الفصل السادس
الاغتيال والسَّكينة
«الإنسان كائن هوائي جبري» (Obligate
aerobe) … هكذا، يتم تحديدها بالبساطة المباشرة لأي من
القواعد الأساسية الواسعة الانتشار، من أيام «أبوقراط»
(Hippocrates)، حيث يقف سر الحياة البشرية. وقد اكتُشف
اعتماد جميع أفراد الجنس البشري على الهواء، مثلما هو الحال بالنسبة لجميع الحيوانات
الأرضية المعروفة، من قبل رجال القبائل البُدائية، وقبل زمن طويل من أن يتميز بعض
الأفراد
عن رفاقهم «كمعالجين» (Healers). وبصرف النظر عن التطور
التقني للأبحاث الجزيئية الفائقة الحداثة (Ultramodern)،
وبصرف النظر أيضًا عن المسميات الغامضة المتزايدة للكتابات الحديثة المتعلقة بها،
تعود
دائرة المعرفة دائمًا إلى نقطة بدايتها؛ فمن أجل أن يحيا الإنسان، فلا بد له من الحصول
على
الهواء.
وفي أواخر القرن الثامن عشر، اكتُشف أنه ليس الهواء بصورة عامة، بل أحد مكوناته —
أي
الأكسجين (Oxygen) — هو العامل الحيوي الذي تعتمد عليه
الحياة. وهنا اكتسب مفهوم الإنسان ككائن هوائي جبري، معنى أكثر تحديدًا: فليس لدينا
من
خيار، إذ تموت خلايانا، ونموت نحن معها، بدون الأكسجين. وبعد ذلك بقليل، اكتُشف أن
امتصاص
الأكسجين هو سبب تحوُّل لون الدم على الفور من اللون القاتم المتعَب إلى ذلك اللون
الأحمر
الزاهي للحياة المتدفقة أثناء مروره عبر الرئتين؛ وقد اكتُشف أن انتقال الدم إلى خلايا
أنسجة الجسم القاصية هو سبب استهلاكه (Exhaustion) عند رجوعه مستنزفًا وأزرق من رحلته
الطويلة، وهو يبدو وكأنه يلهث طلبًا للهواء. ومنذ ذلك الحين، تم استكشاف دور هذا العامل
الحيوي من عناصر الطبيعة، جيلًا بعد جيل، من قِبل الآلاف المؤلفة من الباحثين، الذين
دوَّنوا اكتشافاتهم بجميع لغات العالم المعروفة تقريبًا. ويقع الأكسجين في النقطة
البؤرية
للعدسة التي يجب أن تتم من خلالها دراسة العملية المتواصلة للبقاء على قيد الحياة.
وبعد كل تلك السنوات وكل هذه الأبحاث، ظل علماء البيولوجيا البشرية يعودون مرارًا
وتكرارًا لتلك الكلمات القليلة التي ظلت موجودة دومًا في فهم المرء لما يجب عليه فعله
لكي
يبقى على قيد الحياة؛ فالإنسان كائن هوائي جبري. وقد كان بوسعي أن أنتزع واحدًا من
الأنماط
المتعددة لهذه القاعدة من أيٍّ من ذلك الفيض من كتابات القرنين الماضيين عن هذا الموضوع،
لكن مصدرها الفعلي يبقى مفيدًا للفهم. وقد عثرت عليه في مقال نُشر في عدد حديث لمجلة
الكلية
الأمريكية للجراحين [Bulletin of the American
College of Surgeons]، بعنوان «ما الجديد في مجال
الجراحة لعام ١٩٩٢م؟». ولم يبدُ المقال كصندوق الأسرار القديم للحكمة، كما هو الحال
بالفعل،
بل كحقيقة مؤكدة، مثبتة تجريبيًّا، على المستوى الجزيئي. وما يمكن أن يكون أكثر إفصاحًا
هو
الظروف المحيطة بذلك المقال؛ فقد كان موضوعًا غريبًا وسط مقالات المَجلة المتميزة
بالتقنية
العالية عن آخر التطورات في مجال العناية الحثيثة (Critical
Care) وهو ذلك التخصص الفائق (Superspecialty) الحديث تمامًا، والذي تم استحداثه
للدفاع عن الحد الأقصى للوجود الذاوي للمريض بداء لا شفاء منه، وهو الساحة النهائية
للمعركة
المحتدمة بين القوى المنهكة للحياة ومهاجميها الأقوياء الذين يطلقون المرض من أجل
قهرها.
ومكان ممارسة هذا التخصص الجديد هو غرفة العناية المركزة، واستراتيجيته الدفاعية
الأولية
هي الإبقاء على إمداد مأمون من الأكسجين لخلايا الجسم المحاصرة
(Beleaguered). ومن المؤكد أن أسلافنا من سكان الكهوف
كانوا سيوافقون على أن ذلك هو الشيء الصحيح الواجب فعله، فقد أمضى الراحل ميلتون هيلبيرن
(Helpern) — الذي كانت جثث المرضى تُرسَل لتُشرَّح في
معمله إذا تمت خَسارة المعركة — جل حياته العملية في محاولة سبر تلك «الأبواب العشرة
آلاف
للموت»، وقد كان يصل دائمًا للنتيجة المستبطنة ذاتها: ليس هناك من أكسجين كاف.
ويتخذ الأكسجين سبيلًا مباشرًا بصورة مميزة في رحلته من الهواء المستنشق إلى وجهته
النائية، وهي الخلية المعتمدة جبريًّا على الهواء. وبعد المرور الفعلي خلال الجدر
الرقيقة
لأسناخ الرئتين (Alveoli) والشبكة المتصلة بها من الشعيرات
الدموية، تربط جزيئات الأكسجين نفسها بتلك الصبغة البروتينية لخلايا الدم الحمراء
التي نطلق
عليها اسم الهيموجلوبين (Hemoglobin)، والذي يُعرف بعد ذلك
باسم الهيموجلوبين المؤكسج، وتحمل الجزيئات المقترنة من الرئتين إلى الجانب الأيسر
للقلب،
ثم خارجه عبر الشريان الأورطى إلى الطرق السريعة الواسعة، والممرات الضيقة للدورة
الدموية
الشريانية، حتى تصل إلى الشعيرات الدموية القاصية في تلك الأنسجة التي تُعَد تغذيتها
هدفًا
لرحلتها.
وبمجرد وصولها، يفصل الأكسجين نفسه عن رفيقه في السفر، أي الهيموجلوبين. وهو يترك
خلايا
الدم الحمراء كما يهبط المسافر من إحدى عربات السكك الحديدية، ثم يَدلِف إلى كلٍّ
من خلايا
النسيج الحي المنفردة سويًّا مع مواد كيمياحيوية لازمة للأداء الطبيعي لوظائف هذه
الخلية.
وفيما قد يُعتقد أنه نوع من التبادل (Exchange)، ينتشر غاز
ثاني أكسيد الكربون إلى الدوران الدموي، والذي يحمل معه أيضًا مخلفات الحياة الخلوية،
حتى
يتم تدميرها أو إفرازها عبر أعضاء التنقية المتعددة المواهب بصورة مدهشة؛ وهي: الكبد،
والكُلْيتان، والرئتان.
ومثل أي جهاز جيد للتسليم والاستلام، يعتمد هذا النظام على انسياب متواصل ومتوقع
للمرور —
حيث «المرور» في هذه الحالة هو الدم. والصدمة (Shock) هو
الاصطلاح المستخدم لوصف تسلسل الأحداث الذي يقع عندما يكون جريان الدم غير كافٍ لملاقاة
احتياجات الأنسجة. وقد تنتج الصدمة عن فشل المِضخة القلبية (كما في حالات احتشاء عضلة
القلب)، أو عن انخفاض كبير في حجم الدم الدائر (كما في حالات النزيف). وتسمى هاتان
الحالتان، بالترتيب، بالصدمة القلبية (Cardiogenic)
والنزفية (Hypovolemic).
ومن المثيرات المألوفة الأخرى للصدمة، نجد تسمم الدم (الإنتانية:
Septicemia)، وهي تعني دخول نواتج العدوى إلى مجرى
الدم. ولما يسمى بالصدمة الإنتانية آثار هائلة على الوظائف الخلوية، كما سنناقش لاحقًا،
لكن
من أفعالها الرئيسية أنها تتسبب في إعادة توزيع الدم؛ بحيث يركد
(Pool) في بعض الشبكات الوريدية الهائلة، مثل تلك
الموجودة في الأمعاء، ومن ثم يُفتقد في الدورة الدموية العامة. ومهما كان السبب، فلجميع
أنواع الصدمة نتيجة واحدة: وهي حرمان الخلايا من مصدرها للتبادل الكيميائي الحيوي
ومن
الأكسجين، وهو العامل النهائي لموتها.
ويتحدد موت الخلايا من عدمه، وكذلك يتحدد ما إن كان سيموت منها عدد كافٍ لقتل المريض،
من
خلال فترة بقاء حالة الصدمة. فإذا استمرت تلك لفترة كافية، فستكون مميتة في الغالب.
وهذه
«الفترة الكافية» هي، بالطبع، مصطلح نسبي: فما طول هذه الفترة الكافية؟ … يعتمد ذلك
على
درجة لاكفاية (Incompetence) الدورة الدموية. فعندما يتوقف
جريان الدم تمامًا، مثلما يحدث في حالات توقف القلب، تحدث الوفاة خلال دقائق معدودة؛
أما
إذا انخفض فقط إلى معدلات تقل نوعًا ما عن تلك اللازمة للبقاء على قيد الحياة يستغرق
الاحتضار وقتًا أطول، وتحدث الوفاة بمعدلات متباينة في الخلايا المختلفة بناء على
كَمية
الأكسجين الذي تحتاجه خلاياها. ولكون الدماغ حساسًا بصورة خاصة للنقص في كلٍّ من الأكسجين
والجلوكوز، فهو يصاب بالقصور سريعًا؛ ولأن حيويته هي الدالة
(Criterion) القانونية للبقاء على قيد الحياة، فمن
الواضح أن هناك حدودًا ضيقة بين الموت وبين استمرارية البقاء في أولئك الأشخاص المصابين
بقصور في الدورة الدموية المخية. ويُعد انقطاع إمداد الأكسجين للدماغ عاملًا مهمًّا
ضمن
مجموعة شديدة التباين من الوفَيَات العنيفة.
وبالرغم من أن حيوية الدماغ هي الدالة القانونية المستخدمة حاليًّا لتحديد حدوث الوفاة
فإنه تبقى هناك فائدة لتلك الطريقة الخالدة التي ظل الأطباء الممارسون يشخصون بها
حدوث
الموت على الدوام. و«الموت السريري» هو الاصطلاح المستخدم لاحتواء تلك الفترة القصيرة
الواقعة بعد أن يتوقف القلب عن النبض نهائيًّا، والتي لا يحدث خلالها أي دوران دموي،
أو
تنفس، أو دليل على وظيفة الدماغ، إلا أن الإنعاش يبقى فيها ممكنًا. وإذا حدث هذا التوقف
بصورة مفاجئة، كما في حالات توقف القلب، أو النزيف الحاد، لا يتبقى سوى وقت قصير قبل
أن
تفقد الخلايا الرئيسية حيويتها — وحيث قد تنجح تلك الإجراءات، مثل الإنعاش القلبي
الرئوي،
أو نقل الدم السريع، في إنعاش المريض الذي انتهت حياته ظاهريًّا — وقد لا تزيد هذه
الفترة
على الدقائق الأربع. وتلك هي اللحظات الحاسمة التي نقرأ عنها ونراها مجسدة على شاشات
التلفاز. وعلى الرغم من أن محاولات الإنعاش تكون فاشلة في الغالب، فهي تنجح في حالات
عديدة
كافية لكي يُسمح بتشجيع القيام بها، بشرط توافر الظروف الملائمة. ولأن الأفراد الذين
هم
أقرب للبقاء على قيد الحياة بعد مرحلة الموت السريري هم الذين تكون أعضاؤهم أكثر حيوية
—
والذين هم من غير المصابين بسرطان في مراحله النهائية، على سبيل المثال، أو بمرض موهن
مثل
تصلب الشرايين أو الخرف — فيظل استمرار بقائهم على قيد الحياة ممكنًا، وذا قيمة محتملة
كبيرة بالنسبة للمجتمع، على الأقل من حيث القدرة على المشاركة. ولهذا السبب، يجب أن
تدرَّس
أساسيات عمليات الإنعاش القلبي الرئوي لكل شخص متحمس.
وكثيرًا ما يسبق الموت السريري (أو يصاحب أولى دلالاته) أكثر من مجرد فترة لحظية
تسمى
بالمرحلة النزاعية [مرحلة سكرات الموت (Agonal Phase)].
ويُستخدم نعت (Adjective) «نزاعي»
[Agonal] من قِبَل الأطباء الممارسين لوصف الأحداث
المرئية التي تقع عندما تكون الحياة بصدد انتزاع نفسها من البروتوبلازم الذي يبلغ
من الضعف
حدًّا لا يستطيع معه الاحتفاظ بها بعد ذلك على الإطلاق. ومثله مثل توءمه الاشتقاقي
(Etymological) — غُصة الموت [الألم المبرح:
Agony] — فهو مشتق من الجذر اليوناني
Agon؛ بمعنى الصراع. ونحن نتحدث عن «سكرات الموت»
بالرغم من أن الشخص المحتضَر قد يكون بلغ حدًّا أبعد من أن يمكنه الإحساس بها، وبالرغم
من
أن كثيرًا مما يحدث هو ببساطة نتيجة للتقلص العضلي الذي تسببه الحموضة النهائية للدم.
وقد
تقع اللحظات «النزاعية» — والتسلسل الكامل للأحداث التي هي جزء منها — في جميع صور
الوفاة؛
سواء كانت تلك مباغتة أو تالية لفترات طويلة من الانحدار نحو المرض النهائي، مثلما
يحدث في
حالات السرطان. وتشبه الصراعات الظاهرية لتلك اللحظات النزاعية، نوبات الاعتراض العنيفة
التي تنبع في أعماق اللاشعور البدائي (Primitive
unconsciousness)، والألم المبرح للرحيل المتعجل للرُّوح. ومهما كان
استعداده المسبق لذلك، في صورة شهور من المرض السابق، يبدو الجسد مترددًا في قبول
الانفصال.
وفي اللحظات النزاعية النهائية، تتصاحب البداية السريعة للنسيان النهائي إما مع توقف
التنفس
وإما مع سلسلة قصيرة من الشهقات اللاهثة الكبرى، وفي أحيان نادرة قد تكون هناك حركات
أخرى
أيضًا، مثل التضيق العنيف الذي أصاب العضلات البلعومية لجيمس مكارتي، مما جعلها تنبح
بهذه
الصورة المرعبة. وفي الوقت نفسه، يزفر الصدر أو الكتفان مرة أو مرتين، وقد يكون هناك
تشنج
«نزاعي» وجيز. وتندمج المرحلة النزاعية بمرحلة الموت السريري، ومنها إلى خلود الموت.
ولا يمكن أن يُخطَأ مظهرُ وجه فارقته الحياة منذ فترة قصيرة كفقدان للوعي؛ ففي غضون
دقيقة
من توقف القلب عن النبض، يبدأ الوجه في اكتساب شحوب الموت الرَّمادي المُبْيَضِّ الذي
لا
تخطئه العين؛ وبطريقة غامضة وموحشة، سرعان ما تبدو الملامح شبيهة بتلك الخاصة بالجثث،
حتى
بالنسبة لأولئك الذين لم يروا جثة لميت من قبل. وتبدو جثة الإنسان كما لو كانت رُوحه
(essence) قد فارقته — وقد فعلت ذلك بالفعل — فهو يرقد
هناك مستلقيًا بلا حَراك، فلم يعد منتفخًا بفعل تلك الرُّوح الحية التي كان الإغريق
يطلقون
عليها اسم «pneuma»،
فالامتلاء النابض بالحياة قد ولَّى بلا رجعة، فقد «تجرد الرجل استعدادًا للرحلة الأخيرة»
—
إذ تبدأ جثة الميت في عملية الانكماش — وفي غضون ساعات قلائل سيبدو الميت «وكأنه في
نصف
حجمه الأصلي تقريبًا.» وقد أعاد إرف لبسينر تمثيل هذا الانكماش عن طريق نفخ نَفَسه
عبر
شفتيه المضمومتين. ولا عجب إذن أن نقول عن حديثي الوفاة إنهم قد «زهَقت أرواحهم»
(Expired).
وتكتنف الموت السريري نظرة مميِّزة له؛ فستقرر ملاحظة تستغرق ثوانٍ قليلة لأحد ضحايا
توقف
القلب أو النزيف الحاد، جدوى محاولات الإنعاش. وإذا بقي هناك أي شك، فهناك العينان
لِتُفحصا: فإذا كانتا مفتوحتين، فستكونان — بداية — زجاجيتين
(Glassy) وعمياوين، ولكنهما، إذا لم تبدأ عمليات
الإنعاش على الفور، فستفقدان في غضون أربع إلى خمس دقائق بريقهما المميز، ومن ثم تصبحان
كَمِدتَين (Dull)، مع توسع الحدقتين، قبل أن تفقدا نور
البصر إلى الأبد. وسرعان ما يبدو وكأن هناك غِلالة رقيقة ذات لون رَمادي غائم قد كست
كلًّا
من العينين، بحيث لا يمكن لأي إنسان أن ينظر من خلالهما ليرى أن الرُّوح قد غادرت
ذلك
الجسد. ولكون استدارة العينين المميَّزة معتمِدةً على شيء لم يعد موجودًا، فسرعان
ما تتفلطح
كرة العين، بحيث تصبح مرئية بالكاد، وهو تفلطح أبدي ليس من بعده قيام.
ويتم التيقن من غياب الدورة الدموية بغياب النبض (Pulse)،
فلا يجد الإصبع الباحث للفاحص أيًّا من العلامات الدالة على وجود شريان نابض أسفل
منه. كما
تكون العضلات المحيطة — إن لم تكن قد انخرطت بعدُ في ضرب من التشنج
(Spasm) — قد بدأت في اكتساب الملمس المتيبس
(Flaccid) لشرائح اللحم الممددة في ثلاجة العرض في
حانوت القصاب. كما يفقد الجلد مرونته، وتذهب تلك اللمعة الخفيفة التي كانت تلتمع يومًا
كأسلوب للتعرف المنعكس (Reflected recognition) على الضوء
الطبيعي: وعند تلك النقطة، تكون الحياة قد انتهت — فلا يمكن استعادتها بأي قدر من
عمليات
الإنعاش القلبي الرئوي.
ومن أجل الإعلان القانوني عن الوفاة، لا بد من وجود أدلة لا تقبل الشك على أن الدماغ
قد
توقف عن العمل. وتتميز دالَّات (Criteria) الموت الدماغي
المستخدمة حاليًّا في غرف العناية المركزة بكونها شديدة الخصوصية؛ فهي تشمل تلك الأعراض
(signs) مثل فقد جميع المنعكسات
(reflexes)، وفقد الاستجابة لجميع المثيرات الخارجية
العنيفة، إضافة إلى فقدان النشاط الكهربي للدماغ كما يظهر في التخطيط المسطح لتخطيط
كهربية
الدماغ (flat E.E.G.) والذي يستمر لعدة ساعات متواصلة. وعند
تلبية هذه المعايير (مثلما يحدث عندما ينتج الموت الدماغي عن إصابات الرأس أو السكتة
الدماغية المنتشرة)، يمكن سحب جميع وسائل الدعم الاصطناعية؛ وهنا سيتوقف القلب، إن
لم يكن
قد توقف بالفعل، مما ينهي جميع أوجه الدورة الدموية.
وعند توقف دوران الدم، يمكن للموت الخلوي أن يكمل نفسه ذاتيًّا؛ فأول ما يذهب هو
الجهاز
العصبي المركزي، بينما يكون النسيج الضام للعضلات والبنى الليفية آخر ما يذهب. وأحيانًا
ما
يمكن — عن طريق الاستثارة الكهربية — إحداث التشنج العضلي حتى بعد الوفاة بساعات؛
كما تستمر
بعض العمليات العضوية، والمسماة باللاهوائية (Anaerobic) لأنها لا تعتمد في عملها على الأكسجين، في
عملها لساعات عدة؛ مثل مقدرة خلايا الكبد على تحطيم الكحول إلى مكوناته الأساسية.
والحقيقة
المفترض أنها معروفة جيدًا بأن الشعر والأظافر تستمر في النمو لفترات زمنية متفاوتة
بعد
الوفاة، ليست بحقيقة على الإطلاق، فلا يحدث شيء من ذلك مطلقًا.
وتتوقف ضربات القلب، في أغلب الوفَيَات، قبل أن يتوقف الدماغ عن العمل. وبصفة خاصة
في
الوفَيَات المفاجئة الناتجة عن الرضح — فيما عدا إصابات الرأس — ينتج توقف نبض القلب
في
الغالبية العظمي من الحالات عن الفقد السريع لقدر من الدماء يزيد عما يمكن احتماله.
ويشير
جرَّاحو الطوارئ لهذا النزيف باصطلاح «الاستنزاف»
(Exsanguination)، وهو اصطلاح أكثر رشاقة من ذلك الأكثر
شيوعًا — وهو «النزيف الحاد» (Bleeding out). وقد ينتج
الاستنزاف عن تمزُّق مباشر لأحد الأوعية الدموية الكبرى أو عن إصابات الأعضاء المفعمة
بالدم؛ مثل الطِّحال، أو الكبد، أو الرئتين، بل أحيانًا ما يتمزق القلب نفسه.
وعادةً ما يكفي الفقد السريع لنحو نصف إلى ثلثي حجم الدم في الجسم لإيقاف القلب. وبما
أن
الحجم الكلي للدم يعادل نحو ٧-٨ في المائة من وزن الجسم؛ فنزيف قدره ثمانية باينتات
(أي نحو
٤٫٨ لترات) في رجل يزن نحو ١٧٠ رطلًا (أي نحو ٧٧ كيلوجرامًا)، أو نزيف قدره ستة باينتات
(نحو ٣٫٦ لترات) في امرأة تزن ١٣٠ رطلًا (نحو ٥٩ كيلوجرامًا)، قد يكون كافيًا للتسبب
في
حدوث الموت السريري. وعند تمزُّق وعاء دموي بحجم الشريان الأورطى، تستغرق العملية
أقل من
دقيقة؛ بينما قد تستغرق هذه العملية، عند حدوث تمزق في الطِّحال أو الكبد، نحو الساعة،
وقد
تستغرق أيامًا، في تلك الأحيان النادرة التي لا ينتج فيها نزيف متواصل عن التمزق.
ومع فقدان الباينتات الأولى، يبدأ ضغط الدم في الانخفاض، ويتسارع معدل ضربات القلب
في
محاولة لتعويض الحجم المتناقص من الدم لكل ضربة. وفي النهاية، لا يمكن لأي قدر من
التكيف
الداخلي أن يعوض المفقودات، فيصبح ضغط وحجم الدم الواصل إلى الدماغ أقل بكثير من أن
يُبقي
على الوعي، ومن ثم يَدلِف المريض إلى الغيبوبة.
وتصاب القشرة المخية بالفشل أولًا، لكن الأجزاء «السفلى» من الدماغ، مثل جذع الدماغ
(Brain stem) والنخاع المستطيل (Medulla
oblongata)، تظل مستمسكة بالحياة لفترة أطول، وبذلك يستمر التنفس،
بالرغم من أن ذلك يحدث بصورة متزايدة الاضطراب. وفي نهاية الأمر، يتوقف القلب شبه
الفارغ،
وقد يصاب بالرجفان قبل أن يتوقف تمامًا، وهنا تبدأ «المرحلة النزاعية»، وتخبو جذوة
الحياة.
وقع هذا التسلسل الرهيب للأحداث بكامله — النزيف، والاستنزاف، ثم توقف القلب، واللحظات
النزاعية، والموت السريري؛ وأخيرًا الوفاة التي لا عودة منها — خلال جريمة قتل بشعة
بشكل
خاص اقتُرفت منذ سنوات قلائل في مدينة صغيرة من أعمال ولاية كونكتيكت، لا تبعد كثيرًا
عن
المستشفى الذي أعمل به.
وقع الهجوم في أحد أسواق الشارع المزدحمة، على مرأى ومسمع من أعداد لا تُحصى من المارَّة
الذين فرُّوا من مسرح الجريمة خوفًا من غضب القاتل الجنوني. كان القاتل لم يرَ الضحية
قبل
لحظة المذبحة الوحشية على الإطلاق، بينما كانت الضحية طفلة جميلة ومرحة في التاسعة
من
عمرها.
كانت كاتي ماسون (Mason) قد أتت من مدينة مجاورة لحضور
السوق، بصحبة والدتها — جوان — وشقيقتها كرستين، التي تبلغ السادسة من عمرها. وقد
رافقتهم
صديقة جوان — سوزان ريتشي (Ricci) — التي اصطحبت معها
طفليها لورا وتيمي، اللذين كانا في مثل عمر طفلتي آل ماسون تقريبًا. وفي الواقع إن
كاتي
ولورا كانتا صديقتين حميمتين درستا رقص الباليه (Ballet)
معًا منذ كانتا في سن الثالثة.
وأثناء تجوال المجموعة مع باقي الجمهور في أحد الأسواق الفرعية المقابلة لفرع محلات
«ولْورث» (Woolworth) المحلي، أخذت كرستين الصغيرة تجذب
ذراع والدتها للفت انتباهها لعروض خيول «البوني» (Pony)
القصيرة، والتي كانت تدور على الجانب المقابل من الشارع، متوسلة إليها أن تصحبها إلى
هناك.
وقد عبرت جوان الطريق، بعد أن تركت كاتي مع الآخرين، متجهة نحو العرض. وبمجرد أن وصلت
للجانب المقابل، سمعت جوان جلبة قادمة من مكانٍ ما خلفها، ثم سمعت صرخة حادَّة لطفل،
فالتفتت، وألقت بيد كرستين، ثم تقدمت خطوات قليلة نحو مصدر الصوت. كان الناس يتفرقون
جريًا
في كل اتجاه، محاولين النجاة بأرواحهم من رجل ضخم رث الهيئة، كان يجثم فوق طفلة صغيرة
ملقاة
على الأرض، بينما كانت يده اليمني المشرعة تطعن الفتاة بغضب شديد. وحتى من خلال غَمامة
عدم
الفهم الذي شل حركتها، فقد عرَفت جوان على الفور أن الفتاة التي كانت راقدة على جانبها
تحت
قدمي الرجل المجنون لم تكن سوى ابنتها كاتي. وفي البداية، لم ترَ جوان سوى ذراع الرجل؛
لكنها أدركت في الحال أن تلك اليد كانت تقبض بعنف على آلة طويلة ملطخة بالدماء، كانت
هذه
الآلة سكينًا للقنص يبلغ طولها نحو سبع بوصات (نحو ١٧٫٥ سنتيمترًا). وباستخدام كل
ما أوتي
من القوة، ظل القاتل يهوي بسكينه مرارًا وتكرارًا، بحركات متواترة متواصلة، على وجه
وعنق
كاتي. وفي لحظة خاطفة، كان الجميع قد فروا من المكان، فأصبح القاتل والضحية وحيدين
فجأة.
ولما لم يكن هناك ما يعوق عمله المجنون، انحنى الرجل أولًا، ثم جلس بجانب الطفلة،
وهو يمزق
أوصالها بتلك الطعنات التي لا تتوقف لذراعه الغاضبة. وعندما رأت الأرض وقد احمرَّت
بلون دم
ابنتها، كانت جوان — التي كانت في ذلك الوقت وحيدة بدورها — تقف على بُعد نحو عشرين
قدمًا،
مسمَّرة هناك بفعل الذهول والرعب. وقد تذكرت بعد ذلك بزمن أن الهواء وقتها كان يبدو
أثقل من
أن يسمح لها بالحركة من خلاله … كانت تشعر بالدفء والخدر يسريان في جسدها، كما لو
كانت
محاطة بغِلالة وهمية من الانعزال.
وباستثناء الطعنات المحمومة لتلك اليد التي لا تنفك تهوي على الطفلة الصامتة صعودًا
وهبوطًا، لم تكن هناك أية حركة تقريبًا في كل ذلك المنظر الذي بدا وكأنه ينتمي لعالم
لاأرضي. وقد كان بوسع أي شخص ينظر من داخل متجر «ولْورث»، أو من احتمى بأي ملجأ قريب
آخر،
أن يرى صورة بشعة للجنون والذبح يتم تمثيلها في ذلك الشارع الصامت. وبالرغم من أن
جوان كانت
واثقة من أن ذلك المنظر البشع كان بلا نهاية، فإن تسمُّرها الثابت في مكانها لم يكن
ليدوم
لأكثر من ثوانٍ قليلة، ولكنها رأت أثناء ذلك الامتداد الظاهري للزمن، السكين وهي تخترق
وجه
طفلتها والجزء العلوي من جسمها الصغير. وقد ظهر رجلان فجأة من مكانٍ ما خارج إطار
تلك
اللوحة وأمسكا بالقاتل، وهما يصيحان في محاولتهما لطرحه أرضًا، لكن شيئًا لم يكن بوسعه
أن
يثنيه عن فَعلته، فقد استمر في طعن الطفلة المسكينة. وحتى عندما بدأ أحد الرجلين في
توجيه
ضربات قوية بحذائه الثقيل إلى وجه القاتل، بدا الأخير غير منتبه لذلك، بالرغم من أن
وجهه
كان ينطرق من جانب لآخر تحت ثقل الضربات الموجهة إليه. وقد ظهر شرطي جرى مسرعًا للقبض
على
الذراع الحاملة للسكين؛ وهنا فقط تمكن الرجال الثلاثة من إخضاع المجنون الهائج وطرحه
أرضًا.
وعندما أُبعد المهاجم المجنون عن كاتي، هرعت جوان للأمام وحملت طفلتها بين ذراعيها
وهمست
وهي تقلبها برقة من على جانبها إلى ظهرها: «كاتي! كاتي!»، كما لو كانت تهدهدها كرضيع
في
مهده. كان وجه الطفلة وعنقها مغطيين بالدم، كما كان ثوبها غارقًا فيه، إلا إن عينيها
كانتا
صافيتين.
«كانت تُحملق فيَّ وفيما ورائي، كما كان هناك إحساس دافئ بداخلي. كان رأسها قد
سقط للخلف، فرفعتها قليلًا، وظننت أنها كانت لا تزال تتنفس … همستُ باسمها عدة مرات
وأخبرتها بأنني أحبها، وعرَفت وقتها أنه كان عليَّ أن أنقلها إلى مكان آمن … كان
عليَّ أن آخذها بعيدًا عن ذلك الرجل، لكن أوان ذلك كان قد فات بالفعل … رفعتها
لأعلى بذراعيَّ، وحملتها هكذا لمسافة قصيرة، ثم سألت نفسي: ماذا أنا بفاعلة؟ … إلى
أين آخذها؟ … فجثوت على ركبتيَّ ووضعتها على الأرض برقة متناهية. بدأ صدرها يعلو
ويهبط بسرعة، وبدأت تتقيأ دمًا. كان الدم يندفع من فمها بكَميات هائلة، وبصورة
مستمرة. لم أكن أظن أنه كان لا يزال بداخلها كل هذا القدر من الدماء. صرخت طلبًا
للنجدة، لكنه لم يكن هناك شيء يمكنني فعله لإيقاف ذلك القيء.
عندما توجهت إليها لأول مرة، رأيت بعض اللمعان في عينيها، كما لو كان ذلك نوعًا
من التعرُّف عليَّ، ولكني عندما وضعتها أرضًا، كانت هناك نظرة مختلفة في عينيها.
وحتى عندما كانت تتقيأ الدم، تحولت نظرة عينيها إلى نظرة زجاجية … عندما كنت
بجانبها للمرة الأولى، كانت لا تزال تبدو حية، أما الآن فلا.
لم تكن هناك نظرة للألم بعينيها، بل كانت نظرتها نظرة اندهاش. وبعد أن تغيرت
الأمور، كانت لا تزال محتفظة بذلك التعبير على وجهها، غير أن عينيها كانتا قد
اكتسبتا مظهرًا يشبه الزجاج قليلًا. وهنا ظهرت امرأة — أظن أنها كانت ممرضة — وبدأت
عملية الإنعاش القلبي الرئوي … لم أَنْبِس ببنت شَفة، لكنني سألت نفسي: لماذا تفعل
ذلك؟ … لم تعد رُوح كاتي تسكن جسدها، فقد كانت هناك، خلفي، وفوقي، بل كانت طافية
…
لن تعود حياتها إلى داخلها بعد الآن، وهي لن تعود أبدًا؛ فقد كان جسدها الآن مجرد
غِلاف خارجي. وعند تلك النقطة، كان كل شيء مختلفًا عما كان عليه عندما توجهت إليها
لأول مرة، كان لديَّ شعور بأن ابنتي قد ماتت … شعرت بأنها لم تعد تسكن جسدها بعد
الآن، وأنها كانت في مكان آخر بالفعل.
وصلت سيارة الإسعاف، وقد حملوها بعيدًا عن تلك البركة من الدماء، وحاولوا دفع
الهواء إلى رئتيها بالقوة باستخدام كيس الطوارئ (Ambu
Bag). كانت عيناها لا تزالان مفتوحتين واسعًا، كما احتفظت بتلك
النظرة الزجاجية. كانت النظرة المرتسمة على وجهها تنمُّ على الدهشة المطلقة، وكأنها
تقول: «ماذا يجري هنا؟» كانت مزيجًا من كونها عاجزة، ومضطربة، ومندهشة؛ لكنها لم
تكن بالتأكيد نظرة تنمُّ عن الرعب، وأتذكر أنني استرحت لأنها لم تكن كذلك، لأني
كنت
أبحث عن أي شعور بالراحة في ذلك الوقت … وبعد ذلك، مرت عليَّ شهور وشهور كنت أسائل
خلالها نفسي، ما قدر الألم الذي أحسَّت به؟ … كنت بحاجة لأن أعرف ذلك؛ فقد رأيتها
تنزف كل قطرة من الدم كانت بجسدها عندما تقيأت. كان صدرها ووجهها مغطيين بالطعنات
والجروح، فلا بد أنها كانت تحرك رأسها من جانب لآخر، في محاولة يائسة منها للهروب
من ذلك الرجل. وقد اكتشفت بعد ذلك أنه ظهر فجأة وأزاح لورا جانبًا، ثم أمسك بشعر
كاتي وألقى بها على الأرض … كانت لورا هي من صرخت، وليست كاتي. كان عليَّ أن أعرف
ما عانته، وما أحست به … أتعرف ماذا كان يبدو عليه شكلها؟ كانت تبدو كمن تحررت.
وبعد أن رأيت ذلك الرجل يهاجمها بهذه الوحشية، أحسست بالأمان عندما رأيت نظرة
الخلاص تلك مرتسمة على وجهها … لا بد أنها قد حررت نفسها من ذلك الألم، لأن وجهها
لم يكن يعبر عنه. وقد ظننت أنها ربما مرت بحالة من الصدمة؛ فقد بدت عليها الدهشة،
وليس الرعب، فبعكس الرعب الذي تملَّكني، لم تكن هي تُظهر شيئًا من ذلك. وقد رأت
صديقتي سوزان هذه النظرة بدورها، وقالت إن كاتي ربما استسلمت، ولكن عندما أخبرتها
بأنني أظن أن تلك النظرة إنما تنم عن الخلاص، قالت: «هو كذلك، إنكِ على حق!»
كنا نحتفظ بصورة لوجهها، كانت الصورة تحمل نفس تلك النظرة التي ارتسمت على
عينيها؛ فقد كانتا متسعتين، لكنهما ليستا في حالة من الرعب؛ فقد بدت النظرة
كالبراءة تقريبًا، بل كخلاص بريء من الألم. وباعتباري والدتها، وفي وسط هذه الدماء
وكل ما عداها، كان من الملطف حقًّا أن أنظر إلى عينيها. وقد أتت عليَّ لحظة عندما
كنت معها، أحسست فيها بأن رُوحها قد فارقت جسدها، وأنها كانت تسبح عاليًا في الأثير
هناك، وهي تنظر إلى نفسها من هناك. وبالرغم من أنها كانت فاقدة للوعي، فقد أحسست
بأنها كانت تدرك بصورةٍ ما أنني معها، بأن والدتها كانت بجانبها وهي تُحتضَر … لقد
جئت بها إلى هذا العالم، وقد كنت هناك عندما فارقَتْه، فعلى الرغم من كل الرعب
والفزع المحيط بالأمر، إلا إنني كنت هناك.»
أسرعت سيارة الإسعاف بكاتي إلى أقرب مستشفى، والذي لم يبعد سوى دقائق معدودة عن موقع
الحادث. وبالرغم من أنه كان من الواضح أنها كانت فاقدة للنبض، وأن موت الدماغ كان
قد حدث
بالفعل عند وصولها إلى المستشفى، وأنها كانت قد تخطت مرحلة الموت السريري، فإن فريق
غرفة
الطوارئ المرتاع بذل كل ما بوسعه لإعادتها إلى الحياة مرة أخرى، برغم معرفة أفراده
المسبقة
والمؤكدة بأن جهودهم ستذهب أدراج الرياح. وعندما توقفوا عن محاولاتهم في نهاية الأمر،
تحول
إحباطهم وغضبهم إلى حزن، فأخبر أحد الأطباء، من خلال دموعه، الوالدة — جوان — بما
كانت
تعرفه بالفعل.
كان قاتل كاتي ماسون رجلًا في التاسعة والثلاثين من عمره، ومصابًا بالفصام الزوراني
(Paranoid Schizophrenia)، كان اسمه بيتر كالكويست
(Calquist). وقد تمت تبرئته قبل سنتين، بسبب اضطرابه
العقلي، من التهمة التي وُجِّهت إليه بمحاولة قتل زميله في الغرفة بالسكين، وقد اتهم
القاتل
زميله بأنه وضع غازًا سامًّا في جهاز التدفئة الخاص بغرفتهما. كان الرجل يحتفظ بسجل
حافل
بمثل هذه الاعتداءات على الناس، بمن فيهم شقيقته وكثير من زملائه في المدرسة الثانوية.
وعندما كان في السادسة من عمره، أخبر أحد الأطباء النفسانيين بأن الشيطان قد بُعث
من قبره
وتقمص جسده، وربما كان محقًّا في ذلك.
وبعد اعتدائه على شريكه في الغرفة، احتُجِز كالكويست في وَحدة مخصصة للمجرمين المضطربين
عقليًّا، موجودة داخل الحرم المنبسط لمستشفى الولاية للأمراض العقلية، والواقع في
إحدى
ضواحي المدينة التي كانت تزورها كاتي ماسون في ذلك اليوم المحتوم من شهر يوليو. وقبل
ذلك
بفترة قصيرة، قضى مجلس استشاري بأن كالكويست قد تعافى من مرضه بصورة تكفي لتحويله
إلى وحدة
أخرى تضم خليطًا من المرضى العقليين؛ وحيث يُسمح للمرضى بالتسجيل للخروج لعدة ساعات
في كل
مرة. وفي صباح يوم الحادث، تمشى كالكويست خارجًا من الوحدة، واستقل إحدى الحافلات
الحكومية
المتجهة إلى المدينة، حيث توجه صوب متجر الآلات المحلي. وبعد أن ابتاع سكينًا للقنص،
توجه
نحو ذلك السوق المضروب في الشارع (Street Fair). وهناك،
وضمن الحشد الواقف خارج متجر «ولْورث»، رأي فتاتين صغيرتين جميلتين ترتديان فستانين
متشابهين. وفي مكانٍ ما من أعماق عقله المختل يقبع سر اختياره لكاتي ذات الشعر الداكن
لتكون
ضحيته، بدلًا من الشقراء لورا. وقد اندفع للأمام، وأمسك بيدها بعنف، ثم طرحها أرضًا،
وبدأ
فعله الشيطاني.
ماتت كاتي ماسون من نزيف حادٍّ أدَّى بها إلى الصدمة النزفية. وبالرغم من أنه كان
بها عدد
كبير من الجروح القطعية في مواضع عديدة من الجزء العلوي من جسمها، فإن المصدر الرئيسي
للنزيف كان الشريان السُّباتي المقطوع تمامًا، والذي أفرغ ما به من الدماء في تمزق
حدث
بالمَرِيء. وقد تدفق الدم من المَرِيء إلى مَعِدتها؛ وقد كان ذلك مصدرَ القيء الدموي
الغزير.
ويقع تسلسل محدد للأحداث في الأشخاص الذين ينزفون حتى الموت. فهم عادةً ما يُظهرون
فرط
التهوية (Hyperventilation) في البداية، وهي المحاولة
التعويضية للجسم لتشبيع الحجم المتناقص للدم الدائر بأقصى كَمية ممكنة من الأكسجين؛
كما
يتسارع معدل ضربات القلب لنفس السبب. ومع فقدان المزيد من الدماء، يبدأ الضغط في الأوعية
الدموية في الانخفاض سريعًا، وتتلقى الشرايين التاجية أقل فأقل منه. وإذا تم تركيب
مِخطاط
لكهربية القلب، فسيُظهر الدلائل على وجود إقفار دموي بعضلة القلب؛ ويسبب الإقفار الدموي
إبطاء ضربات القلب الذي يتلقى القليل من الأكسجين. وعندما ينخفض الضغط الدموي ومعدل
النبض
إلى درجة كافية، يتوقف الدماغ عن تلقِّي كفايته من الأكسجين والجلوكوز، فينتج فقدان
الوعي،
ومن بعده موت الدماغ. وفي النهاية، يبطئ القلب المصاب بالإقفار الدموي حتى يتوقف تمامًا،
عادةً بدون أي دليل على حدوث الرجفان. ومع توقف ضربات القلب، تتوقف الدورة الدموية،
وكذلك
التنفس، كما يكون هناك القليل من الأحداث «النزاعية»، وهنا يكون الموت السريري قد
حدث.
وعندما يصاب وعاء دموي بحجم الشريان السُّباتي بقطع عريض، فقد لا يستغرق تسلسل الأحداث
بكامله أكثر من دقيقة.
ويفسر ذلك كله كيفية وفاة كاتي ماسون. ولكنه لا يفسر ظاهرة شهدتها والدتها، وهي ظاهرة
تتوافق مع أوصاف الكثير من شهود مثل هذه الأحداث المرعبة. فلماذا تموت مثل هذه الطفلة
التي
تعرضت لهجوم مجنون مسلح ينتوي قتلها، ليس فقط بدون أن ترتسم نظرة للرعب على وجهها،
بل إنها
كانت — في واقع الأمر — في حالة من السكينة والخلاص الظاهري، أي بمظهر الدهشة وليس
الرعب؟
وباعتبار الوحشية التي تعرض لها وجهها والجزء العلوي من جسدها بوجه خاص، خلال تلك
الفترة
الوجيزة التي كانت واعية فيها تمامًا ومدركة لما كان يُفعل فيها، لماذا لم يكن هناك
أي دليل
على الفزع، أو حتى الخوف؟
وقد ظل ما وصفته جوان ماسون مصدرًا للتعجب لمئات السنين، في واقع الأمر. وبالنسبة
لبعض
الجنود، كان غياب الألم والخوف هو العامل المحدِّد لقدرتهم على القتال بالرغم من جراحهم
المعوِّقة، مما يجعلهم لا يُحِسُّون بشيء تقريبًا، اللهم فيما عدا إحساس النشوة
(euphoria) بالمعركة، حتى يزول الخطر الوشيك تمامًا،
وبعد ذلك تظهر أوجه العذاب الجسدي والعقلي نفسها في النهاية، أو يحدث الموت. وهناك
الكثير
جدًّا من العمليات الحيوية الفاعلة هنا، غير تلك العملية المعروفة لاندفاع الأدرينالين
«اضرب أو اهرب» (Fight or Flight).
ويقترح «ميشيل دو مونتين» (de Montaigne)، في مقال له
بعنوان «الاستخدام سبب الكمال» (Use Makes
Perfect)، أن المعرفة الطويلة الأمد بأساليب الوفاة
ستلعب دورًا مهمًّا في تلطيف الساعات الأخيرة للمرء:
«أظن أن هناك طريقة معينة لجعله مألوفًا أكثر بالنسبة لنا، وبصورةٍ ما، لاختبار
كُنْهِه. وقد نستفيد خبرة، إن لم تكن تامة ومكتملة، إلا إنها — على الأقل — لن تكون
خبرة عديمة النفع لنا، فهي قد تتركنا أكثر ثقة واطمئنانًا. وإذا لم يكن بوسعنا أن
نتخطاها، فمن الممكن أن نقترب منها وأن نراها، وإذا لم نتمكن من الاقتراب كثيرًا
من
الحصن، فبوسعنا على الأقل أن نكتشف السبل المؤدية إليه وأن نوطن أنفسنا على
معرفتها.»
ويذكر «مونتين» تجرِبة أسقطه فيها عن صهوة جواده فارس «كان يعدو بجواده بأقصى سرعة
في نفس
الطريق الذي كنت مندفعًا بجوادي فيه.» وعندما وجد نفسه مضروبًا ونازفًا، ظن في البداية
أنه
قد تلقَّى طلقة بندقية في رأسه. ولدهشته، فقد ظل محتفظًا بكامل هدوئه: «لم أكتفِ بالإجابة
عن تلك الأسئلة التي وجهوها إليَّ، فقد أخبروني بأنني تمالكت نفسي لدرجة أنني أمرتهم
بتوفير
جواد لزوجتي، التي رأيتها تعاني من السير على الطريق وقد هدَّها التعب.»
وهو يصف إحساسًا بالسكينة، بالرغم من أنه رفض العقاقير المنومة التي قُدِّمت له، «بالرغم
من أنني كنت على يقين بأنني مصاب بجرح مميت في الرأس، فقد كانت حالتي العامة، في الواقع،
في
غاية الانبساط والهدوء، فلم أكن أُحِس بأي مكروه، سواء بالنسبة لي أو للآخرين؛ كان
الأمر
عبارة عن وهن وضعف شديدين، بدون أي نوع من الألم.» وقد أمضى ساعتين أو ثلاثًا من السكينة
ترقبًا للموت الذي لم يأت، وهو مقتنع تمامًا بأنه «سيمضي بعذوبة وبطريقة غاية في الرقة
واليسر.» وفي نهاية ذلك الوقت، قال: «أحسست بنفسي وقد اعتراني ألم مبرِّح، فقد بدت
أطرافي
محطمة، وسقطت على الأرض منهكًا، وقد ظلِلت شديد الاعتلال لليلتين أو ثلاث بعد ذلك،
لدرجة
أنني أحسست بأنني أُحتضَر مجددًا، لكن الموت في هذه المرة كان أشد إيلامًا.»
ومهما كان ذلك المؤثر الذي خدَّر عقل مونتين المصاب بجروح خطيرة لهذا الحد، فقد انتهى
فعله سريعًا. فبعد تلك الفترة الأولية التي امتدت لساعات معدودة، بدأ يحس بألم مبرِّح.
وقد
ذهبت السكينة والفتور، وتقبل قدوم موت سهل وشيك. فلم يعد هناك مهرب من واقع عذابه
وخوفه.
وليست القصص المشابهة لحكاية مونتين بالنادرة، وأحيانًا ما يعطيها رُواتها خاصية
صوفية
(Mystical)،
كما لو كانت هناك أحداث خارقة للطبيعة ولا تفسير لها قد وقعت بالفعل. ولكن بالنسبة
لطبيب
أمضى حياته المهنية برفقة الجروح التي تُصنع باسم العلاج الجراحي، وغيرها من الجروح
الناتجة
عن العنف الذي يسود عالمنا المعاصر، هناك نَموذج أولي
(Prototype) لهذه الحكايات المتعلقة بالسكينة والراحة
المتراخية التي تلاحَظ على وجوه أولئك المفترض إصابتهم بجروح مرعبة وشديدة الإيلام.
وهذا
النموذج الأولي هو نتاج حقن عقَّار أفيوني الفعل (Opiate)
أو غيره من العقاقير المضادة للألم ذات الفعل المخدر. وعندما يكون العقَّار مختارًا
بعناية،
والجرعة عالية بما فيه الكفاية، يذهب الخوف، كما يخبو ألم حتى أقسى البضوع الجراحية
أو
الإصابات، حتى يتحول إلى سحابة رقيقة من اللامبالاة. ويقرر الكثير من المرضى وجود
إحساس
بالتحسن، كما أنني قد رأيت حالات من النشوة (euphoria)
البسيطة تاليةً لجرعة ملائمة من عقَّار مخدر شبيه بالمورفين.
وليس من الصعب التصديق بأن الجسم البشري ذاته يعرف كيف يصنِّع تلك المواد الشبيهة
بالمورفين (Morphinelike)، كما يعرف كيف ينظم توقيت إفرازها
ليتوافق مع لحظة الحاجة لها. وقد تكون «لحظة الحاجة» تلك، في الواقع، هي ذلك المؤثر
الفعلي
الذي يستحث بداية العملية.
وهذه الأفيونيات (Opiates) ذاتية الإفراز موجودة بالفعل،
وتسمى بالإندورفينات (Endorphins). وقد أُطلق عليها ذلك
الاسم بعد اكتشافها بقليل منذ نحو عَقدين من الزمان، عن طريق المزج بين الكلمتين الواصفتين
لها: فهي «مواد ذاتية المنشأ شبيهة بالمورفين» (endogenous morphine-like
substances). وقد ظهر اصطلاح «ذاتي المنشأ»
(Endogenous) في الموسوعة الطبية منذ ما لا يقل عن
القرن، وقد تمت صياغته من كلمتين يونانيتين: endon بمعنى
«بداخل» أو «داخلي» وgennao بمعنى «أنا أصنع». وعلى ذلك، فهو يشير إلى تلك
المواد أو الحالات التي نخلقها داخل أجسادنا ذاتها. أما المورفين
(Morphine)، فهو يذكرنا — بطبيعة الحال — بمورفيوس
(Morpheus)؛ وهو إله النوم والأحلام عند
الرومان.
وهناك بنًى عديدة في الدماغ قادرة على إفراز الإندورفينات كاستجابة للضغط النفسي
(الكَرْب: stress)، بما فيها الوطاء
(Hypothalamus) ومنطقة تسمى بالمادة الرَّمادية حول
المسالية (Periaqueductal Gray Matter)، إضافة إلى الغدة
النخامية (Pituitary). ومن المعلوم أن جزيئات الإندورفين —
جنبًا إلى جنب مع الهُرمون الموجه لقشر الكُظر (ACTH)، وهو
هُرمون ينشط عمل الغدتين الكُظريتين — تربط نفسها، كما تفعل غيرها من المخدرات
(Narcotics)، بمواقع بؤرية، تسمى بالمستقبلات
(Receptors)، موجودة على سطح خلايا عصبية معينة. ويتلخص
فعلها في تغيير الإدراك الحسي الطبيعي. ويبدو أن الإندورفينات تلعب دورًا مهمًّا،
ليس فقط
في زيادة عتبة الإحساس بالألم (Pain Threshold)، بل وفي
تغيير الاستجابات العاطفية أيضًا. وبالإضافة إلى ذلك، فهناك أدلة على أنها تتفاعل
مع
الهُرمونات الشبيهة بالأدرينالين بالمثل.
وفي الشخص الطبيعي الذي لا يعاني من الكَرْب وغير المصاب، ليس هناك من دليل على وجود
فعل
للإندورفينات ملطف للألم ومغيِّر للحالة الشعورية. فالأمر يتطلب درجة محددة من الإصابة،
سواء كانت تلك جسدية أو عاطفية، لكي تقفز الإندورفينات لتأدية عملها. أما مستوى، أو
حتى
نوعية تلك الإصابة الضرورية، فلم يتم تحديده بدقة حتى الآن.
وعلى سبيل المثال، ربما كان مجرد الاستثارة بالإبر الصينية
(Acupuncture) كافيًا ليتسبب في إنتاج فيض من
الإندورفينات. ومن خلال سلسلة من زيارات العمل لكليات الطب الصينية على مدى سنوات
عدة،
أصبحت مهتمًّا بعلم الوخز بالإبر (الإبر الصينية) بعد أن شاهدت العديد من العروض التي
تثبت
فاعليتها كبديل للتخدير في الجراحات الكبرى. وفي عام ١٩٩٠م زُرت البروفسور «كاو زياودنج»
(Cao Xiaoding)، وهو عالم بالبيولوجيا العصبية
(Neurobiologist) يترأس مجموعة تنسيق جامعة شنغهاي
الطبية لأبحاث التخدير والتسكين بالإبر الصينية (Acupuncture Anesthesia and
Analgesia Research Group)، وهي منظمة تضم ثلاثين من أعضاء هيئة
التدريس، وستة مختبرات لعلوم الدوائيات العصبية (Neuropharmacology)، والفيزيولوجيا العصبية
(Neurophysiology)، والكيمياء الحيوية العصبية
(Neurobiochemistry)، وعلم النفس السريري
(Clinical
Psychology)، والمورفولوجيا العصبية
(Neuromorphology)، وعلم الحاسوب. وقد أنتج فريق البروفسور
كاو كمًّا هائلًا من الأدلة التجريبية والسريرية التي تشير إلى أن أساس النجاح غير
المشكوك
فيه للوخز بالإبر في بعض التطبيقات المحددة، هو استثارة إفراز الإندورفينات عن طريق
مُنابلة
(Manipulating) الإبر الاهتزازية
(Vibrating) أو الدورانية
(Rotating). وبالرغم من أنه قد تم إثبات حدوث ارتفاع
ملحوظ في معدلات الإندورفينات خلال عمليات الوخز بالإبر مرارًا وتكرارًا — ليس في
شنغهاي
وحدها، بل وفي عدد كبير من المختبرات الغربية أيضًا — إلا إنه لم يسبر غور الدماغ
حتى الآن.
وربما كان فعله شبيهًا بتلك الآلية التي تثير الاستجابة المألوفة للكَرْب.
ومنذ أواخر السبعينيات، تم اكتشاف كون الإندورفينات تُظهر نفسها في حالات الصدمة
الناتجة
عن النزيف الحاد أو تسمُّم الدم؛ كما أن ارتفاع معدلاتها في حالات الإصابة الجسدية
بجميع
أنواعها مذكور بكثرة في الوثائق العلمية الجراحية. وحتى وقت قريب نسبيًّا، لم تُدْرَس
هذه
الظاهرة في الأطفال، لكنَّ تقريرًا حديثًا من جامعة بتسبرج يُظهر وجود نفس تلك الأنماط
الموجودة في البالغين، وتحديدًا في وجود زيادة معتبرة في الإندورفينات في أولئك المرضى
من
ذوي الإصابات الشديدة، مقارنةً بأولئك المتعرضين للرضح البسيط. وقد وُجد أن بعض الأطفال
الذين لم تُصَب أجسادهم إلا بسَحَجات (Abrasions) بسيطة، قد
ارتفعت معدلات الإندورفينات لديهم نوعًا ما.
ولن نتمكن على الإطلاق من التعرف على معدلات الإندورفينات في جسد كاتي ماسون (ومما
لا شك
فيه أن بعض زملائي الذين يطالبون بالبراهين المادية، سيجدون خطأ في افتراضي بأن هذه
المعدلات كانت مرتفعة)، لكني على يقين من أن الطبيعة قد تدخَّلت — كما تفعل دائمًا
— لإضافة
تلك الجرعة الملائمة تمامًا من الدواء الذي يمنح قدرًا من السكينة للطفل المحتضَر.
ويبدو أن
ارتفاع معدلات الإندورفينات هو آلية فيزيولوجية غريزية لحماية الثدييات — وربما غيرها
من
الحيوانات — من الأخطار العاطفية والجسدية للرعب والألم. وهي وسيلة للبقاء، ربما كانت
لها
قيمة تطورية، ولذلك فقد تكون ظهرت أولًا في أثناء فترة التوحش مما قبل التاريخ، عندما
كانت
الأحداث المفاجئة المهددة للحياة تقع بكثرة. ومما لا شك فيه أن حياة الكثيرين قد أُنقذت
من
خلال الاستجابة المذعورة (Panicky) للخطر المفاجئ.
ويبدو أن جوان ماسون، بدورها، قد قامت إندورفيناتها بحمايتها. وقد أخبرتني بأنه لولا
إحساسها بالدفء شبه السماوي، وشعورها بأنها مُحاطة بهالة عازلة كثيفة، فباعتقادها
أنها كانت
لا بد من أن تصاب بنوبة قلبية وأن تموت هناك في الشارع بجوار ابنتها. وقد كان إنسان
ما قبل
التاريخ البدائي، والذي لم يستسلم قلبه ولا جهازه الوعائي للرعب المطلق في لحظة مهاجمة
حيوان مفترس له، هو ذلك الفرد الذي بقي على قيد الحياة لكي يتمكن من إنجاب ذرية ذات
استجابة
قريبة الشبه باستجابته هو.
وبالرغم من وجود روايات كثيرة عن حدوث مثل هذا الشيء، فإنه لم تُبذل سوى محاولات
قليلة
للغاية من أجل دراسة هذه الظواهر بطريقة منهجية؛ فنحن نقرأ درس مونتين الفلسفي، أو
قصة
جندي، أو ربما تقرير أحد متسلقي الجبال الذي أحس بطمأنينة داخلية غير معتادة أثناء
السقوط
الحر (Free Falling) إلى موت مفاجئ غير متوقع. والبعض منا
لديهم حكايات خاصة بهم. وهناك، بطبيعة الحال، أوقات تفشل فيها الإندورفينات، وهنا
يأتي
الموت بكل عذابه وقسوته.
وحيث إن الإندورفينات قد تمس أمورًا جسدية بالنسبة للبعض، وأخرى رُوحانية بالنسبة
للبعض
الآخر، فمن المفيد دراسة تجرِبة رجل بليغ كان هدفه يتمثل في علاج الاثنين. ويميل الكثيرون
لنسيان أن المستكشف العظيم دافيد ليفنجستون (Livingstone)
كان مبشرًا طبيًّا (Medical
Missionary). وقد نجا من عدد من الوفَيَات المحققة أثناء
غزواته الإفريقية، لكن هناك واحدة منها تُجسِّد الطريقة التي يعمل بها البروتوبلازم
(Protoplasm) والإكتوبلازم
(Ectoplasm) قريبين من بعضهما في بعض الأحيان، في نفس
اللحظة التي يبدو فيها أنهما سيفترقان للأبد.
وفي فبراير من عام ١٨٤٤م، عندما كان ليفنجستون في الثلاثين من عمره، وثب عليه ذات
يوم أسد
جريح كان يحاول أن يحمي منه عددًا كبيرًا من تابعيه من رجال القبائل المحلية، وقد
مزَّق
فكَّا الحيوان الثائر ذراعه اليسرى. وقد شعر بأن جسده قد رُفع عن الأرض واهتز بعنف،
عندما
غاصت أنياب الأسد في لحمه عميقًا، محطِّمة عظمة عضده
(Humerus) المستبطنة، ومحدِثة أحد عشر تمزقًا في الجلد
والعضلات النازفة. وقد كان لأحد أفراد مجموعة ليفنجستون، وهو مؤمن جديد يسمى ميبالوي،
من
حضور الذهن ما مكَّنه من تناول بندقيته وحشو كلٍّ من ماسورتيها بالبارود، بحيث أفزع
الحيوان
لدرجة أنه ألقى بطريدته وفر هاربًا، ليموت على مقربة منهم بفعل الجرح الذي أحدثته
رصاصة
ليفنجستون التي أطلقها قبل أن يثب عليه بقليل.
وقد كان لدى المستكشف المصاب كثير من الوقت للتفكير بالمجال الضيق لنجاته خلال تلك
الفترة
التي طالت لأكثر من شهرين، والتي استغرقها تعافيه من آثار النزيف، والكسر المضاعف
المفتت،
والعدوى الخطيرة التي بدأت بإفراز القيح خلال فترة وجيزة. وبقدر دهشته لنجاته، فقد
اندهش
لتلك السكينة (equanimity) التي أحس بها عندما كان في قبضة
الأسد الثائر. وقد وصف، فيما بعد، تلك الواقعة وإحساسه الذي لا يخطئ بالطمأنينة، في
مذكراته
التي نُشرت عام ١٨٥٧م بعنوان «أسفار وبحوث تبشيرية في جنوب أفريقيا»
(Missionary Travels and Researches in South
Africa).
«كان الأسد يزأر قرب أذني بصوت مرعب، ثم كوَّمني كما يفعل الكلب الزغاري
(Terrier) بجرذ. وقد أحدثت فيَّ الصدمة ذهولًا
شبيهًا بذلك الذي يُحس به الفأر بعد الهجمة الأولى للهر. وقد أحدثت فيَّ حالة
حالمة، لم يكن بها أي إحساس بالألم أو بالرعب، بالرغم من أنني كنت مدركًا لكل ما
كان يجري من حولي. وذلك إحساس شبيه بذلك الذي يصفه المرضى الواقعون تحت التأثير
الجزئي للكلوروفورم، والذين يشاهدون العملية الجراحية بكاملها، لكنهم لا يحسون
بمبضع الجرَّاح. ولم تكن هذه الحالة الفريدة ناتجة عن أيٍّ من العمليات العقلية.
وقد أزال الهجوم الخوف، ولم يدع مجالًا لأي إحساس بالرعب عند رؤية الوحش. وربما
حدثت تلك الحالة المميزة في جميع الحيوانات التي تفترسها آكلات اللحوم؛ وإذا كان
ذلك صحيحًا، فسيكون ذلك هبة كريمة من خالقنا الرحيم لتلطيف ألم الموت.»
وفي تلك الأيام الخوالي، عندما كان علم المختبر في بدايات شَراكته الطويلة مع الطب
السريري، كان تفسير ليفنجستون لهدوئه الغريب تفسيرًا ربما اتفق فيه معه أغلب الناس.
ولم يكن
هناك بُدٌّ من العلم البدائي (Prescience)، أو ربما من
إنكار المعتقدات، لاستلهام علم وظائف الأعضاء (الفيزيولوجيا) في تلك اللحظات المبكرة
عندما
لم يكن الفحص المجهري والتحليل الكيميائي سوى رضيعين في المهد. أما أن يكون ليفنجستون
قد
خمَّن — بصورةٍ ما — أساسيات تلك التحولات الكيميائية الحيوية المتعلقة بالكَرْب في
حالات
الوعي المختلفة، فهو من غير المحتمل تمامًا؛ ففي غياب طفرة علوية من البصيرة التنبؤية
(Prophetic)، والتي تتجاوز قدرات حتى المبشر المرَسِّم
(Ordained)، فلم يكن بوسعه أن يتنبأ باكتشاف مثل هذه
الظاهرة.
وقد عايشت بنفسي تجرِبة شخصية لمثل هذا الحادث. ولست شخصًا خوافًا
(fearful) بطبيعتي، ومع ذلك، فهناك موقفان يصيبانني
بالرعب إلى حد اللاعقلانية المرضية: وهما أن أجد نفسي ناظرًا لأسفل من علوٍّ شاهق،
وأن
أُغمَس في ماء عميق. ويكفي أن أفكر بأيٍّ من هذين الخطرين لكي ينطلق تشنج مضيِّق في
كلٍّ من
عضلاتي العاصرة (Sphincters) من قمة القناة الهضمية حتى
أقصى نهايتها. وليس الأمر أنني أحذر المياه العميقة فحسب، أو حتى أنني أخافها، لكنها
تُفقدني آدميتي، مما يجعلني أنكمش نحو جُبن رُهابي خائر. وحتى عندما أتواجد في مسبح،
وأنا
محاط بشبان أصحاء يمكن لأيِّهم إنقاذي من الغرق بدون أن يتكلف سوى عناء إجهاد ليفة
واحدة من
إحدى عضلاته الشبيهة بعضلات «أرنولد شفارزنيجر»
(Schwarzinneger)، فقد أحسست غير مرة بذلك اليقين
المرعب بالغرق الوشيك؛ وقد تفجَّر ذلك في دماغي بالإدراك البسيط لأني قد تجاوزت العمق
المسموح لي به ببضع بوصات.
عندما كنت بصحبة أحد زملائي الأمريكيين وستة من أعضاء هيئة التدريس في جامعة «هونان»
الطبية قرب مدينة «شانجشا» الواقعة جنوبي وسط الصين، كنت أغادر موقع مأدبة كبيرة (تكوَّن
الكحول الذي تناولته فيها من زجاجة من جعة «تسنجتاو» تناولتها في أثناء المرحلة المبكرة
من
وجبة الطعام التي امتدت لساعتين)، وقد كنا نتجاذب أطراف الحديث أثناء تَجوالنا فوق
ممر
متعرج يمتد لمسافة قصيرة فوق ما بدا كبركة ضحلة عاكسة للأضواء. كنت مرتديًا ملابسي
الكاملة،
كما كنت أحمل فوق كتفي حقيبة صغيرة نصف ممتلئة. ولكوني زرت هذه المَضافة قبل سنتين،
فلم
أستغرب الطريق، لكن يبدو أنني لم أضع في الحسبان ضيق ذلك الممشى، أو الغياب الفعلي
للإضاءة
الخارجية في تلك الليلة الظلماء. وأثناء التفاتي للخلف، مخاطبًا أحد مضيفيَّ الذي
كان يسير
خلفي، وجدت نفسي فجأة وقد اختفت الأرض من تحت قدمي اليمنى. وفي لحظة خاطفة، كنت قد
سقطت
رأسًا على عقب في تلك المياه الحالكة السواد، وكنت مستمرًّا في الغرق. وفي نفس الوقت
تمامًا، وفي لحظة من إدراك أنني كنت في وضع رأسي تمامًا، وأنني كنت مستمرًّا في التوغل
عميقًا؛ شعرت بمفاجأة مذهلة، مع إحساس طفيف — لكنه بعيد للغاية — بالتسلي الساخر،
كما لو
كنت أؤدي حركات بهلوانية فاشلة وسخيفة لم تتم كما خططت لها تمامًا. وفي الوقت نفسه،
كنت قد
ضقت ذرعًا بنفسي عندما أدركت على الفور — حتى وأنا بسبيلي للغرق، وكأني متجه نحو مجرى
مائي
ضيق يمر خلال القشرة الأرضية موصلًا إلى مدينتي، نيو هافن، مباشرة — كما لو أن قدرًا
ضئيلًا
من التبلد قد أعاق تنفيذ مهمتي في «هونان» بنجاح. أما أكثر الأحداث إثارة للدهشة،
فهو أنني
لم يخامرني أي شعور بالخوف، ومن المؤكد أنه لم يدُر بخَلَدي أنني قد أكون بسبيلي
للغرق.
وبالرغم من أنني لم أكن مدركًا لذلك، فلا بد أنني وصلت إلى قاع البركة، وانتفضت منه
لأعلى
بالغريزة كما لو كنت سباحًا مدرَّبًا، لأنني وجدت نفسي على الفور أصعد لأعلى تمامًا،
حتى
اخترق رأسي سطح الماء. أمسكت بالأيدي الممدودة لرفاقي الذين كانوا يتصايحون وقد أصابهم
الرعب، ثم تسلقت خارجًا من البركة، مستخدمًا تلك الصخور الناتئة التي تكوِّن جانبي
البركة
كمواطئ لقدمي. كانت حقيبتي لا تزال فوق كتفي؛ وقد كان كل ما فقدته هو نظارتي الطبية،
وبعضًا
من ذلك الشعور الحيوي بالكرامة الذي يطلق عليه الصينيون اسم «ميانازي»، أو «ماء الوجه»؛
فقد
وقفت للحظات، وقد تملَّكني شعور بالغباء، وبالحرج، وفجأة، بالبرد الشديد.
ولا يمكن أن تكون غطستي العميقة قد طالت لأكثر من ثوان معدودة، وهنا يصبح استدعاء
الإندورفينات مجرد افتراض آخر، بدون احتمال إثبات صحته. لكنني أربط بين هذه الواقعة
كشهادة
شخصية، وبين ذلك الظرف المفاجئ وغير المتوقع الذي لا بد من أنه قد تسبب في ذلك الفقدان
الفوضوي للسيطرة، والذي لم ينتج عنه سوى انطباع منفصل (Detached
imprint) لتلك الملاحظات العقلانية الساكنة الهادئة المتعلقة بالمأزق
الذي انزلقت «حرفيًّا» إليه. ويبدو أن عامل الصدمة العاطفية قد استثار استجابة للكَرْب
(Stress-response) حرمتني من إدراك الخطر، وبذلك فقد
منع حدوث ذلك التفكك الناتج عن الذُّعر، والذي كان سيقع فيما عدا ذلك. ويبدو أنني
قد نجوت
من ذلك التخبط غير الفعال للذراعين واستنشاق كَمية من المياه الراكدة، ناهيك عن الحتمية
المؤكدة لاصطدام رأسي بتلك الصخور المسننة، والتي لم تبعد عنه سوى بوصات قليلة.
كانت تلك اللحظات القصيرة من الخطر المحدق بي بالكاد في نفس حجم ذلك الاعتداء الحسي
الذي
ألمَّ بمونتين، أو بليفنجستون. ولست من اللامبالاة بحيث أقارنهما بتلك الأحداث المأسوية
التي تعرضَت لها كاتي ماسون الصغيرة. ومع ذلك، وباستثناء الفارق الهائل في الحجم،
فيبدو أن
جميع تلك الأحداث تخدم تفسير الظاهرة نفسها؛ أي السكينة الظاهرية بدلًا من الإحساس
بالرعب،
والاستسلام بدلًا من الصراع الهازم للذات. وقد تأمل الكثيرون في الأسباب وراء حدوث
مثل هذه
الأشياء بهذه الصورة، وتنتشر الأجوبة بطول وعرض طريق فلسفي يبلغ عرضه نفس المسافة
التي تفصل
بين الرُّوحانية (Spiritualism) والعلم. ومهما كان المصدر،
فيبدو أن الجنس البشري وكثير من الأنواع الحيوانية تتم حمايته في نفس تلك اللحظة التي
يقترب
فيها الموت المفاجئ. وتتم هذه الحماية، ليس فقط من الرعب المصاحب للموت ذاته، بل ومن
بعض
أنماط الأفعال ذات التأثير المعاكس، والتي قد تضمن وقوعه أو تُطيل من العذاب المرافق
له.
وأصِل هنا إلى منطقة خطرة، لكنه لا مفر منها، وهي تلك الظاهرة المعروفة باسم تجارِب
الاقتراب من الموت (
Near-Death Experiences)، وكثيرًا ما
تُكتب بحروف مختصرة كبيرة للتوكيد (
NDE)، والتي كثُر الحديث
حولها مؤخرًا. ولا يمكن لأي باحث جادٍّ أن يتجاهل تلك الحكايات الكثيرة عن الاقتراب
من
تجاوز حدود الحياة، والتي قام بتجميعها باحثون ثقات في أثناء محاوراتهم مع الناجين
الموثوق
بهم. وقد استلهم أولئك الذين ينشدون تفسير نتائج أبحاثهم بناءً على أسس علمية معقولة،
عددًا
كبيرًا من الأسباب المحتملة، والتي تتراوح من تلك النفسانية إلى تلك الكيمياحيوية؛
بينما
يبحث آخرون عن التفسير في معتقداتهم الدينية أو الباراسيكلوجيا؛
١ في حين يقبل البعض هذه التجارِب كما هي، معتقدين بأن هذه التجارِب والخبرات
ليست واقعية فحسب، بل تمثل — في الواقع — المراحل الأولى للدخول إلى حياة أخرى هانئة،
دائمًا ما يتخيلون أنها تنتهي في جنات النعيم أو ما يقابلها.
وقد قام عالم النفس كنيث رينج (Ring) بمحاورة ١٠٢ من
الناجين من إصابات أو أمراض مهدِّدة للحياة بالخطر. وقد وافق تسعة وأربعون منهم معاييره
(criteria) لتجارِب الاقتراب من الموت البسيطة أو
العميقة، بينما وجد أن ثلاثة وخمسين يندرجون تحت المجموعة التي أطلق عليها اسم «غير
المتعرضين للتجرِبة» (Nonexperiencers). وقد عانت الأغلبية
العظمى من المحاوَرين المرضى، من حادثة مرضية مفاجئة، مثل احتشاء الشرايين التاجية،
أو
النزيف الحاد. وقد عثر الدكتور رينج على بعض العناصر المتتابعة الأساسية بين أولئك
الذين
تفاعلوا إيجابيًّا: الطمأنينة، والإحساس بالعافية، ثم انفصال الجسد، ثم الدخول إلى
منطقة
مظلمة، ثم رؤية النور، ثم الدخول في ذلك النور. وتضم الخصائص الأخرى — والنادرة —
استرجاعًا
لأحداث حياة المرء، ولقاء «بحضرة ما»، والتقاء المتوفين من الأحباء، واتخاذ القرار
بالعودة
إلى عالمنا. وقد كان بعض مرضى الدكتور رينج من الاعتلال — طبيًّا — بحيث اعتُقد أنهم
قد
دَلَفوا إلى مرحلة الموت السريري، لكن أغلبهم لم يكن قد وصل وقتها إلى تلك المرحلة،
بحيث
كان الخطر يتهدد حياتهم فحسب.
وليس لديَّ أي أساس لتفسير ما يسمى بمتلازمة «لازاروس»
٢ أكثر مما يمتلك أولئك الذين أطالوا التفكير بها، لكني أريد أن أُظهر قدرًا من
الاحترام لتلك الحقائق الملاحظة من بينها، أكبر من ذلك الذي أُظهره لتلك الأكثر تعلقًا
بالأماني من بينها، خصوصًا تلك التي تصل إلى حد تسمية موضوعات جهودهم الشاقة بتجارِب
ما بعد
الموت (
After Life Experiences). ولكي أفعل ذلك، أجد أنه من
المفيد النظر إلى تلك الآثار البيولوجية المحتملة للظاهرة: ماذا يمكن أن تكون فائدتها؟
وكيف
تكون مفيدة في المحافظة على الأفراد وعلى النوع؟
وأعتقد أن تجارِب الاقتراب من الموت تمثل نتيجة لملايين السنين من التطور البيولوجي،
وأن
لها وظيفة لحفظ حياة أفراد الجنس البشري. ومن المرجَّح تمامًا أنها شبيهة في طبيعتها
بتلك
العملية التي وصفناها في الصفحات السابقة. وحقيقة أنها تبدو في أحيان قليلة أنها تحدث
حتى
عندما تطول فترة «الموت»، أو عندما يحدث بدون كَرْب نسبيًّا، لا تُغيِّر من توقعاتي
من أن
هذه العملية سيثبت في يوم من الأيام أنها موجَّهة (Driven)،
إن لم يكن بالإندورفينات تحديدًا، فبآلية كيمياحيوية مماثلة. ولن أندهش إذا ثبت أن
بعض
العناصر الأخرى التي كان من المعتقد أنها تمثل أسبابًا محتملة، يلعب دورًا في العملية
بالفعل، مثل آلية الدفاع النفسي المسماة بتبدُّد الشخصية (فَقْد التشخص:
Depersonalization)، والآثار الهلوسية للإحساس بالرعب،
والنوبات الصَّرَعية (Seizures) التي تنبع من الفصَّين
الصدغيَّين (Temporal Lobes) للدماغ، وانخفاض معدلات
الأكسجة الدماغية. وبالتبادل، فقد يكون إطلاق الوسائط الكيمياحيوية، في واقع الأمر،
هو
النتيجة، أو المحفز لواحدة أو مجموعة من هذه العمليات. وفي تلك الحالات المحتملة القليلة
التي تقع فيها الظاهرة أثناء الموت الوشيك للمرضى الانتهائيين، قد تلعب عوامل أخرى
— بطبيعة
الحال — دورًا في العملية، مثل حقن المخدرات أو المواد السامة التي تنتج عن المرض
ذاته.
ومثل كثير غيرها من التفسيرات الكيمياحيوية للظواهر الغامضة، والتي تبدو سحرية (صوفية:
Mystical)، لا يمكن مناقشة هذا التفسير مع المتدينين
منا. ولست بأول من فكر في تلك الطرق الغامضة التي يُعتقد أن مشيئة السماء تُنفذ بها.
ولا في
مصدر تلك الشائعة القائلة بأن المواد الكيميائية قد تُستخدم في تنفيذها. وكمتشكك معروف،
فأنا مقيد بالالتزام بأننا يجب ألا نكتفي بالبحث في طبيعة جميع الأشياء، بل أن نكون
مستعدين
للاعتقاد بأن كل شيء جائز. ولكن، وفي الحين الذي يمكن فيه للمتشكك الحقيقي أن يوجد
سعيدًا
في حالة دائمة من العنادية،
٣ يتمنى بعضنا لو يتمكن أحد من إقناعهم. وهناك شيءٌ ما بداخل رُوحي العاقلة
(
Rational Soul) يتمرَّد على استلهام الباراسيكولوجيا،
ولكن ليس الإيمان بالله بكل تأكيد؛ فلا شيء يسعدني في الدنيا أكثر من الإحساس بوجوده،
وبوجود حياة أخرى سعيدة أيضًا. ولسوء الحظ، فليس هناك أي دليل على وجود مثل تلك الحياة
في
تجارِب الاقتراب من الموت هذه.
ولست أتشكك في وجود ظاهرة الاقتراب من الموت، والسكينة
(equanimity) التي تُحَس أحيانًا عندما يتهددنا الموت
بصورة مفاجئة. ومع ذلك، فأنا أتشكك في تكرار حدوثها ضمن ملابسات غير تلك المباغتة.
ومن
المؤكد أن الراحة والطمأنينة، وخصوصًا تلك السكينة الواعية لتلك الأيام المتباطئة
الأخيرة
للحياة على ظهر الأرض، قد أُعطيت حجمًا أكبر بكثير مما هي عليه على أيدي كثير من المعلِّقين
(Commentators)، لكننا لا نستفيد كثيرًا من كوننا نركن
لتوقعات لا مبرر لها.