من الممكن وصف جميع الأمراض تقريبًا من حيث السببية والفعل؛ فالأعراض التي يعرض بها
المريض على طبيبه، والعلامات الجسدية التي تظهر من خلال الفحص، هي الآثار المباشرة
لتغيرات
مرضية شديدة التحديد داخل الخلايا والأنسجة والأعضاء، أو لاضطرابات في العمليات الكيميائية
الحيوية للجسم. وبمجرد التعرف على هذه التحولات المستبطنة، يمكن أن يظهر أنها قد أدَّت
حتمًا إلى حدوث تلك المظاهر السريرية التي تمَّت ملاحظتها. وتتلخص وظيفة العمليات
التشخيصية
في إيجاد السبب، باستخدام تأثيراته كأدلة مساعدة. وعلى سبيل المثال فإن الانسداد الناتج
عن
التصلب العصيدي في الشريان المغذِّي لقسم من عضلة القلب سوف يسبب حدوث الذبحة الصدرية
أو
الاحتشاء، مع الأعراض المرضية المصاحبة لهاتين الحالتين. كما يقلل الورم الذي يُنتج
كَمية
هائلة من الإنسولين، من معدلات الجلوكوز في الدم بصورة خطيرة، مما يمنع التغذية المناسبة
للدماغ، ويؤدي لحدوث الغيبوبة. ويسبب الفيروس الذي يهاجم الخلايا الحركية
(Motor cells) في النخاع الشوكي (Spinal
cord)، حدوث الشلل في تلك العضلات التي ترسل الخلايا المصابة إليها
إشارات عصبية؛ وقد تلتف أُنشوطة من الأمعاء حول شريط من النسيج النَّدَبي الداخلي
الناتج عن
عملية جراحية، فيسبب الانسداد المعوي الناتج حدوث الانتفاخ، والقيء، والجفاف، واضطرابات
كيميائية في الدم، والتي قد تتسبب بدورها في حدوث لانظمية القلب، وتملأ الزائدة الدودية
المنفجرة تجويف البطن بالقيح، ويغمر الالتهاب الصِّفاقي
(Peritonitis) الناتج تيار الدم بالجراثيم التي تسبب
الحمى المرتفعة، والإنتان، والصدمة. وتمتد قائمة مثل هذه الأمثلة إلى ما لا نهاية،
وهي
المادة الرئيسية للكتب الدراسية الطبية.
ويحضر المريض إلى طبيبه بواحدة أو أكثر من العلامات أو الأعراض المرضية مثل الذبحة
الصدرية، أو الغيبوبة، أو ساقين مشلولتين، أو قيء متواصل مع بطن متورمة، أو حُمَّى
مصحوبة
بألم في البطن. وهنا يبدأ عمل التحري، ويرجع الطبيب إلى سلسلة الأحداث التي أدَّت
إلى هذه
المجموعة الملاحظة من الأعراض وغيرها من الموجودات السريرية عندما يستخدم اصطلاح
الفيزيولوجية المرضية (Pathophysiology).
والفيزيولوجية المرضية هي مفتاح المرض. ولهذه الكلمة — بالنسبة للطبيب — دلالات خاصة
تحمل
كلًّا من فلسفة وجماليات الشعر، وليس من المستغرب هنا أن نجد لجزء من الأصل اليوناني
للكلمة: «physiologia»،
معنًى فلسفيًّا وشعريًّا، وهو «استقراء طبيعة الأشياء»، وعندما نضيف إليها النصف الثاني:
«pathos»،
بمعنى «العذاب» أو «المرض»، نحصل على تعبير أدبي عن رُوح الهدف المنشود للطبيب، وهو
استقصاء
طبيعة العذاب والمرض الذي يصيب البشر.
وتصبح مهمة الطبيب هي التعرف على السبب المحرِّض للمرض، بتتبُّع الماضي من خلال تسلسل
الأحداث حتى يجد المسبب الحقيقي، سواء كان ذلك ميكروبيًّا أو هُرمونيًّا، كيميائيًّا
أو
ميكانيكيًّا، وراثيًّا أو بيئيًّا، خبيثًا أو حميدًا، ولاديًّا أو مكتسبًا للتو. ويتم
الاستقصاء عن طريق تتبُّع الأدلة المتبقية في التلف الذي يمكن التعرف عليه، والذي
يُحدثه
الجاني في الجسم، وهنا يُعاد تمثيل الجريمة، ويتم وضع خطة للعلاج تخلص المريض من تأثير
مسبب
المرض.
وهكذا — وبصورةٍ ما — يكون كل طبيب اختصاصيًّا بالفيزيولوجية المرضية، ومحققًا يتعرف
على
المرض من خلال تتبُّع أصول أعراضه. وبعد أن يتم ذلك، يمكن اختيار لون العلاج المناسب.
وسواء
كان الهدف هو استئصال المراضة، أو تدميرها عن طريق العقاقير أو الأشعة السينية، أو
مواجهتها
بواسطة الترياقات (Antidotes)، أو تقوية العضو الذي تهاجمه،
أو قتل الجراثيم المسببة لها، أو — ببساطة — بتعطيل فعلها حتى تستطيع دفاعات الجسم
ذاتها أن
تقهرها؛ فيجب إعداد خطة للعمل ضد كل مرض، إذا أردنا أن نُتيح للمريض أية فرصة للتغلب
عليه.
وعندما ينهمك الطبيب في الهجوم، مجاهدًا للحيلولة دون وفاة مريضه، تكون معرفته بالسببية
والفعل هي الترسانة التي يلجأ إليها لمساعدته في اختيار أسلحته.
وتتلخص نتائج الأبحاث الكيميائية الحيوية للقرن الماضي في أن الفيزيولوجية المرضية
للغالبية العظمى من الأمراض قد أصبحت معروفة تمامًا، أو على الأقل أنها باتت معروفة
بدرجة
جيدة تجعل من الممكن إيجاد علاج فعَّال ضدها. وتبقى بعض الأمراض التي لا تزال فيها
العَلاقة
بين السببية والفعل أقل تحديدًا مما كنا نأمل فيه، ويصنَّف القليل من هذه الأمراض
ضمن أكبر
جائحات عصرنا الحاضر. والمرض الذي نسميه اليوم «بالخرف الشيخوخي من نوع ألزهايمر»،
لا
يصنَّف فقط ضمن هذه المجموعة، بل ويحمل التنغيص الإضافي بأن السبب الرئيسي لحدوثه
ظل يخدع
العلماء منذ أن تنبه المجتمع الطبي للمشكلة في عام ١٩٠٧م.
والمراضة الرئيسية في مرض ألزهايمر هي التنكس
(Degeneration) المُطَّرِد، والفقد لعدد هائل من
الخلايا العصبية في تلك المناطق من القشرة المخية المرتبطة بما يُعرَف بالوظائف العليا:
مثل
الذاكرة والتعلم والحُكم على الأمور. وتتناسب شدة وطبيعة الخَرَف
(Dementia) الذي يعاني منه المريض في أي وقت محدد، مع
عدد وموضع الخلايا العصبية التي أصابها المرض: ويكفي تناقص عدد الخلايا العصبية في
حد ذاته
لتفسير فقدان الذاكرة وبقية الإعاقات الاستعرافية
(Cognitive)، لكنَّ هناك عاملًا آخر يبدو أنه يلعب
دورًا مماثلًا، وهو بالتحديد وجود تناقص ملحوظ في الأستيل كولين (Acetyl
Choline)، وهو المركب الكيميائي الذي تستخدمه تلك الخلايا في نقل
الإشارات العصبية. وهذه هي العناصر الأساسية فيما هو معروف عن مرض ألزهايمر، لكنها
قليلة
جدًّا لدرجة أنها لا تكفي لتوفير رابطة مباشرة بين الموجودات التركيبية والكيميائية
من جهة،
وبين العلامات المحددة التي قد تظهر على المريض في أية لحظة بعينها من الجهة الأخرى.
ولا
تزال كثير من تفاصيل الفيزيولوجية المرضية للمرض تخدع أفضل الجهود الحثيثة للعلوم
الطبية
وتطرحها أرضًا.
وليس للعلامات المتتابعة في تلك القوائم الطويلة للأسباب، والآثار، والمعالجات التي
ظهرت
في المقاطع السابقة، أي تناظر (Analogy) مع الوضع الحالي
لمعرفتنا (أو جهلنا) بمرض ألزهايمر؛ فلسنا نعرف ذرَّة عما يمكن أن يشفي المرض، أكثر
مما
نعرفه عما يسببه.
ونتيجةً لذلك، وفي سياق عرضنا للكيفية التي يقتل بها مرض ألزهايمر ضحاياه، فلن يكون
من
الممكن أن نتوقف هنا وهناك أثناء روايتنا للمسار المنحدر الذي يربط بين أعراض مرضية
بعينها،
وبين مراحل الفيزيولوجية المرضية التي هي علامات دالة على وجودها. فستكون مثل هذه
الاستطرادات التوضيحية غير كافية ومحيِّرة في الوقت نفسه، لكن هناك بعض الأمور المثيرة
للاهتمام «سيكون» بوسعها التوضيح، وسنعرضها هنا في قائمة أخرى؛ «فسيكون» من الممكن
أن
نستخدم التطور التاريخي المتدرج لمعرفتنا الحالية بالمرض بطريقة يمكن معها جعل الأوجه
التي
كثيرًا ما تكون غامضة لوظائف الدماغ المضطربة، أكثر قابلية للفهم؛ و«سيكون» من الممكن
التأريخ للملحمة العاطفية التي نجدها لدى عائلات الضحايا؛ و«سيكون» من الممكن معرفة
ما يحدث
للشخص المصاب، وكيف يمكن أن يموت أو تموت.
«لقد بلغ كل شيء ذروته قبل عشرة أيام فقط من عيد زواجنا الخمسين …» كانت جانيت وايتنج
(Whiting) تتذكر تلك السنوات الست المريرة لانحدار
زوجها المأسوي إلى المراحل النهائية لمرض ألزهايمر. كنت قد عرَفت جانيت وزوجها، فيل
(Phil)، منذ سنوات صباي: كانا زوجين شابين جذابين
للغاية عندما زارت أسرتي للمرة الأولى شقتهما في أواخر الثلاثينيات؛ كان في الثانية
والعشرين، بينما كانت هي في العشرين من عمرها. ومقارنةً بوالديَّ المهاجرين، واللذَين
كانا
يستقرَّان بوقار في الأربعينيات من عمريهما، كان آل وايتنج يبدوان كأنهما زوجان من
نجوم
السينما، أي زوجان شابان كانا من صغر السن بحيث لا يسعهما في هذه الشقة التي يقطناها
سوى
اللهو.
ولست أشك في الإعجاب الذي كان كلٌّ من جانيت وفيل يكنه للآخر، لكني شككت في احتمالية
أن
يكون اثنان تمتلئ حياتهما المشتركة بهذا القدر من المرح متزوجين بالفعل. كنت على يقين
من
أنهما يحاولان تجرِبة ذلك؛ فقد كنت أعرف من ملاحظاتي الشخصية أن الأزواج لا يتصرفون
هكذا.
وإذا توقع آل وايتنج أن تنجح حياتهما معًا، لكان عليهما ببساطة أن يكفَّا عن التظاهر
بأن
كلًّا منهما مغرم بالآخر لحد الجنون.
ولكنهما لم يُقدِما على ذلك، لدرجة كبيرة. وقد حافظ ذلك الزواج على مشاركة معينة من
النوع
الرقيق، تعلمت باطراد أن أقدِّرها عندما بلغت من السن ما يكفيني لكي أعرف شيئًا عما
تعنيه
العَلاقة بين الرجل والمرأة؛ فحتى التعبيرات الإيثارية الواضحة عن الحب لم تختفِ من
حياتهما
على الإطلاق. وبمرور السنين، كان عمل فيل في تجارة العقارات قد ازدهر، وقد استبدل
بشقته في
حي برونكس بعد حين منزلًا جميلًا في مدينة وست بورت بولاية كونكتيكت، حيث تَربَّى
أولادهما
الثلاثة. وبعد أن كبِر الأبناء، انتقل فيل وجانيت إلى منزل فاخر مكون من طابقين في
مدينة
ستراتفورد. وعندما تقاعد فيل من عمله المتفرغ في سن الرابعة والستين، كان الأولاد
قد
استقلوا بحياتهم بنجاح منذ زمن بعيد، وكان هناك الكثير من المال، كما كان المستقبل
يبدو
آمنًا.
وبعد عقود عديدة من الزمن لم ألتق خلالها بآل وايتنج بين أوائل العشرينيات والأربعينيات
من عمري، التقى طريقي بطريقهما مرة أخرى في عام ١٩٧٨م، عندما كانا يقيمان في منزلهما
الفاخر
الذي لا يبعد كثيرًا عن مسكني قرب مدينة نيو هافن. وقد كان قضاء ليلة مع هذين الزوجين
طيِّبَي القلب بالنسبة لي يعني الإعجاب باستقرار عَلاقتهما وبالاحترام الرقيق الذي
كان
متضمَّنًا حتى في أبسط الإشارات المتبادلة بينهما: كان اتحادهما قد حقق أكثر من مجرد
تحقيق
الوعود التي قطعاها على نفسيهما خلال أشهر الزواج الأولى. وعندما تقاعد فيل كلية في
نهاية
الأمر، ثم انتقل مع زوجته جانيت للإقامة بصورة دائمة في ديلري بيتش بولاية فلوريدا،
أحسست
وزوجتي بلوعة فراق صديقين حميمين. أما ما لم نكن نعرفه فهو أن أشياء صغيرة عجيبة كانت
قد
بدأت تحدث بينهما.
وحتى قبل انتقالهما، كان فيل — الذي استوعب عقله الذكي قراءة الكتب الثقافية في كلٍّ
من
لحظات فراغه — قد توقف عن القراءة كلية، ولم يبدُ ذلك غريبًا بالنسبة لجانيت إلا فيما
بعد،
ولم تدرك إلا بعد مرور سنوات عديدة، لماذا كان فيل يصر على أن تنظم يومها بحيث لا
يبتعد عن
رفقتها على الإطلاق، وقد كان يتمتم قائلًا: «لم أتقاعد لكي أبقى وحيدًا»، عندما تكون
متجهة
لقضاء أمسية في المدينة. وخلال حياته السابقة، كانت نوبات الغضب نادرة بالنسبة له،
أما الآن
فقد أصبحت أكثر حدوثًا، كما تحولت إلى نوبات كاملة من الثورة العارمة خلال أواخر سنواتهم
في
ستراتفورد؛ كان فيل يجد أسبابًا، بصورة متزايدة، لانتقاد ابنته نانسي، بحيث كانت زياراتها
للمنزل غالبًا ما تنتهي بالبكاء قبل عودتها بالقطار إلى شقتها في مدينة نيويورك. وبعد
الانتقال إلى فلوريدا، حدثت نوبات متزايدة وغير مفسَّرة من اختلاط الذهن
(Confusion)، كان فيل يستجيب لها بإنكار وغضب كما لو
كان هناك دائمًا شخص آخر يلقي عليه باللوم. وقد ذهب، على سبيل المثال، غير مرة إلى
المتجر
الخطأ لقص شعره، ثم يوبخ الحلاق البريء بسبب إهماله المدعى للموعد الذي كان قد حدده
مسبقًا
في مكان آخر. وفي إحدى المرات، هدد فيل بضرب قائد سيارة مذهول في إحدى محطات تموين
الوقود؛
بسبب أن ذلك الشخص كان بصدد استخدام أنبوب وقود مجاور، وقد حدث ذلك من رجل لم يرفع
قبضته
بغضب في حياته من قبل.
وقد ظهر في النهاية أول الأدلة الكبرى على أن هذه التدهورات الجديدة لم تكن مجرد
شذوذات
متردية لموظف عجوز غير مستريح في تقاعده. وذات مساء، دعت جانيت على العشاء زوجين لم
تكن
رأتهما هي وفيل منذ سنوات بعيدة، وهما روث وهنري وارنر. كان فيل دائمًا مضيفًا كريمًا،
فخورًا بمائدة زوجته وبمعرفته الواسعة بصنوف الشراب. ولكون جسده قد امتلأ نوعًا ما
في
شبابه، فقد تعلم ارتداء حزام البطن (Girth) جيدًا، بحيث كان
بطنه الكبير وابتسامته العريضة يُشيعان جوًّا من السعادة المرحة التي كانت تفيض بنوع
من
الكرم الفياض لرُوحه من الداخل. كان فيل رجلًا من السهل أن تحبه، كما كان يعرف كيف
يوسع من
جو الطيبة المريح الذي كان يشيعه وجوده ذاته: ففي بيته أو خارجه — إذ لم يكن ذلك يمثل
أي
فارق بالنسبة له — كانت أمنية فيل الوحيدة هي إسعاد جميع من حوله.
وهكذا، فخلال ذلك العشاء، كان طعام جانيت شهيًّا كالعادة، كما كان الشراب قد اختِير
من
قِبل فيل بعناية خبير، وقد كان حديثهم على المائدة يتراوح بين الحدة واللطافة، وقد
كانت
الليلة مغلفة بغِلالة دافئة من المتعة الخالصة التي كانت معتادة بالنسبة لزياراتك
إلى منزل
آل وايتنج. وقد قال آل وارنر إنهما كانا يذكران جيدًا تلك الأمسيات السعيدة التي أمضياها
في
الأيام الخوالي في الجو الدافئ لهذا الشعور الطيب.
وفي الصباح التالي، لم يكن فيل قادرًا على تذكُّر شيء مما حدث؛ فلم يكن مدركًا أنه
قد
التقى بآل وارنر، ولم يكن هناك قدر من التفسير قادر على إقناعه بأنهم قد زاروا منزله.
وتقول
جانيت إن ذلك أفزعها، وقد كان عقلها يبحث حتى تلك اللحظة عن تبريرات لتفسير التغيرات
التي
لا يمكن إنكارها في السلوك الحديث لزوجها. ومع ذلك، وحتى عند نقطة اللاعودة التي بدت
لها
خلال ذلك الصباح، فقد حاولت أن تفسر آخر تلك النوبات الهادرة التي كانت تلاحظها دومًا،
بقولها: «لقد فكرت في أنني أحيانًا ما أنسى بعض الأمور بدوري، وربما كان سيحدثني عن
تلك
الأمور لاحقًا.» كانت تحاول يائسة أن تشيح بوجهها من الرعب البواح للأفكار التي كانت
تتقافز
في رأسها لإدراكها بأنها موشكة على إقناع نفسها بعدم أهمية زلة زوجها الأخيرة.
ولكن البنيان الدفاعي الهش لجانيت انهزم، بعد عدة أسابيع، بفعل عَرْض لا يقبل الجدل
فرض
نفسه بتركيز شديد على خط رؤيتها المباشرة، رافضًا أن يتشتت — أو حتى أن يقلل من حدته
— تحت
تأثير قُوى تبريرها الخائرة. وفي إحدى الأمسيات، وعند عودتها بعد غيبة استمرت لعدة
ساعات عن
البيت، وجدت نفسها في مواجهة زوجها الثائر، الذي اتهمها غاضبًا بأنها كانت ذاهبة للقاء
عشيقها، وقد كان الأمر الأكثر إحباطًا من ذلك الاتهام ذاته هو هوية ذلك «العشيق» المزعوم،
وهو ابن عم لفيل كان قد توفي منذ سنوات طويلة. وتتذكر ذلك جانيت بقولها: «في ذلك الوقت،
لم
أكن أعرف حتى ماذا يعني مرض ألزهايمر، لم أكن أعرف سوى أنني خائفة، كان هناك شيء بشع
يحدث
لفيل، ولم يكن بوسعي تجاهله أو أن أجد له المبررات بعد الآن.»
ومع ذلك، وكأنما سيعني اتخاذ فعل ما تأكيد ما هو محتم، فقد ترددت جانيت في طلب التأكيد
الطبي لحالة زوجها، وربما كانت باقية على أملها في أن يكون زوجها قد تعرض ببساطة لبعض
الاضطرابات العاطفية العابرة، أو أن نوبات السلوك غير المقبول التي كانت تصيبه لن
تتطور إلى
الأسوأ، أو أنها قد تختفي كلية بمرور الفترة اللازمة للشفاء؛ فقد كانت هذه النوبات،
على أية
حال، قصيرة الأمد، بالإضافة لكونه لا يذكرها، وبمجرد أن تنقضي، كان فيل يبدو غير مدرك
تمامًا لما قاله أو فعله. وعندما تفكر جانيت بذلك، حتى في يومنا هذا، فهي لا تتذكر
تلك
الأكاذيب الصغيرة الكثيرة التي خدعت بها نفسها لتهدئة القلق المتزايد، والذي كان مصاحبًا
لها على الدوام، وفي الوقت نفسه لتأجيل الإعلان الرسمي عن أن حالة زوجها كان ميئوسًا
منها.
وفي نهاية الأمر، أصبح من المستحيل الاستمرار في صرف أفكارها عن تفكُّك عقل زوجها،
والذي
بات يصحو من نومه بتكرارية متزايدة — في منتصف الليل — صارخًا فيها لكي تبتعد عن فراشهما،
وقد كان يقول لها متسائلًا: «ماذا تفعلين هنا؟ منذ متى والأخت تنام في فراش أخيها؟»
وفي كل
مرة، كانت جانيت تنفذ طلبه بأناة وتتركه يتخبط في غضبه، في حين تظل هي مستيقظة لبقية
الليل
على أريكة غرفة المعيشة، أما هو، فقد كان يعود سريعًا إلى نومه الهادئ، ثم يصحو في
الصباح
التالي غير متذكر لتلك النوبة التي ألمَّت به على الإطلاق.
وقد وصلا في النهاية إلى تلك النقطة التي لا يمكن فيها تأجيل تلك اللحظة الحاسمة؛
ففي أحد
الأيام، وبعد نحو سنتين من حادثة آل وارنر، استخدمت جانيت حيلة منسية الآن لإقناع
زوجها
بزيارة طبيبه، بعد أن أقنعت «نفسها» بذلك في النهاية، وبعد أن أخذ الطبيب منه تاريخًا
مرضيًّا مفصلًا، وبعد الفحص الجسدي، خرج الطبيب من غرفة الفحص وأعلن اسم المرض الذي
أصاب
فيل. وفي ذلك الوقت، كانت جانيت قد ألِفت بعض الشيء خصائص مرض ألزهايمر، ولكن حتى
توقُّعها
للتشخيص لم يخفف من إحساسها بالصدمة، أو شعورها بالنهاية المحتومة لزوجها عندما سمعت
تلك
الكلمات وقد قررت هي والطبيب ألا يخبرا فيل بالأمر، إلا إن الأمر لم يكن ليختلف على
الإطلاق
لو كانا أخبراه؛ فقد كان في ذلك الوقت قد تخطى بالفعل كل شيء فيما عدا فهم مؤقت لمضامين
مثل
هذا التشخيص، كما لم تكن لديه القدرة على بذل أية محاولة لوصفه. وفي خلال دقائق من
استماعه
إليهما، كان سيصبح غير واعٍ بحالته الذهنية كما لو كانا لم يتحدثا على الإطلاق. وفي
واقع
الأمر أنه بعد ذلك بعدة أشهر، أبلغته جانيت بالأمر. وعندما أصبحت نوباته اللاعقلانية
أكثر
تكرارية، وزلات ذاكرته أكثر طولًا، كانت جانيت تفشل أحيانًا في السيطرة على نفاد صبرها؛
بَيد أنها كانت تُحِس بفيض فوري من الخزي يعتريها عندما كانت تعامل ذلك الرجل الطيب
بنوبة
متسرعة من الغضب، أو حتى بكلمة حادة. وفي إحدى المرات، وبعد جدال مضجر بشكل خاص، صاحت
فيه
قائلة: «ألا ترى ما الذي أصابك؟ ألا تدرك أنك مصاب بمرض ألزهايمر؟» وعند وصفها لنوبة
الغضب
تلك، قالت لي: «لقد أحسست بشعور فظيع في اللحظة التي خرجَتْ فيها تلك الكلمات من شفتَيَّ.»
إلا إن حزنها لم يكن ضروريًّا؛ فقد كان الأمر بالنسبة له كما لو كانت تُحدِّثه عن
حالة
الجو، فلم يكن فيل وايتنج واعيًا بمأساته أكثر مما كان عليه قبل أن تتفوَّه ببنت شفة.
وعندما يتعلق الأمر به، نجد أنه لم يتعرض لشيء سيئ؛ إذ لم يكن قادرًا حتى على تذكُّر
نسيانه. وبالنسبة لأي شخص تعرف عليه بصورة عابرة، كان فيل وايتنج العجوز الطيب الذي
عرَفه
في السابق، وهذا بالتحديد ما كان يعتقده هو نفسه. وقد فعلت جانيت ما كان سيفعله أي
إنسان
وُضع في مثل موقفها المأسوي، فقد بدأت في البحث عن الكتب التي تساعدها في فهم طبيعة
الحالة
العقلية للمصابين بمرض ألزهايمر. كانت هناك بعض الكتب الجيدة، لكن أفضلها على الإطلاق
هو
الكتاب المسمى صدقًا ﺑ «اليوم ذو الساعات الست والثلاثين»، وفي ذلك الكتاب وجدت جانيت
تعليقات تؤكد ما قاله لها الطبيب منذ أيام، مثل: «ذلك المرض بطيء بطبيعته، إلا إنه
متطور
بصورة لا هوادة فيها» و«غالبًا ما يؤدي مرض ألزهايمر إلى الوفاة في غضون سبع إلى عشر
سنوات،
لكنه قد يتطور بصورة أسرع (من ثلاث إلى أربع سنوات) أو أبطأ (قد تمتد إلى خمس عشرة
سنة).»
وعندما تساءلت عما إذا كانت لا تشهد ببساطة أعراض الشيخوخة الطبيعية، وصلت جانيت إلى
هذه
الجملة: «إن الخرف ليس هو النتيجة الطبيعية للشيخوخة.»
وهكذا، فقد عرَفَت جانيت سريعًا أن ذلك كان مرضًا حقيقيًّا يجب عليها مواجهته، وأنه
يحمل
معه التأكيد الذي لا يقبل الشك بحدوث التدهور والوفاة. وقد تعلمَتْ من كتاب «اليوم
ذو
الساعات الست والثلاثين» وغيره من الكتب معرفة التغيرات الجسمانية والعاطفية التي
قد تتوقع
حدوثها لزوجها، إضافة إلى تعلمها تلميحات هامة عن رعايته، ورعاية نفسها أيضًا، خلال
تلك
السنوات التي بدا مؤكَّدًا أنها ستكون مليئة بالأوقات العصيبة وبالعذاب. ولكنها، في
نهاية
الأمر، وجدت أن «هذه مجرد كلمات؛ فهي لا تنفذ إلى الواقع بالفعل، فما يجعلك قادرًا
على فعل
ذلك هو ما يكنُّه قلبك.» وبغض النظر عن الحد الذي بلغته في قراءاتها، وبغض النظر عن
الكيفية
التي حاولت بها أن تُعِد نفسها لاحتمال حدوث ما ذُكر صراحة في كتاب «اليوم ذو الساعات
الست
والثلاثين» من أنه «أحيانًا ما قد يُقْدم ضحايا الأمراض المسببة للخرف على قذف الأشياء
المحيطة بهم [أو] على ضربك.» ولم يكن بوسعها على الإطلاق أن تتوقع سلسلة الأحداث التي
أفلتت
الأمور من يديها في إحدى ليالي شهر مارس من عام ١٩٨٧م، بعد عام كامل من الرعاية المتفانية
لزوجها. كانت تلك الليلة، حسب قولها: «قبل عشرة أيام تمامًا من الذكرى الخمسين لزواجنا،
بلغ
كل شيء ذروته.» وما يلي هو وصفها لذلك الموقف بعد مُضِيِّ خمس سنوات:
لم يكن يعرف من أنا؛ فقد كان يظن أنني قد تسللت إلى المنزل، وأنني كنت أسرق
حاجيات جانيت. ثم بدأ يدفعني بعنف، ويقذفني بأشياء مختلفة. وقد حطم بعض مقتنياتي
الأثرية لأنه لم يكن يعرف ما هي، ثم قال لي إنه سيتصل بابنتنا — نانسي — ليخبرها
بما كان يجري … وقد اتصل بها، وقد عرَفتْ على الفور ماذا كان يجري؛ فقالت له: «دعني
أتحدث إلى تلك المرأة»، فدفع إليَّ بسماعة الهاتف قائلًا: «هاكِ … ستتحدث إليك
ابنتي، وستخبرك بأن تغادري المنزل على الفور!». وعندما تناولتُ السماعة، قالت لي
نانسي: «أمي، اتركي المنزل على الفور، وسأتصل بالشرطة.» وعندما أغلقت الخط، أمسك
فيل بالسماعة، واتصل بدوره بالشرطة المحلية. وقد بقيت في المنزل بغباء، فبدأ يدفعني
مجددًا، لذا فقد اتصلت بالشرطة بدوري … تصور أن ثلاث سيارات للشرطة قد ظهرت في
الوقت نفسه، وقد كنت في حرج شديد! وقد حضر رجال الشرطة وحاولت أن أشرح الموقف لهم،
لكن فيل قال: «هذه ليست زوجتي، تعالَوا معي، وسأريكم صورة زوجتي.» وبعد ذلك اصطحب
أحد رجال الشرطة إلى غرفة النوم ليريه صورة زفافنا، وقد قال الشرطي بطبيعة الحال،
بعد أن رأى الصورة: «تبدو هذه العروس مثل زوجتك الواقفة هنا»، إلا إن فيل أصرَّ
على
قوله: «إنها ليست زوجتي!»
وفي الوقت نفسه حضرت إحدى جاراتنا، وتعرَّف عليها؛ وعندما رأت ما كان يجري، تحدثت
إليه برقة بالغة قائلة: «فيل، أنت تعلم أنني أحبك وأنني لن أكذبك القول: هذه المرأة
هي جانيت، التفت حولك وستراها.» وهكذا، فقد التفت حوله ونظر إليَّ، كما لو كان
يراني لأول مرة وقال: «جانيت! حمدًا لله أنك هنا! فقد كانت هناك امرأة تحاول سرقة
ملابسك.» وهكذا كان الأمر.
وقد اقتاد أحد الضباط فيل إلى سيارته. وعندما سأل فيل: «سيظنون أنك تقبض عليَّ»، أجيب:
«كلا، فهم سيظنون أنك تصطحب صديقًا في نزهة بالسيارة.» وقد بدا على فيل الاقتناع بمثل
هذا
التفسير الساذج. وقد تم اصطحابه إلى مستشفًى قريب، حيث ظل حتى يمكن حجز مكان له في
إحدى دور
الرعاية الخاصة.
طارت نانسي عائدة إلى المدينة لتكون بجوار والدتها، وقد كانتا تزوران المستشفى يوميًّا.
وقد اندهشتا في البداية من السهولة التي اعتاد بها فيل على النظام المتبع في عنابر
المستشفى، لكنهما عرَفتا بعد ذلك أنه لم يكن يدري أين هو حقيقة. «كان يُعرِّفنا على
أفراد
هيئة التمريض في مكتب العنبر، وهو يقول لنا إنهن سكرتيراته، وأن المستشفى هو فندق
يديره
بنفسه.» وقد كان يتعرف دائمًا على جانيت، لكنها كانت لا بد أن تخبره في كل مرة بأن
المرأة
الشابة المرافقة لها هي ابنته. وبمرور الوقت، بدأ يفكر في أن جانيت هي خليلته، وفي
النهاية
لم تكن لديه أدنى فكرة عمن تكون. وفي خلال أسبوع، تم إيجاد دار مناسبة للمسنين، وقد
تم نقل
فيل إليها. وبعد ذلك بأيام، قضت جانيت يوم احتفالها بالذكرى الخمسين لزواجهما هناك،
بجوار
رجل كان يدرك أحيانًا لماذا هي هناك وأحيانًا ما لا يدري لذلك سببًا. وبالنسبة للحالة
الحقيقية لعقله الذي أصابه الخرف، وبالنسبة للمأساة التي جرَّ إليها أسرته، فقد كان
غير
واعٍ تمامًا.
وخلال العامين ونصف العام التاليين، قضت جانيت معظم أوقاتها من كل يوم مع زوجها، باستثناء
فترات قصيرة من الراحة كان يصر عليها أولادهما الذين كانوا يُحِسون بإرهاقها المزمن،
لذا
فقد كانوا يعرفون متى تحتاج محنتها لأن تتغير قليلًا. وحتى لحظات حنقها لم تَفُتْهم،
لكنهم
كانوا يتفهمون تلك اللحظات أيضًا؛ لذا فقد كانوا يسامحونها بأريحية أكثر مما كانت
تسامح
نفسها. وبصرف النظر عن التفاني الذي اشتملت عليه رعايتها له، فقد كان حبيبها وأفضل
أصدقائها
قد هجرها لينحدر إلى الوحل وهو غير مدرك تمامًا.
وقد تطوعت جانيت للعمل في قسم العلاج الطبيعي، وقد شاركت لفترة قصيرة في أنشطة مجموعة
دعم
(Support Group) لأسر المصابين بمرض ألزهايمر؛ لكن
مجموعات الدعم لا تستطيع سوى تحمُّل جزء ضئيل من ذلك الحمل الذي يُثقل كاهل كل
إنسان.
وخلال فترة قصيرة، أدركت جانيت أن كلًّا من ضحايا الخرف الشيخوخي يفرض أسلوبه الفريد
من
الألم على أولئك الذين يحبونه، وأنه لا بد من وجود نوع فريد من الاستجابة لبقاء كل
فرد معذب
منفرد. وقد وجد الأبناء الثلاثة أنه من المستحيل عليهم أن يشهدوا عملية تدمير والدهم
المحبوب، وقد كان ذلك شيئًا حسنًا، فقد أغاثوا رُوح والدتهم، مستشعرين أنها كانت توفر
الزاد
العاطفي اللازم لتنفيذ المهام التي كانوا يعرفون أنه يتوجب عليها تأديتها.
وقد استجمع الابن الأصغر، جويي، بصورةٍ ما، القوة اللازمة لزيارة أبيه مرتين خلال
فترة
سجنه الطويل، إلا إن أباه لم يتعرف عليه ولم يتذكره. وقد سببت له زيارته تلك قدرًا
لا يُطاق
من الاضطراب، في الحين الذي لم تُفد فيه أباه على الإطلاق. أما ما أفاد والدته — وهو
العون
الحقيقي الذي كانت في أمسِّ الحاجة إليه — فهو التيقن من أن العون إنما يأتي من أفراد
الأسرة الواحدة، وليس من جماعات الدعم، ولا من الكتب، بل من خلال التفاني المتواصل
لأفراد
الأسرة وأولئك الأصدقاء القلائل الذين يستمد ولاؤهم جذوره من الحب.
«إن ما تُكِنُّه في قلبك هو ما يُمكِّنك من فعل ذلك.» فما كانت تُكنُّه جانيت في قلبها
هو
ما يجعلها تفعل من أجل زوجها أشياء لا يستطيع أن يفعلها سواها؛ لا الممرضة ولا الطبيب،
ولا
الاختصاصي الاجتماعي. وسواء تعرَّف الرجل عليها أم لا — وقد أصبح، بمرور الوقت، غير
مدرك
لوجودها على الإطلاق — فقد كان هناك شيء لا يمكن استعادته تقريبًا بداخله، هو ما يحفظ
عليه
فهمه الضئيل والقاصي؛ إذ إنها كانت تمثل واحة للأمان والثقة والاعتمادية وسط جو محيط
لا
يمكن السيطرة عليه ولا معنى له بدونها. «عندما كان يراني مقبلة نحوه، كان يلوح لي
بذراعه،
لكنه لم يكن يعرف من أكون؛ فلم يكن يدرك سوى أنني مجرد شخص كان يأتي لرؤيته وللجلوس
معه.»
في بداية الأمر، كانت صدمة ملاحظة تدهور فيل المستمر بصورة يومية تصيب جانيت بالرعب،
إلا
إنها استطاعت أن تحتفظ بهدوئها عندما كانت معه بالفعل، برغم أن ذلك لم يكن يحدث دائمًا:
«في
بعض الأحيان، خلال ذلك العام الأول لمرضه في دار الرعاية، كنت أشعر بالتمزق؛ لذا فقد
كانوا
يصطحبونني إلى إحدى الغرف للحديث معي، حتى أشعر بتحسن طفيف في قدرتي على التحمل، إلا
أنني
في كل ليلة كنت أتوجه إلى المنزل وتعتريني نوبات هستيرية.» وقد أصبحَتْ، بالتدريج،
معتادة
بالكاد على التدهور المستمر لزوجها؛ إلا أنها أدركت مدى صعوبة الأمر بالنسبة لغيرها
ممن
يقومون برعايته. وقد أرادت أيضًا أن تقوم بحمايته، كما أرادت أن يذكره الناس بتلك
الصورة
التي كان عليها من قبل، كرجل ذي نوايا حسنة نابضة بالحياة، كان يعيش ليس فقط بعزة
نفس، بل
بحس التميز الذي ينفرد به. «لم أكن أسمح لأصدقائنا بزيارته في دار الرعاية؛ فلم أكن
أريدهم
أن يروه على هذه الحال.»
وفي دار الرعاية، كان سير مرض فيل هو ما تصفه الكتب الدراسية الطبية تمامًا: «بطيء
التطور، لكنه يتطور بصورة لا هوادة فيها.» فقد احتفظ في بداية الأمر ببعض من طبيعته
الطيبة
الألوفة، فيما يبدو بسبب اعتقاده بأنه كان مضيفًا لمجموعة من البسطاء الذين كان مسئولًا
عن
سعادتهم؛ فقد كان ينتقل من مريض لآخر، مرتديًا ملابسه الكاملة، مستفسرًا عن أحوال
كلٍّ منهم
بطيبة قلب متميزة: «وكيف حالك اليوم؟ أتمنى أن تكون على ما يرام.» وفي بعض الأحيان،
عندما
تنشغل عنه جانيت أو الممرضة لبرهة وجيزة، كان يدفع الكرسي المتحرك لمريض أو مريضة
حتى
البوابة الأمامية للمبنى، كما لو كان يصطحبه في نزهة. وعند ذلك يكون لزامًا أن تجده
في
مكانٍ ما من الشوارع المحيطة، وهو يدفع مريضه المستكين بسعادة، غير مدرك للاضطراب
الذي
يسببه لكل من حركة المرور والمشاة.
وقد اكتسب فيل، خلال المراحل المتوسطة من مرضه، قدرًا ملحوظًا من عدم التوافق
(Incongruity) بين الأفكار التي بدا أنه يحاول التعبير
عنها وبين الكلمات التي كانت تخرج من فمه بالفعل. وبالرغم من أن هذا الأمر قد يحدث
أحيانًا
لضحايا السكتة الدماغية، فإن أولئك يكونون على علم دائمًا بعجزهم عن النطق بالكلمات
المناسبة. لكن فيل كان غير مدرك تمامًا لإعاقته. وتذكُر جانيت واقعة معينة حدثت عندما
كانا
يسيران معًا، فصرخ فيها قائلًا: «هذه القطارات تتأخر عن مواعيدها، افعلي شيئًا!» وعندما
أجابته بقولها إنها لا تدري أين تكون هذه القطارات، رد عليها بحدة قائلًا: «ماذا حدث
لعينيك؟ ألا ترين؟» ثم أشار لأسفل تجاه رباط حذائه المفكوك؛ وهنا أدركت جانيت فجأة
ما كان
يعنيه: «كان يريدني فقط أن أربط له حذاءه، لكنه عبَّر عن ذلك بهذه الطريقة، فقد كان
يعلم ما
يريد قوله، لكنه لم يتمكن من النطق بالكلمات المناسبة، إضافة إلى أنه حتى لم يدرك
ذلك.»
وبعد أن ظل فيل لفترة في دار الرعاية، بدأ وزنه في الازدياد، مما وصل به في النهاية
إلى
زيادة مقدارها خمسة وأربعون رطلًا على جسمه الذي كان ضخمًا منذ البداية؛ بَيد أنه
بعد ذلك
توقف عن الأكل؛ فقد نسي، في الواقع، كيف يمضغ الطعام. وقد كان على جانيت أن تضع إصبعها
في
فمه لاستخراج بقايا الطعام حتى لا يختنق بها إذا ابتلعها. وعند حلول ذلك الوقت، كان
قد نسي
اسمه. وبالرغم من أنه قد استعاد قدرته على مضغ الطعام لاحقًا، فإنه لم يعرف بعد ذلك
على
الإطلاق من يكون. وحتى توقف عن الحديث كلية، كان ينظر بين الحين والآخر إلى جانيت،
للحظة
خاطفة، برقَّة الأيام الخوالي؛ وقد كان يتمتم، منتقيًا تلك الكلمات نفسها التي استخدمها
مرات لا تُحصى خلال نصف قرن من حياتهما معًا، بكل الرقة والتفاني التي كانت مألوفة
منه في
تلك الأيام التي ولَّت منذ زمن بعيد، قائلًا لها: «أحبك، أنتِ جميلة وأنا أحبك.» وبمجرد
أن
يتلفظ بتلك الكلمات، كان دائمًا ما يعبُر إلى الجانب الآخر: جانب النسيان.
وفي نهاية الأمر، فقد الرجل جميع أنواع الاتصال والتحكم؛ فقد أصيب فيل بالسلس١ التام، غير
أنه لم يكن مدركًا لذلك على الإطلاق: فبالرغم من أنه كان واعيًا تمامًا، فإنه لم تكن
لديه
أدنى فكرة عما كان يجري حوله. وعندما كان يغرق البول ثيابه ويتلطخ ببرازه أحيانًا،
كان
لزامًا أن تُنزع ملابسه لتنظيف القذارة التي تدنس تلك البقية الباقية من إنسانيته.
وتقول جانيت: «كان ذلك رجلًا ظل يفخر بمظهره على الدوام، ومعتزًّا بنفسه للغاية، بل
ويمكنك القول بأنه كان مغرورًا … أما الآن، فأنت ترى فيل واقفًا هناك مجردًا من ثيابه
بينما
يقوم المساعدون بتنظيفه، في الحين الذي ليست لديه أدنى فكرة عما يدور من حوله …» وهنا
اغرورقت عيناها لأول مرة بالدموع، ثم أضافت قائلة: «يا له من مرض مُهين! ولو كانت
هناك أية
طريقة لتعرفه ما كان يجري له، فلم يكن ليرغب في الاستمرار في العيش؛ فقد كان مزهوًّا
بنفسه
لدرجة لا يستطيع معها أن يتحمل ذلك، وإني لسعيدة أنه لم يدرك ذلك على الإطلاق؛ فقد
كان
الأمر أكثر مما يجب أن يتحمله أي إنسان.»
ومع ذلك، فقد تحملت ذلك هي نفسها، ولم تتساءل مرة عما إذا كان تحمُّل ذلك هو ما يجب
عليها
فعله. كانت ترى أبناءها كثيرًا، كما كانت تجالس غيرها من زوجات وأزواج المرضى الذين
يشاركونها مأساتها «… نحن نجلس ونبكي معًا. وعندما كنت أكتسب القليل من القوة، كنت
أحاول أن
أساعدهم، فقد يصل بك الأمر إلى الحد الذي تأخذ فيه بعض الأشياء كما هي، وهذا ما علَّمت
نفسي
أن أفعله.» وقد عرَفت أن مرض ألزهايمر، برغم أنه يصيب المسنين بصورة أساسية، فقد يصيب
الأشخاص الأصغر سنًّا أيضًا؛ وقد كان بيت الرعاية يضم رجلًا في الأربعينيات من عمره،
لم يكن
فيه شيء متحرك سوى عينيه.
وعندما أوشكت النهاية، بدأ فيل يفقد وزنه سريعًا: ففي خلال العام الأخير من حياته،
بدا
الجِلد وكأنما سيسقط عن وجهه، وقد كان على جانيت أن تشتري له أحذية جديدة، لأن قدميه
انكمشتا بقدر درجتين، في حين أصبح جسمه منكمشًا وأصغر حجمًا، كما بدا أكبر سنًّا بكثير
جدًّا عما كان عليه في واقع الأمر. وقد انخفض وزن ذلك الرجل الذي كان مفعمًا بالصحة
والحيوية في يومٍ ما، والذي كان يرتدي حُلَلًا أنيقة من قياس ٤٨، حتى بلغ ١٣٩ رطلًا
(نحو ٧٥
كجم). وخلال كل ما مر به، لم يتوقف الرجل عن المشي يومًا: فقد كان يسير بصورة مستمرة
ومهووسة، في كل مرة كان يسمح له فيها بذلك طاقم العاملين في الجناح. وقد حاولت جانيت
أن
تمشي بمثل خطواته السريعة، إلا إنها كانت سرعان ما تُحِس بالتعب حتى تصل لمرحلة الانهيار،
بينما يتابع هو سيره. وحتى عندما كان من الضعف بحيث كان يقف منتصبًا بالكاد، كان يجد
القوة
— بصورة ما — لأن يسير جيئةً وذَهابًا، ثم جيئةً وذهابًا، حول أطراف الجناح الذي كان
يقيم
فيه. وعندما كان التعب يبلغ به حدًّا لا يستطيع معه الاستمرار في السير، كان يسير
مترنحًا
حتى تمسك جانيت والممرضة بكتفيه وتدفعانه للجلوس على كرسيه، حيث يكون مقطوع النَّفَس
وأضعف
من أن يستمر لأكثر من ذلك. وبمجرد أن يجلس، كان جسده الواهن يميل جانبًا، لأن فيل
لم تعُد
لديه القدرة على الاحتفاظ بتماسكه. وقد كان على الممرضات تقييده إلى الكرسي حتى لا
يسقط إلى
الأرض. وحتى عند ذلك، فلم تتوقف قدماه عن الحركة؛ فقد كان يجلس بعيدًا غير مدرك للعالم
المحيط به، مقيَّدًا إلى كرسيه برباط يحيط بخصره، مقطوع النفس نتيجة لجهوده التي لا
تتوقف.
ومع ذلك، فقد كان مستمرًّا في تحريك قدميه كما لو كان يقلد السير بخطًى مسرعة. كان
يفعل ذلك
بصورة تدعو للشفقة، وقد كان مدفوعًا لعمل ذلك، كما لو كان يحاول استعادة شيء فقده
للأبد.
وربما لم يكن الأمر كذلك على الإطلاق؛ فربما كان هناك شيء ما بداخله يعلم مصير أولئك
الذين
يبلغون المراحل النهائية لمرض ألزهايمر، وأنه كان يحاول أن يفرَّ من ذلك المصير
المحتوم.
وخلال آخر شهور حياته، كان لا بد من تقييد فيل إلى الفراش أثناء الليل لمنعه من الاستيقاظ
ومواصلة سيره الذي لا ينتهي. وفي مساء يوم التاسع والعشرين من يناير من عام ١٩٩٠م،
وفي
العام السادس لمرضه، كان يزفر بنفس مقطوع نتيجة للجهد الذي يبذله في مسيراته السريعة
والعنيفة، فتعثَّر في كرسيه وسقط على الأرض، فاقدًا للنبض. وعندما وصل رجال الإسعاف
بعد
دقائق قليلة، بدءوا محاولات الإنعاش القلبي الرئوي بدون جدوى، فأسرعوا به إلى المستشفى
الذي
كان ملاصقًا لدار الرعاية. لكن طبيب غرفة الطوارئ أعلن وفاته بسبب الرجفان البطيني
الذي
أدَّى إلى توقف القلب، ثم اتصل بزوجته جانيت، والتي كانت قد اتجهت إلى منزلهما قبل
أقل من
عشر دقائق من بدء زوجها لتلك المسيرة النهائية إلى حتفه.
«عندما تُوفِّي، كنت سعيدة … أعلم أنه يبدو فظيعًا أن أقول ذلك، لكنني كنت سعيدة لأنه
استراح من ويلات ذلك المرض المهين. أعلم أنه لم يتعذب على الإطلاق، وأعرف أنه لم تكن
لديه
أية فكرة عما كان يحدث له، وقد كنت ممتنة لذلك. فقد كانت تلك نعمة؛ إذ كانت الشيء
الوحيد
الذي ساعدني على الاستمرار، طَوال كل هذه الشهور والسنين. لكنه كان أمرًا مُرعبًا
أن أرى
ذلك يحدث لشخص أُكِنُّ له كل هذا الحب. أتعلم أنني عندما توجهت إلى المستشفى بعد وفاة
فيل
سألوني إن كنت أريد أن أرى جثته فأجبت بلا. كانت لي صديقة كاثوليكية متشددة، فلم تتمكن
من
فهم سبب رفضي … لكني لم أكن أريد أن أرى ذلك الوجه ميتًا. عليك أن تفهم أنني لم أشعر
بذلك
من أجلي أنا، بل من أجله هو.»
وهكذا انتهت عملية تدمير فيل وايتنج. وحتى أثناء انحداره المأسوي إلى ضمور المخ،
تم تجنيب
أسرته ذلك المنظر النهائي للتحلل المُبيد الذي كثيرًا ما يعمل على جسد الضحية غير
الواعية.
وليس من غير المألوف أن يصبح مرضى المراحل المتأخرة غير قادرين على التواصل، وغير
قادرين
على الحركة؛ بحيث تتَّخذ أجسامهم أوضاعًا شاذة أثناء تصلُّبهم
(Stiffening) أو انحدارهم نحو الموت.
وقبل أن تَحين النهاية بكثير، تُصبح مشكلة المراقبة الأساسية على مدى الساعة غير
قابلة
للحل بالنسبة لأغلبية الأُسَر؛ فحيث السلوك لا يمكن التنبُّؤ به، يجب منع تَجوال المريض
واستعداده لتحطيم ما حوله، أو التعامل معهما على الأقل. وتبقى تلك الحالات التي ينخدع
فيها
مُقدِّمو الرعاية ويقع فيها الضرر، برغم يقظتهم وحرصهم. ولذلك، فهناك سبب وجيه لاختيار
مؤلفي كتاب «اليوم ذو الساعات الست والثلاثين» لذلك العنوان لكتابهم. وقد ينجم عن
التهاون
اللحظي لعملية المراقبة أذًى جسدي للمريض ولغيره، أو مشاجرات مع الجيران تدفع لحدوث
الأفعال
قبل أن تستعدَّ لها الأسرة بكثير، فتُستنزف الطاقات، ويذوي المرضى، وقد يجد حتى أكثر
الأزواج أو الزوجات تصميمًا نفسه أو نفسها غير قادر على احتمال المزيد. وحتى تلك الأوجه
الروتينية للرعاية التمريضية تواجه مستحيلات أسطورية٢ تقهر أفضل الجهود التي يبذلها أمهر مقدمي الرعاية وأكثرهم إخلاصًا. وليس بالأمر
الهيِّن أن تجد المؤسسة التي يمكن للمرء أن يعهد فيها، بإحساس كامل بالطمأنينة، شخصًا
كان
يمثل شيئًا هامًّا في حياتك الخاصة. وبالرغم من أن هناك أسبابًا عديدة لقصور مثل هذه
المؤسسات، فإن أهمها قد تكون إحصائية فجَّة مفادها أن مرض ألزهايمر يصيب أكثر من ١١
في
المائة من سكان الولايات المتحدة فوق سن الخامسة والستين. ويُقدَّر العدد الإجمالي
للأمريكيين المصابين بالمرض — بمن فيهم أولئك المرضى الذين تقل أعمارهم عن الخامسة
والستين
— بنحو أربعة ملايين؛ وسيستمر استنزاف الموارد في الازدياد. وتشير التقديرات المستقبلية
إلى
أنه بحلول العام ٢٠٣٠م، سيصل عدد الأمريكيين الذين تبلغ أعمارهم الخامسة والستين فما
فوق
إلى نحو ٦٠ مليونًا أو يزيدون. وببلوغ التكاليف المباشرة وغير المباشرة لرعاية المصابين
بجميع أنواع الخرف إلى نحو أربعين مليار دولار سنويًّا (يوجه أغلبها لرعاية مرضى ألزهايمر)،
يتفاقم حجم المشكلة باطراد. فهل هناك عجب، إذن، في أن تجد أسرة قلقة، تحاول بذل ما
بوسعها
لرعاية مريضها، نفسها كثيرًا مقهورة وبحاجة إلى التوجيه؟
ولحسن الحظ، فلا تزال هناك مؤسسات ملائمة للرعاية الطويلة المدى في الولايات المتحدة
— من
نوع تلك التي عثرت عليها جانيت وايتنج بالرغم من أن أعدادها غير كافية. وتنظم بعضها
ما يسمى
ببرامج الرعاية القصيرة الأمد (Respite Programs)، والتي
تُقدَّم لحالات الدخول قصيرة المدى: من أجل أن تُتيح لمقدمي الرعاية المرهقين بضعة
أيام أو
أسابيع من الراحة. ويتوافر القليل من برامج الضيافة (Hospice
Programs) أيضًا. ومهما كانت درجة تردُّد الأسرة في اتخاذ قرارها،
فكثيرًا ما يكون إيداع المريض الطويل الأمد في دار للرعاية هو الحل الوحيد الذي يمكن
الحصول
به على بعض إجراءات السكينة.
وبمرور الوقت، ينزلق المرضى تدريجيًّا إلى الاعتماد كلية على الآخرين. ومن المحتمل
تمامًا
أن أولئك الذين لا يتعرضون للإصابة بعمليات متزامنة
(Intercurrent)؛ مثل السكتة الدماغية أو احتشاء عضلة
القلب، سيدلفون إلى حالة تمَّت تسميتها — بلا إنسانية ولكن بكثير من الدقة في الوصف
— بحالة
الركود الذهني والجسدي (Vegetative state). وعند هذه
المرحلة، تكون جميع الوظائف العليا للدماغ قد فُقدت بالفعل. وحتى قبل ذلك، يكون بعض
المرضى
غير قادرين على المضغ، أو المشي، أو حتى على ابتلاع ريقهم. وقد تنتج عن محاولات تناول
الطعام نوبات من السعال والاختناق، يرعب منظرها الرائي، خصوصًا عندما يشعر الأخير
بخطئه.
وتلك هي الفترة التي تواجه أفراد الأسرة بالقرارات الصعبة؛ مثل التغذية عن طريق الأنابيب،
والعنف الذي يجب أن تنفذ به الإجراءات الطبية لدرء تلك العمليات الطبيعية التي تهبط
كبنات
آوى (Jackals) — أو ربما مثل الأصدقاء — على الأشخاص الذين
بلغ منهم الإنهاك مداه.
إذا اتُّخذ القرار بعدم اللجوء إلى التغذية بالأنابيب، فقد يكون الموت بفعل سوء التغذية
(المَخْمَصة: Starvation) خيارًا رحيمًا بالنسبة لأولئك
المرضى الغائبين عن الوعي، أو الذين لا يمتلكون الحس الكافي بأهمية الأمر.
وربما يتم تفضيل سوء التغذية عن بقية الحلول البديلة؛ والتي تضم الشلل، وذلك النوع
من سوء
التغذية (Malnutrition) الذي غالبًا ما يصيب حتى أولئك
المرضى الانتهائيين الذين تتم تغذيتهم بأدق طرق التغذية الصناعية. ويجعل سلس البول،
وعدم
الحركة، والمعدلات المنخفضة لبروتينات الدم — من المستحيل عمليًّا تجنُّب الإصابة
بقُرَح
الفراش (Bedsores)، والتي قد تبلغ حدًّا يجعل النظر إليها
مُفزعًا، وهي تزداد عمقًا حتى تصل إلى نقطة كشف العضلات، والأوتار، وحتى العظام؛ بحيث
تصبح
مغطاة بطبقات من الأنسجة الميتة والقيح الكريه الرائحة. وعند حدوث ذلك، تخف الصدمة
النفسية
لأفراد الأسرة بدرجة قليلة فقط؛ لمعرفتهم بأن مريضهم لا يُحِس بذلك.
ويؤدي سلس البول، وعدم الحركة، والحاجة إلى قسطرة
(Catheterization) المريض، إلى حدوث عداوى المسلك
البولي. ويؤدي عدم القدرة على إدراك وجود الإفرازات التنفسية أو ابتلاعها إلى شفط
(Aspiration) المخاط إلى الشعب الرئوية؛ مما يزيد من
احتمالية حدوث الالتهاب الرئوي. وهنا أيضًا، يجب اتخاذ قرارات علاجية صعبة، لا تتعلق
فقط
بالضمير الفردي، بل وبالمعتقدات الدينية، وبتقاليد المجتمع، وبالأخلاقيات الطبية.
وأحيانًا
ما يكون الاتجاه الأمثل هو عدم اتخاذ مثل هذه القرارات، وترك الطبيعة القاسية لتقوم
بمهمتها.
وبمجرد أن يبدأ، أحيانًا ما يصبح سير المرض سريعًا للغاية. وتموت الغالبية العظمى
من مرضى
«حالة الركود الذهني والجسدي» لمرض ألزهايمر بفعل نوع من العدوى
(Infections)؛ سواء ظهرت تلك العدوى في المسلك البولي،
أو في الرئتين، أو في ذلك المستنقع المتعفن والمفعم بالجراثيم في قُرَح الفراش. وفي
العملية
الحُمَّوية (Feverish) التالية، والمسماة بإنتان الدم
(تسمُّم الدم: Septicemia)، تندفع الجراثيم إلى مجرى الدم؛
مما يتسبب سريعًا في حدوث الصدمة، واضطرابات نَظم القلب، وشذوذات تخثر الدم، والفشل
الكُلَوي والكبدي، ثم الوفاة.
وخلال المشوار الطويل للمرض، يتوجب على أفراد الأسرة معالجة مشاعر التناقض والعجز
والأزمة؛ فهم يخافون مما يرونه، ومما يجب عليهم أن يروه لاحقًا. وبصرف النظر عن عدد
المرات
التي تم تذكيرهم فيها، يُصر كثير من الناس على الاعتقاد بأنهم يسمحون بالعذاب الواعي
(Conscious suffering). ومع ذلك، فمن الصعب دائمًا أن
نسمح بالفراق. وقد تلعب بعض الحيل القانونية دورًا في العملية: مثل وصايا الأحياء
(Living wills) والقوة المتينة للمحامين، أي ما يسمى
بالتوجيهات المسبقة (Advance directives). لكنها لا تتوافر
في كثير من الأحيان؛ إذ تكون الزوجة أو الزوج الحزين، أو الأبناء الذين ينشغلون تمامًا
بمجابهة مشكلات عائلية خاصة بهم، غارقين في خِضَمِّ بحر من المشاعر المتضاربة. وقد
يزداد
تعقيد صعوبة اتخاذ القرار بفعل صعوبة التعايش مع ما تم اتخاذ القرار بشأنه.
ومرض ألزهايمر هو واحد من تلك الجوائح (Cataclysms) التي
يبدو أنها مُصَممة بالخصوص لاختبار الرُّوح البشرية؛ فنبل وإخلاص جانيت وايتنج ليسا
شيئًا
خاصًّا بها وحدها، وقد يكون — بصورة قد تقل أو تزيد — هو العُرف المألوف. وليس سلوك
جانيت
خارقًا للعادة، ففي الواقع إن مقدمي الرعاية المحترفين يتوقعون تقريبًا أن أسر المرضى
نادرًا ما تتشكك في دورها في عملية رعاية المريض. وبطبيعة الحال، فإن التكلفة المادية
لهذه
الرعاية باهظة. فمن حيث التلف العاطفي، وتجاهل الأهداف والمسئوليات الشخصية، ومن حيث
العَلاقات المضطربة — وخصوصًا من حيث الموارد المادية — تصبح التكلفة الإجمالية مرتفعة
بصورة لا يمكن احتمالها، فالقليل من المآسي البشرية الأخرى أكثر كلفة من هذه.
وكثيرًا ما يبدو الأمر وكأن أسر مرضى ألزهايمر ينصرفون عن تلك الطرق العريضة الواضحة
للحياة المتواصلة، بحيث تبقى متقوقعة لسنوات، كلٌّ في الحيرة المُمِضَّة
(Excruciating) الخاصة به. ويأتي الخلاص الوحيد مع وفاة
الشخص المحبوب. وحتى عند ذلك، تبقى الذكرى والتجرِبة المرعبة لفترة طويلة، ويكون التحرر
من
هذه بصورة جزئية فقط؛ فترى بعد ذلك باستمرار صورة الحياة الجميلة التي عاشوها معًا،
والإحساس بالسعادة والمنجزات المشتركة، ولو من خلال الزجاج الملطَّخ لتلك السنوات
الأخيرة
من هذه الحياة. وبالنسبة للناجين، يصبح ميدان الوجود أقل إشراقًا ووضوحًا للأبد.
وربما كان من التعاليم المشتركة لجميع الثقافات البشرية أنَّ تسمية الشيطان تقلل
من الخوف
منه. وأتساءل أحيانًا عما إذا كان السبب الحقيقي — والذي ربما كان موجودًا في اللاشعور
الثقافي — في أن رواد الطب قد حاولوا دائمًا تحديد وتصنيف الأمراض المحددة بقصد مواجهتها
أكثر من محاولة فهمها. وتصبح المواجهة، بصورةٍ ما، أكثر أمانًا بمجرد أن نَسِم العدو
بعلامةٍ ما، كما لو كانت هذه العملية ذاتها هي ما يجعل الوحش الشرير يستقر في مكانه
لفترةٍ
ما ويبدو قابلًا للترويض؛ أي أنها تفرض نوعًا من السيطرة على ما كان في السابق برية
من
الرعب الجامح. وعندما نطلق اسمًا على أحد الأمراض، فنحن نجعله متمدنًا
(Civilize) — فنسمح له بالمشاركة في اللعبة حسب قواعدنا
نحن.
وتسمية المرض هي الخطوة الأولى في تنظيم خطة مواجهته، وليس المجتمع العلمي وحده هو
ما
يمثل البديل العصري للدوائر والمربعات العسكرية، بل وأيضًا مجتمع المرضى، وأُسَرهم،
والمتطوعون العاديون. ومنذ الثلث الأوسط للقرن العشرين، بدأ المرضى وأقاربهم في مشاركة
مشكلاتهم، وأحيانًا ما يتكبَّدونه من نفقات، مع تلك الجماعات من نوع «المؤسسة الوطنية
لشلل
الأطفال»، و«جمعية السرطان الأمريكية»، و«الجمعية الأمريكية للداء السكري» — فلم يعد
المصابون بهذه الجائحات، وأولئك الذين يتولون رعايتهم، بحاجة للبقاء في معزل عن
غيرهم.
وفي حالة مرض ألزهايمر، نادرًا ما يكون المريض هو من يدرك الحاجة للصحبة خلال تلك
الرحلة
الطويلة. وليست هناك إعاقة تقريبًا في عصرنا الحالي يمكن فيها أن يكون وجود جماعات
الدعم
مساعدًا، بطريقة قاطعة، على تأمين البقاء العاطفي (Emotional
survival) لأقرب شهود عملية التفكك هذه. وهناك اليوم في الولايات
المتحدة نحو مائتي فرع، ونحو ألف جماعة مساندة تعمل تحت مظلة جمعية مرض ألزهايمر
والاضطرابات المتعلقة به (ADRDA)، كما توجد جمعيات مشابهة
في البلدان الأخرى. ولا تكتفي هذه الهيئات بتقديم الدعم النفسي، لكنها تطالب أيضًا
بزيادة
الاعتمادات المالية المخصصة للأبحاث وأوجه التطوير السريرية المتعلقة بالمرض.
وهناك قوة في الأرقام، حتى ولو كان الرقم هو شخصًا واحدًا أو اثنين متفهمين بوسعهما
تلطيف
حدة الألم من خلال الفعل البسيط للاستماع. ويتكون هذا الألم من أجزاء متعددة، وبعضها
لا
يمكن معالجته إلا من خلال مستمع متعاطف ومتفهِّم. فهل من الممكن ألا يصبح عبء هذا
المرض
مصدرًا للحَنَق وأحيانًا للاشمئزاز لكل من يقع تحت تأثير ذلك المرض المقزز؟ وهل يمكن
لأي
فرد أن يفقد جزءًا كبيرًا من حياته أو حياتها بدون أن يستشيط غضبًا؟ وهل هناك من إنسان
يمكنه أن يشاهد بصبر موضوع حبه أو حبها الأكبر ينتكس إلى اللافهم والتحلل؟
وتحتاج كلٌّ من الأسر إلى المساعدة لكي تتفهم مدى خبث هجمة المرض، ليس على المريض
وحده،
بل وعلى أولئك الذين يقفون بجانبه. وليس الأمر أن أي نوع من المساندة سيُتوقع أن يقدم
طريقة
للتحرر من ذلك العذاب، لكنه فقط سيجعل ذلك العذاب أكثر قابلية للفهم، وسيقدم نوعًا
من
التلطيف المؤقت للمحنة. وهو يعني معرفة أن شعور أفراد الأسرة بالغضب والإحباط ما هو
إلا
شعور عام لا يمكن اجتنابه، وطمأنتهم بأن آذانًا متفهمة ستصغي إليهم وبأن قلوبًا متفهمة
ستشاركهم همومهم. وهذه هي المدركات التي بوسعها تخفيف الشعور بالوحدة والمشاعر التي
لا مبرر
لها بالذنب والندم، والتي تضخم من حجم اليأس الغامر الذي يظهر على كل من يصيبه ذلك
القهر
الرُّوحاني (Spiritual subjugation) لمرض ألزهايمر.
ويبدأ الطريق نحو الانعزال من لحظة النطق بتلك الكلمات التي تخلع على العلامات المرضية
المنذرة بالخطر اسمًا. ويبدأ ذلك الفعل ذاته حركة العملية التي يمكن أن يوحد بها أفراد
الأسرة دفاعاتهم مع تلك الخاصة بغيرهم من الملايين الذين يسيرون بجوارهم. ولم يكن
اسم هذا
المرض موجودًا منذ قرن مضى، بالرغم من أن أوجه العملية المرتبطة به قد تمَّت ملاحظتها
ووصفها منذ قرون كجزء — غير محدد في ذلك الوقت — من تلك «البانوراما» الهائلة المسماة
بالشيخوخة.
و«الخرف الشيخوخي من نوع ألزهايمر» هو اللقب الرسمي للمرض الذي يُشخَّص اليوم في
مئات
الآلاف من الأشخاص في الولايات المتحدة وحدها. ويمثل المرض من ٥٠ إلى ٦٠ في المائة
من جميع
الأمراض المسببة للخرف، التي تصيب مَن تزيد أعمارهم عن الخامسة والستين، كما تصيب
الكثير
ممن لا يزالون في منتصف العمر. وتصف الجمعية النفسانية الأمريكية
(APA) بداية المرض بأنها «مخاتِلة»
(Insidious)، مع «سير مرضي متطور ومتزايد السوء بصورة
عامة، بعد استبعاد جميع الأسباب المرضية الأخرى من خلال التاريخ المرضي والفحص الجسدي
والاختبارات المعملية. ويشمل الخرف فقدًا متعدد الأوجه للقدرات العقلية؛ مثل الذاكرة
وقدرة
الحكم على الأمور، والتفكير المجرد (Abstract thinking)،
وغيرها من الوظائف العليا للقشرة المخية، إضافة إلى حدوث تغيرات في كلٍّ من الشخصية
والسلوك.»
ويُعرَّف الخرف ذاتُه كالتالي: «فقدان للقدرات العقلية يصل إلى الحد الذي يعوق الأداء
الاجتماعي أو المهني.» وخلف هذه الكلمات التي قد تخدعك ببساطتها، والتي ظهرت لآلاف
السنين
في السجلات الأدبية والتاريخية للحضارة الغربية، تجد واصفيها من المؤلفين الطبيين
الذين
كتبوها منذ القِدَم. وقد توصَّل الأطباء تدريجيًّا إلى معرفة أن الأشخاص الأصغر عمرًا،
بالإضافة إلى المسنين، تظهر عليهم دلائل حدوث تعطُّل في قدرات الحكم على الأمور والذاكرة،
وأوجُه نقص عقلي عام ذات طبيعة متطورة. ومع ذلك، فلم يظهر اصطلاح الخَرَف
(Dementia) في الكتابات الطبية حتى عام ١٨٠١م — عندما
صاغه فيليب بينل (Pinel)، والذي كان وقتها كبير أطباء
مستشفى «لو سالبيترييه» Le Salpétrier، وهو مستشفى باريسي
كان يخدم عدة آلاف من النساء المصابات بأمراض مستعصية ومزمنة مع مئات من المرضى والمجانين.
وقد أُطلق على بينل هذا اسم والد العلاج الحديث للأمراض العقلية، نظرًا — في الأساس
— لدقة
أوصافه وتصانيفه للحالات المرضية النفسانية، وأيضًا لإدخاله للعامل الذي كان مفقودًا
حتى
عصره من اللطف الإنساني في رعاية المرضى العقليين من نزلاء المستشفيات، والذين كان
الكثير
منهم يُقيَّد بالسلاسل والأغلال في السابق. وقد أطلق على مبدئه الحديث اسم «العلاج
الأخلاقي
للجنون» (Moral Treatment of Insanity). وقد صاغ بينل
مفاهيمه المتعلقة بالأمراض العقلية في كتاب له نُشر عام ١٨٠١م، والذي أصبح واحدًا
من الكتب
الكلاسيكية في تاريخ الطب النفسي، بعنوان «العلاج الطبي-الفلسفي للاعتلال العقلي»
Traité médico-philosophique sur l’aliénation mentale.
وفي هذا النص، وصف حالة نفسانية محددة أطلق عليها اسم
Démence (بالإنجليزية:
Dementia، وبالعربية: خَرَف – عَتَه)، وقد عرَّفها كنوع
من «تفكك» الوظائف الذهنية. وفي مقطع وجيز بعنوان «الخصائص المميزة للخرف»، عرض بينل
مجموعة
من الأعراض المرضية يمكن أن يكتشفها على الفور أي شخص قائم على رعاية مريض بالحالة
المرضية
التي نطلق عليها اليوم اسم مرض ألزهايمر:
«تلاحُق سريع، أو تبدُّلات متواصلة من الأفكار المنفردة، ومشاعر متطايرة وغير
مترابطة [سواء كانت تلك مرتبطة إحداها بالأخرى، أو بأحداث الواقع الخارجي].
بالإضافة إلى أفعال شاذة متكررة باستمرار: نسيان شامل لجميع الأحداث السابقة، إحساس
متضائل بالانطباعات الخارجية، تعطُّل ملكة الحكم على الأمور، نشاط لا يفتر.»
وربما كان بينل يصف تحديدًا حالة فيليب إدوارد وايتنج. وتُعَد لفظتَا «التفكك»
(Incoherence) و«عدم الترابط» وثيقتي الصلة بالموضوع
بصورة خاصة، لكونهما متوافقتين تمامًا مع حالة الشبكات المعطلة لخلايا الدماغ، واتصالاته
العصبية، والتي تُعَد اليوم من العلامات الرئيسية للمرض. وقد كان بينل قادرًا على
تفريق نوع
الخرف الذي وصفه عن الشيخوخة التي تُلاحظ عادةً عند تقدُّم العمر.
وبالنسبة لكثير من الأطباء الممارسين، استُخدم لفظ «التفكك» كمرادف إكلينيكي ممتاز
«للخرف». وقد أوضح جيمس بريتشارد (Prichard)، في مطبوع نشره
عام ١٨٣٥م بعنوان «أطروحة في الجنون» (A Treatise on
insanity)، عندما كان كبير أطباء مَصحَّة بريستول في إنجلترا، أن
المريض يمر بسلسلة من المراحل المحددة خلال فترة تطور المرض، وهو ما أسماه «بالمراحل
المتعددة للتفكك»، وقد حدد أربعًا من تلك المراحل: تعطُّل الذاكرة، ومجانبة المنطق
(Irrationality) وفقدان القدرة على التعليل
(Reasoning)، وعدم الفهم، وأخيرًا فقدان الأفعال
الغريزية والإرادية. وتفيد هذه الملاحظات حتى اليوم في تخطيط التدهور التدريجي لكلٍّ
من
المرضى؛ وبالمثل، فإن الكتَّاب المعاصرين يكتبون عن وجود مراحل متعددة للمرض، وهذه
المراحل
هي نفسها التي وصفها بريتشارد.
كان تلميذ فيليب بينل ووريثه الفكري أحد خريجي كلية الطب التي يرجع تاريخ إنشائها
إلى ألف
سنة خلت في مونبلييه، وهو جان إيتيان دومنيك إسكيرول
(Esquirol). وقد صمدت الملاحظات المتعلقة بالخرف، في
كتاب إسكيرول الذي نُشر عام ١٨٣٨م بعنوان «عن الأمراض العقلية» (Des Maladies Mentales)، لاختبار الزمن.
فبعد أن تُدرس هذه الملاحظات، لا يحتاج الأمر إلى المزيد من المناقشة بخصوص أعراض
الخرف
بالنسبة لأولئك الذين يريدون التعرف على السير الإكلينيكي للمرض كما تراه اليوم. وقد
كتب
إسكيرول عن أولئك المرضى قائلًا:
«ليست (لديهم) الرغبات ولا المكروهات، ولا البغض ولا الحنان. وهم يُظهرون أكبر
قدر من اللامبالاة تجاه الأشياء التي كانت عزيزة عليهم في السابق؛ فهم يلتقون
بأقاربهم وأصدقائهم بدون ابتهاج، ويتركونهم بلا ندم. وهم يشعرون بالضيق نتيجة
للعزلة المفروضة عليهم، ويبتهجون بصورة أقل بالملذات المقدمة لهم؛ فلم يعُد العالم
المحيط بهم يستثير اهتمامهم، كما أصبحت أحداث الحياة غير ذات مغزى؛ لأنهم لا
يستطيعون ربط أنفسهم بأي ذكرى، ولا بأي أمل. ولكونهم لا يبالون بأي شيء، فلا يمكن
لأي شيء أن يؤثر فيهم … ومع ذلك، فهم حادُّو الطباع، مثل كل الأشياء الواهنة. ويكون
أولئك من ذوي القدرات العقلية الضعيفة أو المحدودة. وبالرغم من ذلك، فلا يدوم غضبهم
لأكثر من لحظات … ويعاني كل من يصاب بالخرف تقريبًا، من «نوع من العادات أو
الاهتمامات السخيفة» [التحديد من قِبل إسكيرول]؛ فبعضهم يستمر في السير بلا انقطاع،
كما لو كان يبحث عن شيء مفقود، بينما تكون مشية البعض الآخر بطيئة وهم يواصلون
سيرهم بصعوبة، بينما يظل البعض الآخر — لمدة أيام، أو شهور وسنين — جالسين في
المكان نفسه، أو قابعين في الفراش، أو ممددين على الأرض، ويستمر هذا النوع في
الكتابة باستمرار، لكن أحاسيسه ليس بينها ترابط أو توافق، فالكلمات تتبع الكلمات
…
وترتبط الأعراض التالية بهذا الاضطراب في صحة الفهم: فالوجه شاحب، والعينان
غائرتان ومبللتان بالدموع، والحدقتان متسعتان، والنظرة غير واثقة، وسيماء الوجه
(Physiognomy) بلا تعبير محدد. ويصبح الجسم
أحيانًا ناحلًا وهزيلًا؛ وأحيانًا مكتنزًا باللحم … وعندما يضاعف الشلل الخرف، تظهر
الأعراض الشللية تباعًا: فيتعطل الحديث أولًا، وبعد ذلك بقليل يتم تنفيذ الحركات
بصعوبة، وتتحرك الذراعان بلا ألم … ولا يتخيل من يصاب بحالة الخرف أو ينهمك في
التفكير، فليس لديه من الأفكار — إن وُجدت — سوى النزر اليسير. وهو لا يرغب في شيء
ولا يُصر عليه، لكنه يستسلم؛ إذ إن الدماغ يكون في حالة موهَنة.»
ومثله مثل كبار أساتذة الطب في عصره، كان إسكيرول يقوم بنفسه بتشريح جثث مرضاه عند
وفاتهم. وفي تلك الأيام، عندما كانت المجاهر بدائية وبعيدة عن الدقة، كان عليه أن
يعتمد على
المظاهر العيانية من أجل تدوين ملاحظاته. وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت النتائج
مذهلة:
«تصاب تلافيف المخ بالضمور، بحيث تنفصل إحداها عن الأخرى، وتصبح قليلة العمق أو
مسطحة، كما تنضغط ويصغر حجمها، خصوصًا في المنطقة الجبهية. وليس من غير المألوف
أن
تجد واحدة أو اثنتين من تلافيف السطح المقعر للدماغ منخسفة أو ضامرة، ومحطمة
تقريبًا، بينما يمتلئ الفراغ الناتج بالمصل
(Serum).»
وبهذا يكون إسكيرول قد تعرف على الضمور المخي الذي يفسر الضمور العقلي. وقد تم إثبات
صحة
ملاحظاته مرارًا وتكرارًا على أيدي الباحثين التالين له. ومع ذلك، فقد كان على التحليل
المِجهري أن ينتظر الدراسات التي أجراها «ألويس ألزهايمر».
وقد تعرضت العلوم الطبية لكثير من التغيرات الجذرية خلال تلك العقود السبعة الواقعة
بين
إسهامات كل من إسكيرول وألزهايمر، لكنَّ أيًّا منها لم تكن في مثل أهمية تطوير المجاهر
ذات
القوة الفائقة. وقد مكَّن الاستخدام الحاذق لهذه الأنظمة البصرية الجديدة العلماء
في كليات
الطب الألمانية من التوصل إلى كثير من الاكتشافات الكبرى خلال النصف الثاني من القرن
التاسع
عشر والعَقد الأول من القرن العشرين. ومن خلال هذا التقليد الألماني للفحص المجهري
البالغ
الدقة، أجرى ألويس ألزهايمر دراساته على الخرف.
وقد بدأ ألزهايمر حياته العملية أساسًا كطبيب ممارس مهتم بالأمراض العصبية والعقلية،
إلا
أنه كان قد تلقَّى تدريبًا جيدًا على الطرق المعملية أيضًا. ولكونه حجة بالفعل في
الأوجه
السريرية للخرف الشيخوخي، فقد بدأ نجمه في الصعود نتيجة لدقة نتائج أبحاثه في علم
الأمراض
المِجهري؛ ولذلك فقد دعاه للعمل في جامعة هايدلبرج في العام ١٩٠٢م إميل كريبلين
(Kraepelin)، وهو أحد رواد علم النفس التجريبي. وعندما
تعاقد كريبلين في العام التالي للعمل في جامعة ميونيخ كي يتولى مسئولية العيادة ومركز
الأبحاث الجديدين هناك، اصطحب معه ألزهايمر، الذي كان في التاسعة والثلاثين من عمره
وقتها.
وقد مكنت مهارة ألزهايمر في استخدام التقنيات التي تم تطويرها حديثًا لصبغ الأنسجة،
من
تعرُّفه على التغيرات التي تحدث في البنيان الخلوي، والمصاحبة لمرض الزُّهْري
(Syphilis)، و«رَقَص» هنتنجتون
(Huntington’s Chorea)، وتصلب الشرايين، والشيخوخة.
وربما كانت أهم الخصائص المميزة لأبحاث ألزهايمر هي مقدرته — التي بناها على خبرته
العملية
مع المرضى — على الربط بين نتائج أبحاث تشريح ما بعد الوفاة مع تلك الأعراض التي تظهر
قبل
الوفاة في أولئك الضحايا التعساء للعمليات التنكسية. وهذه الترابطات هي العناصر الأساسية
في
عملية تتبُّع المسبب والفعل في أبحاث الفيزيولوجية المرضية.
وقد نشر ألزهايمر، في عام ١٩٠٧م، دراسة بعنوان «حول الأمراض المحددة للقشرة المخية»:
ويورد فيها تقريرًا عن حالة مرضية لامرأة أُدخلت إلى مستشفى الأمراض النفسية في نوفمبر
من
عام ١٩٠١م. وقد كانت هذه هي أول دراسة عن مريض كان مرضه الأساسي يُعرف كوحدة مستقلة
بذاتها
يجب تفريقها عن كل ما عداها. وباستثناء أن اللغة التي كُتب بها التقرير لم تكن فجَّة
تمامًا، لظننا أننا نقرأ تقريرًا كتبه إسكيرول: وباستثناء أن ألزهايمر لم يوضح، على
وجه
الخصوص، حدود كلٍّ من تلك «المراحل الأربع للتفكك»، لظننا أننا نقرأ تقريرًا كتبه
بريتشارد.
وقد عرض ألزهايمر حالة المرأة التي كانت في الحادية والأربعين من عمرها، والتي مرت
خلال
الأعراض المتلاحقة للغيرة، وقصور الذاكرة، وجنون العظمة «البارانويا»، وتناقص قدرتها
على
التعليل المنطقي للأمور، وعدم الفهم، والخبل (Stupor)، وفي
النهاية «بعد أربع سنوات ونصف السنة من المرض، حدثت الوفاة … كانت المريضة في نهاية
مرضها
مخبولة تمامًا؛ فقد كانت راقدة في فراشها وساقاها مكومتان من تحتها. وبالرغم من جميع
الاحتياطات المرعية، فقد أصيبت بقُرَح الفراش.» ولم يكن وصف السير الإكلينيكي للمريضة
هو
سبب وصف ألزهايمر لحالتها؛ فقد كانت مثل هذه الحالات مألوفة بالنسبة للأطباء حتى قبل
عهد
بينل وإسكيرول، بالرغم من أن هذين الطبيبين الفرنسيين كانا أول من قام بفصل هذه الحالات
بحيث تقع ضمن المجموعة الجديدة للخرف. وفي واقع الأمر أن اصطلاح «الخرف قبل الشيخوخي»
(Pre-senile Dementia) قد تمت صياغته قبل ألزهايمر بزمن
طويل، وبالتحديد في عام ١٨٦٨م، من أجل وصف حالة أولئك المرضى الذين يصيبهم المرض وهم
بعدُ
في سنوات عمرهم الوسطى. كما أن ألزهايمر نفسه لم يكن يأمل في أن يكتفي بمجرد وصفه
لقشرة
مخية أخرى مصابة بالخرف، والتي كان من الواضح أنها ضامرة من خلال الفحص البسيط بالعين
المجردة؛ فقد كان غرضه من دراسته التي أجراها عام ١٩٠٧م هذه، هو الحديث عما وجده حين
قام
بعمل قطاعات في دماغ هذه المرأة، ثم أضاف بعض الأصباغ إلى القطاعات الرقيقة، ثم فحصها
تحت
المجهر. وقد اكتشف ألزهايمر أن كثيرًا من خلايا القشرة المخية كانت تحتوي على واحدة
أو أكثر
من اللُّيَيْفَات (Fibrils) الشبيهة بالشعر، والتي تتحد في
الخلايا الأخرى لتكوين مجموعات متزايدة الكثافة. وفيما بدا وكأنه مرحلة متأخرة من
المرض،
تفككت النواة وكامل الخلية بالمثل، مُخلِّفة في مكانها حُزمة كثيفة من اللُّيَيْفَات
وحدها.
وقد وضع ألزهايمر في اعتباره حقيقة أن اللُّيَيْفَات تمتص صبغًا مختلفًا عن ذلك الذي
امتصته
الخلايا الطبيعية، فيما اعتبره دليلًا على أن ترسب بعض النواتج المرضية للاستقلاب
هو سبب
المآل المميت للمرض. وقد كان ما بين ربع وثلث الخلايا القشرية لتلك المريضة إما محتويًا
على
لُيَيْفَات أو أنه اختفى كلية.
وبالإضافة إلى العمليات التدميرية داخل الخلايا، فقد وجد ألزهايمر تكتُّلات مِجهرية،
أو
لويحات عديدة متناثرة في جميع أجزاء القشرة المخية، والتي تقاوم امتصاص الصبغة. وقد
ظهر في
الأعوام التالية أن هذه التكتلات مكونة من أجزاء متنكسة من الاستطالات العصبية المتشابكة
المسماة بالمحاوير (Axons)، والتي تتجمع حول لُب المادة
البروتينية المسماة بالنَّشْواني بيتا «». وحتى يومنا هذا، يُعَد الوجود الدائم لما يسمى باللويحات الشيخوخية
(Senile Plaques) والشبكات اللُّيَيْفِيَّة هو الدالَّة
الرئيسية التي يعتمد عليها التشخيص المِجهري لمرض ألزهايمر.
ومع ذلك، فقد اتضح أن اللويحات النشوانية والشبكات العصبية اللُّيَيْفِيَّة ليست
موجودة
فقط في مرض ألزهايمر وحده، بل في العديد من الحالات المزمنة الأخرى للدماغ البشري،
حيث يمكن
التعرف فيها على إحداهما، أو كليهما. وحتى في حالة الشيخوخة الطبيعية يظهر على الأقل
بعضٌ
من كلٍّ من هذين النوعين من التراكيب الخلوية، بالرغم من أن ذلك نادرًا ما يقع بالأعداد
الكبيرة التي تميز مرض ألزهايمر. وسنعرف قدرًا كبيرًا من المعلومات الإضافية عن عملية
شيخوخة الدماغ بمجرد اكتشاف أصول هذه اللويحات والشبكات الموجودة في ذلك المرض. وقد
كان
ألزهايمر من الحكمة بحيث لاحظ أنه يبدو أننا نواجه عملية مرضية محددة. وقد اتخذ أستاذه
كريبلين خطوة إضافية للأمام؛ إذ أشار إلى المرض الجديد في الطبعة الثامنة لكتابه المرجعي،
والتي صدرت عام ١٩١٠م، وقد سماها باسم «مرض ألزهايمر». وقد بدا أن كريبلين غير واثق
من
أهمية السن الصغيرة نسبيًّا لمريضة ألزهايمر، من منظور حقيقة أن تاريخها المرضي كان
مشابهًا
لمثيله في أولئك المرضى الذين كانوا يندرجون في السابق تحت تصنيف الخرف الشيخوخي.
وقد كتب
قائلًا: «لم تتضح الأهمية السريرية لمرض ألزهايمر حتى الآن. وبالرغم من أن الموجودات
التشريحية تشير إلى أن هذه العملية تتعلق بصورة وخيمة، على وجه الخصوص، من الخرف الشيخوخي،
فإن هناك بعض الدلائل التي تشير إلى عكس ذلك، وبالتحديد حقيقة أن المرض قد يظهر حتى
في
نهاية العَقد الخامس من العمر. ويمكن للمرء أن يصف مثل هذه الحالات على الأقل في إطار
الشيخوخة المبكرة، إن لم يكن من الأفضل اعتبار أن هذا المرض غير معتمِد على عمر المريض.»
وربما أثَّر هذا الشك من رجل كان يعتبره الكثيرون بمثابة «الكاهن الأعظم» لعلم النفس
العضوي، على الكتَّاب التالين له بحيث علَّقوا أهمية أكبر على استخدام كريبلين لاصطلاح
«Senium
praecox» (الشيخوخة المبكرة)، ولتجاهل اقتراحه بأن «هذا
المرض غير معتمِد على عمر المريض، بصورة أو بأخرى.» وربما نتيجةً لسوء التفسير هذا،
أصبحت
فكرة أن مرض ألزهايمر ما هو إلا الخرف «قبل الشيخوخي» راسخة بين المسميات الطبية لمدة
تزيد
على نصف قرن.
وخلال سنوات قلائل من دراسة ألزهايمر السابقة الذكر، ذكرت تقارير نشرها غيره من الباحثين
وصفًا لحالات مرضية مشابهة. وفي كلٍّ من تلك الحالات، لم يكن يختلف السير الإكلينيكي
كثيرًا
عن مثيله في مريضة ألزهايمر الأصلية، وقد أظهرت تشريحات ما بعد الوفاة وجود ضمور واسع،
كان
أكثر وضوحًا في القشرة المخية، بالرغم من أنه كان مشتملًا للدماغ بكامله. وبالفحص
المِجهري،
كان من الممكن إظهار أعداد كبيرة من اللويحات الشيخوخية والشبكات اللُّيَيْفِيَّة.
وبحلول
عام ١٩١١م، كانت هناك اثنتا عشرة دراسة من تلك الدراسات الإضافية.
وقد بدا أن الشباب النسبي لبعض المرضى يميز الموجودات عن الأوصاف التالية لعمليات
تشريح
ما بعد الوفاة التي وُجدت فيها اللويحات الشيخوخية والشبكات اللُّيَيْفِيَّة في مرضى
من
جميع الأعمار، والذين بدا أن لكلٍّ منهم تاريخًا سريريًّا مختلفًا عن الآخر. وبحلول
عام
١٩٢٩م، كانت هناك أربعة تقارير عن حدوث المرض في أشخاص تقل أعمارهم عن الأربعين، حتى
إن
هناك مريضًا قد بدأت أعراضه المرضية في الظهور عندما كان في السابعة من عمره. وربما
تفاقمت
المشكلة بفعل نوع من الانتقائية في تقرير الحالات، فمن الأكثر احتمالًا أن يكتب الأطباء
عن
الحالات التي تبدو غير عادية أكثر من تلك التي تبدو مألوفة تمامًا. وبالإضافة إلى
ذلك، ففي
تلك البلدان (وهي الأغلبية)، حيث لا يُعتبر تشريح ما بعد الوفاة إلزاميًّا، تُجرى
أغلب تلك
العمليات التشريحية على المرضى الذين تبدو حالاتهم المرضية «مثيرة للاهتمام»؛ فماذا
يمكن أن
يثير الاهتمام أكثر من مريض شاب مصاب بمرض لا يصيب إلا الشيوخ عادةً؟ وبذلك، وفي أواخر
العشرينيات من القرن العشرين، كانت الغالبية العظمى من التقارير الطبية التي تصف حالات
لمرض
ألزهايمر هي لمرضى صغار السن نسبيًّا، تتراوح أعمارهم بين الخمسين والستين.
وبالرغم من أنه من الواضح أن الأطباء الواعين قد أدركوا أن الدالات العُمرية قد ظلت
محتفظة بحدودها غير الواضحة المعالم، فإن المتلازمة المرضية ظلت تسمى بخرف ألزهايمر
قبل
الشيخوخي لعقود عدة. وقد كان ذلك هو الاسم الذي صادفتُه لأول مرة في الكتب الدراسية
الطبية
أثناء دراستي في كلية الطب في الخمسينيات.
والعملية التي تحوَّل بها «خرف ألزهايمر قبل الشيخوخي» إلى تلك المتلازمة الأكثر
تحديدًا
باسم «الخرف الشيخوخي من نوع ألزهايمر» هي حكاية مثالية
(Paradigmatic) عن الطريقة التي تطورت بها الثقافة
الطبية الحيوية خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، وأعني بذلك مزيجًا من العلم،
والتدخل
الحكومي، إضافة إلى عامل يُفهم بصورة أوضح من خلال اصطلاح «الدفاع عن حقوق المستهلك»
(Consumer Advocacy). وخلال تلك الأعوام الستين التالية
لأبحاث ألزهايمر، تجمعت ببطء تلك الأدلة على أن هناك القليل — إن وُجد — من المصداقية
في
التفريق بين النمطين الشيخوخي وقبل الشيخوخي من المرض، عندما يتَّسم النمطان بنفس
الخصائص
المرضية المجهرية. وبعد إثارة هذه النقطة بقوة خلال مؤتمر عُقد عام ١٩٧٠م عن مرض ألزهايمر
والحالات المرضية المتعلقة به، بدأ ظهور شبه إجماع علمي على أن بقاء مثل هذا التفريق
العشوائي لا يتَّسم بالخطأ فحسب، بل والتضليل أيضًا.
ومن الآثار الواضحة لذلك التوجه المغاير، كان تضمُّن مظلة التشخيص لعدد هائل من المرضى
المسنين المتمتعين بصحة جيدة تمامًا وأفراد أسرهم. ومع استثارة الاهتمامات البحثية،
بدأ
العلماء — وهم مُحِقُّون في ذلك تمامًا — في اللَّجَج من أجل المزيد من الدعم المالي،
وقد
التمسوا ذلك العون من مصادر التمويل الحكومية. وقد كان ذلك يعني — في الولايات المتحدة
—
اشتراك المعاهد الوطنية للصحة (NIH) في العملية، وتجنيد كل
مُدافع عن حقوق المسنين قد يتمتع بأي نفوذ سياسي. وقد كان إيجاد المعهد الوطني للشيخوخة
(NIA) هو الثمرة الطبيعية لهذه العملية.
وقد نتج عن تضافر جهود كلٍّ من العلماء، والمعهد الوطني للشيخوخة، ومقدمي الرعاية،
إنشاء
«جمعية مرض ألزهايمر والاضطرابات المتعلقة به» (Alzheimer’s Disease and
Related Disorders Associaton; ADRDA) وقد ظهر المرض — الذي كان يُعتقد
أيام دراستي بكلية الطب أنه من الغرابة بحيث كان يُستخدم كسؤال تافه
(Trivia) في جلسات الاستذكار في آخر الليل — كواحد من
أكبر أسباب الوفَيَات حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية. وكنتيجة لجميع الجهود المتضافرة،
بلغت الميزانية المخصصة لأبحاث مرض ألزهايمر في الولايات المتحدة عام ١٩٨٩م نحو ثمانمائة
ضعف ما كانت عليه قبل عشر سنوات فقط.
وبالرغم من التقدم الهائل الذي حدث خلال الخمس عشرة سنة الماضية في مجال رعاية المرضى
ودعم أولئك القائمين على تلك الرعاية، فإن التقدم في تلك الأوجه الطبية الحيوية للمرض،
مثل
المسببات، والعلاج، والوقاية، لم يؤدِّ إلى التوصل إلى أي مسببات محددة للمرض، أو
إلى وسيلة
لعلاجه، أو أية طريقة يمكن بها الوقاية منه.
وهناك بعض الأدلة على وجود استعداد وراثي للإصابة بمرض ألزهايمر، لكنها أقل من مقنعة
في
حالة المسنين، كما لم يتم إثباتها بصورة مُرضية في أولئك الأصغر سنًّا، برغم التعرف
على بعض
العيوب الكروموسومية في عدد قليل من المصابين بذلك المرض. وأحيانًا ما تؤدي الاستكشافات
المتعلقة بتأثير العوامل الخارجية — مثل الألومنيوم وغيره من العوامل البيئية، والفيروسات،
وإصابات الرأس، ونقص المدخلات الحسية — إلى التوصل إلى نتائج مبشرة، وأحيانًا ما لا
تؤدي
إلى التوصل إلى أي شيء. ومثلما يحدث في الأمراض الأخرى ذات الأسباب الغامضة، فقد دُرست
التغيرات الحادثة في الجهاز المناعي، بدون التوصل إلى نتائج قاطعة، حتى إن تلك الخسيسة
الموجودة في كل مكان — أي السيجارة — قد اتهمها البعض بالتورط في العملية. أما ما
يبدو أكثر
احتمالًا، فهو أنه سيثبت وجود عدد من الطرق المختلفة التي يؤدي كلٌّ منها في النهاية
إلى
تلك العملية التنكسية الخاصة بمرض ألزهايمر. وقد اكتُشف أن بعض التغيرات الفيزيقية
والكيميائية الحيوية تصاحب العملية المرضية، غير أن دورها في تلك العملية لم يتم تحديده
بوضوح حتى الآن. وعلى سبيل المثال، توضح العينة (الخِزْعة:
Biopsy) المأخوذة من القشرة المخية للمرضى وجود انخفاض
من ٦٠ إلى ٧٠ في المائة من المعدلات الطبيعية للأستيل كولين (Acetyl
Choline)، وهو عامل ذو أهمية حيوية في عملية النقل الكيميائي للإشارات
العصبية. وفي الواقع إن المحاولات التي استهدفت العثور على علاج فعَّال للمرض قد ركزت
بصورة
كبيرة على البحث عن عقاقير قد تُحسِّن من أوجه النقص الحادثة في عملية النقل العصبي
هذه.
وقد ظهرت مؤخرًا أدلة تشير إلى أن الأستيل كولين قد يلعب دورًا في تنظيم إنتاج الجسم
من
النَّشْواني (Amyloid). ويبدو أن ذلك النشواني يزداد عندما
تنخفض معدلات الأستيل كولين. وتقدم هذه النتائج رابطة مباشرة محتملة بين الخصائص الكيميائية
للمرض وبين مرضيته المِجهرية، وقد تؤدي إلى التوصل لطرق علاجية جديدة. ومن الأنباء
المثيرة
على وجه الخصوص، كان الاقتراح القائل بأن النشواني بِيتا سام للخلايا العصبية، وإذا
أمكن
إثبات هذه الفكرة التي لا تزال محلًّا للجدل، فمن المحتمل أنه سيكون هناك وقتَها سبب
حقيقي
للتفاؤل بخصوص البحث عن علاج فعَّال للمرض. ولتوضيح قدر الجدل العلمي الدائر حول تلك
الفكرة، يجب أن ندرك أن علماء البيولوجيا العصبية لا يزالون مختلفين حول مسألة كون
النشواني
بِيتا مسببًا لتنكس الخلايا العصبية، أم أنه مجرد ناتج من نواتج تحطم هذه الخلايا.
وقد أضيفت أيضًا خاصية مجهرية ثالثة إلى ثنائي الشبكات اللُّيَيْفِيَّة واللويحات
الشيخوخية، وهي وجود فراغات خالية في بعض خلايا قرن آمون (الحُصين:
Hippocampus) تسمى بالفجوات
(Vacuoles)، تحيط بحبيبات منصبغة بكثافة وغير معلومة
الوظيفة. والحُصين هذا هو اللفظة اليونانية لحصان البحر، وترجع التسمية إلى الأطباء
القدامى
الذين أطلقوا الاسم على ذلك الجسم المنحني الرشيق، والموجود داخل الفص الصَّدْغي
(Temporal Lobe) للدماغ، لأن شكله المستطيل يوحي بصورة
ذلك الحيوان الفريد. ويضطلع الحصين بعملية اختزان الذكريات. وقد ظلت بعض وظائفه الأخرى
متَّسمة بالغموض، وليس هناك من هو واثق تمامًا من أهمية تلك الفجوات والحبيبات التي
تحتويها.
وهكذا، يبقى علماء المختبرات على حيرتهم وعملهم الشاق. ومن الصعب التصديق — باعتبار
الكم
الهائل من الأبحاث الجارية حاليًّا، والنتائج العديدة التي يتم التحقق من صحتها —
بأن
الحالة الراهنة لمعارفنا لا تمثل إلا مقدمة لحقبة ستبدأ فيها الاكتشافات الصغيرة في
التجمع
لتكوين أخرى هائلة. وهو ما يعني، في النهاية، نفس الطريقة التي ينتهجها العلم خلال
هذا
الثلث الأخير من القرن العشرين، عوضًا عن التوصل إلى قفزات هائلة للأمام.
وقد وصل الأطباء اليوم إلى النقطة التي يمكنهم فيها الوصول إلى التشخيص الدقيق للمرض
في
نحو ٨٥ في المائة من الحالات بدون اللجوء إلى تلك الإجراءات التشخيصية المعقَّدة،
مثل خِزعة
الدماغ (Brain biopsy). ومن بين الأسباب العديدة المهمة
للجهود التشخيصية المبكرة هو ذلك السبب المباشر والواضح بأن هناك أنماطًا قابلة للعلاج
تُظهر قدرًا من خصائص الخرف قد يسبب الخلط بينها وبينه، مما يضاعف من حجم المأساة.
ومن ضمن
تلك الأسباب نجد الاكتئاب، والعقاقير، وفقر الدم (الأنيميا)، وأورام الدماغ الحميدة،
وانخفاض معدلات نشاط الغدة الدرقية، إضافة إلى بعض الآثار العكوسة
(reversible) للرضح
(Trauma)؛ مثل خثرات الدم التي تضغط على النسيج
الدماغي.
وليست هناك تعازٍ في مرض ألزهايمر. ويمكن تلطيف حدة العذاب من خلال الرعاية التمريضية
الجيدة، وجماعات الدعم، والقرب من الأصدقاء وأفراد الأسرة، ولكنه سيكون من الضروري
في
النهاية بالنسبة للمريض ومن يحبهم، أن يسيروا معًا عبر وادي الظلال المتعرج، والذي
يتغير في
طريقه كل شيء للأبد. وليس هناك جلال في هذا النوع من الوفاة؛ فهو فعل عشوائي للطبيعة،
وامتهان لإنسانية الضحايا. وإن كانت هناك حكمة لنتعلمها، فلا بد وأن توجد في معرفة
أن البشر
قادرون على الإحساس بذلك النوع من الحب والولاء الذي يتجاوز، ليس التحقير الجسدي
(Physical
debasement) فحسب، بل وحتى السأم الرُّوحاني لسنوات الألم
والعذاب.
١ Incontinence: عدم القدرة على التحكم في إخراج البول
أو البراز. (المترجم)
٢ Sisyphean: نسبة إلى سيسيفوس، وهو ملك يوناني
أسطوري تحكي الميثولوجيا اليونانية أنه، نتيجةً لعدد من الخطايا التي ارتكبها، قد
حُكم عليه في العالم السفلي بأن يظل يدفع للأبد صخرة عظيمة حتى قمة تل، حيث تسقط
منه، وعليه أن يُعاود الكرَّة مرة أخرى، والمقصود هنا أنها مهمة لا تنتهي ولا طائل
من ورائها. (المترجم)