الفصل السابع
الحوادث والانتحار والقتل الرحيم
في خطبة شهيرة أُلقيت في جامعة هارفارد عام ١٩٠٤م، وهي محاضرة «إنجرسول»
(Ingersoll) عن الخلود البشري، تحدَّث وليام أوسلر عن
امتلاكه لما وصفه بسجلَّات فراش الموت (Deathbed
Records) لما يقرب من خمسمائة شخص، «تمت دراستها على
وجه الخصوص فيما يتعلق بأنماط الوفاة وأحاسيس المحتضَرين.» قال أوسلر إن سجلات تسعين
حالة
منها فقط هي التي ظهرت فيها آثار الألم أو التوتر. ومن تلك الحالات الخمسمائة، «لم
تُظهر
الغالبية العظمى علامات دالة، بصورة أو بأخرى؛ فمثل ولادتهم، كانت وفاتهم عبارة عن
نوم
ونسيان.» وقد كان المحتضَر، حسب وصف أوسلر: «تائهًا، لكنه غير واثق، وغائبًا عن الوعي،
وغير
مهتم بما يجري من حوله بصورة عامة.» ويصل لويس توماس
(Thomas) إلى مرحلة أبعد من هذه، فيقول: «لم أرَ منازعة
الموت (death agony)
سوى مرة واحدة فقط، في مريض كان مُحاطًا بالحاخامات.» وفي وقت تلفُّظهم بتلك الكلمات،
كان
كلٌّ من أوسلر وتوماس (ولا يزال توماس كذلك حتى الآن) يُعَدان من أكثر أساتذة الطب
احترامًا
في عصرهما.
ومع ذلك، فقد أصابتني الحيرة — إذ رأيت الكثير جدًّا ممن يتعذبون أثناء وفاتهم، والكثير
جدًّا من الأسر التي عذَّبها منظر الموت الذي يتوجب عليهم أن يتذكروه بلا حول ولا
قوة،
لدرجة لا يمكن معها أن أفكر في أن ملاحظاتي السريرية ما هي إلا سوء فهم مني، بصورةٍ
ما،
للواقع. كانت الأسابيع والأيام الأخيرة لعدد من مرضاي، يزيد كثيرًا على نسبة الواحد
إلى
خمسة لمرضى أوسلر، مشحونة بكثير من صنوف العذاب
(Purgatory)، وقد شهدتُ ذلك بنفسي. وربما كانت رؤية توماس
المختلفة ناجمة عن أنه قد أمضى معظم حياته المهنية كباحث في المختبرات؛ وربما كان
تفسير
أوسلر لسجلاته الخمسمائة عاكسًا لتفاؤله المعروف بأن العالم مكان أجمل بكثير مما نراه
عليه،
ولحماسِه كمرشد عام لنقل تلك الفلسفة الوردية. ومهما كانت العوامل التي حفزت مثل هذين
الرجلين اللذَين كانا من أكثر أساتذة الطب إنسانية، لكي يقررا بما قالا؛ فيجب عليَّ
— مثلما
نقول في مثل تلك اللحظات المربكة من الشك الظاهري في مُثُلنا العليا المحلية — أن
أختلف
معهما بكل احترام.
ولكنني، مجددًا، قد لا أختلف معهما تمامًا. وربما كان أوسلر وتوماس هما من اختلف
مع
مثالياتهما، لكنهما لم يريدا الاعتراف بذلك. ويبدو من المحتمل تمامًا أنهما كانا مغالِطَين،
وأنهما فَعَلا ذلك بتخوُّف. وعندما وصفا ما يقصدان به غياب منازعات الاحتضار، قاما
ببساطة
بتجاهل الأحداث التي تسبق مباشرةً تلك الأيام أو الساعات الأخيرة التي يتحدثون عنها
باطمئنان. وتحت تأثير التسكين العميق، أو تلك المهلة المباركة للغيبوبة النهائية التي
تصيب
البعض في نهاية صراع مضنٍ مع المرض، كثيرًا ما تصبح الساعة الفعلية لتوقف القلب ساكنة
(Tranquil)
بالفعل. وبهذه الطريقة، يتجنب كثيرون عبور ممر مليء بصنوف العذاب؛ بينما يعاني كثيرون
غيرهم
من التوتر الجسدي والذهني حتى اللحظة الأخيرة تقريبًا، وحتى «في» تلك اللحظة الأخيرة.
وهناك
تكتُّم (reticence)
فيكتوري جميل في إنكار احتمال وجود مقدمة مأسوية للموت، وهو ما يودُّ كلٌّ منا أن
يسمعه.
لكن إذا كان السلام والجلال في الموت هما ما نخدع أنفسنا بتوقُّع حدوثه، فسيموت أغلبنا
وهم
يتساءلون عن الخطأ الذي اقترفناه، أو اقترفه أطباؤنا.
أما بالنسبة لأوسلر ذاته، فقد كانت نهايته مسالمة بالفعل، بَيد أنه اشتراها — مع
ذلك —
بكثير من العذاب، لم تتمكن حتى طبيعته المنشرحة دومًا من التغلب عليه. استغرق مرضه
النهائي
شهرين كان خلالهما طريح الفراش. بدأ بأعراض اعتُقد أنها ناجمة عن الإصابة بالبرد،
ثم
الإنفلونزا، ثم الالتهاب الرئوي. وبالرغم من أنه احتمل بشجاعةٍ الحُميات المرتفعة،
والنوبات
المبرِّحة من السعال المتواصل، كان من الصعب عليه أحيانًا طمأنة زوجته وأصدقائه القلقين
بأن
تفاؤله لا يتزعزع. وفي مرحلة متأخرة من مرضه، كتب في رسالة وجَّهها لسكرتيره السابق:
«لقد
رافقني أحد شياطين الزمن لمدة ستة أسابيع في فراشي! في صورة التهاب شُعَبي انتيابي،
لا تجده
موصوفًا في أيٍّ من كتبك! فلم تكن هناك علامات جسمانية فعلية؛ كما استمر السعال، في
صورة
أزواج قصيرة، ثم في نوبات متصلة، في سوء السعال الديكي (Whooping
Cough) … ثم أُصبت في الساعة الحادية عشرة من تلك الليلة بذات الجنب
(Pleurisy)، بدأت كطعنة ثم تحولت إلى ما يشبه الألعاب
النارية، مع ألم مصاحب للسعال والتنفس العميق، لكني أُصبت بعد ذلك باثنتي عشرة ساعة
بنوبة
حوَّلت كل الارتباطات (attachments) الجنبوية إلى شظايا،
وجاء معها الألم … ولم يُجدِ أيٌّ من العلاجات الشُّعَبية، وليس هناك شيء لم يجربه
فيَّ
أطبائي الطيبون، إلا إن الشيء الوحيد الذي كان له أي أثر يُذكر في تهدئة السعال، كان
هو
الأفيونات — في صورة شراب طيب من قنينة الدواء المسكِّن (Paregoric)، أو حقنة تحت جلدية من
المورفين.»
وعند ذلك الحد، كانت حتى رُوح أوسلر المشرقة قد ذبلت، إضافة إلى فقدان قدرتها على
نقل
التفاؤل لأولئك المحيطين به. خضع لعمليتين جراحيتين تحت تأثير مخدر كلي لتصريف القيح
المتراكم في رئتيه، ولم تُجدِ أيُّهما إلا في تحسين حالته لفترة وجيزة. جعله عذابه
يتمنى
الموت الذي وصفه قبل ذلك بخمس عشرة سنة، والذي سيكون فيه «فاقدًا للوعي، وغير مكترث
بصورة
عامة.» وعند اقتراب النهاية، اعترف أوسلر الشجاع بكلٍّ من صعوبة طريقه، وبتمنِّيه
لأن ينتهي
عذابه: «يتسلل هذا الشيء الفظيع بطريقة كريهة، وعندما تبلغ عامك الحادي والسبعين،
يصبح
المرفأ غير بعيد.»
تُوفِّي أوسلر بعد ذلك بأسبوعين، في سن السبعين. وقد عاش سن الأنشاش
(scores)
الثلاثة وعشرًا الذي وعد به كتاب المزامير (Psalms) في
التوراة. ولم يكن الالتهاب الرئوي الذي أصابه هو ذلك المرض «الحاد، القصير، الذي يخلو
من
الألم في كثير من الأحيان»، والذي وصفه قبل زمن بعيد، كما أنه لم ينفذ وظيفته «كصديق
للعجائز» بكل تأكيد، نظرًا لاحتمال أن يعيش لسنوات طويلة تالية بصحة جيدة لو لم يكن
قد أصيب
به. وبذلك فقد خانت وفاته توقعاته، كما ستفعل بكلٍّ منا.
وبأي صورة كان، فالاحتضار عمل ملطَّخ (messy). فبالرغم من أن كثيرًا من الناس يصبحون «فاقدي
الوعي، وغير مكترثين» بالفعل، بالدخول في حالة من الغيبوبة أو شبه الإدراك؛ وبالرغم
من أن
بعض المحظوظين الآخرين يُمنحون مرورًا سلميًّا — وواعيًا في بعض الأحيان — بصورة مدهشة،
في
نهاية مرض عضال؛ وبالرغم من أن الآلاف المؤلفة من الناس «يسقطون ميتين»، حرفيًّا،
في كل عام
بدون أن يعانوا من الضيق لأكثر من لحظة خاطفة؛ وبالرغم من أن من يموتون بفعل الحوادث
يُمنحون ميزة الإعفاء من الألم المشحون بالرعب — والذي يصاحب كل هذه الاحتمالات —
فإن ما
يقل كثيرًا جدًّا عن خُمس الذين يموتون يوميًّا هم من يستفيدون من هذه الظروف السهلة.
وحتى
بالنسبة لأولئك الذين يحصلون على قدر من السكينة أثناء الانفصال، فكثيرًا ما تتشبع
تلك
المرحلة التي قد تمتد لأيام أو لأسابيع، والتي تسبق تدهور الوعي الكامل، بصنوف العذاب
الذهني والتوتر الجسدي.
وفي كثير جدًّا من الأحيان، يحتفظ المرضى وأسرهم بتوقعات لا يمكن أن تتحقق، ونتيجةً
لذلك
يصبح الموت أكثر صعوبة بسبب الإحباط وخيبة الأمل في أداء مجتمع طبي ليس بوسعه أن يقدم
أفضل
من ذلك، أو أنه — وهو الأسوأ — لا يقدم الأفضل لأنه يستمر في القتال لفترة طويلة بعد
أن
تصبح الهزيمة محققة. وانتظارًا لأن تموت الغالبية العظمى بسلام في جميع الحالات، فكثيرًا
ما
يتم اتخاذ قرارات علاجية قرب نهاية الحياة تدفع شخصًا محتضَرًا، سواء شاء أم أبى،
نحو سلسلة
من المآسي المتزايدة السوء، والتي لا فكاك منها؛ مثل الجراحات ذات الفائدة المشكوك
فيها
والمعدلات المرتفعة للمضاعفات، والعلاج الكيميائي ذي الآثار الجانبية الخطيرة والاستجابة
غير المؤكدة، والفترات المطولة من الرعاية المركزة فيما بعد مرحلة الفشل. ومن الأفضل
معرفة
ماهية الاحتضار، ومن الأفضل اعتماد الخيارات التي يُحتمل أن تمنع حدوث أسوأ ما ينطوي
عليه.
فما لا يمكن منعه، يمكن عادة — على أقل تقدير — أن تلطَّف حدته.
ومهما بلغت درجة إقناع المرء لنفسه بألا يهاب عملية الاحتضار، فلا بد له أن يبلغ مرضه
النهائي وهو يشعر بالخوف. ويفيد الإحساس الواقعي بما يجب توقُّعه، كوسيلة دفاعية ضد
الشعوذات الجامحة للخوف الذي لا مبرر له، وللرعب الذي يجعل المرء — بصورةٍ ما — لا
يتصرف
بصورة صحيحة. وكل مرض يمثل عملية قائمة بذاتها؛ فهو يحمل نوعه الخاص من العمل التدميري
ضمن
إطار من الأنماط الشديدة الخصوصية. وعندما تصبح أنماط المرض التي تصيبنا مألوفة لدينا،
فنحن
نجرد تخيلاتنا من أسلحتها ضدنا. وتفيد المعرفة الدقيقة للطريقة التي يقتل بها المرض
في
تحريرنا من صنوف الرعب غير الضرورية حول ما يتحتم علينا مجابهته عندما نموت. وبهذا،
ربما
نصبح أكثر استعدادًا للتعرف على المحطات التي يكون من المناسب فيها طلب الخلاص، أو
ربما
البدء بالتفكير في إنهاء الرحلة كلية.
وهناك نوع من الاحتضار ليس من الممكن فيه سوى استعداد قليل إن وُجد، وربما لم يكن
ذلك
الاستعداد من المستحب أساسًا. وسواء شئنا أم أبينا، يبقى الموت بفعل العنف منطقة خاصة
بالشباب عمومًا. وحتى لو تم تحذيرهم مسبقًا، فلا يأبه الشباب بالتوصية التي تُحذِّر
أحد
معارفه من السبل التي تؤدي به إلى القبر. كما أن الشباب لا يتأثر بالإحصائيات — فالرضح
(Trauma)، والذي يعرَّف بأنه إصابة جسدية أو جرح، هو
أكبر أسباب الوفَيَات شيوعًا في جميع الأشخاص دون الخامسة والأربعين في الولايات المتحدة.
وهو يقتل نحو ١٥٠٠٠٠ أمريكي سنويًّا، من جميع الأعمار؛ إضافة إلى ٤٠٠٠٠٠ آخرين ممن
يصابون
بعاهات مستديمة. وتحدث ستون في المائة من الوفَيَات خلال الساعات الأربع والعشرين
التالية
للإصابة.
وليس من المثير للدهشة معرفة أن المصدر الأساسي للرضح في الولايات المتحدة هو حوادث
المركبات (Automotive)، فتصيب نحو ٣٥ في المائة من الإصابات
الكبرى ركاب السيارات، إضافة إلى ٧٪ أخرى لراكبي الدراجات النارية. وتتميز حوادث المركبات،
على الأقل، بكونها غير مقصودة في الغالبية العظمى من الحالات. وذلك بعكس جروح الطلقات
النارية (والتي تمثل نحو ١٠ في المائة من جميع الرضوح الكبرى) وطعنات الآلات الحادة
(والتي
تضيف عددًا مماثلًا تقريبًا). وتمثل حوادث المشاة
(Pedestrain) من ٧ إلى ٨ في المائة، بينما تنتج ١٧٪
إضافية عن حالات السقوط (Falls)، والتي كثيرًا ما تصيب
كلًّا من الكبار جدًّا والصغار جدًّا. وتنتج الخمسة عشر في المائة المتبقية من الرضوح
الكبرى عن مصادر متنوعة، بما فيها الحوادث الصناعية، واصطدامات الدراجات الهوائية،
وتشكيلة
من إصابات الانتحار.
في أمسية أحد أيام صيف عام ١٨٩٩م، وثب أحد سماسرة العقارات، وهو رجل في الثامنة والستين
يُدعى — للسخرية — هنري بليس،
١ من إحدى الحافلات الكهربائية (
Trolley
car) في مدينة نيويورك فقتلته إحدى السيارات المارة،
وبذلك فقد حاز التميُّز المريب بأن أصبح أول ضحايا مرور المركبات الآلية في الولايات
المتحدة. ومنذ ذلك الحين، مات نحو ثلاثة ملايين شخص كنتيجة لإصابات المركبات الآلية.
وكان
أهم الأسباب المشاركة في هذه الوفَيَات (أو رفيق سفرهم، لو صح التعبير) هو الكحول.
ويلعب
الكحول دورًا في نحو ٥٠ في المائة من وفَيَات المركبات الآلية في الولايات المتحدة،
بينما
كان ثلث من ماتوا ضحايا لسُكْر غيرهم.
وبعد أن جادلت بأن الوفاة الفردية هي بالضرورة أحد المكونات الأساسية في نمط الاستمرارية
البيولوجية، عليَّ أن أضيف هنا تلك الحكمة التي تثبت نفسها بنفسها بأن الطبيعة ليست
بحاجة
لأية مساعدة كانت. فمنابلاتها الخلوية (Cellular
manipulations) الخاصة تجعل قتلنا لأعداد كبيرة من
إخواننا، ومن أنفسنا سنويًّا، أمرًا غير ضروري، بل هو في النهاية من المُضِرِّ. ويَحرِم
الرضح جنسنا البشري من ذريته ويخرِق الدورة المنظمة للتجديد والتحسن
(Renewal & Improvement). فلا يخدم الموت الرضحي
لإنسانٍ ما أيَّ غرض نافع. وهو مأسوي بالنسبة للنوع البشري كما هو بالنسبة للأسرة
التي
خلَّفها وراءه.
كم هو مثير للسخرية، إذن، أن نرى أن القليل جدًّا من الطاقات الطبية الأحيائية لمجتمعنا
موجه نحو الوقاية من الإصابات ومعالجتها. ولم يتم التعرف إلا مؤخرًا على العنف كمشكلة
كبرى
للصحة العامة في الولايات المتحدة، لدرجة أن نسبة الوفَيَات الناتجة عن طلقات الأسلحة
النارية مقارنةً بعدد السكان في الولايات المتحدة تبلغ سبعة أضعاف مثيلتها في المملكة
المتحدة؛ وأن معدلات الانتحار — وهو أسوأ وجوه العنف — تضاعفت بين الأطفال والمراهقين
خلال
الثلاثين عامًا الماضية، وهي زيادة ناتجة بالكامل تقريبًا عن الأسلحة النارية. ويمثل
الانتحار حاليًّا ثالث أكبر أسباب الوفَيَات في هذه المجموعات العُمرية الشابة.
وهناك من يجادلون بحجة مقنعة في أن معدلات الانتحار هذه منخفضة للغاية؛ فهي لا تضم
ذلك
النوع المتسلل من السلوك المدمر للذات، والذي يطلق عليه البعض اسم «الانتحار الاعتيادي
المزمن» (Chronic habitual suicide): المخدرات، والكحول،
والقيادة المتهورة، والعادات الجنسية المحفوفة بالخطر، والانضمام إلى العصابات الإجرامية،
وغيرها من الطرق التي يتحدى بها الشباب أعراف وتقاليد المجتمع. ويحدُّ الانتحار الاعتيادي
المزمن ليس فقط من كَمية (Quantity) الحياة، بل ومن نوعيتها أيضًا. فهو يحرِم بقيتنا
من المواهب، والرغبة، ومن ثم من المساهمات المجتمعية التي كان من الممكن أن تتحقق
من خلال
أولئك الشباب الذين نفقد حياتهم، وكثيرًا ما يحدث ذلك قبل أن نفقدهم بكثير. ولا يمكن
تقدير
حجم هذه المفقودات، التي تلتهم — ببطء — أطراف النسيج المكون لحضارتنا.
استُخدم اصطلاح «ثلاثي الأنماط» (Trimodal) للدلالة على
التسلسل الزمني للوفاة الرضحية: فهي إما وفَيَات فورية، أو مبكرة، أو متأخرة. وتحدث
«الوفاة
الفورية» (Immediate death) خلال دقائق من حدوث الإصابة.
وتضم هذه أكثر من نصف جميع الوفَيَات الرضحية وهي تنتج دائمًا عن إصابة الدماغ، أو
النخاع
الشوكي، أو القلب، أو أحد الأوعية الدموية الكبرى. وتكون العملية الفيزيولوجية المستبطنة
إما التلف الدماغي الجسيم أو الاستنزاف
(Exsanguination).
أما «الوفاة المبكرة» (Early death)، فهي تقع خلال
الساعات القليلة الأولى التالية للإصابة. والسبب المعتاد هو إصابات الرأس، أو الرئتين،
أو
أعضاء البطن، مع النزيف الحادث في هذه المناطق. ينتج الموت عن إصابة الدماغ، أو فقد
الدم،
أو اضطراب التنفس. وبصرف النظر عن الفترة الزمنية، ففي الواقع أن نحو ثلث جميع الوفَيَات
الرضحية ينتج عن التلف الدماغي، بينما ينتج ثلث ثانٍ عن النزيف. وبالرغم من أن «الوفَيَات
الفورية» خارجة عن نطاق التدخل الطبي، فإنه يمكن إنقاذ حياة الكثير ممن يندرجون تحت
مجموعة
الوفَيَات «المبكرة» عن طريق العلاج الفوري. وهنا يقوم النقل السريع، والفرق الطبية
المدرَّبة جيدًا، وغرف الطوارئ المُعَدَّة للمعركة، بصنع الفارق الحيوي. وقد قُدِّر
عدد
الأمريكيين الذين يموتون سنويًّا بسبب عدم توافر هذه الموارد في جميع المناطق بخمسة
وعشرين
ألفًا. ويمكن العثور على مثال جيد لفاعلية نظام النقل السريع في الدروس المستفادة
من
الصراعات المسلحة للجيش الأمريكي. ففي كلٍّ من الحروب الأربع الأخيرة التي خاضها ذلك
الجيش،
كان كل تغيُّر بالزيادة في التقنيات الطبية مصحوبًا بتغيُّر بالنقصان في وقت إخلاء
المصابين، وكانت النتيجة هي نمط من إحصائيات الوفَيَات التي تختلف جذريًّا من حرب
للتي
تليها.
ويشير اصطلاح «الوفَيَات المتأخرة» (Late death) إلى
أولئك الأشخاص الذين يموتون بعد الإصابة بأيام أو أسابيع. وتنتُج نحو ٨٠ في المائة
من هذه
الوفَيَات عن مضاعفات العدوى وفشل الرئتين، والكُلْيتين، والكبد. ويظل أولئك الأشخاص
على
قيد الحياة بعد إصابة الرأس أو النزيف المبدئي، لكنهم كثيرًا ما يكونون مصابين بإصابات
في
أعضاء أخرى من أجسامهم، مثل انثقاب الأمعاء، أو انفجار الطِّحال أو الكبد، أو ربما
إصابة
كليلة (Blunt) للرئتين. وليس من النادر أن يتم اللجوء
للجراحة لإيقاف النزيف، أو الوقاية من الالتهاب الصِّفاقي، أو إصلاح عضو ممزَّق، وربما
إستئصاله أثناء العملية. وبدلًا من التعافي تمامًا، يبدأ الكثير من أولئك الناس في
خلال
أيام قليلة في الإصابة بالحُمى، وارتفاع معدلات كريات الدم البيض، مع ميل كَميات من
الدم
الدائر في شرايينهم للركود في أجزاء غير ملائمة من الجسم، مثل الأوعية الدموية للأمعاء،
وبذلك تُفتقد من الدورة الدموية العامة. وتُميِّز كل هذه التطورات العدوى المنتشرة،
أو
الإنتان (Sepsis)، والتي تصبح مقاومة بصورة متزايدة للعلاج
بالمضادات الحيوية أو غيرها من العقاقير.
وإذا كان مصدر الإنتان هو خرَّاج (Abscess) أو بَضع جراحي مصاب بالعدوى، فعادةً ما يعكس
التصريف الجراحي التلف الحادث ويتيح للمريض فرصة للتعافي. ومع ذلك، فلا يمكن في كثير
من
الناس العثور على خراج قابل للتصريف، ولذلك تتفاقم الأعراض. وفي نهاية الأسبوع الأول
بعد
الإصابة، يبدأ فشل التنفس في الظهور في صورة وَذَمة رئوية (Pulmonary edema) وعمليات شبيهة
بالالتهاب الرئوي، مما ينتج عنه نقص أكسجة الدم. وتُعَد الرئتان من أولى أهداف الإنتان،
لكنها سرعان ما تُتبع بالكبد والكُلي. ومن المعتقد أن المتلازمة المتطورة برُمَّتها
تمثل
استجابة التهابية (Inflammatory response) لوجود مجموعة من
الغزاة المنتجة للمواد السامة — من الجراثيم وغيرها — في الدم. وقد يكون أولئك الغزاة
من
البكتريا، أو الفيروسات، أو الفطريات (Fungi)، أو حتى نُدَف مجهرية من الأنسجة الميتة.
وكثيرًا ما يُكتشف أن الجراثيم، إذا أمكن التعرف عليها، ناتجة عن المسلك البولي، يليه
السبيلان التنفسي والمعدي-المعوي في ترتيب الحدوث. وفي كثير من الحالات، نجد أن المصدر
هو
البضوع الجراحية أو الجلد. وكرد فعل لوجود سموم (ذِيفانات:
Toxins) في مجرى الدم، يبدو أن الرئتين وغيرهما من
أعضاء الجسم تقوم بتخليق وإطلاق مواد كيماوية معينة تمتلك تأثيرًا مدمِّرًا على الأوعية
الدموية، وأعضاء الجسم، وحتى الخلايا، بما فيها مكونات الدم. وتصبح خلايا الأنسجة
غير قادرة
على استخلاص كفايتها من الأكسجين من الهيموجلوبين، في الوقت نفسه الذي تصل فيه إليهم
كَمية
أقل من الهيموجلوبين عبر الدورة الدموية المتناقصة. وتشبه هذه الأحداث إلى حدٍّ كبير
الصورة
النمطية للصدمة القلبية أو النزفية، لدرجة أن مُحصِّلتها النهائية تسمى بالصدمة الإنتانية
(Septic
shock). وإذا لم تستجب الصدمة الإنتانية للعلاج، تصاب أعضاء
الجسم الحيوية بالفشل، واحدًا تلو الآخر.
ولا يقتصر حدوث الصدمة الإنتانية على ضحايا الرضح. فهي تشاهَد في مجموعة متنوعة من
الأمراض التي تعطل فيها الآليات المناعية للمريض. وليس من النادر، في الواقع، أن تكون
هي
الحدث النهائي في مثل ذلك الطيف من الحالات، مثل الداء السكري، والسرطان، والتهاب
البنكرياس، وتشمُّع الكبد (التليف: Cirrhosis)، والحروق
المتسعة، مما يقهر ضحاياها بمعدل وفَيَات يتراوح بين ٤٠ و٦٠ في المائة. وتمثل الصدمة
الإنتانية أكبر أسباب الوفَيَات الفورية في غرف العناية المركزة في الولايات المتحدة،
حيث
يبلغ عدد ضحاياها من ١٠٠٠٠٠ إلى ٢٠٠٠٠٠ وفاة سنويًّا.
وبمجرد أن تفقد الرئة بعضًا من قدرتها على أكسجة الدم، وتتعطل الدورة الدموية بسبب
الضعف
العام لعضلة القلب وركود الدم في أوعية الأحشاء، تبدأ أعضاء عديدة في إظهار آثار سوء
التغذية، وتضمحل الوظائف المخية؛ كما يفقد الكبد جزءًا من قدرته على إنتاج بعض المركَّبات
التي يحتاج إليها الجسم وعلى تحطيم تلك التي لا يحتاج إليها. ويضاعف الفشل الكبدي
من
الإحباط المرافق للجهاز المناعي والإنتاج المتناقص للمواد المقاومة للعدوى. وفي الوقت
نفسه
يمنع انخفاض كَميات الدم الواصلة للكُلى من الترشيح الملائم وينتج عنه خرجٌ بوليٌّ
غير كافٍ
ويوريمية (فشل كلوي) متزايدة السوء، وهي عبارة عن تراكم النواتج السامة في الدم.
ويمكن أن يُضاعَف كل ذلك بتحطم الخلايا المبطنة للمعدة والأمعاء، مما ينتج عنه التقرُّحات
(Ulcerations)
والنزيف. وكثيرًا ما تكون الصدمة، أو الفشل الكُلَوي، أو النزيف المعدي المعوي، هي
الأحداث
النهائية في أولئك الأشخاص الذين يموتون بفعل متلازمة الفشل التالي للرضح في أعضاء
متعددة.
ولو صغنا ذلك بطريقة أخرى، لقلنا إن فشل أعضاء متعددة هو النقطة النهائية للإنتان،
ولذلك
فهي النقطة النهائية المشتركة للعديد من المرضى الذين قد تكون العملية المرضية الأولية
فيهم
هي الرضح، أو واحد أو أكثر من تلك الأمراض «الطبيعية» للجنس البشري. ويبدو أن جميع
خصائص
هذه المتلازمة ناتجة عن آثار السموم على أعضاء عديدة في الجسم. وتتعلق النتيجة النهائية
لأي
مريض منفرد، بعدد الأعضاء التي لم تعد تقوى على احتمال الهجوم. وإذا أصيب ثلاثة من
هذه
الأعضاء، تقترب نسبة الوفَيَات من ١٠٠ في المائة.
ويستغرق تنفيذ العملية بكاملها من أسبوعين لثلاثة، وأحيانًا أكثر. وقد تلكَّأ
(Linger) أحد مرضاي، والذي كان الإنتان فيه ناتجًا عن
التهاب البنكرياس، لمدة شهور أثناء محاولتنا جميعًا؛ من جراحين، وأطباء استشاريين،
وأخصائي
تخدير، وأطباء مقيمين، وممرضات، وفنيين، استخدام كل التقنيات التشخيصية والعلاجية
المتوافرة
في مركزنا الطبي الجامعي لإيقاف المد المتواصل لفشل الأعضاء المتعددة، والتي باءت
جميعها
بالفشل.
وتصعب مشاهدة معاناة المرضى الذين يموتون بفعل الصدمة الإنتانية بصورة تفوق الوصف.
ويتبع
تكشف الأحداث التي تؤدي للوفاة في النهاية نمطًا متوقعًا. فهناك في البداية، الحُمى
وتسارع
النبض وصعوبة التنفس، أو على الأقل دليل على نقص الأكسجة يتم اكتشافه بتحليل الدم.
وسيتم
تثبيت أنبوب داخل الرُّغَامَى «القصبة الهوائية» [Endotracheal
tube] لمساعدة التنفس المضطرب، لكنه سرعان ما يصبح من الواضح غياب أي
فائدة لها تُذكر. وإذا لم يكن المريض تحت تأثير المسكنات بالفعل، فسيبدأ مستوى وعيه
بالتذبذب حسب أهوائه. ويتم إجراء أشعات مقطعية، وفحوص بفائق الصوت
(Ultrasound)، والعديد من تحليلات الدم، ومزارع بكتيرية
متتالية، في محاولة للعثور على مصدر للعدوى يمكن علاجه، وكثيرًا ما تضيع أدراج الرياح.
ويجتمع الاستشاريون في مجموعات حول سرير المريض، وهم يفحصونه ويتحدثون، ويضيفون —
عمومًا —
لجو الشك المحيط به. ويُدفع المريض جيئة وذَهابًا بين وحدة العناية المركزة وقسم الأشعة
عندما يُطلب إجراء هذا النوع أو غيره من تقنيات التصوير الشعاعي للبحث عن جيب من القيح
أو
موضع للالتهاب. ويصبح كل انتقال من الفراش للنقَّالة
(gurney)، وبالعكس، تمرينًا لوجستيًّا (تعبويًّا:
Logistical) في
فك الخطوط والأسلاك. وتتغير الحالة النفسية والخطط الخاصة بكلٍّ من أفراد الأسرة والفريق
الطبي مع كل مجموعة جديدة من التقارير المعملية، لكنهم لا يشركون معهم ذلك الشخص القلق
الراقد على الفراش إلا في تلك النتائج الجيدة، بشرط أن يكون ذلك الشخص قادرًا على
أن يفهم
معانيها تمامًا. ويتم البدء بالمضادات الحيوية، ثم يتم تغييرها وإيقافها على أمل أن
يظهر
جرثوم يمكن علاجه في مجرى الدم، ثم يعاد حقنها مجددًا؛ ولا تُظهر تحليلات الدم جراثيم
يمكن
أن تنمو في مستنبتات المعمل، إلا في نحو ٥٠ في المائة من ضحايا فشل الأعضاء
المتعددة.
وتظهر تبدُّلات عديدة في مكونات الدم، كما يمكن أن تثبط آلية تجلُّط الدم، حتى إلى
نقطة
حدوث النزيف التلقائي. وأحيانًا ما ينتج اليرقان (Jaundice)
عن الفشل الكبدي، في الوقت نفسه الذي تُظهر فيه الكُلى أول الدلائل الخطيرة على التدهور
المستمر. ومن الممكن محاولة الدِّيال (الغسيل الكُلَوي:
Dialysis) كفعل مؤجِّل إذا كان لا يزال هناك بعض الأمل
في قلب دَفة الأمور. وبحلول ذلك الوقت، إن لم يكن قبله، يبدأ المريض المعذب — بشرط
احتفاظه
بالقدرة على تنظيم أفكاره — بالتفكر فيما إن كان هناك شيء يمكن فعله من أجل إنقاذه.
وبالرغم
من أنه لا يستطيع معرفة ذلك، فإن أطباءه يكونون قد بدءوا بالتفكير في الشيء نفسه.
ومع ذلك، يستمر الجميع في المحاولة، لأن المعركة لم تتم خَسارتها حتى الآن. ولكن
شيئًا
غير ملحوظ كان يحدث طوال هذه الفترة؛ فعلى الرغم من نواياهم الحسنة، فإن أفراد الفريق
الطبي
يكونون قد بدءوا في عزل أنفسهم عن ذلك الرجل الذي يقاتلون من أجل إنقاذ حياته. وتبدأ
عملية
من فقد التشخص (تبدد الشخصية: Depersonalization) فالمريض في وحدة العناية المركزة
يصبح في كل يوم أقل حجمًا كإنسان، وأكثر تعقيدًا كتحدٍّ يختبر ذكاء مجموعة من أنشط
وألمع
المحاربين السريريين للمستشفى. وبالنسبة لأغلب الممرضات وقليل من الأطباء الذين عرَفوه
قبل
انزلاقه إلى جانب الإنتان، يبقى جزء من ذلك الإنسان الذي كان عليه (أو الذي ربما كان
عليه)،
لكنه، بالنسبة لأولئك الاستشاريين من كبار الاختصاصيين الذين يعايرون ما تبقَّى من
الأدلة
الجزيئية لحيويته الذابلة، هو مجرد «حالة مرضية»، ولهذا فهو حالة مثيرة للاهتمام.
ويناديه
أطباء يصغرونه بثلاثين عامًا باسمه الأول مجردًا. وذلك أفضل من مناداته باسم مرض أو
برقم
سرير.
وإذا تبقَّى للرجل المحتضَر بعض من الحظ، سيصبح في ذلك الوقت فاقدًا للإحساس بهذه
المسرحية الدرامية التي يلعب هو فيها الدور الرئيسي. وانتقل من الخفوت (الخمود:
Obtundation)
إلى الاستجابة الدنيا أو حتى الغيبوبة، والتي تحدث تلقائيًّا في بعض الأحيان مع فشل
أعضائه،
وفي أحيان أخرى بمساعدة المنوِّمات وغيرها من الأدوية، وانتقلت أسرته من الانزعاج،
إلى
اليأس، وفي النهاية إلى الشعور بالعجز.
وليس أفراد الأسرة وحدهم، بل معهم الممرضات وأولئك الأطباء الذين ظلُّوا مع المحتضَر
منذ
البداية، هم الذين يشعرون تدريجيًّا بشدة المحنة التي يعاني منها من هو في مركز حملتهم
الخاسرة. وهم يبدءون في التشكك في العملية ذاتها التي يتخذون بها — هم وأولئك الاستشاريون
المحتشدون — قراراتهم العلاجية، أو يختارون بها — بيأس متزايد — نوعًا جديدًا من الإجراءات
التشخيصية غير الواعدة، وهم يعذبون أنفسهم بذلك الإدراك المتزايد الحتمية بأنهم يُضخِّمون
من معاناة أخ لهم في الإنسانية من أجل الإبقاء على ذلك الأمل الواهي لشفائه؛ ويواجه
أكثر
الأطباء لومًا للذات هذا الجزء من تحمُّسهم، والذي هو نشوة حل المعضلة وانتزاع ذلك
الانتصار
المجيد في آخر لحظة، عندما يظن الجميع أن اللعبة قد انتهت بدون أمل في الفوز بها.
و انفصال بعض أفراد الفريق المعالج عن المريض يجعلهم أكثر قربًا من الأسرة، وكأنما
حدث
تحوُّل في تعاطفهم خلال تلك الأسابيع الطويلة للسهر المضني معًا. وقرب النهاية بشكل
خاص،
يمنح التعاطف الذي لم يعد المحتضَر قادرًا على استيعابه، لأولئك الذين يكونون قد بدءوا
في
الحداد بالفعل. ونادرًا ما تكون هناك كلمات أخيرة في وحدات العناية المركزة؛ فكل التعزية
التي قد تجدها هناك، تتمثل في الحضن الدافئ من إحدى الممرضات، أو العزاء الذي تحمله
كلمات
طبيب.
وفي نهاية الأمر، يشعر حتى أولئك الذين لم يكونوا قادرين على الفراق — حتى هم — بالراحة
التي تصاحب نهاية المعاناة الطويلة. رأيت ممرضات متمرسات ينتحبن بحرقة عند موت أحد
مرضى
العناية المركزة؛ كما رأيت جراحين في منتصف العمر يشيحون بوجوههم بعيدًا، حتى لا يرى
الجراحون المبتدئون دموعهم. وتصدَّع صوتي، كما تصدَّعت رُوحي، غير مرة قبل أن أتمكن
من
النطق بتلك الكلمات التي يجب أن تقال.
وليست هذه المشاهد مقصورة على وحدات العناية المركزة بطبيعة الحال؛ فهي تحدث أيضًا
في
العنابر العادية للمستشفى وفي غرف الطوارئ بها. ولا يرى الموتَ المبكر بفعل المرض
أو العنف
غير المحرَّض (Unprovoked)، بدون انفعال سوى قلة قليلة ضمن
تلك الجحافل التي تتولى رعاية المرضى. ولكن عندما يكون الموت المبكر ناتجًا عن تدمير
الذات،
فهو يستثير حالة شعورية مختلفة تمامًا عن تلك الناتجة عن الاحتضار الطبيعي، لكن هذا
الشعور
ليس هو عدم الانفعال (dispassion). وفي كتاب عن طرق الوفاة، تظهر كلمة الانتحار
ذاتها كانفصال فجائي محير (Discomfiting
tangent). ويبدو أننا نعزل أنفسنا عن ضحايا اغتيال
الذات، بالطريقة ذاتها التي يُحِس فيها المنتحر بانفصاله عن بقيتنا عندما يقوم بتنفيذ
المصير الذي هو على وشك اختياره. ويتم سحبه إلى القبر غريبًا ووحيدًا، لأنه يبدو أنه
ليس
هناك مكان آخر ليذهب إليه. وبالنسبة لأولئك الذين يهجرهم والذين يُخلِّفهم وراءه،
يكون من
المستحيل استيعاب الأمر.
رأيت توجهي الشخصي نحو تدمير الذات، منعكسًا في صورة استجابة ابنتي البكر. قُدت السيارة
مع زوجتي لمسافة مائة ميل إلى المدينة التي كانت ابنتي تدرس فيها في السنة النهائية
للدراسة
الجامعية، لأنني اتفقت مع زوجتي على أننا يجب أن نكون بجوارها عندما تسمع الأخبار
المفجعة
بانتحار واحدة من أعز صديقاتها. وبمنتهى اللطف الذي كان بوسعنا، وبدون أن نخبرها في
البداية
بأيٍّ من التفاصيل التي توافرت لدينا، أخبرنا ابنتنا بما حدث. تحدثت أنا، فأخبرتها
بكل شيء
في جملتين أو ثلاث مقتضبات. وعندما أنهيت حديثي، حدَّقت فينا غير مصدقة للحظة، بينما
انهمرت
الدموع من عينيها على خديها اللذَين أصيبا بالاحمرار فجأة. وعند ذلك، وفي نوبة عارمة
من
الغضب والضياع، انفجرت قائلة: «هذه الطفلة الغبية! كيف استطاعت أن تفعل مثل هذا الشيء؟»
كان
ذلك، في نهاية الأمر، هو بيت القصيد. فكيف تفعل ذلك بأصدقائها، وبأسرتها، وببقية أولئك
الذين يحتاجون إليها؟ وكيف تقترف هذه الشابة الذكية مثل هذا الفعل الأحمق وتجعلنا
نفقدها؟
وليس هناك مجال لمثل هذا الشيء في عالم منظم، فيجب ألا يحدث هذا على الإطلاق. فلماذا،
وبدون
أن تستشير أيًّا منا، تنطلق مثل هذه الشابة المحبوبة هكذا وتقتل نفسها؟
وتبدو مثل هذه الأشياء غير قابلة للتفسير بالنسبة لمن كانوا يعرفون المنتحر. ولكن
هناك
عاملًا آخر يجب اعتباره، بالنسبة لأفراد الفريق الطبي الذين لا ناقة لهم ولا جمل والذين
يرون الجثة لأول مرة، وهو ما يمنع شعورهم بالتعاطف معه. وهناك شيء بخصوص التدمير الحاد
للذات، يُحيِّر العقل المفكر لرجل أو امرأة ممن كرَّسوا حياتهم لمحاربة المرض، لدرجة
أنه
يميل إلى تقليل أو حتى طمس الشعور بالتعاطف. ولا يُبدي المشاهدون من أعضاء الفريق
الطبي —
سواء كانوا مندهشين ومحبطين من مثل هذا الفعل، أو غاضبين من عدم جدواه — كثيرًا من
الحزن
على جثة المنتحر. وقد رأيت في تجارِبي الشخصية بعض الاستثناءات، لكنها كانت قليلة
على أي
حال. ويكون هناك إحساس بالصدمة العاطفية، وحتى الشفقة، ولكن نادرًا ما يكون هناك ذلك
التوتر
الذي يصاحب الموت غير المختار.
وإنهاء حياة المرء بنفسه هو الفعل الخطأ في جميع الحالات تقريبًا. ومع ذلك، فهناك
موقفان
قد يكون الأمر فيهما كذلك. وهذان هما الإعاقات غير المحتملة للشيخوخة المُقعِدة وأوجه
الدمار الأخيرة للمرض النهائي. وليست الأسماء ذات أهمية في تلك الجملة الأخيرة، فالنعوت
هي
ما يستصرخ الاهتمام، فهي الجزء الأعوص في القضية، والذي لا يحتمل أي حلولٍ وسطٍ أو
ألفاظ
مثل: «حسن، تقريبًا»: غير المحتملة، المُقعِدة، الأخيرة، والنهائي.
وقد تفكَّر الخطيب الروماني العظيم «سنيكا»،
٢ خلال فترة حياته المديدة، في الشيخوخة كثيرًا:
«لن أتخلى عن الشيخوخة إذا تركت أفضل جزء فيَّ سليمًا. ولكنها إذا بدأت تزعزع
عقلي، وإذا دمرت ملكاته واحدة تلو الأخرى، وإذا لم تُبقِ فيَّ من الحياة سوى
النَّفَس، فسأرتحل عن النظام (edifice) المتعفن أو
الآيل للسقوط. ولن أهرُب بالموت من المرض إذا كان من الممكن علاجه، وإذا ترك عقلي
سليمًا. ولن أرفع يدي بالأذى على نفسي بسبب الألم، لأن موتي معناه هزيمتي. لكني
أعرف أنه إذا كان عليَّ أن أتعذب بدون أي أمل في الشفاء، فسأرحل، ليس من خلال الخوف
من الألم ذاته، بل لأنه يمنع كل ما يمكن أن أعيش من أجله.»
وتمتلئ هذه الكلمات بالحس السليم لدرجة أن القليلين فقط هم من سينكرون أن الانتحار
سيبدو
كأحد الخيارات المتوافرة للشيخ الواهن عندما تصبح أيامه أكثر صعوبة، على الأقل بالنسبة
لأولئك الذين لا تمنعهم من فعل ذلك قناعاتهم الشخصية وعقائدهم الدينية. وقد تفسر الفلسفة
التي عبر عنها سنيكا، حقيقة أن الشيوخ من الذكور البيض ينتحرون بنسبة تزيد على خمسة
أضعاف
المعدل القومي الأمريكي. أليس ما يفعلونه هو ما يسمى «بالانتحار العقلاني»
(Rational
suicide)، والذي طالما تم الدفاع عنه في مَجلات علم الأخلاق
(Ethics)، وصفحات بريد القراء في الجرائد
اليومية؟
والإجابة هي بالكاد نعم. فالخطأ الفادح في موقف سنيكا يُعَد من الأمثلة الصارخة للأخطاء
الشائعة بين كلٍّ من تلك المناقشات الشهيرة التي تتناول الاتجاهات المعاصرة نحو الانتحار
تقريبًا؛ فالغالبية العظمى من الرجال والنساء المتقدمين في العمر الذين يقدمون على
الانتحار، يفعلون ذلك لإصابتهم باكتئاب (Depression) قابل للعلاج تمامًا. ويمكن، بالأدوية
والمعالجات الملائمة، أن يُشفى أغلبهم من تلك السحابة من اليأس المُطبِق والتي تصبغ
كل منطق
باللون الرَّمادي، وعندئذ سيدركون أن ترديات النظام (Edifice
topples) ليست في مثل ما تخيَّلوه من جسامة، وأن الأمل في الشفاء ليس
ميئوسًا منه كما تصوروا. رأيت غير مرة شيخًا منتحرًا خارجًا من اكتئاب، وعندئذ يُعاد
اكتشافه كصديق مفعم بالحيوية. وعندما يعود أولئك الرجال والنساء إلى نظرة أقل يأسًا
للواقع،
تبدو وحدتهم أقل وحشة لهم كما يبدو ألمهم أكثر احتمالًا، لأن الحياة تصبح عندئذ مثيرة
مجددًا، ويدركون أن هناك أناسًا بحاجة إليهم.
ولا يعني ذلك كله أنه ليست هناك مواقف تستحق فيها كلمات سنيكا الاعتبار. ولكن إذا
كان
الأمر كذلك، فستستحق عندئذ معتقدات الروماني الاستشارة، والمشورة، والتأثير الرافع
(Leavening)
لحقبة طويلة من التفكير الناضج. ويجب أن يكون القرار بإنهاء الحياة قابلًا للدفاع
عنه
(defensible)
بالنسبة لأولئك الذين نسعى لاكتساب احترامهم، مثلما هو بالنسبة لأنفسنا نحن. وفقط
عند
ملاقاة هذه الدالة يمكن لأي إنسان أن يتفكر في إنهاء الحياة.
وبعكس هذه المقاييس، اقترب انتحار بيرسي بريجمان
(Predgman) من كونه خاليًا من اللوم
(irreproachable). كان بريجمان هذا أستاذًا بجامعة هارفارد
أدَّت أبحاثه في فيزياء الضغط العالي (High-pressure
physics) إلى منحِه جائزة نوبل في الفيزياء لعام ١٩٤٦م. ظل يعمل حتى سن
التاسعة والسبعين وفي المراحل الأخيرة للسرطان، حتى أنه لم يعد قادرًا على الاستمرار.
وعندما كان يعيش في منزله الصيفي في مدينة راندولف، بولاية نيوهامبشير، أكمل الكشاف
(index) لمجموعة من سبعة أجزاء لأعماله العلمية، وبعث
بها إلى مطبعة جامعة هارفارد، ثم أطلق النار على نفسه في العشرين من أغسطس ١٩٦١م،
تاركًا
مذكرة لانتحاره لخَّص فيها جدلًا أربكَ من وقتها عالمًا كاملًا من الأخلاقيات الطبية:
«لا
يليق بالمجتمع أن يجعل رجلًا يفعل ذلك بنفسه. وربما كان ذلك هو آخر يوم أستطيع أن
أفعل فيه
ذلك بنفسي.»
وعند وفاته، بدا أن بريجمان كان صافيًا ذهنيًّا تمامًا بحيث يتخذ القرار الصحيح. ظل
يعمل
حتى اليوم الأخير، وربط بين النهايات السائبة، ونفذ خطته. ولست على يقين من كم الاعتبار
الذي أولاه لاستشارة الآخرين، لكن قراره لم يخف بالتأكيد عن أصدقائه وزملائه، نظرًا
لوجود
أدلة عديدة على أنه قد أخبر بعضهم على الأقل بالأمر مسبقًا. فقد أصبح من الاعتلال
بحيث شك
في قدرته بعدها على أن يستجمع قواه من أجل تنفيذ عزيمته التي لا تلين.
وفي رسالته الأخيرة، تحسَّر بريجمان على ضرورة تنفيذ فَعلته بدون مساعدة من أحد.
وذكر أحد
زملائه مناقشة قال فيها بريجمان: «أريد أن أستغل الموقف الذي أجد فيه نفسي وقد رسخت
مبدأً
جديدًا؛ وبالتحديد، أنه عندما تصبح النهاية المطلقة حتمية كما تبدو الآن، يحتفظ المريض
بحقه
في أن يطلب من طبيبه أن ينفذها من أجله.» وإذا كانت هناك حاجة لجملة واحدة لتجسيد
(epitomize)
المعركة التي نشترك فيها الآن جميعًا، فقد قرأناها للتو.
وليست هناك مناقشة معاصرة حول الانتحار، أو على الأقل ليست هناك واحدة كتبها طبيب،
تستطيع
أن تحيط بقضية دور الطبيب في مساعدة المرضى على التخلص من حياتهم. والكلمة الرئيسية
في هذه
الجملة هي المرضى — ليس البشر فحسب، بل المرضى — خصوصًا مرضى أولئك الأطباء الذين
ينفذون
هذه المساعدة. ويجب ألا تنشئ جمعية «أبوقراط» تخصصًا جديدًا من مولِّدي القبور
(
Accoucheurs to the
grave) حتى لا يحول اختصاصيو الأورام والجراحون، وغيرهم من
الأطباء الذين تعذبهم ضمائرهم، أولئك المرضى الذين يرغبون في مغادرة كوكبنا إلى هؤلاء.
ومن
ناحية أخرى، فيجب الترحيب بأية درجة من المحاورة حول مشاركة الأطباء في الأمر، إذا
كانت
ستظهر إلى العلن ممارسة خامدة وُجدت منذ كان «إسكولابيوس»
٣ في قِماطه.
وقد أصبح الانتحار، خصوصًا تلك الصورة التي ثار الجدل حولها مؤخرًا، من الصرعات الجديدة
في الآونة الأخيرة. ومنذ قرون طويلة، كان أولئك الذين يُنهون حياتهم بأنفسهم يُعتبَرون
على
أحسن تقدير كمن اقترف جرمًا فاحشًا في حق أنفسهم؛ وفي أسوأ الأحوال، كانت جريمتهم
تُعتبر
كخطيئة مميتة. ويُعَد كلا الاتجاهين ضمنيًّا في كلمات عمانوئيل كانط:
٤ «ليس الانتحار شنيعًا لأن الله حرمه، لكن الله حرمه لأنه شنيع.»
لكن الأمور اليوم اختلفت؛ فلدينا مشكلة جديدة متعلقة بالانتحار، يساعدها وربما يشجعها
أولئك الاستشاريون المدَّعون (Self-styled) على أقصى حدود
العذاب البشري. ونحن نقرأ في صحف الإثارة (Tabloids)
والمَجلات البرَّاقة أن أفعال المتوفَّى، تحت تأثير بعض الظروف المسوِّغة بعينها،
تُعرَف
بصفات مثل تلك المحفوظة لأبطال العصر الحديث، والتي يبدو أن قليلًا منها فقط حقيقي.
وبالنسبة لرموز الثقافة الشعبية، سواء الطبية منها أو غيرها، الذين يساعدونهم — فهم
يدعوننا
إلى نظرة أولئك المروجين المعروفين للموت الإرادي والذين ينشرون فلسفاتهم في عروض
الأحاديث
المتلفزة. وهم يُثنون على إنكارهم لذواتهم، حتى في الوقت الذي يسعى فيه النظام القضائي
لملاحقتهم.
وفي عام ١٩٨٨م، ظهر تقرير في مَجلة الجمعية الطبية الأمريكية
(J.A.M.A.) عن طبيب شاب متدرب على الأمراض النسائية،
والذي، خلال الساعات الأخيرة من إحدى الليالي، اغتال — حيث الاغتيال هو الكلمة الوحيدة
التي
يمكن أن يوصف بها ما فعله — امرأة في العشرين من عمرها مصابة بالسرطان، لأنه راق له
تفسير
توسلاتها طلبًا للخلاص كتوسل للموت لا يمكن أن يحققه سواه، وكانت طريقته هي حقنها
بجرعة من
المورفين تزيد بنسبة الضعف على الأقل عن الجرعة المقررة، ثم الوقوف بجوارها حتى أصبح
تنفسها
مضطربًا، ثم توقف كلية. وحقيقة أن ذلك الذي نصَّب نفسه مُخلِّصًا
(Deliverer) لم يكن قد رأى ضحيته من قبل تمنعه من تنفيذ
مهمته التي أساء تفسيرها بالرحيمة، والمشبعة بالتأكيدات الضمنية المقززة على حكمته،
أو
تمنعه أيضًا من نشر تفاصيلها. فبينما انكمش «أبوقراط» حزينًا، كانت أرواح خلفائه الأحياء
تنتحب.
وبالرغم من الأطباء الأمريكيين قد اتخذوا سريعًا موقفًا جماعيًّا يستنكر سلوك طبيب
النسائية الشاب، فإنهم استجابوا بصورة مختلفة تمامًا بعد ذلك بثلاث سنوات في حالة
من نوع
مختلف تمامًا. كتب طبيب للأمراض الباطنية من مدينة روشستر، بولاية نيويورك، في المَجلة
الطبية لنيو إنجلند (New England Journal of
Medicine)، واصفًا حالة مريضة أطلق عليها اسم ديان فقط،
والتي سهَّل انتحارها عامدًا عن طريق وصف عقاقير الباربيتيورات المنوِّمة التي طلبتها.
وكانت ديان هذه، وهي أم لابن في سن الدراسة الجامعية، مريضة الدكتور تيموثي كويل
(Quill) لفترة طويلة. وقبل ذلك بثلاثة أعوام ونصف
العام، شخَّص الطبيب حالتها كنوع شديد الحدة من سرطان الدم (اللوكيميا:
Leukemia)، وتفاقم مرضها حتى وصل إلى النقطة التي «بدأت
فيها آلام العظام، والضعف، والخمول، والحميات، تسود جميع أوجه حياتها.»
وبدلًا من الموافقة على العلاج الكيميائي (Chemotherapy) الذي كان يحمل فرصة ضئيلة لإيقاف الهجوم
المميت للسرطان الذي أصابها، فقد أوضحت ديان في مرحلة مبكرة من مرضها للدكتور كويل
واستشارييه العديدين، أنها كانت تخشى الضعف الناتج عن المرض، وفقد السيطرة على جسدها،
أكبر
بكثير مما كانت تخشى الموت. وبدأ الدكتور كويل، ببطء، وصبر، وحنان نادر الوجود، وبمساعدة
زملائه، في قبول قرار ديان ومصداقية الأسس التي بنته عليها.
والعملية التي تعرَّف بها تدريجيًّا على أنه يجب أن يساهم في التعجيل بموتها، هي
مثال
للرابطة الإنسانية التي يمكن أن توجد، وأن تتطور، بين الطبيب ومريضه الكامل الأهلية
والمصاب
بمرض في مرحلته النهائية، والذي يختار عقلانيًّا، ويؤكد اختياره بعد المشورة، أن إنهاء
الحياة هو السبيل الصحيح لما يتوجب فعله. وبالنسبة لأولئك الذين تسمح لهم نظرتهم للكون
٥ باعتبار هذا الخيار، قد تُثبت طريقة الدكتور كويل في التعامل مع هذه القضية
الشائكة من القبول (
Assent) [والتي طُوِّرت من وقتها في
صورة كتاب حكيم وشهير نُشر عام ١٩٣٣م] أنها نقطة مرجعية في بوصلة الأخلاقيات الطبية.
فأمام
الأطباء مثل طبيب النسائية الشاب، ومخترعي آلات الانتحار (
Suicide machines)، أيضًا، الكثير
ليتعلموه من أمثال ديان والدكتور تيموثي كويل.
ويمثل كويل وطبيب النسائية اتجاهات متعارضة تمامًا تَسُود المناقشات المتعلقة بدور
الطبيب
في مساعدة المرضى على أن يموتوا؛ فهما المثالي والمخيف. وقد احتدم الجدال، وآمل أن
يستمر في
الاحتدام ليصل إلى الموقف الواجب اتخاذه من قِبل المجتمع الطبي وغيره، وهناك — بهذا
الخصوص
— اختلافات عديدة في الرأي.
وفي هولندا، تم رسم الإرشادات العامة للقتل الرحيم،
٦ بالإجماع العام، مما يتيح للمرضى الكاملي الأهلية والكاملي المعرفة الحصول على
الموت في حالات مختارة بعناية. والطريقة المعتادة هي أن يقوم أحد الأطباء بإحداث النوم
العميق عن طريق عقاقير الباربيتيورات (
Barbiturates) ثم
يقوم بحقن عقَّار يشل العضلات للتسبب في إيقاف التنفس. واعتمدت كنيسة الإصلاح الهولندية
سياسة وصفتها في مطبوع لها بعنوان
Euthanasie en
Pastoraat (بمعنى «القتل الرحيم والكنيسة») لا تعارض
الإنهاء الإرادي للحياة عندما يجعلها المرض غير محتملة. ويمثل اختيارهم لكلمات بعينها
حساسية رجال الكنيسة للفارق بين ذلك وبين الانتحار العادي، أو
zelfmoord، وتعني حرفيًّا «قتل الذات».
وقد تم استحداث اصطلاح جديد للإشارة إلى الموت الذي يتم تحت ظروف «القتل الرحيم»:
وهو
zelfdoing،
والذي يُترجَم أفضل ما يكون باصطلاح «إماتة الذات»
(
self-deathing).
وبالرغم من أن تلك الممارسة لا تزال — تقنيًّا — غير شرعية في هولندا، فإنه لم تتم
ملاحقتها قضائيًّا حتى الآن، إذا التزم الطبيب الضالع فيها بالبقاء داخل نطاق «الإرشادات»،
والتي تشمل طلبات متكررة بدون إجبار (uncoerced) من أجل إنهاء العذاب الذهني والجسدي الشديد
الناتج عن مرض عُضال لا يحمل أي أمل في الشفاء. ومن المطلوب أن يكون قد تم استنزاف
أو رفض
جميع الخيارات البديلة. ويبلغ عدد المرضى الذين يخضعون «للقتل الرحيم» سنويًّا نحو
٢٣٠٠، في
بلد لا يزيد عدد سكانه عن ١٤٫٥ مليون نسمة، مما يمثل ما نسبته ١٪ من جميع الوفَيَات
السنوية
هناك. ويتم تنفيذ هذا الفعل أكثر ما يكون في منازل المرضى. ومن المثير معرفة أن الغالبية
العظمى من الطلبات يتم رفضها من قِبَل الأطباء، لأنها لا تفي بالمتطلبات المفروضة.
والتورط (Involvement) هو رُوح الأمر كله. فأطباء العائلة
(Family physicians) الذين يقومون بالزيارات المنزلية
هم المقدِّمون الأساسيون للرعاية الصحية في هولندا. وعندما يطلب مريض في النزع الأخير
«القتل الرحيم»، أو مساعدته في الانتحار، فليس من المحتمل أن يلجأ لاختصاصي، أو لخبير
في
الموت، طلبًا للمشورة. والاحتمال الأقرب أن يكون كلٌّ من الطبيب والمريض قد عرَفا
بعضهما
البعض لسنوات طويلة، مثلما كان الحال مع تيموثي كويل وديان، وحتى عندئذ تكون المشورة
والتدقيق مع طبيب آخر إجبارية. ولا بد أن طول ونوعية عَلاقة كويل بديان كانت ذات اعتبار
أساسي في القرار الذي اتخذته هيئة المحلفين الكبرى في روشستر بعدم إدانته في يوليو
من عام
١٩٩١م.
وفي الولايات المتحدة والدول الديمقراطية عامة، تستند أهمية المناقشة العلنية لوجهات
النظر المتباينة، ليس إلى احتمالية التوصل إلى إجماع ثابت في الآراء، بل إلى إدراك
أن ذلك
لن يحدث. ومن دراستنا لوجهات النظر المختلفة التي يتم التعبير عنها في مثل هذه المناقشات،
أحطنا علمًا باعتبارات متعلقة باتخاذ القرار كان من الممكن ألا تخطر بأذهاننا خلال
بحثنا
الذاتي. وبعكس المناظرات، التي تنتمي بالتأكيد إلى الحلبة الجماهيرية، يتم اتخاذ القرارات
ذاتها بصورة صحيحة داخل ذلك الحيِّز الضيق، والذي لا يمكن اختراقه للضمير الشخصي.
وهو ما
يجب أن يكون الأمر عليه بالتحديد.
وقد زجَّت منظمة تسمى «جمعية الشوكران» (The
Hemlock Society) بنفسها داخل كل هذه الأمور. وليست هذه
الصفحات مجالًا لنقد الطريقة الإشكالية التي انتهجتها هذه الجمعية ذات النوايا الحسنة
للمساعدة الذاتية، والتي تتكون عمومًا من أشخاص أذكياء، في التقرير العلني لقرارات
الانتحار
بالنسبة لأولئك الذين قد يعانون من اختلال قدرتهم في الحكم على الأمور. كما أنني لا
أنتوي
التنفيس إلا عن جزء يسير من ازدرائي للطريقة المضللة التي قدَّم بها مؤسس «جمعية الشوكران»،
دريك همفري (Humphrey)، نفسه إلى الأضواء الإعلامية أثناء
الترويج لكتابه الأخرق عن أطعمة الموت (Cookbook of
death)، والمسمى المخرج النهائي (Final
Exit). ولكن أحدًا لا يستطيع إصدار حكم نهائي على كتاب «المَخرج
النهائي» من دون الاطِّلاع على إحصائية مذهلة: ففي استقصاء أجرته عام ١٩٩١م مراكز
مكافحة
الأمراض، والتابعة للحكومة الأمريكية، وُجد أن ٢٧ في المائة من ١١٦٣١ طالبًا في المدارس
الثانوية شملهم الاستقصاء، قد «فكَّروا جديًّا» في قتل أنفسهم خلال العام السابق،
وأن
واحدًا من كل اثني عشر قد حاول الانتحار بالفعل. ومن المعروف أن أكثر من نصف مليون
شاب
أمريكي يحاولون الانتحار سنويًّا، بالإضافة إلى مجموعة هائلة أخرى لا يمكن اكتشافها
من
أولئك الذين لم تُفتضح محاولاتهم.
وفي خطاب وُجِّه في يونيو ١٩٩٢م لمَجلة الجمعية الطبية الأمريكية، كتب طبيبان نفسانيان
في
مركز دراسة الأطفال التابع لجامعة ييل محذرَين: «مع أمثلته المرعبة، وتوجيهاته المكشوفة،
ومناصرته الشديدة للانتحار، قد يكون لكتاب المَخرج النهائي تأثير خبيث على وجه الخصوص
على
المراهقين، والذين، بمعدلاتهم المرتفعة في محاولات الانتحار الفاشلة والكاملة، يبدون
معرَّضين للتأثيرات المقلِّدة وللعوامل الثقافية التي تُمجِّد الانتحار أو إزالة سوء
السمعة
المحيط به.»
ولا يُعتبر الاكتئاب والقنوط الذي ينتاب المرضى المزمنين بصورة دورية، والافتتان
بالموت
الذي تُظهره بعض قطاعات مجتمعنا، مُبرِّرات من القوة بحيث تكفي لأن نُعلِّم الناس
كيف
يقتلون أنفسهم، أو أن نساعدهم على ذلك، أو أن نخلع عليه البركة. ولا يمكن أن يكون
إنسان
بقدرات معطَّلة على الحكم على الأمور في وضع يسمح له باتخاذ قرار حيوي بإنهاء حياته
أو
حياتها. وعند هذه النقطة، ليس هناك خلاف، حتى بين علماء الأخلاق الذين يجادلون بمنتهى
الإقناع من أجل المفهوم الذي أصبح معروفًا باسم «الانتحار العقلاني»
(Rational suicide). وحسبما أوضح الدكتور كويل، فلا
يمكن لكتاب دريك همفري الأولي عن الموت بحالٍ من الأحوال «أن يحلَّ الشكوك الأخلاقية
والشخصية العميقة التي يُثيرها حول معنى القتل الرحيم ومساعدة الانتحار.» ومثل كل
القضايا
التي تتناول الحياة البشرية، ليست هناك إجابة موحدة لهذا السؤال، لكنه يجب أن يكون
هناك
توجُّه موحد من التسامح والاستعلام. وربما كان من الكثير أن نطالب بأن تكون هناك أيضًا
طريقة موحدة لاتخاذ القرار، تكون مُعلَنة بصورة أكثر تحديدًا من تلك الإرشادات العامة
التي
سبق أن وصفناها. وحتى يتم إيجاد طريقة أفضل، تظل طريقة الدكتور كويل — أي طريقة التعاطف،
والمناقشة المتأنية، والمشورة، والاستجواب، والفرضيات الداحضة — فاعلة بطريقة تفي
بالغرض.
وبالرغم من أنه من الممكن تكذيب فلسفة همفري، فإنه ليس من الممكن فعل الشيء ذاته
مع
طريقته. فالتقنية التي أصبحت شهيرة حاليًّا، والتي تتضمن ابتلاع المرء لكَمية من الأقراص
المنومة قبل أن يضع رأسه داخل كيس مغلق جيدًا من البلاستيك غير المنفذ للهواء، تؤتي
ثمارها
بصورة ناجحة تمامًا كما يقترح همفري، حتى ولو لم يتم ذلك بنفس الآلية الفيزيولوجية
التي
وصفها تمامًا. ولأن الكيس صغير الحجم للغاية، يتم استنفاد الأكسجين سريعًا، قبل أن
يصبح
لثاني أكسيد الكربون المعاد استنشاقه أي فعل مؤثر بمدة طويلة. وينتج عن ذلك قصور مخي
سريع،
لكن المسبب الفعلي للموت هو أن انخفاض معدل الأكسجين بالدم يبطئ نبضات القلب سريعًا
حتى
يتوقف تمامًا، مع توقُّف الدورة الدموية بالمثل. وقد تكون هناك بعض أعراض القصور القلبي
مع
تناقص معدل الانقباض البطيني، لكنها بالكاد تسبب أي تغيُّر، نظرًا لأن الاحتضار يكون
في
سبيله للحدوث بالفعل. وبالرغم من أن المرء قد يفترض أنه قد تكون هناك بعض التشنجات
النهائية
أو القيء داخل الكيس، فإنه من الواضح أن ذلك، إذا حدث، فهو نادر للغاية. وقد رأى الدكتور
واين كارفر (Carver) وهو كبير مُفتِّشي صحة ولاية كونكتيكت
ما يكفي من أولئك المنتحرين، لكي يؤكد لي أن وجوههم لا تكون زرقاء ولا متورمة. فهم
يظهرون
في واقع الأمر عاديين تمامًا، ميتين فحسب.
وينتحر في كل عام نحو ثلاثين ألف أمريكي، تكون غالبيتهم من صغار البالغين. وتشير
هذه
الأرقام، بطبيعة الحال، فقط إلى أولئك الذين يمكن الجزم بأن وفاتهم ناتجة بصورة شبه
مؤكدة
عن تدمير الذات. وتكفي الوصمة (stigma) التي لا تزال مرتبطة بالانتحار، لأن تقوم الأسرة،
والمنتحرون أنفسهم، بإخفاء الملابسات في كثير من الأحيان. وأحيانًا ما يتوسل الناجون
لطبيب
متعاطف بأن يكتب شيئًا آخر على شهادة الوفاة. وكما أوضحنا سابقًا، يُقدِم الذكور البيض
على
قتل أنفسهم بأعلى نسبة في الألف، استسلامًا منهم للضغط الذي يسببه المرض الجسدي والشعور
بالوحدة، ولكونهم معرَّضين بصورة خاصة للإصابة بالاكتئاب.
ولا تزال الغالبية العظمى من المنتحرين يستخدمون تلك الطرق العتيقة مثل الأسلحة النارية،
والطعن، والشنق، وأقراص العقاقير، والغاز، أو مزيج من عديد منها. وليس من النادر أن
يفشل
انتحار غير مخطط جيدًا، خصوصًا عندما يُقدِم عليه شخص مضطرب الأحاسيس. وفي غمرة يأسهم،
أحيانًا ما يستمر أولئك الأشخاص في المحاولة حتى ينجحوا، مما ينتج عنه اكتشاف جثة
ممزقة،
ومصابة بطلقات نارية، وفي النهاية مسمَّمة أو مشنوقة. وعندما أقدم سنيكا في نهاية
الأمر على
وضع حدٍّ لحياته بنفسه، لم يكن ذلك بمحض اختياره، ولكن بأمر الإمبراطور نيرون
٧ وبالرغم من أن المرء قد يظن أن السنين الطويلة التي قضاها في التفكر بالأمر قد
جعلت منه خبيرًا في تنفيذه، لكن الواقع لم يكن كذلك؛ فبالرغم من أنه كان سياسيًّا
شهيرًا،
فإنه لم يكن يعرف الشيء الكثير عن جسم الإنسان. وعندما صمَّم على وضع نهاية للأمور،
قام
بغرس خنجر في شرايين ذراعه؛ وعندما لم يندفع الدم بالسرعة التي أرادها، قام بقطع أوردة
ساقيه وركبتيه. وعندما لم يكفِ ذلك لإنهاء المهمة، قام بابتلاع السم، الذي لم يُفِد
بدوره.
وفي النهاية، يذكر المؤرخ الروماني تاكيتوس أنه «تم حمله إلى حمام [ساخن]، حيث اختنق
بالبخار المتصاعد منه.»
وتقتل عقاقير الباربيتيورات، وهي إحدى العوامل الأحدث للانتحار، بطرق متعددة. فالغيبوبة
الناتجة عنها من العمق لدرجة أن السبيل التنفسي العلوي قد ينسد لأن الرأس يسقط إلى
وضع
خطير، مما يقطع المدخول من الهواء. وينتج عن ذلك، أو عن استنشاق القيء، الاختناق
(الأسفكسيا: Asphyxia) وتسبب الباربيتيورات أيضًا، عند
تعاطيها بجرعات مرتفعة للغاية، ارتخاء عضلات جدر الشرايين، مما يسمح لهذه الأوعية
بالتمدد
لدرجة كافية لجعل الدم يُفقد من الدورة الدموية من خلال الركود
(Pooling). وعند تناولها بهذه الكَميات الكبيرة، تثبط
هذه العقاقير من انقباضية (Contractility) عضلة القلب، وبهذا يمكن أن تتسبب في
توقف القلب.
وبالإضافة للباربيتيورات، هناك وسائط دوائية عديدة للقتل: فالهيروين
(Heroin)، مثله مثل البعض الآخر من المخدرات المحقونة،
يقتل عن طريق التسبب في حدوث وَذَمة رئوية سريعة، على الرغم من أن الآلية التي يحدث
بها ذلك
ليست معروفة على وجه التحديد. ويثبط السيانيد (Cyanide)
واحدة من العمليات الكيمياحيوية التي تستغل بها الخلايا الأكسجين. بينما يدمر الزرنيخ
(Arsenic) أعضاء متعددة، لكن طريقته النهائية للقتل هي
إحداث اضطرابات في نَظم القلب، مصحوبة أحيانًا بالغيبوبة والتشنجات.
وعندما يربط المنتحر المحتمل إحدى نهايتي خرطوم إلى أنبوب العادم لسيارة، ويستنشق
من
النهاية الأخرى، فهو يستغل الألفة (Affinity) التي يحتفظ بها الهيموجلوبين لأول أكسيد
الكربون، والذي يفضله بمعدل يزيد من ٢٠٠–٣٠٠ ضعف عن منافسه الحيوي، الأكسجين. ويموت
المريض
لأن دماغه وقلبه يُحرمان من الإمداد الكافي من الأكسجين. ويجعل اللون الذي يصبغ الدم
بفعل
الكربوكسي هيموجلوبين (Carboxyhemoglobin)، منه أكثر
إشراقًا بصورة لافتة، ومن ظاهر التناقض أنه يبدو أكثر حيوية منه في حالته الطبيعية،
مما
يجعل للجلد والأغشية المخاطية للشخص الذي يموت بفعل أول أكسيد الكربون مَسْحة ملحوظة
من
اللون الأحمر الكَرَزي. وقد يخدع غيابُ التلون الأزرق النمطي للاختناق (الأسفكسيا)،
أولئك
الذين يكتشفون ما يبدو أنه جسم متورد الخدين في عنفوان صحته، لكنه ميت مع ذلك.
ويحقق الشنق الشيء نفسه تقريبًا، ولكن بآلية أقل لطفًا بكثير. فيوفِّر وزن جثة الضحية
قوة
كافية لتضييق الأنشوطة (noose) وللتسبب في إحداث انسداد ميكانيكي في السبيل
التنفسي العلوي. وأحيانًا ما ينتج الانسداد عن انضغاط أو كسر القصبة الهوائية، لكنه
قد يحدث
أيضًا نتيجة إزاحة قاعدة اللسان لأعلى، مما يعوق دخول الهواء. ولأن الأنشوطة المضيِّقة
تقطع
تصريف الدم عبر الأوردة الوِداجية (السُّباتية) وغيرها من الأوردة، يتراكم الدم اللامؤكسج
(deoxygenated)
عائدًا إلى أنسجة الوجه والرأس. ويُعَد اكتشاف جثة مشنوقة بشكل منفِّر، والتي يتدلى
لسانها
المتورم، والمعضوض أحيانًا، من وجه منتفخ ذي لون رَمادي مُزْرَقٍّ، مع عينين جاحظتين
بصورة
بشعة، منظرًا مرعبًا لا يمكن إلا لأقوى الناس النظر إليه بدون الشعور بالاشمئزاز.
وفي حالات الشنق القانوني، أو القضائي (Judicial)، يحاول
الجلاد أن يتجنب الأسفكسيا، لكنه كثيرًا ما يفشل في ذلك. وعندما توضع عقدة الأنشوطة
في
موقعها الملائم تحت زاوية فك الرجل المحكوم عليه تمامًا، يجب أن يتسبب السقوط الفجائي
من
ارتفاع خمسة إلى سبعة أقدام في كسر وخلع (Dislocation) العمود الفقري عند قاعدة الجمجمة. وبذلك
ينقطع الحبل الشوكي (Spinal
cord) إلى نصفين، مما ينتج عنه صدمة فورية وشلل في عضلات
التنفس. وإذا لم يحدث الموت بصورة فورية، فهو سريع للغاية، بالرغم من أن القلب قد
يستمر في
النبض لعدة دقائق.
ويشبه تسلسل الأحداث في عملية الاختناق بفعل الشنق الانتحاري مثيله في جميع حالات
الأسفكسيا الميكانيكية، سواء كانت تلك متعمدة أم لا، مثل إخماد الأنفاس
(Smothering)
أو الغَصَص (Choking). ويتمثل الغصص غير الانتحاري في عملية
«نوبة المقهى القلبية» (Café
coronary) المعروفة، حيث تسد فجأة كتلة ضخمة من الطعام
القصبة الهوائية لواحد من متناولي الطعام، والذي كثيرًا ما يكون مخمورًا. ويصاب بالذُّعر
لعدم قدرته على أخذ نفسه، وفي محاولة يائسة لمساعدة نفسه، يقبض الرجل المتهيج مفرط
الكَرْبُمية (Hypercarbic)، على حَلْقِه وصدره كما لو كان
مصابًا بنوبة قلبية (ومن هنا جاء اسم «نوبة المقهى القلبية»). ويندفع الرجل إلى الحمام،
آملًا في أن يتقيَّأ تلك الكتلة التي تسد قصبته الهوائية، لأنه حتى في لحظات احتضاره
يخجل
من أن يفعل ذلك أمام رفاقه المشدوهين، والذين قد يظلون جالسين، غير قادرين على التصرف
وقد
تسمَّروا في أماكنهم من الرعب. وإذا كان الرجل وحيدًا في منزله، فسيموت في الغالب،
لكن
مناورة «هيمليخ» (Heimlich
maneuver) قد تنقذه إذا كان في مكان عام واتفق وجود أحد
المارَّة ممن يستطيعون القيام بها.
وإذا لم يتم قذف كتلة الطعام خارجًا، تستمر عملية الاختناق بدون توقف. فيتسارع النبض،
ويرتفع ضغط الدم، كما ترتفع معدلات ثاني أكسيد الكربون في الدم سريعًا حتى تصل إلى
حالة
تسمى بفرط الكربمية (Hypercarbia). ويتسبب فرط الكربمية في
قلق مفرط، كما يجعل تناقصُ الأكسجين الضحيةَ المذعور يبدو أزرق اللون
(Cyanotic). ويبذل الرجل محاولات متزايدة العناء لسحب
الهواء من خلال الانسداد، بدون نتيجة سوى حشر كتلة الطعام في مكانها بصورة أكثر ثباتًا.
ومثلما يحدث أثناء الشنق، ينتج عن ذلك فقدان الوعي، وأحيانًا التشنجات التي يطلقها
الدماغ
المصاب بكلٍّ من نقص الأكسجة وفرط الكربمية. وخلال وقت قصير، تصبح محاولات التنفس
أضعف وأقل
عمقًا. ويصبح نبض القلب غير منتظم، ثم يتوقف تمامًا في النهاية.
ويُعَد الغرق أساسًا نوعًا من الأسفكسيا ينسدُّ فيها الفم والمنخران بالماء. وإذا
كان
الغرق انتحاريًّا، لن تقاوم الضحية استنشاق الماء، لكنه إذا كان عَرَضيًّا، كما هو
الحال
عادةً، فسيحاربه بكتم نَفَسه حتى يصبح من الضعف وفرط الكربمية بحيث يفقد قدرته على
الاستمرار. وعند تلك النقطة، تصبح السبل الهوائية بطول الطريق إلى الرئتين مسدودة
بالمياه.
وإذا حدثت المقاومة عندما يكون الغريق متخبطًا في المياه القريبة من السطح، يمكن استنشاق
كَمية من الهواء كافية لصنع حاجز من الرغاوي (Foam).
وتستثير الرغوة والمياه الموجودة في المسلك الهوائي عمل منعكس القيء
(Vomiting reflex)، والذي يزيد الطين بِلة بدفع محتويات
المعدة الحمضية لأعلى نحو الفم، حيث يمكن استنشاقها إلى القصبة الهوائية.
وإذا حدث الغرق في المياه العذبة، يتم امتصاص المياه إلى الدورة الدموية عبر الرئتين،
مما
يخفف (dilute) الدم ويصيب بالاضطراب ذلك التوازن الدقيق
للعناصر الكيميائية والفيزيائية بالدم. وتتحطم كُرَيات الدم الحُمر بسبب ذلك الاضطراب،
مما
ينتج عنه إطلاق كَميات كبيرة من البوتاسيوم في الدوران الدموي، وهو عنصر يعمل كسم
للقلب عن
طريق إصابته بالرجفان. أما إذا حدث الغرق في مياه البحر، فتصبح العملية معكوسة تمامًا
تقريبًا، فيترك الماء الدوران الدموي، ويدلِف إلى أسناخ الرئة
(Alveoli) … والصورة الناتجة هي تلك الخاصة بالوَذَمة
الرئوية. وقد تحدث الوَذَمة الرئوية أيضًا أثناء الغرق في حوض السباحة، نظرًا لأن
الكلور
يعمل كمهيج كيميائي على أنسجة الرئتين.
وخلال صراعات الغريق، يؤجَّل استنشاق المياه في بداية الأمر، ثم يحرَّض بفعل واحدة
من
آليات البقاء الغريزية في الجسم. فعندما تدلِف النُّدفة الأولى من المياه إلى سبيل
الهواء،
ينقبض البلعوم تلقائيًّا وينغلق، في محاولة لمنع دخول كَميات إضافية من المياه. ولكن
خلال
دقيقتين إلى ثلاث، يتسبب نقص أكسجين الدم في إرخاء التقلص، فيندفع الماء للداخل. وتسمح
ما
تُسمى بمرحلة اللُّهاث النهائية (Terminal gasp phase)،
باستنشاق كَميات هائلة من المياه، لدرجة أن امتصاصها في حالات الغرق في المياه العذبة
قد
يصل إلى نسبة ٥٠٪ من الحجم الكلي للدم.
ويكون جسم الإنسان الميت أثقل من الماء، كما تكون الرأس أكثر أجزائه كثافة. وعلى
ذلك،
تغوص جثة الغريق نحو القاع والرأس لأسفل، وتظل طافية في ذلك الوضع حتى يتسبب التجيُّف
(Putrefaction)
في تكوُّن كَمية من الغازات داخل الأنسجة، تكفي لخلق قابلية للطفو
(Buoyancy) تجعل الجثة تطفو إلى السطح. وتستغرق هذه
العملية ما بين عدة أيام إلى عدة أسابيع، وذلك حسب درجة حرارة وحالة المياه. وعند
عودة
الجثة، يكون من الصعب على مكتشفها المشدوه أن يصدق بأن ذلك الشيء المتعفن كان يضم
يومًا
رُوحًا بشرية، وأنه كان يتشارك الهواء الطبيعي المانح للحياة مع بقية البشر الأصحاء.
ويقتل الغرق نحو خمسة آلاف شخص في الولايات المتحدة سنويًّا، ويُكتنف الكحول في ٤٠٪
من
الحالات. وباستثناء حالات الانتحار أو القتل، يحدث الغرق في أغلب الأحيان في ظروف
مفاجئة،
وعادةً ما يأتي دون سابق إنذار. ومع ذلك، فالغالبية العظمى من ضحايا الغرق يكون لديهم
على
الأقل إحساس باحتمال وقوعه، لأنه غالبًا ما يحدث عندما يكون أولئك بقرب المياه العميقة.
أما
ما يقارب الألف أمريكي الذين يتعرضون سنويًّا للصعق الكهربي المميت
(Electrocution)، فهم لا يتوقعون على الإطلاق تقريبًا أنهم على
وشك الموت، حتى ولو كانوا يعملون حول معدات الضغط الكهربائي العالي. وأكثر أسباب الموت
التالي للصعق الكهربي شيوعًا هو الرجفان البطيني الناتج عن مرور التيار الكهربي عبر
القلب.
ويمكن أن ينتج الرجفان أو توقُّف القلب عن طريق تعرُّض المركز القلبي في الدماغ للضغط
الكهربي العالي. وإذا تعرَّض مركز التنفس في الدماغ للإصابة، يكون سبب الوفاة هو توقف
التنفس. وبالرغم من أن أغلب حوادث الصعق الكهربي المميتة تحدث لرجال يعملون حول «كابلات»
الضغط العالي، فإن حوادث الكهرباء في المنزل تقتل الكثير من الأطفال والبالغين في
كل
عام.
وفي هذه الطرق المتنوعة، يُحرم ضحايا القتل، والانتحار، والحوادث من إمداد الأكسجين
الضروري للإبقاء على الوجود. وهذا السرد للأسباب وللتأثيرات الفيزيولوجية يُغطِّي
بالكاد
قائمة أسماء الجنود التي تضمها فيالق الموت العنيف. كما أن المناقشة المختصرة للسكينة
النهائية، أو تجارِب قرب الموت، أو مساعدة الانتحار، ليست سوى بداية لمعالجة تلك القضايا
الحديثة العديدة التي أضيفت مؤخرًا إلى الدليل المطوَّل بالفعل للاهتمامات التي لا
تسترعي،
فحسب، انتباه — والأهم من الانتباه، تمحيص — الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل انتباه كل
منا
جميعًا. وفي الأمور المتعلقة بالموت، لم يكن الجانبان السريري والأخلاقي بعيدَين عن
بعضهما
البعض بحيث لا يمكن أن ننظر لأحدهما من دون أن نرى الآخر.