتم فيها
عملية
الإخصاب، ثم يعرض برنامجًا متسلسلًا يقدِّر (Preordain) ليس
فقط ساعة الوفاة (على الأقل من الناحية المجازية)، بل وحتى تلك الساعة التي نبدأ فيها
في
سماع الملاحظات المتعلقة بالموت. وإذا تتبعنا أكثر مضامين هذه النظرية تخصصًا، فقد
تعني —
على سبيل المثال — أن اليوم، أو الأسبوع، الذي يبدأ فيه انقسام الخلايا السرطانية
قد تم
تحديده سلفًا، في الوقت نفسه الذي يحدث فيه الانقسام في البويضة المخصبة لتوها.
وكما يستخدمها مؤيدو نظرية النهك والإنهاك، فيمكن أن تشير كلمة «البيئة» إلى بيئة
هذا
الكوكب، أو تلك البيئة الموجودة داخل وحول الخلية ذاتها. وربما سبَّبت تلك العوامل
مثل
الإشعاع الأساسي (سواء كان شمسيًّا أم صناعيًّا)، والملوثات، والجراثيم، والسموم الموجودة
في الجو، تلفًا بطيئًا يُغيِّر من طبيعة المعلومات الوراثية التي تنتقل من الخلايا
إلى
ذراريها. وربما لا تلعب البيئة دورًا في العملية، فقد تنتُج المعلومات الوراثية الخاطئة
عن
أخطاء عشوائية في عملية الانتقال تلك. وفي أيٍّ من الحالتين، فقد تتسبب التغيرات المتراكمة
في الحمض النووي المنزوع الأكسجين (D.N.A) في حدوث تلك
الأخطاء في وظيفة الخلية، والتي تؤدي إلى موتها، وإلى حدوث تلك التغيرات الواضحة في
الكائن
الحي ككل، والتي تُظهر نفسها في صورة الشيخوخة. ويطلق البعض على عملية الموت الخلوي
المحضة
هذه اسم «كارثة الخطأ» (Error Catastrophe). وتنبع بعض
الأخطار البيئية من داخل أنسجتنا ومن داخل الخلية ذاتها. وقد وصفت بالفعل عملية الإطلاق
(Bombardment) المتواصلة التي تؤثر على الطبيعة
الأساسية للجزيئات، إلا أن هناك آليات أخرى أيضًا؛ فمن أجل أن تظل الخلايا بصحة وحيوية،
يجب
عليها أن تحطم بصورة فعَّالة تلك النواتج السامة لاستقلابها
(Metabolism). وإذا توافرت أية درجة لفشل تلك الآلية،
فقد تتراكم تلك النواتج الثانوية، وقد تؤثر ليس فقط على وظائف الخلية، بل وعلى الدنا
ذاته؛
وسواء كان سبب ذلك راجعًا إلى البيئة أو إلى الأخطاء العشوائية في الانتقال، أو إلى
النواتج
السامَّة للاستقلاب، فمن المعتقد أن حدوث أخطاء في الدنا يُعَد من العوامل الرئيسية
المسببة
لعملية الشيخوخة.
وعلى الرغم من أننا يجب ألا نأخذ كتابات الرعب لواصفي قيامة
(Doom) العصر الحديث باهتمام كبير، فإنه ليس هناك أي شك
في أن بعض لازماتهم — مثل الألدهيدات والجُذيرات الحرة (Free
Radicals) للأكسجين — تستحق منا الاهتمام، وذلك لأنها قد تلعب دورًا في
تلف البروتوبلازم (Protoplasm) وتشيخه إذا لم تُفتَّت بصورة
مناسبة إلى مواد أقل خطرًا. والجُذير الحر هو جزيء يحتوي مداره الخارجي على عدد مفرد
من
الإلكترونات (Electrons). وتتميز هذه الأجسام بكونها شديدة
التفاعلية، لأنها لا تصل إلى الثبات إلا باكتساب إلكترون جديد أو بفقد الإلكترون المفرد
فيها. وقد جعلت تلك التفاعلية المفرطة من الجذيرات الحرة إما كباش الفداء أو الأبطال
لكثير
من الفرضيات البيولوجية، والتي تتراوح بين أصل الحياة على الأرض ومرورًا بالمجموعة
كلها
وصولًا إلى الآليات الشيخوخية.
ويقتنع بعضٌ من ناشطي حركة مطيلي الحياة المحتملين بأن حِملًا إضافيًّا من البيتا
كاروتين «»، أو فيتامين E أو
C في الطعام سينقذ أنسجتنا من الأكسدة بفعل الجذيرات
الحرة. ولسوء الحظ، فليس هناك حتى الآن أي دليل قاطع يثبت أنهم على صواب.
أما النظرية الثانية من نظريتَي الشيخوخة الرئيسيتين، فهي فرضية أن العملية برُمَّتها
محددة سلفًا بالعوامل الوراثية. وفي هذه الصياغة، يوجد في داخل كل كائن حي برنامج
وراثي
تتلخص وظيفته في تعطيل العمليات الفيزيولوجية للحياة الطبيعية بصورة مُطَّرِدة، ثم،
في
النهاية، تعطيل تلك الخاصة بأي حياة كانت. وفيما بين البشر، يفعل كلٌّ من الأفراد
المختلفين
ذلك بطرق متباينة، أو على الأقل أن الملامح الأكثر أهمية تتباين في كلٍّ منا. ويتيح
ذلك
الفرصة لحدوث تلك الظواهر المنفصلة مثل فقد المناعة، وتغضن الجلد، ونمو الأورام الخبيثة،
وبداية ظهور الخَرَف، ونقص مرونة الأوعية الدموية، وكثير من أحداث الشيخوخة الأخرى.
وقد تلقَّت النظرية الوراثية دَفعة هائلة منذ ثلاثين عامًا خلت، عندما أظهر الدكتور
ليونارد هيفليك (Hayflick) أن الخلايا البشرية المستزرعة في
المختبر تبدأ ببطء في التوقف عن الانقسام بعد فترة وجيزة. وبمرور الوقت، تتوقف تلك
الخلايا
عن الانقسام تمامًا، ثم تموت. وقد وُجِد أن العدد الأقصى للانقسامات الخلوية محدود،
ويبلغ
نحو الخمسين. وقد أُجريت تلك التجارِب على نوع واسع الانتشار من الخلايا يسمى بالأرومات
الليفية (Fibroblast)، والتي تُكوِّن الهيكل البنيوي
الأساسي لجميع أنسجة الجسم. ويمكن تطبيق النتائج على بقية أنواع الخلايا أيضًا، وتنجو
تلك
القدرة التي تبدو لانهائية للخلية السرطانية على الانقسام، بطبيعة الحال، من المحدودية
المنظمة للوجود الطبيعي.
وتساعدنا تلك التجارِب — مثل التي أجراها هيفليك — على تفسير سبب إظهار كل نوع حي
لفترة
حياة خاصة به، وسبب كون الأفراد داخل هذه الأنواع يعيشون فترة حياة تتوافق جيدًا مع
تلك
الفترات التي عاشها آباؤهم، إذ إن أفضل ضمان لطول العمر هو اختيار الأب والأم
الملائمين.
شق كثيرٌ من عوامل الشيخوخة المميزة طريقه إلى الساحة العلمية، واعتقادي هو أن جميعها
تقريبًا تتمتع بقدرٍ ما من المصداقية، وبكلمات أخرى، فالشيخوخة هي في أغلب الاحتمالات
نتيجة
لكل هذه العوامل مجتمعة، بحيث تتباين أهمية المكونات الفردية لكلٍّ منا، فبعض هذه
العوامل
مشترك بين جميع الكائنات الحية، ومنها التغيرات الحادثة في الجزيئات والعُضَيَّات
(Organelles). وقد تكون التغيرات الحادثة في الخلايا
والأنسجة والأعضاء خاصة بنوع حي واحد، مثل تلك التي تحدث في النبات أو الحيوان ككل.
أما
الدليل على ذلك، فهو كما يقول عنه الدكتور هيفليك: «مقنع للغاية، حتى إن خصائص عدم
الثبات
البيولوجي التي تُعَد، حسب الرأي السائد، متغيرات عمرية ناتجة عن عدد كبير من
الأسباب.»
ذكرنا بالفعل بعض تلك الظواهر البيولوجية، مثل البرنامج الوراثي ذاته، وتوليد الجذيرات
الحرة، وعدم ثبات الجزيئات، وفترة الحياة المحدودة للخلية، والأخطاء الاستقلابية والوراثية
التراكمية. وهناك الكثير من المكونات المحتملة التي وجدت لها أبطالًا مفعمين بالحيوية
في
القاعات العلمية؛ فمن المعتقد أن الليبوفوكسين، على سبيل المثال، أكثر من مجرد ناتج
خامل
لعملية التحطم داخل الخلوي يقوم بصبغ الأعضاء الهرمة من دون أن يصيبها بالأذى، فيعتقد
بعض
الباحثين أن تراكمه ذو تأثير مميت، بينما يُظهر آخرون اهتمامًا كبيرًا بالتغيرات الهُرمونية
المنتقلة (Mediated) عبر الجهاز العصبي؛ بينما هناك من يؤيد
النظرية القائلة بأن من أهم التغيرات الحادثة في الجهاز المناعي قدرته المتناقصة على
التعرف
على أنسجة مضيفه، مما يؤدي إلى حدوث الأمراض التنكسية الشيخوخية عن طريق رفض الجسم
لبعض من
تلك الأنسجة التي صُنع منها أساسًا.
وتفترض نظرية أخرى أن جزيئات النسيج البنيوي المسمى بالمغراء (الكولاجين:
Collagen) تصبح تبادلية الارتباط ببعضها البعض. ويعوق
تراكم هذه الارتباطات من تدفُّق المغذيات والفضلات، في الوقت الذي يقلل من المساحة
الضرورية
اللازمة لحدوث العمليات الحيوية للجسم. ومن آثاره الأخرى، أن يدمر الارتباط التبادلي
الدنا،
والذي تنتج عنه بدورها الطفرات، أو الموت الخلوي.
وهناك نظرية حديثة نسبيًّا مفادها أن الأنظمة الفيزيولوجية، وربما تلك التغيرات التشريحية
المصاحبة لها، تصبح أقل تعقيدًا مع التقدم في العمر، وبذلك تصبح أقل فاعلية، وقد يكون
التعقيد المتناقص نتيجة لعمليات أخرى أكثر قاعدية، ربما تضم بعضًا من تلك التي سبق
وصفها.
وبالإضافة إلى ذلك، ظهر اهتمام متزايد في الآونة الأخيرة بظاهرة واسعة الانتشار بين
الأنواع
الحية، وهي ما يبدو كأنه صورة مبرمجة من عملية الموت الخلوي. وتبدأ هذه العملية —
والتي
يطلق عليها العلماء اسم السكتة (Apoplexy: من اليونانية
بمعنى «السقوط بعيدًا عن») — بنشاط بروتين يُعرَف باسم الجين
myc، والذي يبدأ سلسلة قوية من التفاعلات الجينية تحت
ظروف شاذة محددة. فعلى سبيل المثال، عند إبعاد المغذيات عن بعض أنواع الخلايا المستزرعة،
يبدأ الجين myc عملية أخرى تخضع فيها الخلية لعملية تشبه
الانفجار الداخلي (Implosion)، وتتسبب في تحطيم الخلية في
غضون نحو خمس وعشرين دقيقة، فهي «تسقط بعيدًا عن» الحياة بالمعنى الحرفي للكلمة. ويُعتبر
هذا الموت المبرمج من الأهمية بمكان بالنسبة لتطور الكائن الناضج؛ لأنه يمثل طريقة
يمكن بها
تغيير بعض الخلايا التي لم تعد ذات نفع في العملية التطورية، بأخرى تنتمي لمرحلة تالية.
وُجدت أمثلة لعملية السكتة أيضًا في الأفراد كاملي النضج، حيث تنتج عن أحداث متباينة
في
بيئة الخلايا المتعرضة لها. وحيث إن السكتة تمثل موقفًا يقع فيه الموت الخلوي كأثر
مباشر
لعملية التعبير الجيني (Gene Expression)، فمن المغري أن
نتفكر في احتمالية أن يعمل البروتين myc، أو مركب قريب
الشبه به، «كجين للموت» (Death Gene). ويمكن أن تُستثار
عملية الموت الموجه بالجينات بفعل مجموعة متنوعة من العوامل البيئية والفيزيولوجية،
كما
يبدو أنه يوفر نوعًا من التوافق بين بعض من تلك النظريات المتباينة التي وصفناها في
المقاطع
السابقة. أصبح ذلك الطريق البحثي أكثر وعدًا بإظهار الترابط بين البروتين
myc وبين مركب آخر أُطلق عليه اسم البروتين
max.
وعندما يتحد الاثنان، تُوجَّه الخلية بطريقة غير معروفة حتى الآن للقيام بأحد ثلاثة
أفعال: فإما أن تنضج، أو أن تنقسم، أو أن تحطم نفسها بعملية السكتة. ولذلك، وحسب الطريقة
التي يُعبِّر بها الجين myc عن نفسه، فمن الواضح أنه يلعب
دورًا حيويًّا في عمليات التطور، وتنظيم النمو، وفي النهاية، في ضرب من الموت المبرمج.
ومن
الجليِّ أنه لا يمكن تحديد مضامين هذه الاكتشافات الجديدة في الوقت الحاضر؛ ليس فقط
بالنسبة
لفهمنا للعمليات الحيوية الطبيعية، بل ولغير الطبيعية منها، خصوصًا السرطان.
ولا يزال مؤيدو الحلول الوسط في بحثهم عن سبل جديدة قد تؤدي بهم إلى إعادة تصنيف
وجهات
النظر التي تبدو حاليًّا شديدة التباين: فقد تنتج التغيرات المناعية الشيخوخية، على
سبيل
المثال، عن تأثيرات هُرمونية تتحدد تبعًا لوقائع عصبية تتأثر بدورها بالعوامل الوراثية
أو
العكس. ونحن لا نعاني من نقص في النظريات المطروحة، ولا من نقص في الأبطال، كما أنه
ليس
هناك نقص في التوافق بين المفاهيم المختلفة. فما تخلُص إليه البيانات التجريبية والتساؤلات
التي تثيرها هو حتمية حدوث الشيخوخة ومن ثم محدودية
(Finiteness) الحياة ذاتها.
ماذا عن تلك القوائم المموَّلة من قبل الحكومة الفيدرالية، للأمراض ذات المسميات
الرسمية،
والتي يُفترض أن يموت بسببها المسنون؟ … تتكون كل مجموعة من الأمراض المميتة التي
تصيب
المسنين، بصورة أساسية، من تلك المشتبه بها عادة. فمن بين مئات الأمراض المعروفة وخصائصها
المسببة، سيسقط نحو ٨٥ في المائة من شيوخنا صرعى لمضاعفات واحدة من سبع مجموعات مرضية
رئيسية؛ وهي: التصلب العصيدي (تصلب الشرايين)، وضغط الدم المرتفع، والداء السكري الذي
يبدأ
بعد البلوغ، والسمنة المفرطة، وحالات الانحطاط العقلي — مثل مرض ألزهايمر وغيره من
أنواع
الخَرَف، والسرطان، ونقص المقاومة للعدوى. ويصاب كثير من المسنين الذين تصيبهم الوفاة،
بعدد
كبير من تلك الأمراض. وليس هذا بكل شيء؛ إذ يمكن أن يؤكد العاملون في وَحَدات الرعاية
المركَّزة في أيٍّ من المستشفيات الكبرى ملاحظتهم اليومية، لأنه ليس من النادر أن
يصاب
المرضى الانتهائيون بتلك الأمراض السبعة مجتمعة. وتمثل هذه الأمراض السبعة دور المرتزق
(Posse) الذي يصطاد ويقتل المسنين من بين ظهرانَينا.
أما بالنسبة للغالبية العظمى ممن يتخطَّون منتصف العمر، فهي فرسان الموت.
ولم تعُد عمليات تشريح الجثث اليوم شائعة مثلما كانت عليه منذ عَقد مضى، فباعتبار
الدقة
العالية التي يمكن بها اليوم توثيق التشخيص قبل الوفاة، أصبحت عمليات التشريح هذه
— في نظر
الكثير من الأطباء الممارسين — تمرينًا مُمِلًّا في علم الباثولوجيا الأكاديمية. ويموت
عدد
من الناس يقل بكثير بسبب الخطأ في التشخيص عما كان الحال عليه في حقبة سابقة؛ إذ تموت
الغالبية العظمى بسبب عجزنا عن تغيير مسار مرض محدد بدقة مسبقًا.
وقبل عقد من الزمان أو نيف، انحدر ما يسمى بمعدل تشريح ما بعد الوفاة في المستشفى
التي
أعمل بها إلى رقم يدور حول ٢٠ في المائة، في حين ظل ذلك المعدل في السنوات العديدة
السابقة
ثابتًا عند نحو ضعف هذا الرقم. أما المعدل القومي في الولايات المتحدة بأسرها فلا
يزيد على
١٣٪.
وأثناء حمى التشريح بعد الوفاة، كان بوسعي الحصول على تصريح بتشريح الجثث من أُسَر
جميع
مرضاي الذين يتوفون باستثناء قلة قليلة. ولست أبذل كثير جهد في المحاولة في أيامنا
هذه،
ولكنني، عندما أُقدم على ذلك، أحرص على التواجد لمراجعة النتائج مع اختصاصي الباثولوجيا
أثناء قيامه، أو قيامها، باكتشافها.
وبعد ست سنوات من التدريب السريري، وثلاثين عامًا من الممارسة الطبية، شهدتُ خلالها
عددًا
كبيرًا بالفعل من حالات التشريح بعد الوفاة، يُعَد الانتشار الواسع للتصلب العصيدي،
والضمور
الموجود في جثث المتوفين من المسنين، مألوفًا تمامًا لدرجة يبدو معها أنه في غير حاجة
للتعليق عندما يبحث المشرِّح عن المواضع العديدة التي يمكن أن يكون انتشر إليها السرطان،
أو
سكنتها العدوى. وبالملاحظة الدقيقة للأنسجة ولداخل الأعضاء، يميل كلٌّ من المشرِّح
والجرَّاح لتجاهل «البانوراما» المألوفة للشيخوخة، والتي تكشف عن نفسها تدريجيًّا
مع كل
حركة إضافية للمبضع. ويُعَد التعليق عليها في غرابة تعليق المسافر بالسيارة على خلو
المنظر
الطبيعي في الشتاء من أوراق الأشجار عند بحثه عن الطريق الصحيح؛ فهي هناك بالفعل،
وهذا هو
كل ما يتعلق بها. ومع ذلك، فعندما يصل تقرير تشريح ما بعد الوفاة إلى صندوق بريد الجرَّاح،
أي صندوقي، بعد ذلك بأسابيع، كثيرًا ما كانت تعتريني الدهشة للحالة المتقدمة للغاية
للنُّفايات البيولوجية التي يمكن ملاحظتها بصعوبة، والتي مررنا خلالها أنا واختصاصي
الباثولوجيا منذ فترة وجيزة. وفي تحليله المفصَّل لموجوداته، يتعرض اختصاصي الباثولوجيا
بالتفصيل لكل الشذوذات التي اكتشفها عن الحالة الطبيعية للصحة، والتي تقفز عائدة إلى
الذاكرة، في أثناء قراءتي لذلك الملخص، لتحتل موقعها بجوار تلك الأدلة الكبرى التي
كنا
نقتفي أثرها بمثل ذلك التصميم. ولست أُحِس بفهم متكامل للموقف الكلي الذي تُوفِّي
فيه مريضي
إلا عندما يبدأ ذلك في الحدوث.
وليست لبعض موجودات التشريح بعد الوفاة أي عَلاقة بملابسات الوفاة، إذ لا تعدو كونها
—
ببساطة — نتيجة لعملية الشيخوخة ذاتها التي ظهر عنها واحد أو اثنان من أنواع الأمراض
التي
قتلت المريض، ولا تسهم هذه الموجودات في حدوث الوفاة بصورة مباشرة، لكنها توفر تلك
الخلفية
التي يحدث الموت فوقها.
طلبت مؤخرًا مساعدة زميل لي في مستشفى جامعة ييل في مدينة نيو هافن، وهو الدكتور
G. J.، ووكر سميث مدير إدارة تشريح ما بعد الوفاة، وهو
داهية مخضرم في تلك الغرفة المكسوة بالرخام، والتي يحاول فيها «أطباء الموتى» بكل
ما أوتوا
من قوة، الإجابة عن ذلك السؤال الذي صاغه، منذ أكثر من مائتي سنة، مؤسسُ تخصصهم الكئيب
—
وهو عالم التشريح الإيطالي جيوفاني باتستا مورجاني
(Morgagni) — والذي وضعه باللاتينية
«Ubi est morbus?»، أي: «أين يوجد المرض؟» وينفذ
اختصاصيو الباثولوجيا، مع مرضاهم المتوفين حديثًا، ذلك الالتزام الذي يضمه القسم الذي
خلده
الزمن، والذي يحملق فيهم من خلال تلك اللوحة المعلقة على جدران الآلاف من غرف التشريح
في
جميع أنحاء العالم:
Hic est locus ubi mors gaudet succurso
vitae.
هذا هو المكان الذي يحتفل فيه الموت بقدومه لمعاونة الحياة.
وتُعَد غرفة التشريح منطقة نفوذ ووكر سميث، كما هي غرفة العمليات بالنسبة لي. وعندما
أخبرته باهتمامي بإثبات انطباعاتي القديمة برؤية القليل من التقارير النهائية لتشريح
مرضى
تُوفُّوا عن عمر متقدم، أسدى إليَّ صنيعًا أفضل من ذلك، فصار مهتمًّا هو شخصيًّا،
وفي وقت
قصير، إذ كان ذلك المشروع قد استغرقه كما استغرقني تمامًا، وعثر على ثلاثة وعشرين
تقريرًا
لمرضى أُجريت عليهم دراسات التشريح قبل أيام الندرة التي نعيشها حاليًّا. قمنا معًا
بمراجعة
الموجودات في اثني عشر رجلًا وإحدى عشرة امرأة تزيد أعمارهم جميعًا على الرابعة والثمانين،
والذين تُوفُّوا خلال فترة امتدت لستة عشر شهرًا — من ديسمبر ١٩٧٠م إلى أبريل ١٩٧٢م
— بلغ
متوسط أعمارهم ثمانيًا وثمانين سنة، كما كان أكبرهم سنًّا يبلغ الخامسة والتسعين من
عمره.
وبرغم أنه كانت هناك أنواع متباينة من تلك المرضيات: مثل التصلب العصيدي، والتدهور
المجهري للجهاز العصبي المركزي. وعند رؤيتها مجتمعة، كان هناك تشابه في الموجودات
التي كانت
مذهلة تمامًا بالنسبة لكلينا.
ويبدو أن النمط الخاص من الموت لكلٍّ منا يعتمد على الترتيب الذي تُكتنف به الأنسجة
المختلفة في عملية السقوط الشيخوخي. وقد كان الخيط المشترك بين المرضى الثلاثة والعشرين،
على الأقل كما تعكسه المقاطع الرتيبة لذلك المدخل الفريد لاختصاصي الباثولوجيا إلى
نعي
مريضه، هو فقدان الحيوية الذي يرافق سوء التغذية والاختناق، فكما تضيق الشرايين، يضيق
كذلك
الحد الفاصل بين الحياة والموت: فهناك تغذية أقل، وأكسجين أقل، ومرونة
(Resiliency) أقل في العودة للحالة الطبيعية بعد
الإصابة. ويصدأ كل شيء ويبلى حتى تنطفئ جذوة الحياة ذاتها في النهاية. وينتج ما نطلق
عليه
اسم السكتة الدماغية الانتهائية، أو احتشاء عضلة القلب، أو الإنتان
(Sepsis) — ببساطة — عن اختيار تُقدَّم عليه تلك
العوامل الفيزيائية-الكيميائية التي لم نفهم كُنْهَها تمامًا حتى الآن، والتي تهدف
لإسدال
الستار على عرض قد اقتربت نهايته أكثر مما هو متوقع، حتى في شيخ كان يبدو حتى ذلك
الوقت
مفعمًا بالصحة والحيوية.
وليس «التسعيني» الذي يموت بفعل احتشاء عضلة القلب مجرد «مواطن جليل»
(Senior citizen) أصابته الظروف الجوية القاسية بنوبة
قلبية، فهو ضحية لتطور مرضي متسلل يشمله بالكامل، ويسمى ذلك التطور بالشيخوخة. وما
الاحتشاء
إلا واحد فقط من علاماته، والذي — في حالة هذا الرجل بالذات — قد التهم بقية العلامات،
على
الرغم من أن أيًّا منها كان مستعدًّا للقضاء عليه في حالة نجاح طبيب شاب ألمعي في
إنقاذه،
في إحدى وَحَدات العناية القلبية المركزة. وقد مات سبعة من عجائز ووكر سميث، رسميًّا،
باحتشاء عضلة القلب، وأصيب أربعة آخرون بالسكتة الدماغية كجزء من مرضهم النهائي، وتُوفِّي
ثمانية بفعل العداوى، ومنهم ثلاثة انتقلوا إلى الأبدية يدًا بيد مع صديق العجائز؛
الالتهاب
الرئوي. كما كان هناك ثلاثة أفراد ضمن المجموعة ممن أصيبوا بسرطان في مراحل متقدمة،
بالرغم
من أن الحدث الانتهائي في حياة أحدهم كان الالتهاب الرئوي، والسكتة الدماغية لآخر.
وقد كانت
الملاحظة المفردة الأكثر إثارة للدهشة هي نفسها تلك الأكثر توقعًا؛ فقد كان كلٌّ من
المرضى
الثلاثة والعشرين مصابًا بالتصلب العصيدي المتقدم في الأوعية الدموية للقلب، وفي كليهما
في
أغلب الحالات، حتى ولو لم تظهر عليهم أية أعراض مرضية تستوجب المعالجة حتى وقوع الحدث
النهائي. كانت واحدة أو الأخرى من تلك الآلات الحيوية على وشك الانسحاب من الحياة
في كلٍّ
من الشيوخ الذين خضعوا للدراسة. ومن الملاحظات الأخرى التي لم تستثر أي قدر من الدهشة
فينا،
كانت كثرة الأمراض ذات الأسماء المحددة في الأعضاء الأخرى لأي إنسان آخر، والتي لم
تلعب أي
دور في وفاة المريض. وفي تقارير اختصاصي الباثولوجيا، يطلق على هذه الأمراض اسم «العَرَضية»
(Incidental). وبذلك يكون هناك، بالإضافة إلى المرضى
الثلاثة الذين فتكت بهم أورامهم الخبيثة، ثلاثة آخرون وُجِد أنهم يحملون في أجسادهم
سرطانات
«عرَضية» غير متوقعة في الرئة، والبروستاتة، والثدي. كما كانت هناك امرأتان مصابتان
بانتفاخ
الشريان الأورطى، أو غيره من الأوعية الدموية البطنية الكبرى، والمسمى بالأنورزم (أُم
الدم:
Aneurysm)، والذي ينتج عن الضعف العصيدي؛ وفي العشرين
الذين فُحِصَت أدمغتهم مِجهريًّا، وُجِد أن أحد عشر منهم كانوا مصابين باحتشاءات دماغية
قديمة، بالرغم من أن واحدًا منهم كان لديه تاريخ سابق للإصابة بالسكتة الدماغية؛ وقد
وُجِد
أربعة عشر مصابًا بالتغيرات الكبرى لمرض التصلب العصيدي في الأوعية الدموية للكُلْيتين؛
بينما كان الكثير منهم مصابًا بعداوى نشطة في المسلك البولي؛ كما وُجِد في مريض تُوفِّي
بسرطان متوسع في المعدة أنه مصاب بالموات (الغرغرينا:
Gangrene) في إحدى ساقيه. ومن المعروف جيدًا أن أكبر
الشيوخ يموتون بفعل أمراض كان من الممكن أن تقهرها أجسامهم بسهولة لو كانوا أصغر مما
هم
عليه قليلًا، لكن الحد الذي يحدث معه ذلك في حالة المرض الشديد الوضوح مثير للدهشة؛
فقد
تُوفِّي أحد مرضانا بفعل زائدة دودية منفجرة، واثنان نتيجة لعداوى تالية لجراحة في
المرارة
أو القناة الصفراوية، وواحد من مضاعفات قرحة هضمية منفجرة، وآخر من التهاب الرتوج
(Diverticulitis) — ويُعَد كلٌّ من هذه الأمراض ضربًا
من العدوى: (Infection). ولا يفوق العدوى سوى تصلب الشرايين
«التصلب العصيدي» كأكثر أسباب الوفَيَات شيوعًا بين من يبلغون أكثر من سن الخامسة
والثمانين. وقد تُوفِّي مريضان آخران بسبب النزف: واحد من قرحة في «الاثنا عشر»
(Duodenum)، والآخر نتيجة لكسر في الحوض. ولكوني في خضم
ممارسة جراحية شديدة النشاط في الفترة التي تمَّت فيها إجراءات التشريح هذه، يمكنني
أن أشهد
باحتمالية أنه كان من الممكن ألا يموت أي من المرضى السبعة الذين تُوفُّوا في هذا
المستشفى
الجامعي لو كانوا في منتصف الخمسينيات من أعمارهم.
ولم ينجُ سوى اثنين من مرضى ووكر سميث الثلاثة والعشرين من التحطم المعتبر في أنسجة
الدماغ: وفي الواقع أن أحدهما قد ثبت بالفعل أنه كان مقاومًا بصورة عامة للتصلب العصيدي،
على الأقل في كلٍّ من الدماغ والقلب؛ فقد كانت درجة تكلس الشرايين التاجية في هذا
الرجل
البالغ من العمر تسعًا وخمسين سنة، متوسطة، وقد أصيب «بقدر من الضمور المخي أقل مما
يُتوقع
حدوثه في دماغ بهذا العمر»، حسب نص تشريح ما بعد الوفاة. لكن المرض كان قد أصابه في
كُلْيتيه، اللتين لم تكتفيا بكونهما موضعًا لعدوى مزمنة (تسمى بالتهاب الكُلوة والحُويض:
Pyelonephritis) استمر في نثر الجراثيم المعوية في
جهازه البولي، بل وكانتا ضحيتين أيضًا لتحطم فروعهما الشريانية ووحدات ترشيحهما الدقيقة،
بالإضافة إلى قدر ملحوظ من التندب (Scarring). ومع ذلك، فلم
يكن مرض الكُلى المزمن هو ما قتل ذلك الرجل؛ فقد مات بفعل ورم خبيث يسمى بالنقيوم
المتعدد
(Multiple myeloma)، مضاعف بالالتهاب الرئوي. وهكذا،
ومثل كل من أولئك الرجال والنساء الثلاثة والعشرين المتقدمين للغاية في العمر، فقد
حمل هذا
الرجل إلى مثواه الأخير عدد كبير من «الفرسان» السبعة للموت.
وقد كان الناجي الآخر من الويلات الشيخوخية في المخ، هو بروفسور للُّغة اللاتينية
ورئيس
سابق لجامعة ييل في السابعة والثمانين من العمر؛ فبالرغم من أنه كان يبدو نشيطًا وصحيح
البدن (وبدون دليل سريري على مرض القلب)، فقد وجد في تشريح ما بعد الوفاة أنه كان
بالفعل
أقرب ما يكون إلى الإصابة باحتشاء عضلة القلب، مع المزاوجة المثيرة بين «إصابة خطيرة
(بالتصلب العصيدي) في الشرايين التاجية، وبين إصابة طفيفة للغاية في الأوعية الدموية
المخية.» وفي واقع الأمر إن شرايينه التاجية كانت موصوفة بجسم الأنبوب
(Pipe-stem)، بحيث كان أحدها مسدودًا تمامًا. وقد
استحال لون القلب إلى لون يشبه البني نتيجة لضموره؛ وقد كشفت الكُلْيتان أيضًا عن
عمرهما
الحقيقي. وقد أفاق البروفسور من نومه في إحدى الليالي الباردة من شهر ديسمبر على ألم
بطني
شديد ذي بداية مفاجئة، وقد شُخِّصت الحالة كقرحة هضمية (Peptic
ulcer) منثقبة، وذلك في غرفة الطوارئ بالمستشفى، وقد أُثبِت التشخيص
بتشريح ما بعد الوفاة بعد وفاته بأربعة أيام، بعد أن ثبت أن جهازه المناعي المنهك،
وقلبه
الذي كانت تتم تغذيته بالكاد، غير قادرَيْن على حمايته من الالتهاب الصِّفاقي
(Peritonitis) الذي نتج بعد ذلك. وهكذا، فقد كان دماغ
البروفسور السليم نسبيًّا غير ذي منفعة له عندما كانت حياته مهددة بالخطر في موضع
آخر.
والدرس المستفاد من هذه القصص المرضية الثلاث والعشرين هو، ببساطة، توكيد للدرس المستفاد
من خبرات الحياة اليومية: فسواء كان السبب هو تشوُّش الكيمياء الحيوية المضطرب، أو
النتيجة
المباشرة لعكس ذلك — أي تلك الرحلة الوراثية المنسقة بعناية لتُفضي إلى الموت — فنحن
نموت
بالشيخوخة لأننا نكون قد أصبحنا منهكين وبالين، بينما تمَّت برمجتنا للانهيار؛ فكبار
الشيوخ
لا يقعون فريسة للمرض — فهم يخسفون (Implode) طريقهم إلى
الخلود.
وحيث إنه ليست هناك سوى سبل قليلة تؤدي بصورة فورية إلى قبر الرجل العجوز، وباعتبار
التشابك الموجود بين أحجارها الممهدة الأساسية، فمن المنطقي أن نتعجب من كون تطور
أحدها
يجلب معه مثل هذا الخطر الداهم بإصابة الآخرين. وهل من الممكن أن تكون جميع هذه العوامل
المرضية مشتركة في هدف واحد، قد يصبح بدوره أكثر فاعلية مع تقدُّمنا في العمر؟ وقد
تم دمج
هذه الفرضية، بطبيعة الحال، ضمن النظريات المتعددة التي تفسر الشيخوخة: فتفترض إحداها،
على
سبيل المثال، أن العملية التي نتطور بها وننمو، ما هي إلا جزء من نمط استقلابي يتحكم
فيه
جزء داخلي في الدماغ يسمى بالوطاء (Hypothalamus)، والذي
ينظم النشاط الهُرموني في الجسم. وتُتيح هذه الآلية، التي تبدأ في نفس اللحظة التي
تبدأ
فيها الحياة ذاتها، للجسم أن يتكيف مع البيئة الخارجية المحيطة به. ويؤدي تطور أوجه
التكيف
هذه بالضرورة، وكأنما يتبع جدولًا محددًا، إلى حدوث النمو والنضج، ثم الشيخوخة. وإذا
كانت
هناك حقيقة في هذه النظرية العصبية-الصَّمَّاوية للشيخوخة، فسيكون حدوث الأمراض في
المسنين
هو الثمن الذي يدفعه الكائن الحي مقابل قدرته، التي استمرت طوال فترة حياته السابقة،
على
التكيف مع العوامل المحيطة به، وعلى التغيرات الحادثة في أنسجته ذاتها.
وتتكشف العملية برُمَّتها، كما لو كانت جزءًا من خطة رئيسية شاملة، أو استراتيجية
كبرى
تشرف على تطور الكائن الحي بداية من المراحل الجنينية المبكرة لحياته حتى تحين لحظة
الوفاة،
أو على الأقل حتى تحين الفوضى التي تسبقها مباشرة. وفي هذه النقطة بالذات، لا يتفق
منظرو
(Theorists) الفيزيولوجيا مع مستشاري الحِداد
(Bereavement) الذين يبينون قيمة الحكمة القائلة بأن
الموت ما هو إلا جزء من الحياة.
ويتردد صدى مثل هذه الاعتبارات، ولو بطرق أكثر كآبة، في جمل قليلة من فقرات ملحق
النسخة
التي بحوزتي من كتاب توماس براون. وفي كتاب بعنوان «التاجر والراهب» (The
Merchant and Friar)، كتب مؤرخ القرن التاسع عشر، السير
A. بالجريف (Palgrave)
قائلًا: «تترافق النبضات الأولى، عندما تنتفض الألياف، وتتسارع الأعضاء إلى الحياة،
مع
جرثومة الموت، وقبل أن تتشكل أعضاؤنا، يتم حفر تلك القبور الضيقة، التي سنُدفن فيها.»
فالاحتضار يبدأ مع أول خلجات الحياة.
وتؤدي هذه الاحتمالات إلى تأملات ذات أهمية قصوى في اتخاذنا للقرارات المتعلقة بحياتنا؛
فعندما تُتاح لرجل طاعن في السن فرصة الحصول على علاج تلطيفي
(Palliation) للسرطان، أو حتى الشفاء منه، بشرط أن يكون
مستعدًّا لتحمُّل العلاج الكيميائي (Chemotherapy) الموهن،
أو الجراحة الجذرية، فماذا يجب أن يكون رد فعله؟ هل سيتحمل عذاب العلاج، لكي يموت
في العام
التالي مثلًا بفعل التصلب العصيدي المُطَّرِد في أوعيته الدموية؟ فمن المرجَّح، بصورة
عامة،
أن يكون مرض الأوعية الدموية المخية ناتجًا عن العملية ذاتها التي أضعفت مناعته ضد
الورم
الخبيث، لدرجة أنه تحول إلى سرطان يحاول الفتك به، لكننا نذكر هنا مجددًا أن المظاهر
المتنوعة للعملية الشيخوخية تتطور بسرعات متفاوتة، لذا فيمكن أن تستغرق السكتة الدماغية
مثلًا، وقتًا أطول من المتوقع نسبيًّا حتى تحقق غرضها المنشود. ويمكن تقدير هذه النهايات
المحتملة فقط بتقييم الحالة الراهنة للعمليات غير الخبيثة الحادثة في جسم المريض؛
مثل درجة
إصابته بارتفاع ضغط الدم، وحالة مرضه القلبي، وهذه هي أنماط الاعتبارات التي يجب التفكير
بها عند اتخاذ أي قرار سريري يتعلق بالمسنين، وقد أفاد منها بعناية، حكماء الأطباء
في جميع
العصور: كما يجب أن يفعل الشيء نفسه حكماء المرضى!
وسواء كان ذلك نتيجة لعملية النهك والإنهاك، واستنزاف الموارد، أو كان مبرمجًا وراثيًّا،
فلكل حياة مدتها المحدودة، كما أن لكلٍّ من الأنواع الحية حد العمر الأقصى الخاص به.
وبالنسبة للبشر، يبدو أن هذا الحد الأقصى للعمر
(Longevity) يتراوح بين ١٠٠ إلى ١١٠ سنوات تقريبًا،
ويعني ذلك أنه حتى لو كان من الممكن أن نمنع حدوث، أو أن نتمكن من شفاء، جميع الأمراض
التي
تفتك بالبشر قبل أن تفعل ذلك ويلات الشيخوخة، فلن يعيش أحد تقريبًا بعد حياة تمتد
قرنًا
كاملًا من الزمان أو نيف. وبرغم أن صاحب المزامير١ كان يتغنى بأن «أيام حياتنا هي ثلاثة أنشاش وعشر.»٢ إلا أنه يبدو أن أحدًا لا يتذكر أن إشعيا
(Isaiah) كان نبيًّا، كما كان مراقبًا دقيقًا، حيث أعلن
لجميع من يسمعونه أن «الطفل سيموت وعمره مائة عام» وهو يتحدث هنا عن أورشليم القديمة،
حيث
من المفترض ألا تكون هناك وفَيَات في الأطفال ولا أمراض: «لن يكون هناك بعد اليوم
رضيع عمره
أيام، ولا رجل عجوز لم يقض أيامه كلها.»
وإذا كنا سنتنبه لتحذير إشعياء، ونجانب كل مظاهر السلوك التي كان يتبعها مكارتي،
ونقوم
بحل مشكلات الفقر، ونحب جيراننا، فمن يدري وقتها كم سيكون قربنا من التصديق بما جاء
به
الأنبياء؟ وقد قطعت العلوم الطبية الحديثة، وتحسين الظروف المعيشية، شوطًا طويلًا
حتى الآن؛
ففي أقل من قرن واحد، استطاع المجتمع الغربي أن يصل إلى أكثر من مضاعفة العمر المتوقع
للطفل
عند ولادته، فقد غيرنا من وجه الموت. وفي النمط السكاني (الديموغرافي:
Demographic) الغربي، تجد أن غالبية السكان يصلون إلى
العَقد الأول من الشيخوخة على الأقل، ثم يصبح من المحتم علينا أن نموت بفعل واحد من
ويلاتها.
وبالرغم من أن العلوم الطبية الأحيائية قد زادت كثيرًا من «متوسط» العمر المتوقع
لأفراد
الجنس البشري، فإن «الحد الأقصى» للعمر البشري لم يتغير خلال التاريخ البشري المدون،
والذي
يمكن التحقق من صدقه. وفي الدول المتقدمة، لا يعيش سوى واحد من بين عشرة آلاف بعد
سن المائة
عام. وكلما كان من الممكن إجراء دراسة نقدية لادِّعاءات «محطمي الأرقام القياسية»
المزعومين، لم يتم إثبات صدق هذه المزاعم، وبذلك يكون أعلى سن وصل إليها إنسان في
الأزمنة
الحديثة، مما أمكن التحقق منه بصورة لا تقبل الشك، هو ١١٤ سنة. ومن المثير معرفة أن
هذا
الرقم يأتي من اليابان، والتي يعيش مواطنوها أكثر من مواطني أية دولة أخرى، وحيث يبلغ
متوسط
العمر المتوقع للنساء ٨٢٫٥ سنة وللرجال ٧٦٫٢ سنة. وعند مقارنة هذه الأرقام بمقابلاتها
في
الأمريكيين البيض، نجد أن متوسط العمر المتوقع للنساء هو ٧٨٫٦ سنة، و٧١٫٦ سنة للرجال.
وحتى
الزبادي (Yogurt) الأبيض المصنوع منزليًّا، لا يمكنه التغلب
على الطبيعة.
وهناك الكثير من الأدلة الأخرى التي تدعم النظرية القائلة بوجود حد لفترة الحياة خاص
بكل
من الأنواع الحية: ومن أكثر هذه الأدلة وضوحًا، التنوع الهائل في الحد الأقصى للحياة
بين
المجموعات الحيوانية المختلفة، والذي نجده متوافقًا مع فترة الحياة الخاصة بكل نوع
منفرد
منها. ومن الملاحظات البيولوجية الموحية الأخرى، نجد متوسط عدد أفراد الذرية لأيٍّ
من صور
الحياة الحيوانية، والذي ثبت أنه يتناسب عكسيًّا مع الحد الأقصى لحياة ذلك النوع الحيواني
بالذات. فحيوان مثل الإنسان، والذي لا يحتاج فقط إلى فترة حمل طويلة، بل وإلى وقت
طويل
بصورة مفرطة قبل أن يصبح صغاره مستقلين بيولوجيًّا، يتطلب فترة حياة تناسلية مطولة
لكي يضمن
بقاء نوعه، وهذا هو بالضبط ما مُنحناه، فالبشر هم أطول أنواع الثدييات عمرًا.
ولذلك كانت العمليات الشيخوخية مقاوِمة، في حدود ضيقة نسبيًّا، لأيٍّ من التغيرات
المعروفة والمؤكدة في العادات الشخصية، فلماذا إذَن نُصِرُّ على محاولاتنا الماضية
اليائسة
للعيش لما بعد ما هو ممكن؟ ولماذا لا نستطيع إقناع أنفسنا بنمط الطبيعة غير القابلة
للتغيير
بالرغم من أن العقود الأخيرة قد شهدت وصول اهتمامنا بأجسامنا وبطول حياتنا إلى حدة
محمومة
كانت غير معروفة في الأجيال السابقة؟ وقد حفزت مثل هذه المساعي المتفائلة، على الأقل،
بعضًا
من أفراد تلك المجتمعات التي خلَّفت وراءها آثارًا تدل على وجودها. وفي فترة تاريخية
مبكرة،
وتحديدًا في أيام مصر القديمة، كانت هناك أدلة على وجود محاولات من الشيوخ لإطالة
أعمارهم؛
فتحتوي بردية إيبرس (Ebers)، والتي ترجع لأكثر من ٣٥٠٠ سنة
مضت، على وصفة لإعادة الشيخ إلى صباه. وعندما كان العلم موشكًا على بزوغ فجر نوع جديد
من
الطب في القرن السابع عشر، كان هرمان بورهاف (Boerhaave)،
وهو أبرع أطباء عصره، ينصح بأن يحاول الشيخ أن يستعيد صحته بالنوم بين فتاتين عذراوين
شابتين. وقد حملنا التاريخ خلال الفترة الرعوية (Pastoral)
لحليب الأمهات، والعلم الزائف (Pseudoscience) لاستخدام غدد
القرود في محاولة استعادة عصارات الجسم التي أصابها الوهن، أما الآن، فنحن نعيش ما
يمكن
تسميته بعصر الفيتامينات C و
E، ومع ذلك فلم يحدث حتى الآن أن يستعير أي زمن إضافي.
وفي فترة أحدث، كان القليل من الباحثين يخبروننا بأن هُرمون النمو قد يَعِد بزيادة
كتلة
الجسم الرخوة وكثافة العظام. ويصرُّ بعضنا على أن ذلك سيعني إمكانية جعل البشر أصغر
مما هم
عليه في الواقع. ونسمع الآن همهمة قديمة تقول بأن ما يسمى بالعلاج بالجينات
(Gene Therapy) هو الحل، حيث سيضيف قطع وتوصيل الدنا
(DNA) عقودًا من الزمن أو أكثر إلى الحد الأقصى للحياة.
ويحاول العلماء المكتئبون يائسين أن يُقنعوا الصاخبين بأن ذلك ليس حقيقيًّا فقط، بل
وأنه
يجب ألا يكون كذلك. ولم يتم استيعاب الدرس حتى الآن على الإطلاق، إذ سيكون هناك على
الدوام
من يصر على البحث عن نبع الشباب، أو على الأقل محاولة تأجيل ما هو مقدَّر بصورة
حتمية.
وهناك وجه للباطل في كلٍّ من ذلك، وهو ما يُدَنِّينا، أو على أقل القليل، فهو مما
لا
يزيدنا شرفًا. وبعيدًا عن كوننا غير قابلين للاستبدال
(Irreplaceable)، إلا أننا لا بد أن «نستبدل».
ولا تتفق أوهام كف يد الردى مع أهم مصالح نوعنا واستمرار تطور الجنس البشري، وبصورة
أكثر
وضوحًا، فهي لا تتفق وأهم مصالح أطفالنا نحن. وقد قال تنيسون٣ بوضوح: «يجب أن يموت الشيوخ، وإلا سيتعفن العالم، ولن ينجب سوى الماضي مرة
أخرى.»
وترى عينا الشباب على الدوام كل شيء بصورة جديدة، وتعيد اكتشافه مستفيدة من معرفة
ما حدث
من قبل؛ والشباب هم الذين لا يوحَلون في الطرق القديمة لمواجهة تحديات هذا العالم
غير
المثالي، ويتوق كل جيل جديد لإثبات ذاته، وفي محاولته لإثبات ذاته يسعى لتحقيق إنجازات
عظيمة للبشرية. وبين الكائنات الحية يُعَد أسلوب الطبيعة أن تموت وتنسحب من الحياة،
فالشيخوخة هي الاستعداد للرحيل، والتوقف التدريجي للحياة، والذي يجعل نهايتها أكثر
قبولًا؛
ليس فقط بالنسبة للمسنين، ولكن أيضًا بالنسبة لأولئك الذين يتركون العالم في عهدتهم.
ولست أجادل هنا ضد الشيخوخة النشطة والمنتجة، ولست أطالب بالدخول بلطف إلى تلك الليلة
الغائمة التي هي الشيخوخة المبكرة. فحتى يصبح ذلك مستحيلًا، يزيد التدريب العنيف،
لكل من
الجسم والعقل، من قيمة كل لحظة تعيشها، ويمنع حدوث ذلك الانفصال الذي يجعل الكثير
منا يبدون
أكبر مما هم عليه حقيقة. وأتحدث هنا فقط عن ذلك الغرور الذي لا فائدة منه، والذي يشمل
محاولات طمس الحقائق المؤكدة، والتي هي مكونات ضرورية للحالة البشرية. ولا يؤدي الإصرار
على
ذلك إلا إلى تحطيم قلوب من نحب وقلوبنا نحن أيضًا، ناهيك عن الموارد المالية للمجتمع
ككل؛
والتي يجب أن تُنفَق على رعاية الآخرين الذين لم يعيشوا الوقت الممنوح لهم حتى الآن.
وعندما
نتقبل فكرة أن هناك حدودًا واضحة المعالم للحياة، فسنرى أن بالحياة تناظرًا أيضًا؛
فهناك
إطار للعيش تتوافق معه جميع المُتَع والإنجازات والآلام أيضًا. وأولئك الذين يعيشون
بعد
الفترة الطبيعية الممنوحة لهم، يفقدون هيكلهم، ويفقدون معه الحس اللازم بالعَلاقة
مع أولئك
الذين يصغرونهم؛ ولا يحصلون إلا على حنق الشباب الذين يُضيِّقون عليهم في وظائفهم
وفي
مواردهم. وحقيقة أن هناك وقتًا أمثل لفعل الأشياء الناجحة في حياتنا هي ما يخلق العجلة
لفعل
تلك الأشياء، وإلا فقد نركد في تسويف الحقيقة ذاتها؛ وهي أننا، وكما حذَّر الشاعر
خليلته
الغَنِجة، نُحِسُّ فوق ظهورنا دومًا «باقتراب عربة الزمان المجنحة مسرعة نحونا»، وهذه
الحقيقة هي ما يُحسِّن العالم، ويجعل من الزمن سلعة لا تقدَّر بثمن.
وقد كان مؤسس النمط الأدبي الذي نسميه بالمقال — وهو الفرنسي ميشيل دو مونتين
(de Montaigne)، والذي عاش في القرن السادس عشر —
فيلسوفًا اجتماعيًّا يرى الجنس البشري من خلال العدسة الفاحصة للواقع غير المنمق وغير
المتسامح، كما كان يسمع خداعه الذاتي بأذن المتشكك. وقد فكر في الموت طويلًا خلال
سنوات
عمره التسعة والخمسين، كما كتب عن ضرورة قبول جميع أشكاله المتعددة على أنها متساوية
تمامًا
في كونها طبيعية، وقد كتب قائلًا: «إن موتك جزء من نظام الكون، وهو جزء من حياة العالم
…
وهو شرط وجودك.» كما كتب الرجل في مقال يحمل عنوان: «دراسة الفلسفة هي أن تتعلم كيف
تموت»،
قائلًا: «أفسِح مجالًا للآخرين، كما أفسحَ آخرون مجالًا لك.»
وقد آمَن «مونتين»، والذي عاش في تلك الحقبة التي تميزت بعدم الاستقرار وبالعنف، بأن
الموت يكون أيسر ما يمكن بالنسبة لأولئك الذين استغرقوا وقتًا أطول في التفكير به،
كما لو
كانوا يفعلون ذلك استعدادًا لحدوثه الوشيك. وقد كتب أنه بهذه الطريقة وحدها، يمكنك
أن تموت
متقاعدًا وراضيًا «… بصبر وسكينة»، لكونك خبرت الحياة بشمولية أكثر بسبب الإدراك المستمر
بأنها قد تنتهي فجأة، وفي أية لحظة. ومن هذه الفلسفة، ظهرت موعظته التي تقول: «تتكون
فائدة
العيش، ليس من طول أيامه، ولكن من استغلال الوقت؛ فقد يعيش الرجل طويلًا، ولم يعِش
سوى
القليل في الوقت نفسه.»
١
(Psalmist): وهو نبي الله داود عليه السلام.
(المترجم)
٢
النَّشُّ (ج: أنشاش) هو العدد ٢٠، والرقم الكلي هنا هو السبعون. (المترجم)
٣ Tennyson: ألفرد، لورد تنيسون (١٨٠٩–١٨٩٢م) شاعر
إنجليزي، يُعَد أشهر شعراء العصر الفيكتوري. (المترجم)