الفصل الثامن
قصة الإيدز
«يمكنك أن تناديني بإسماعيل.» ابتسمت عندما تذكرت هذه الكلمات التهكمية، ونظرت ورائي
بعينين متفكرتين إلى الغرفة التي يرقد فيها الأب لإحدى الأسر الصغيرة، محتضَرًا.
«حدث ذلك منذ أربعة أشهر فقط، لكن هذه الفترة، في الحقيقة، تُعَد عمرًا بحد ذاتها.
فقد
دلَفت إلى العيادة في ذلك اليوم حيث كان جالسًا على أريكة الفحص، منتظرًا طبيب «المعجزات
الكبرى» الذي سيحضر لمساعدته، وكان ذلك الطبيب هو أنا، فبادرته: «عِمتَ صباحًا يا
سيد
جارسيا»، بكل الإشراق والانشراح الذي يجب أن يكون عليه الطبيب المتخرج حديثًا. فقفز
الرجل
الإسباني (
Hispanic)
الضئيل من مقعده وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، وقال: «يمكنك أن تناديني بإسماعيل.»
تخيَّل ذلك! وأظن أنه لم يقرأ الكتاب في حياته؛ فقد بقي إسماعيل
(
Ishmael) في رواية ميلفيل
١ على قيد الحياة، بينما لم تُتَح هذه الفرصة على الإطلاق لمريضي الذي يحمل الاسم
نفسه؛ فقد مات بعد ذلك بأيام معدودة، إلا إنني سأذكره ما حييت.» توقَّفَت بعد ذلك
عن
الحديث؛ وكان بوسعي أن أدرك أن الكلمات التالية قد تعثرت في شيء مسنن بحلقها، لأن
هذه
الكلمات بدت ممزقة عندما تمكنَتْ من النطق بها في النهاية: «كان أول مريض ألقاه في
حياتي
مصابًا بذلك المرض اللعين!»
وتتابعت الأزمات منذ تلك الأمسية الصيفية التي قفز فيها إسماعيل جارسيا من مقعده
ومد يده
لمصافحة الدكتورة ماري ديفو؛ تغيَّر كلٌّ منهما تمامًا عما كان عليه سابقًا، فبالرغم
من
أنها كانت قد رأت كثيرًا من مرضى الإيدز (AIDS) أثناء
دراستها بكلية الطب، فإن ماري لم تدرك تمامًا الحجم الفعلي للمأساة الفردية للمرض
حتى بدأت
مباشرة تلك المسئوليات المرعبة للطبيب المتخرج حديثًا.
ومنذ ذلك الأصيل المشمس من شهر يوليو، عندما قدَّم نفسه لأول مرة إلى عيادة متلازمة
نقص
المناعة المكتسب أو «الإيدز»، حتى صباح ذلك اليوم البارد الغائم من شهر نوفمبر التالي
عندما
كان عليها أن تعلن عن وفاته، ستصبح ماري ديفو وإسماعيل جارسيا طبيبة ومريضها؛ فسواء
كان
محجوزًا في المستشفى أو مترددًا على العيادة الخارجية، فقد ظل يعتبرها طبيبه الخاص.
ومن حين
لآخر، كان أطباء تدريب (Interns) آخرون يتولون رعايته، عندما كانت ماري مكلفة
بالعمل في أحد أقسام المستشفى الأخرى، إلا إنهما كانا يلتقيان مرة أخرى دائمًا ليكملا
رحلتهما إلى النهاية المحتومة التي كان كلاهما يعلم بأنها آتية لا محالة.
وفي مرحلة مبكرة من تدريبهم العملي، يكتسب أغلب الأطباء طريقة للتعامل مع مرضاهم
تصبح
كمثال بالنسبة لكلٍّ منهم، وستنبني عليها ردود أفعالهم تجاه المرض والموت طوال الفترة
المتبقية من حياتهم المهنية. أما بالنسبة لماري ديفو، فمما لا شك فيه أن إسماعيل جارسيا
سيمثل استفاقة (Reawakening) لصورة قديمة فقدها الجيل الجديد من المعالجين
منذ زمن بعيد، وهي الإحساس بالعجز أمام طاعون مميت يصيب صغار السن.
وفي إحصائيات الوفَيَات، لم يذكر أحد قبل عام ١٩٨١م فيروس العوز المناعي البشري
(Human Immunodeficiency Virus; HIV) كسبب للوفاة. ضربت
التلويحات الأولى لغضبته المستجمعة في اللحظة نفسها التي كان فيها خبراء العلوم الطبية
الأحيائية قد بدءوا يقدمون لأنفسهم التهاني الحذرة على الوصول إلى درجة من التقدم
بدا معها
الانتصار النهائي على الأمراض المُعدية على مرمى البصر أخيرًا. ولم يكتفِ مرض نقص
المناعة
المكتسب «الإيدز» بأن يخدع صائدي الجراثيم، بل زعزع الثقة التي كان كلٌّ منا يضعها
في قدرة
التكنولوجيا والعلوم على حماية البشرية من نزوات الطبيعة. ففي خلال أعوام قليلة متفجرة،
كان
كل طبيب شاب قد حصل تقريبًا خلال فترة تدريبه العملي على نصيبه من علاج أولئك المحتضَرين
الذين كان من المفترض أن يبقَوا على قيد الحياة.
دلَفت إلى غرفة جارسيا برفقة الدكتورة ديفو — بهدوء شديد — بالرغم من أنه كان أبعد
كثيرًا
من أن يسمع أي صوت قد تصدره. كان هدوءنا نابعًا عن الاحترام، أكثر من كونه نابعًا
عن الحاجة
لأن نكون كذلك؛ فعندما يكون هناك رجل في طور الاحتضار، تضم جدران غرفته مصلًّى
(Chapel)، يتوجب الدخول إليه في إجلال صامت.
وكم يختلف ذلك المنظر عن تلك الدراما المحمومة التي كثيرًا ما يتم تمثيلها خلال اللحظات
الأخيرة في حياة مريض ما، حيث تُبذل المحاولات اليائسة لإفاقته على مدى أسابيع أو
أشهر
قليلة قادمة انتظارًا لموته، وأحيانًا لساعات أو لأيام قلائل فحسب. وبعد تلك المآسي
التي لا
تُحصى لانحدار إسماعيل جارسيا إلى وادي الحُمى والتفكك (incoherence)، يمكن كسب هذه السلوى؛ كان
من المناسب ألا يتم تعكير صفو نهايته، على الأقل.
أطفئت الأضواء المثبتة في سقف الغرفة، كما أغلقت النوافذ لحجب ضوء شمس الظهيرة الساطعة،
مما أغرق المكان برُمَّته في ضوء النهار الخافت بصورة متجانسة. كان الرجل الراقد على
سريره
في غيوبة، مصابًا بحُمى عالية، كان جلد جبهته المصْفَرُّ يلتمع مقارنة بالبياض الناصع
لغطاء
وسادته الذي كان قد تم تغييره على الفور.
وبالرغم من أنه كان محطمًا بفعل الآثار الموهنة لمرضه الوخيم، فإنه كان من الواضح
أنه كان
شديد الوسامة في الماضي. وكنت قد قرأت لوحة بيانات إسماعيل جارسيا في المستشفى، كما
كنت
أعلم أنه مع آخر أنفاسه، ستتحطم السكينة بمحاولة كاملة لإنعاشه. وقبل أشهر، وخلال
إحدى
اللحظات المرعبة، توسل الرجل إلى زوجته لكي تسأل الأطباء للتأكد مما إذا كانوا قد
بذلوا كل
ما بوسعهم للإبقاء على حياته، وألا تسمح لهم بالتوقف عن محاولة إنقاذه. أما الآن،
فلا
تستطيع «كارمن» أن تقنع نفسها بما كان أعضاء فريق معالجة الإيدز يخبرونها به، أي إن
الممكن
قد بات مستحيلًا. وتمسكت بذلك الجزء من العهد الذي قطعته على نفسها، والذي قد يدمر
الخروج
السهل لكِيان (essence)
كانت تعتقد فيه مخلصة؛ أي تلك الرُّوح الخالدة لزوجها.
وبالرغم من أن إسماعيل كان قد انفصل عن زوجته قبل مرضه بسنوات ثلاث، فإنها كانت —
مع ذلك
— أقرب أقربائه في نظر القانون، ومن ثم تحدثت إلى أسرته. وفي واقع الأمر أنها لم تتحدث
إلا
إلى نفسها، لأن كارمن وزوجها كانا قد اتخذا قرارًا لا رجعة فيه بأن يحتفظا بالتشخيص
سرًّا
فيما بينهما؛ فلم يعرف أي من والِدَي إسماعيل أو شقيقتيه اسم المرض الذي أصابه، وإن
كان أي
منهم قد عرَف، فهو لم يَبُح به على الإطلاق.
وعندما أدركت «كارمن» كم كان زوجها مريضًا، سمحت له بالعودة إلى المنزل. وجدت، بطريقة
ما،
القوة على نسيان سنوات خيانته لها وإدمانه على المخدرات، وحتى حالة الفقر التي تركها
وبناتها الثلاث فيها نتيجة لعدم إحساسه بالمسئولية تجاههن. لقد عاد لكي تتمكن من أن
تكون
ممرضته والشخص الوحيد الذي يشاركه معرفته بدنو الأجل المحتوم.
وبرغم كل شيء، قالت إنه كان أبًا جيدًا، وأنها تدين له بكل ذلك. ومن أجل بناتها الثلاث،
وذكريات الحياة التي كانت بينهما يومًا، سمحت لزوجها المحتضَر بالعودة. ولرفضها لأن
تدعه
يموت في سلام عندما حان أجله، أصرَّت كارمن على أن تقوم بإسداء معروف أخير لزوجها
… كان
ذلك، على أي حال، هو ما اعتقدت أنه الوفاء بما وعدته به.
رفضت المناقشة مع الأطباء حول سبب رفضها الاستماع لأقوالهم المنطقية، ولم يجرؤ أحدهم
على
الضغط عليها. وقالوا لي إنهم افترضوا أنه، في مكان ما من أعماق ضميرها، كان تكريس
إسماعيل
الواضح للبنات قد جعل كارمن تشعر بضرب ما من الشعور الذي لا مبرر له بالذنب للفظها
لزوجها
المستهتر ورفضها الذي لا يلين للاستجابة لتلك الفترات المتقطعة التي كان فيها سلوكه
حميدًا،
ولوعوده بأن يصلح من شأنه. بلغ الأمر بالفريق الطبي حدًّا طلبوا فيه استشارة رئيس
لجنة
الأخلاقيات الأحيائية (Bioethics) في مستشفانا، ولكن الأخير
— عندما أخبروه بأن هناك احتمالًا لأن تكون هناك محاولة ناجحة لإنقاذه — رفض أن ينقض
الأوامر الصادرة عن قلب كارمن، ففي مثل هذه الظروف، من يدري أين تكون الحكمة؟
ولم يبقَ إسماعيل وحده في الغرفة على الإطلاق، كانت بناته الثلاث معه على الدوام.
كان
وجودهن دائمًا لرعاية والدهن المحبوب. على هيئة إطار من البلاستيك لصورة قياساتُها
قدمان في
ثلاثة، تقف منتصبة فوق عتبة شباك عريضة، كنَّ هناك … ثلاث فتيات جميلات جعدات الشعر
يرتدين
زيًّا للحفلات، وكنَّ يبتسمن للعالم ولوالدهن في يوم أكثر سعادة من ذلك.
التفتُّ نحو الصورة، وأنا أوجه للدكتورة ماري سؤالًا صامتًا. أجابتني «بنعم»، وأضافت:
«تحضر البنتان الكبيرتان إلى هنا في كل يوم تقريبًا، إلا إن كارمن لا تُحضر الصغرى.
وتكتفي
الفتاة البالغة من العمر ست سنوات باللعب عند قدم السرير، فهي لا تفهم شيئًا في الواقع.
أما
ذات السنوات العشر فتبكي وهي تجلس بجوار والدها في كل لحظة تبقى فيها هنا، تمسح وجهه
وتربت
عليه، ولا تستطيع التوقف عن البكاء. وأحاول ألا أدخل إلى الغرفة أثناء وجودهما هنا،
فهذا
أكثر مما أقوى على احتماله.»
كان هناك إنجيل إسباني عند قاعدة صورة البنات. كان مفتوحًا على الفصول ٢٧–٣١ من كتاب
المزامير (Psalms)، وقد كانت هناك آيات كثيرة معلَّمة
(marked)
بألوان متعددة من الأقلام الفسفورية؛ فكتبت أرقام تلك الآيات على بطاقة وبحثت عنها
عندما
عدت إلى المنزل.
٢٧: ٩ لا تُخف وجهك عني، لا تقتل خادمك أثناء غضبك. أنت مُعيني؛ لا تطردني، ولا
تهجرني … يا إلهي ويا مخلِّصي.
٢٧: ١٠ لأنه بالرغم من أن أبي وأمي قد هجراني، إلا إن الرب
سيرعاني.
٢٨: ٦ تبارك الرب، لأنه سمع صوت ابتهالي إليه.
وبالرغم من أن هناك الكثير مما يمكن أن نتعلمه من طاعون الإيدز، فإن الدروس التي
يقدمها
لنا تقع داخل نطاق العلم والمجتمع، ولكن ليس من ضمن اهتمامات التعاليم الدينية برأيي؛
فنحن
لا نتعامل هنا مع ضرب من العقاب، ولكن مع جريمة، وهي واحدة من تلك الجرائم العشوائية
التي
تنفذها الطبيعة على مخلوقات الله من حين لآخر، والطبيعة، كما يذكِّرنا «أناتول فرانس»،
٢ لا تبالي، فهي لا تقيم حدًّا فاصلًا بين الخير والشر. وهناك الكثير من الحقائق
عن مرض نقص المناعة المكتسب غير تلك الحقائق السريرية المجردة للمرض. وبالرغم من أن
هذه
المقولة قد تنطبق على أيٍّ من الأمراض الأخرى، فإن هناك المزيد مما يمكن أن يقال عن
هذا
الطاعون بالتحديد. وبصرف النظر عن المضامين الثقافية والاجتماعية للإيدز، فيجب فهم
مجموعة
محددة من أعراضه السريرية والعلمية قبل محاولة فهم الكيفية التي يقتل بها المرض ضحاياه.
وتُعَد حالة إسماعيل جارسيا من الحالات النمطية (
Archetypical) بهذا الصدد.
في شهر فبراير ١٩٩٠م، أُجري لجارسيا أول اختبار دموي لفيروس العوز المناعي البشري
(HIV). كان الاختبار يُجرى كجزء من تقييم طبي لقرحة غير
مستجيبة للعلاج في ساعِده الأيسر، وهي سبب تردُّده على مستشفى جامعة ييل في مدينة
نيو هافن.
كانت العدوى قد أصابته بصورة شبه مؤكدة نتيجة لإدمانه على تعاطي المخدرات بطريق الحقن
في
الوريد. ولأنه كان يُحِس بأن صحته جيدة فيما عدا ذلك، وخصوصًا عندما اختفت القرحة
سريعًا
بفعل شوط قصير من العلاج بالمضادات الحيوية تلقَّاه في العيادة الخارجية، فلم يفِ
بأيٍّ من
مواعيده للمتابعة العلاجية — اللهم فيما عدا ذلك الذي أُخبر فيه بتشخيص مرضه. وفي
شهر يناير
١٩٩١م، أصيب بسعال جاف ازداد سوءًا بالتدريج على مدى أسابيع عدة. ومع تفاقم السعال،
ظهر
إحساس بالضيق في صدر إسماعيل، وكان ذلك الإحساس يزداد بالسعال والشهيق العميق. وبعد
أكثر من
شهر ساءت خلاله الأمور تدريجيًّا، بدأ يُحِس بالرعب من ظهور أعراض أخرى؛ وهي الحمى،
وصعوبة
التنفس التي كانت تهاجمه حتى ببذل أقل مجهود. وعندما بلغت صعوبة التنفس الحد الذي
كانت
تزداد فيه بفعل مجرد المشي داخل غرفته المفروشة الصغيرة في الحي الإسباني
(Barrio) من
مدينة نيو هافن، أحس بأن الوقت قد حان لذهابه إلى المستشفى.
وفي غرفة الطوارئ، أظهرت صورة الأشعة السينية أن رئتَي جارسيا كانتا مغزوتين بكثافة
بسحابة بيضاء رقيقة، مما يمثل مساحات كبيرة مصابة بالعدوى التي تمنع التهوية الجيدة.
وأظهر
تحليل دمه الشرياني وجود معدلات منخفضة بصورة غير عادية من الأكسجين، مما يعكس وجود
قَبْط
(Uptake) غير كافٍ للأكسجين من أنسجة الرئة المصابة
بالعدوى. وعندما نظر الطبيب المقيم الذي قام بإجراءات إدخاله إلى المستشفى، إلى فم
مريضه،
رأى دليلًا مألوفًا يظهر في جميع حالات مرض نقص المناعة المكتسبة تقريبًا، كان لسان
إسماعيل
مغطى بفطر السُّلاق (Thrush) المريب ذي اللون الأبيض اللبني.
كانت العلامات المرضية في الصور متماشية مع نوع من الالتهاب الرئوي المألوف في حالات
الإيدز، وهو ذلك الذي ينتج بفعل طفيل يسمى بالمتكيسة الرئوية الجؤجؤية
(Pneumocystis
carinii).
تم إدخال إسماعيل إلى المستشفى، وهناك أدخل الأطباء آلة بصرية شبيهة بالثعبان تسمى
بالمنظار الشُّعَبي (Bronchoscope) إلى أعماق قصبته
الهوائية، حيث تم أخذ عينة صغيرة للاستزراع والفحص المجهري الذي كشف عن وجود التراكيب
الشديدة التلاصق للمتكيسة الرئوية. أُعطي رجلنا دواءً قاتلًا لفطر السُّلاق، كما بدأ
شوطًا
من مضاد حيوي شديد الخصوصية لعلاج الالتهاب الرئوي (Pneumonia) — يسمى البنتاميدين
(Pentamidine). وتعافى جارسيا سريعًا بفعل العلاج.
وأثناء إقامته بالمستشفى، وُجد أن إسماعيل مصاب بفقر الدم، وأن عدد كُريات الدم البيض
في
دمه يقل عن المعدلات الطبيعية. وبالرغم من إصراره على القول بأنه كان يتناول طعاما
جيدًا،
فإنه كان مصابًا بسوء التغذية لدرجة أن نسبة البروتينات في دمه كانت متناقصة. وعندما
تم
قياس وزنه، دهش جارسيا لمعرفة أنه فقد أربعة أرطال من وزنه المعتاد، والبالغ ١٤٠ رطلًا.
ومع
ذلك، كان أسوأ نبأ تم إبلاغه به هو شيء لم يكن قادرًا وقتها على فهمه تمامًا، فقد
وُجد أن
الخلية الواسمة للعدوى بفيروس العوز المناعي البشري — وهي الخلايا اللمفاوية
T4 أو CD4 — موجودة
بمعدل ١٢٠/ملم مكعب من الدم، وهو ما يقل عن المعدل الطبيعي بكثير جدًّا.
وليس معروفًا ما إن كان اسماعيل قد اتبع التعليمات عند خروجه من المستشفى، والخاصة
بتناول
أدويته الموصوفة، التي كانت وظيفتها تقتصر على منع حدوث نوبات جديدة من العدوى الرئوية،
والتي كان قد تعلَّم وقتها أن يطلق عليها اسم «
PCP» (وهي
اختصار: الالتهاب الرئوي بالمتكيسة الرئوية الجؤجؤية).
٣ أما الاحتمال الأغلب فهو أنه لم يتبع تلك التعليمات، نظرًا لأنه قد عاد إلى
المستشفى بعد مغادرتها بأحد عشر شهرًا — أي في شهر يناير ١٩٩٢م — بأعراض مشابهة، لكنها
أكثر
حدة. وفي تلك المرة، كان يشكو أيضًا من صداع شديد وغثيان، كما بدا مشوش الذهن بعض
الشيء.
وقد أظهرت تحليلات سائله المخي النخاعي (
CSF) وجود التهاب
السحايا (
Meningitis) الناتج عن جرثوم شبيه بالخميرة يسمى
بالمستخفية المتجددة (
Cryptococcus
neoformans). كما ثبتت إصابته بعدوى بكتيرية في أذنه
اليمنى، إلا إن ذهنه كان مختلطًا لدرجة أنه ظل لفترة طويلة غير واعٍ بوجود تلك العدوى.
كما
كان عدد خلايا
CD4 لديه قد وصل إلى ٥٠، مما يعني أن تدمير
فيروس العوز المناعي البشري لجهازه المناعي مستمر في التطور بصورة متزايدة السرعة.
وبالرغم
من أن إسماعيل كان على وشك الوفاة بفعل خليط من ثلاثة أنواع منفصلة من العدوى، فإنه
نجا من
الموت نتيجة للمعالجة الماهرة التي تلقَّاها على أيدي أفراد فريق مستشفى جامعة «ييل»
في نيو
هافن لمعالجة الإيدز؛ فبعد ثلاثة أسابيع قضاها في المستشفى، كان بوسعه أن يعود إلى
زوجته
كارمن وإلى بناته. وكانت تكاليف علاجه قد تراكمت أيضًا لتبلغ نحو ١٢٠٠٠ دولار.
ونظرًا لأنه كان وقتها قد فقد تأمينه الصحي منذ زمن طويل بعد فصله من وظيفته في المصنع
نتيجة لإدمانه على تعاطي المخدرات، فقد تحملت تلك النفقات حكومة ولاية كونكتيكت.
وفي أوائل شهر يوليو ١٩٩٢م، أصيب إسماعيل، الذي كان يحافظ بمنتهى الدقة على مواعيد
عيادة
الإيدز في المستشفى، بخرَّاج مؤلم كبير تحت إبطه الأيسر، مما استدعى إجراء تصريف جراحي.
وكانت هذه الزيارة هي الأولى التي التقى فيها الدكتورة ماري ديفو. وخلال الأسابيع
القليلة
التالية، كانت تشرف على علاجه بالعيادة من التهاب الجيوب الأنفية، ومن التهاب آخر
بالأذن،
في الوقت الذي تعافى فيه الخراج بالمثل.
وأثناء تعافي إسماعيل من التهاباته الجرثومية، لاحظ مرة أخرى أنه يُحِس كثيرًا بالدُّوار
والدَّوخة، وأحيانًا كان يجد صعوبة في الاحتفاظ بتوازنه، وبعد ظهور تلك الأعراض المقلقة
بقليل، بدأت ذاكرته تخونه بسرعة متزايدة. لاحظت زوجته أنه كثيرًا ما لا يكون قادرًا
على
استيعاب حتى تلك الجمل البسيطة التي توجهها إليه. وخلال الشهر التالي، تطورت الأعراض
إلى
الدرجة التي أصبح فيها سُباتيًّا (Lethargic)، ومشوش الذهن لأغلب الوقت. وبرغم امتنان
كارمن للأطباء، فإنها استجابت لتوسلاته بعدم اصطحابه إلى غرفة الطوارئ بالمستشفى،
كان كلٌّ
منهما خائفًا مما كان يعنيه احتجازه في المستشفى مرة أخرى. وفي ذلك الوقت، كان وزنه
ينقص
بسرعة متزايدة، وكان كلٌّ منهما على علم بأنه إذا تم احتجازه في المستشفى فقد لا يعود
إلى
البيت ثانية على الإطلاق.
اضطرت كارمن في النهاية إلى استدعاء الإسعاف عندما استيقظت ذات صباح فوجدت أن زوجها
وصل
إلى حالة لا يمكنه معها المقاومة على الإطلاق. وفي ذلك الوقت، كان إسماعيل شبه غائب
عن
الوعي، وكانت ذراعه اليسرى تختلج بصورة لاإرادية، كما كان يستجيب بالكاد لتلك الأوامر
التي
كانت زوجته تصيح بها في أذنه. ومن وقتٍ لآخر، كان نصف جسمه الأيسر بالكامل يصاب بالتشنج
الكامل لفترة وجيزة. أظهر المسح المقطعي المحوسب نتائج متماشية مع نوع من الالتهاب
الدماغي
الذي يسببه أحد الحيوانات الأوالي (Protozoa) يسمى
بالمقوَّسة القُندية (Toxoplasma
gondii)، بالرغم من أن تحليلات الدم لم تؤكد ذلك التشخيص.
كانت الصور المقطعية لافتة للانتباه، فقد تشكَّلت من كتل صغيرة على كلٍّ من جانبي
الدماغ.
وكثيرًا ما توجد آفات مماثلة في مرضى الإيدز المصابين بسرطان يسمى باللِّمفوم
(Lymphoma)،
إلا إن آفات إسماعيل كانت أشبه ما تكون بتلك الناتجة عن مرض المقوَّسات
(Toxoplasmosis).
وعند تلك المرحلة، قرر الأطباء أنه بالرغم من أن التشخيص لم يتم التثبت منه بصورة
قاطعة،
فإنه من الأفضل البدء بتطبيق العلاج الخاص بمرض المقوَّسات، على اعتبار أنه أكثر شيوعًا
بكثير في مرضى الإيدز عن اللِّمفوم. وعندما لم يطرأ سوى تحسُّن طفيف بعد أسبوعين من
العلاج
الدوائي، تم إدخال إسماعيل إلى غرفة العمليات، حيث قام جرَّاحو الأعصاب بعمل ثقب صغير
في
جمجمته لأخذ عينة صغيرة من دماغه لتحليلها. ولم يُظهر الفحص المجهري لنسيج الدماغ
وجود
الأوالي في دماغه، إلا إنه أشار إلى وجود تغيرات اعتقد اختصاصي الباثولوجيا أنها ناتجة
عن
التعافي من المرض الذي تسببه المقوَّسة القُندية. شجع ذلك فريق معالجة الإيدز على
الاستمرار
في العلاج حتى مع ذلك الشك المتبقي بشأن التشخيص. ومع ذلك، ففي خلال أسبوع واحد، بات
واضحًا
أن حالة إسماعيل تزداد سوءًا. ولعدم التعرف على المقوَّسات بصورة محددة، تحول أفراد
الفريق
الطبي الذين عارضوا ذلك التشخيص بوجود لمفوم في الدماغ. وقبل ظهور فيروس العوز المناعي
البشري، كانت لِمفومات الدماغ شديدة الندرة، لكنها تُرى الآن بصورة مألوفة في مرضى
الإيدز.
استجاب إسماعيل في البداية للعلاج بالأشعة السينية، في صورة استفاقة جزئية مما تحول
إلى
غيبوبة عميقة. ووصل حتى إلى ذلك الحد الذي أصبح معه قادرًا على ابتلاع كَمية ضئيلة
من
«المهلبية» والأطعمة المخفوقة التي كانت تضعها الممرضة أو زوجته في فمه. لكن تلك الصورة
كانت قصيرة الأمد؛ فقد عاودته الغيبوبة، كما ارتفعت الحُمى الطفيفة التي كان يعاني
منها
لتصل إلى ١٠٢–١٠٣ درجة فَهرنهايت يوميًّا، كما أصيب بالتهاب رئوي جرثومي، إضافة إلى
نوع آخر
من العدوى العمومية التي ظلت طبيعتها غامضة، ومعتمدة على العلاج في جميع الأحوال.
كان هذا
هو ترتيب الأحداث في أصيل ذلك اليوم من شهر نوفمبر، عندما وقفت مع الدكتورة ماري ديفو
بجوار
سرير إسماعيل جارسيا.
وبالرغم من أن إسماعيل كان في سُبات عميق، كان وجهه مكروبًا. وربما كان هناك إدراك
مختلِج
من جانبه لذلك الصراع الدائر في رئتيه المصابتين بالعدوى من أجل استنشاق الهواء وإخراجه،
أو
للكَميات المتناقصة من الأكسجين التي يتم حملها إلى أنسجته اللاهثة. كان التنتُّن
قد تفشَّى
في جسده، كما كانت آلية حياته كلها بسبيلها للفشل التام. وربما كان التعبير المكروب
على
وجهه غير ذي عَلاقة بالضيق الجسماني الذي تعانيه أنسجته المختنقة. ومن المحتمل أنه
كان هناك
شيء ما بداخله يحاول أن يموت، لكنه لا يستطيع. ومع ذلك، فهل كان من المحتمل حقًّا
أنه كان
يتوق إلى الموت؟ ألم يكن أي صراع يستحق تحمُّل العذاب الذي يليه، من أجل احتمال أن
يتمكن من
رؤية بناته ثانية؟
لا أحد يدري لماذا تبدو وجوه الرجال والنساء المحتضَرين بالصورة التي تكون عليها؛
فقد
يكون مظهر الضيق غير ذي مغزى، مثله في ذلك مثل مظهر السكينة الذي يبدو على البعض
الآخر.
انتهت معاناة إسماعيل في اليوم التالي. ولإحساس زوجته بدنو أجله، أخذت يومها إجازة
من
عملها في أحد مصانع مدينة نيو هافن لإنتاج صناديق الورق المقوى، وجلست بجوار سريره
مع مرور
الثواني ببطء متزايد بين كل نفس يتنفسه والتالي، حتى خمدت أنفاسه تمامًا. وبدون أن
يتحدث
إليها أحدٌ ثانية، أخبرت كارمن الدكتورة ماري ديفو في الليلة السابقة بأنه لن تكون
هناك
محاولات لإنعاش زوجها؛ كانت ترى وقتها أن وعدها لزوجها قد تم الوفاء به؛ إذ تم عمل
كل ما
كان ممكنًا لإنقاذه. وعندما توقف إسماعيل عن التنفس، خرجت كارمن ببساطة إلى خارج الغرفة
لتخبر الممرضة التي كانت تجالسها لمعظم فترات ذلك النهار بما حدث. وبعد ذلك، أقدمت
كارمن
على فعل شيء رفضته مرارًا وتكرارًا، عندما كان إسماعيل لا يزال على قيد الحياة — إذ
طلبت أن
يتم اختبارها لإيجابية الإصابة بفيروس العوز المناعي البشري.
في ذلك الجزء الذي أعيش فيه من الولايات المتحدة، وهو الشمال الشرقي، أصبح الإيدز
هو
السبب الرئيسي لوفَيَات الرجال من سن الخامسة والعشرين إلى الأربعين، في منطقة تُعتبر
فيها
الوفَيَات بين أفراد هذه المجموعة العمرية بسبب العنف في الشوارع، وإدمان المخدرات،
وحروب
العصابات مألوفة تمامًا كجزء من البيئة الحضرية، مثلها في ذلك مثل الفقر واليأس اللذَين
أفرزاها. ولكن كيف يمكن للمرء أن يبدأ بتفهُّم هذا البلاء؟ … فليست هناك حكمة أو درسٌ
ما
يمكن تعلمهما مما حدث. فالإيدز كمجاز (Metaphor)، والإيدز كحكاية رمزية
(Allegory)،
والإيدز ككناية (Symbolism)، والإيدز كرثائية (Jeremaid)، أو الإيدز كاختبار لإنسانية
الجنس البشري، أو كمثال للشقاء السرمدي. ومثل هذه المُزْلِقات
(Lubricants) هي ما يستهلك الطاقات الفكرية لعلماء
الأخلاق والمثقفين في أيامنا هذه، كما لو كان من الضروري استخلاص شيء مفيد بأي ثمن
من ذلك
الطاعون القذر. لكن حتى التاريخ يخذلنا هنا؛ فنادرًا ما نجد الشبه بينه وبين «طواعين»
العصور السابقة مفقودًا.
لم يكن هناك من قبل مرض في مثل فتك الإيدز. وليس الأساس الذي اعتمدته لهذه الجملة
هو
الطبيعة المتفجرة لظهور المرض، وانتشاره العالمي، بقدر ما هو الفيزيولوجية المرضية
المفزعة
لهذا الوباء. فلم تواجَه العلوم الطبية من قبل بجرثوم يقوم بتدمير ذات الخلية المناعية
التي
تقتصر وظيفتها على تنظيم مقاومة الجسم لذلك الجرثوم؛ وبهذا تكون مناعة الجسم ضد ذلك
العدد
الهائل من الغزاة الثانويين قد انهزمت قبل حتى أن تسنح لها الفرصة لبناء أية تحصينات
دفاعية.
وحتى بداية ظهور الإيدز تبدو فريدة من نوعها، فهناك الآن أدلة وبائية كافية لاستنباط
الأصول المحتملة للجائحة، والطرق التي سلكها المرض للوصول إلى سطوته الشديدة الوطأة
الحالية. ويعتقد بعض الباحثين أن الفيروس كان متوطنًا بشكل مختلف بين بعض الرئيسات
(Primates) التي تعيش في أواسط أفريقيا، حيث لم يكن
عاملًا مُمرِضًا (Pathogen)، ولذلك فلم يتسبب في حدوث
المرض. ومن المحتمل أن دماء الحيوان المصاب بالعدوى قد اختلطت بجرح في الجلد أو الأغشية
المخاطية لواحد أو أكثر من سكان القرى المجاورة لمناطق إقامة هذه الحيوانات، ومن ثَم
قام
أولئك الأشخاص تدريجيًّا بنقل الفيروس إلى غيرهم من سكان المناطق المجاورة. ويتوقع
مؤيدو
هذه النظرية، والذين يبنون أبحاثهم على نماذج حسابية، أن أول انتقال للفيروس من الحيوان
إلى
الإنسان قد يكون حدث منذ قرن مرضى. ونظرًا لندرة التعاملات بين هذه المجتمعات المعزولة،
فقد
انتشر الفيروس للخارج ببطء من قريته الأصلية الفرضية.
وعندما بدأت الأنماط الثقافية في التغير مع حلول منتصف القرن العشرين، عندما بدأ البشر
يتنقلون أكثر وأكثر من مكان لآخر وتحوُّلهم إلى حياة الحضر، بدأ انتشار الفيروس في
التوسع
بصورة كبيرة. وبمجرد أن وُجد تجمع كبير من الأفراد المصابين بالفيروس، تولت أنماط
التَّرحال
العالمية نقل الفيروس إلى جميع أنحاء العالم. فالإيدز وباء انتشر عن طريق الطائرات
النفاثة.
وقبل أن يُعلَن عن وجوده في صورة أول حالة يتم التعرف عليها للإيدز بكثير، كان الفيروس
قد
انتقل بين الألوف من الأفراد الغافلين. وقد ظهرت التلميحات الأولى عن المرض الجديد
في صورة
مقالين موجزين ظَهَرا في عددَي يونيو ويوليو من عام ١٩٨١م من «التقرير الأسبوعي عن
الإصابات
المرضية والوفَيَات»، والذي يصدر عن مراكز مكافحة الأمراض
(CDC).
ذكرت المقالتان وصفًا لحدوث حالتين مرضيتين كانتا شديدتي الندرة من قبل في عدد إجمالي
يتكون من واحد وأربعين رجلًا لوطيًّا شابًّا في مدينة نيويورك وولاية كاليفورنيا.
كانت إحدى
الحالتين المرضيتين هي الالتهاب الرئوي بالمتكيسة الرئوية
(
PCP)، والثانية هي ساركومة كابوزي
(
Kaposi’s Sarcoma).
٤
ولا تُعرف المتكيسة الرئوية الجؤجؤية بإحداثها للمرض في الأفراد ذوي الأجهزة المناعية
السليمة. وكانت جميع الحالات الموصوفة من قبل للالتهاب الرئوي بالمتكيسة الرئوية قد
حدثت في
المرضى الذين تم تثبيط جهازهم المناعي بغرض زراعة الأعضاء، أو كنتيجة للعلاج الكيميائي
أو
سوء التغذية الشديد، على الرغم من وجود حالات قليلة مثبتة لوجود قصور وراثي في الجهاز
المناعي. كانت ساركومة كابوزي التي تصيب الرجال اللوطيين من نوع أشد توحشًا بكثير
من جميع
الأنواع التي وُصفت سابقًا. ومن بين المرضى الأربعين وواحدٍ المذكورين، أظهر القلائل
الذين
تم فحص دمائهم للخلايا اللمفاوية التائية (T-lymphocytes) —
وهي إحدى ركائز الجهاز المناعي للجسم — وجود نقص ملحوظ في عدد تلك الخلايا. وكان عامل
غير
معروف، وقتها، قد دمر عددًا كبيرًا من تلك الخلايا، ومن ثم فقد قوَّض مناعة أولئك
الشبان
بدرجة كبيرة.
وفي غضون أشهر قلائل، كانت هناك مطبوعات عديدة أخرى قد ذكرت أوصافًا لحالات مشابهة
لما
أُطلق عليه اسم «متلازمة نقص المناعة المتعلقة بالشواذ»
٥ أو (
GRID) اختصارًا. وكان خبراء الأمراض
المُعدية يتحدثون فيما بينهم، في المؤتمرات الطبية، وفي الخطابات، وعبر الهاتف، عن
أولئك
المرضى الذين يفحصونهم من المصابين بحالات مشابهة، وبحلول شهر ديسمبر، أوضح تقرير
خادع
بإيجازه، نُشر في صفحات التحرير «للمَجلة الطبية لنيو إنجلند» (
New England
Journal of Medicine)، الأبعاد الحقيقية للمشكلة، بطريقة حساسة وتنبؤية
تقريبًا؛ فقد وُضِعَ الإطار لتلك الأبحاث التي يتوجب إجراؤها، بالإضافة إلى المضامين
الاجتماعية الواجب مواجهتها:
«تضع هذه التطورات أمامنا معضلة لا بد من حلها. ومن المرجَّح أن يكون حلُّها
مثيرًا ومهمًّا بالنسبة للكثيرين. وسيتساءل العلماء (وأولئك الفضوليون بطبيعتهم)،
لماذا يصيب المرض هذه المجموعة بالذات؟ وما الذي يخبرنا به ذلك عن المناعة وعن نشوء
الأورام؟ وسيريد دارسو قضايا الصحة العامة وضع هذه الجائحة ضمن منظور اجتماعي، كما
سترغب منظمات الرجال اللوطيين — والتي كثيرًا ما تكون نشطة وذات معلومات موثقة عن
القضايا الصحية المتعلقة بأعضائها — في اتخاذ الخطوات التنفيذية لتثقيف أعضائها
ووقايتهم، كما سيرغب علماء الإنسانيات، ببساطة، في أن يمنعوا حدوث وفَيَات ومعاناة
لا ضرورة لها.»
وبالرغم من أن كاتب هذا المقال التحريري (Editorial)، وهو الدكتور ديفيد دوراك
(Durack) من جامعة «ديوك»، قد لا يكون على علم بهذه
الحقيقة، فإنه في ذلك الوقت كان هناك نحو ١٠٠٠٠٠ مصاب بالفعل في جميع أنحاء العالم.
وفي ذلك الوقت، كان هناك أكثر من اثني عشر جرثومًا قد تم التعرف عليها في أنسجة أولئك
الشبان المصابين بالمرض، وكان أغلبها من الأنواع التي لا تنمو إلا في حالات التقويض
المناعي
الشديد. ووُجد أن الجزء المصاب من الاستجابة المناعية هو ذلك المعتمد على الخلايا
اللمفاوية
التائية، وكان ذلك مدعومًا بنضوب شديد في أعداد نوع بعينه من تلك الخلايا (وهي خلايا
T4 أو CD4) في الدم.
ولأن المناعة المثبطة تتيح الفرصة للجراثيم التي هي حميدة
(Benign) في الأحوال المعتادة، لإحداث أضرار بليغة؛
أطلق على الأمراض الناتجة عنها اسم «العداوى الانتهازية» (Opportunistic Infections). وعندما نُشرت
افتتاحية الدكتور دوراك، كان قد تم التعرف بالفعل على أن «معدلات الوفَيَات مرتفعة
بصورة
مخيفة» وأن «المرضى الوحيدين … الذين لم يكونوا من اللوطيين، كانوا من مدمني المخدرات.»
ولذلك أُعيدت تسمية المرض باسم متلازمة نقص المناعة المكتسب (Acquired
Immune Deficiency Syndrome)، أو الإيدز
(AIDS) اختصارًا.
وكما ذكرت سابقًا، كان ظهور الإيدز — وكأنما جاء من مكان مجهول — بمثابة الضربة لأولئك
الأعضاء في مؤسسات الصحة العامة الذين أقنعوا أنفسهم في منتصف وأواخر السبعينيات،
بأن تهديد
الأمراض الجرثومية والفيروسية قد أصبح أمرًا من الماضي. وستتمثل التحديات الحاضرة
والمستقبلية للعلوم الطبية — والتي كان الكثير منها محققًا — في القضاء على تلك الحالات
التقويضية المزمنة مثل السرطان، وأمراض القلب، والخَرَف، والسكتة الدماغية، والتهاب
المفاصل. أما اليوم، وبعد أكثر من عَقد ونصف العَقد من الزمان، أصبح الانتصار المدَّعى
للطب
على الأمراض المُعدية لا يعدو كونه وهمًا، في حين تحقق الجراثيم ذاتها انتصارات غير
متوقعة.
جاء عَقد الثمانينيات بنوعين جديدين من الخوف — وهما ظهور ذِرار
(Stains)
جرثومية مقاومة لفعل المضادات الحيوية، وظهور مرض الإيدز. وستبقى المشكلتان معنا لفترة
طويلة قادمة. ويُعبِّر الدكتور جيرالد فريدلاند
(Friedland)، وهو الحُجَّة العالمي الذي يقود وحدة مرض
الإيدز في جامعة ييل، عن ذلك الموقف باصطلاحات كئيبة تتنبأ ببلاء لا نهاية له: «إن
الإيدز
معنا الآن، وسيبقى حتى نهاية التاريخ البشري.»
وعلى الرغم من احتجاجات بعض ناشطي الإيدز، فكَمية المعلومات التي تم جمعها منذ ذلك
الحين
عن فيروس العوز المناعي البشري، والتقدم الحادث في جهود إعداد وسائل دفاعية ضد هجومه،
لا
تقل عن كونها «مدهشة»؛ فالدهشة (Astonishment) — في واقع
الأمر — هي الكلمة الأدق لوصف سرعة التقدم بحلول السنة السابعة قبل ظهور ذلك الوباء
المنتشر. وفي عام ١٩٨٨م، كتب لويس توماس — الذي يضم سجل إنجازاته الفذة الأخرى دورَه
القيادي في علم المناعة — ما نصه:
«في خلال تلك الحياة الطويلة التي قضيتها في متابعة الأبحاث الطبية الأحيائية، لم
أجد شيئًا يقارب التقدم الذي تحقق حتى الآن في المختبرات التي تعمل في الأبحاث
المتعلقة بفيروس الإيدز. وباعتبار أن المرض لم يتم التعرف عليه إلا منذ سبع سنوات
فقط، وأن العامل المسبب له — وهو فيروس العوز المناعي البشري — يُعَد واحدًا من
أكثر الكائنات تعقيدًا وخداعًا على وجه الأرض، فيمكن اعتبار هذا الإنجاز
«مدهشًا».»
ويسترسل توماس في الحديث، موضحًا أنه حتى في ذلك الوقت المبكر نسبيًّا، كان العلماء
يعرفون بالفعل «عن تركيب فيروس العوز المناعي البشري وتكوينه الجزيئي، وسلوكياته والخلايا
التي يستهدفها، أكثر مما يعرفون عن أي فيروس آخر في العالم.»
وليس ذلك مقتصرًا على المختبر وحده، بل وفي مجال العلاج بالمثل، فقد ظهرت علامات مشجعة
على أن المرضى يعيشون الآن لفترة أطول، وأن الفترات التي تخلو من الأعراض المرضية
تزداد
طولًا، وأن مستوى راحتهم يتحسن باستمرار، وتتزامن هذه التغيرات مع المعرفة المتزايدة
بطرق
الانتشار العالمية للمرض، وبالتغيرات الاجتماعية والسلوكية التي ستكون ضرورية إذا
أردنا أن
نتوصل إلى السيطرة الملائمة على الوباء.
وقد تحقق جزء كبير من ذلك النجاح من خلال التعاون النشط بين الجامعات والحكومة وشركات
صناعة الأدوية. وتُعَد هذه الثلاثية (الترويكا: Troika)، ظاهرة مرحَّبًا بها في الأوساط الطبية
الأحيائية الأمريكية، ويَدين وجودها بالكثير للحملات القوية التي تنظمها جمعيات المساندة
لمرضى الإيدز، والتي كانت في معظمها تلك المنبثقة عن مجتمع الشواذ في البداية. وتُعَد
جماعات الضغط الخاصة بالمرضى طرفًا جديدًا نسبيًّا في معادلة الأبحاث الطبية الأحيائية؛
إلا
إنها متزايدة القوة. ونتيجة «للوبي» الإيدز، بالإضافة إلى مطالبات الأطباء، يوجَّه
حاليًّا
نحو ١٠٪ من ميزانيات المعاهد الوطنية الأمريكية للصحة
(NIH)، والتي تبلغ نحو ٩ مليارات دولار، نحو دراسة فيروس
العوز المناعي البشري (HIV). وتعرضت إدارة الأغذية والأدوية
الأمريكية (FDA) لضغط مستمر من أجل تخفيف المقاييس الصارمة
التي تعتمدها بهمَّة في تقييم العقاقير التجريبية. وكان ذلك مفيدًا بعدة طرق؛ فقد
تم منح
الموافقة المشروطة للعوامل العلاجية التي أظهرت فاعلية كافية تحت ظروف المختبر. ومع
ذلك،
فيجب أن نستحضر في أذهاننا ذلك الخطر الذي يحمله تخفيف الاحتياطات التي تم التوصل
إليها
بصعوبة، حتى في أوقات الطاعون.
ومن المؤثر على وجه الخصوص، تلك السلسلة المتلاحقة للاكتشافات المبكرة، والتي بدأت
مباشرة
تقريبًا، بعد التحذير الذي أصدرته مراكز مكافحة الأمراض
(CDC). وأدَّى تقرير حقيقة أن كثيرًا من المصابين
بالالتهاب الرئوي بالمتكيسات في نهاية عام ١٩٨١م كانوا من مدمني المخدرات المحقونة
غير
اللوطيين — إلى ظهور احتمال أن طرق انتقال المرض الجديد تشبه تلك الخاصة بالتهاب الكبد
الفيروسي «ب»، وهو فيروس مألوف بين أفراد تلك المجموعات. ولذلك تم توقُّع أن العامل
المسبب
للمرض، والذي يجري البحث عنه، يجب أن يكون فيروسًا. أُعطيَت المصداقية لهذه النظرية
في عام
١٩٨٢م، عندما ذكر تقرير لمراكز مكافحة الأمراض أن تسعة من أفراد المجموعة الأولية
المكونة
من ثمانية عشر مريضًا في منطقة لوس أنجلوس، يمكن ربطها بالاتصال الجنسي الشاذ مع رجل
واحد،
ثم قام أولئك الرجال بدورهم بنشر المرض إلى أربعين رجلًا آخرين ثم تشخيصهم في عشر
مدن
مختلفة. ورسَّخت هذه الاكتشافات مبدأ الانتقال الجنسي للمرض وعدوائيته
(Infectivity) بدرجة من اليقين لا تقبل الشك.
وبحلول منتصف عام ١٩٨٤م، كان قد تم عزل فيروس العوز المناعي البشري وعرضه كعامل مسبب
لمرض
الإيدز، كما تم شرح طريقته في مهاجمة الجهاز المناعي للجسم. وفي الوقت نفسه، كانت
أوجه
الدمار السريرية للعملية المرضية قد تم تحديدها بدقة، كما كان قد تم إعداد اختبار
تشخيصي
للدم.
وأثناء تنفيذ هذه الخطوات في المختبرات وفي العيادات، كانت الدراسات التي يقوم بها
مسئولو
الصحة العامة وعلماء الوبائيات توضح الشكل العام للجائحة وأبعادها.
في بداية الأمر، كان هناك قدر كبير من الشك في الأوساط العلمية في إمكانية إيجاد
أي
عقَّار يمكنه تدمير الفيروس ذاته. نما أغلب القلق عما كان معروفًا عن خصائص الميكروب،
خصوصًا حقيقة أنه يبقى على قيد الحياة بدمج نفسه إلى المادة الجينية الأساسية (الدنا:
DNA) للخلايا اللِّمفاوية التي يهاجمها. ولم يكن ذلك هو
كل شيء: فقد وُجد أن فيروس العوز المناعي البشري يمتلك القدرة على الاختباء بين خلايا
وأنسجة متنوعة حيث يبقى، ليس فقط بمنأى عن الأذى، بل ومن الصعب الوصول إليه. وبالإضافة
إلى
ذلك، فهو يخدع رد الفعل المناعي للجسم عن طريق فعل خداعي مميز؛ إذ يتكون الغلاف الخارجي
لأي
فيروس من مواد بروتينية ودهون، بينما تحاط البكتيريا أساسًا بالكربوهيدرات. ويستثار
رد
الفعل المناعي للجسم بفعل البروتينات أكثر منه بالكربوهيدرات، ومع ذلك يقوم فيروس
العوز
المناعي البشري بتغطية غلافه البروتيني بكساء من الكربوهيدرات، وينجح هذا التنكُّر
الخفي في
زيادة إنتاج الجسم للأجسام المضادة. وكأن ذلك كله لا يكفي، يقوم فيروس العوز المناعي
البشري
بطفرات هائلة، مما يمكنه من تحويل نفسه إلى ذرية مختلفة إلى حدٍّ ما من «الوحش» ذاته،
وذلك
لحماية نفسه في حال ما إذا نجح رد الفعل المناعي للجسم، أو عقَّار جديد مضاد للفيروسات،
بصورة ما، في التغلب على العوائق التي يضعها الفيروس أمامه.
وباعتبار جميع هذه التحديات، إضافة إلى حقيقة أن فيروس العوز المناعي البشري يقتل
أساس
دفاعات الجسم بتدميره للخلايا اللمفاوية، يكون هناك مبرر قوي للإحساس بالإحباط. بدأ
الباحثون، وهم شبه يائسين، بتنفيذ تلك التقييمات المعملية لعدد من العقاقير التي يُعتقد
بأنها قادرة على محاربة ذلك الفيروس المراوغ. وفي مواجهة حقيقة أن ازدواجية فيروس
العوز
المناعي البشري ستمنع التوصل لإنتاجٍ مبكر للقاح (Vaccine) يقوم بتنشيط المناعة الذاتية للجسم، اعتمد
العلماء نفس المنهج الذي اعتمدوه في مكافحة العداوى البكتيرية، لمحاربة مرض الإيدز.
بدءوا
بحثهم عن عوامل دوائية تعمل بنفس الطريقة التي تعمل بها المضادات الحيوية، أي بقتل
الجرثوم
المُعدي أو منع تناسله بدون الاعتماد على الجهاز المناعي كخط دفاعي أول.
كانت بعض العوامل التي تم اختبارها مُعَدَّة أساسًا لاستخدامات أخرى، ووُجد أنها
ذات
فاعلية محدودة، ومن ثَم احتلت موقعها «على الرف». ومع تراكم المزيد من المعلومات عن
الصفات
المميزة للفيروس (وخصوصًا بعد أن أصبح فيروس العوز المناعي البشري متوافرًا في صورة
يمكن
معها استخدامه في المختبر، اعتبارًا من عام ١٩٨٤م)، بات من الممكن أن نصبح أكثر تركيزًا
في
البحث عن مركبات فعالة. وفي نهايات ربيع ١٩٨٥م، كان هناك ثلاثمائة عقَّار قد تم اختبارها
في
المعهد الوطني الأمريكي للسرطان (NCI)، ووُجد أن خمسة عشر
منها فعالة في إيقاف توالُد فيروس العوز المناعي البشري في أنابيب الاختبار. لكن أكثرها
وعدًا كان عقَّارًا تم وصفه للمرة الأولى كعلاج مضاد للسرطان في عام ١٩٧٨م، واسمه
الكيميائي
٣-أزيدو، ٣-ديوكسي-ثيميدين، أو AZT (والذي يسمى أحيانًا
باسم «زيدوفودين» Zidovudine). تم تجريب عقَّار الزيدوفودين على أول مريض
حقيقي في الثالث من يوليو ١٩٨٤م، كما بدأت تجارِب سريرية واسعة النطاق في اثني عشر
مركزًا
طبيًّا في أنحاء متفرقة من الولايات المتحدة. وبحلول شهر سبتمبر ١٩٨٦م، كانت هناك
أدلة
كافية على أن ذلك العقَّار قادر على تقليل معدلات حدوث العداوى الانتهازية، وتحسين
نوعية
حياة مرضى الإيدز، على الأقل حتى يتمكن الفيروس من إنتاج طفرات مضادة له. كان ذلك
هو أول
علاج فعال أمكن إيجاده ضد تلك المجموعة الفيروسية التي ينتمي إليها فيروس العوز المناعي
البشري، والمسماة بالفيروسات القهقرية (Retroviruses).
وبالرغم من أن هذا العقَّار باهظ الثمن ومحتمَل السُّمِّية، إلا إنه سرعان ما أصبح
الركيزة
الأساسية للعلاج الموجه ضد فيروس العوز المناعي البشري. وشجع اكتشاف فاعلية عقَّار
الزيدوفودين، البحث عن عقاقير أخرى مشابهة، وكان أول عقَّار يتم تحديده من هذه المجموعة
هو
ثنائي الديوكسي إنيوزين (ddI) أو الديدانوزين
(didanosine)، واستمر البحث من وقتها.
كان إنتاج عقَّار الزيدوفودين مثالًا واحدًا لتلك الجهود المحمومة التي كنا نحتاج
إليها
أحيانًا لمكافحة فيروس العوز المناعي البشري في ذلك الوقت المبكر. ومنذ البداية، كان
هناك
كمٌّ من المعلومات التي أحيانًا ما تكون مذهلة بالنسبة لغير المتخصصين.
وهناك تبصُّرات متزايدة العمق بالبيولوجيا الجزيئية، وطرق محسَّنة للتقصي والوقاية،
ومراجعات مستمرة للتقارير الإحصائية، وفهم متزايد للمراضة التي تنزلها الجراثيم الانتهازية
بضحاياها، إضافة إلى — ولحسن الحظ — عقاقير جديدة ضد هذه الضباع المُعدية، وضد الفيروسات
التي تتبعها.
وليس من اليسير شرح، أو فهم، الآلية التي يسبب بها الكثير من الغزاة الانتهازيين هزال
جسم
مرضى الإيدز، سواء البالغون منهم أو الأطفال. ومثل هذا الكم المحيِّر من المشكلات
التي
يواجهها المصابون بفيروس العوز المناعي البشري ومقدمو الرعاية الصحية لهم، يجعل المرء
لا
يملك إلا أن يتفكر بإحساس عميق بالعرفان في أن هناك الكثير مما تم تحقيقه بالفعل.
وعندما يقوم طبيب من جيلي بجولة في المستشفى بصحبة فريق الأطباء والممرضات المعالجين
لحالات الإيدز، لا يملك إلا أن يشهق — مجازًا — على الكم الذي يعرفه أولئك السريريون
(Clinicians)
المدرَّبون، وكم أن نسبة كبيرة من هذه المعرفة قد تم اكتسابها في وقت قصير. ويحمل
كل مريض
في وحدة الإيدز عددًا هائلًا من العَداوى وأحيانًا واحدًا أو اثنين من السرطانات،
كما يتلقى
كلٌّ منهم من أربعة إلى عشرة أنواع، وأحيانًا أكثر من ذلك، من الأدوية، بدون أية معلومات
مؤكدة عن الاستجابة المتوقعة أو السُّمِّية الناتجة عنها. كان إسماعيل جارسيا يتلقى
أربعة
عشر عقَّارًا. ويجب أن يتم اتخاذ قرارات جديدة، بصورة يومية أو أكثر من ذلك أحيانًا،
بشأن
كل مريض يتلقى العلاج (تضم باحة الإيدز — الصغيرة نسبيًّا — في المستشفى الذي أعمل
به
أربعين سريرًا، وهي مشغولة جميعها دومًا).
وكأن جسامة التحديات السريرية للمرض لا تكفي، ينتظر أفراد الأسر المكروبون على مقربة
للحصول على الإجابات، والمواساة أيضًا؛ فهناك تقارير يجب أن يقوم أفراد الفريق بكتابتها،
ولوحات بيانية لمراجعتها، واختبارات معملية لطلبها، وطلاب لتعليمهم، واجتماعات لحضورها،
وكم
هائل ومتزايد من المطبوعات لقراءتها والاشتراك في تحريرها أحيانًا. ودائمًا ما تظل
الوظيفة
الأهم لهؤلاء هي رعاية أولئك الذين أصابهم المرض بصورة مفجعة، والذين هم إخوة وأخوات
لنا
جميعًا، والذين يكون أكثرهم معتلًّا اعتلالًا هزيلًا، ومحمومًا، ومتورمًا، ومصابًا
بفقر
الدم، والذين تبحث أعينهم عن بعض التطمين وعن ذلك الوعد غير المنطوق بالخلاص مما هم
فيه من
عذاب، والذي كثيرًا ما لا يأتي إلا عن طريق الموت. وبصرف النظر عن المثابرة، أو القوة
الأخلاقية التي يستجمعها الكثير من أولئك المرضى في مواجهة القضاء المحتوم، تصيب تلك
العملية التي لا تعرف الرحمة والتي يموتون بها باليأس مع كل إعادة لتمثيل ذلك المشهد
الحزين.