الفصل التاسع
حياة فيروس وموت إنسان
مكَّنت الاكتشافات التي توالت سريعًا بخصوص دورة حياة الفيروس، من توفير خلفية يمكن
من
خلالها البحث عن نقاط ضعفِه التي يمكن مهاجمته من خلالها. وعند النظر إلى الفيروس
في صورته
البسيطة، نجده لا يعدو كونه جزيئًا ضئيلًا من المادة الوراثية مُحاطًا بغِلاف مكون
من
المواد البروتينية والدهنية. والفيروسات هي أصغر الكائنات الحية المعروفة، كما أنها
لا تحمل
سوى قدر ضئيل من المعلومات الوراثية. ولأنها لا تستطيع البقاء إلا بالاعتماد على كائنات
أكثر تعقيدًا، فلا بد لها أن تعيش في داخل الخلايا الحية. وحيث إن الفيروس لا يستطيع
التكاثر بمفرده (في حالة الفيروسات، يستخدم العلماء اصطلاح الانتساخ
(Replication))، مثلما تفعل البَكتيريا، على سبيل المثال، فلا
بد له أن يدلِف إلى داخل خلية ما، وأن يسيطر على الآليات الوراثية بداخلها عن طريق
الاندماج
بها (Integration). وينفِّذ فيروس العوز المناعي البشري
(HIV) هذه المرحلة بطريقة هي عكس العملية الطبيعية التي
تنتقل بها المعلومات الوراثية؛ ولذلك السبب فهو يسمى فيروسًا قهقريًّا
(Retrovirus).
تتكون المادة الوراثية (Genetic material) للخلايا الحية
من جدائل (Strands) من جزيئات تسمى بالحمض النووي الريبي
المنزوع الأكسجين (الدنا DNA)؛ والدنا هو المصدر الأساسي
للمعلومات الوراثية. وتحت الظروف الطبيعية للتكاثر، يتم نسخ الدنا — أو استنساخه
(Transcribe) — إلى جدائل جزيئية أخرى تسمى بالحمض
النووي الريبي (الرنا RNA)، والذي يعمل كمقطع (إسطمبة:
Template) لتوجيه عملية إنتاج بروتينات الخلية الجديدة.
ومع ذلك، ففي الفيروسات العكسية، تتكون المادة الوراثية من الرنا
(RNA). ويحمل الفيروس القهقري أيضًا إنزيمًا
(Enzyme) يسمى بالترانسكربتاز العكسي
(reverse
transcriptase)، والذي — بمجرد أن يدلف الفيروس إلى خلية
العائل — يستنسخ الرنا إلى الدنا، والذي يُترجَم بعد ذلك بالتسلسل الطبيعي المعتاد
لصناعة
البروتينات.
ويمكن استعراض سلسلة الأحداث التي تقع عندما تصاب الخلية اللمفاوية
(Lymphocyte) بعدوى فيروس العوز المناعي البشري،
كالتالي: يتحد الفيروس ببنًى خلوية تسمى بمستقبلات CD4 على
الغشاء المحيط بالخلية؛ وعند تلك النقاط، يتخلص من غِلافه في أثناء انتقاله إلى داخل
الخلية، حيث يتم استنساخ الرنا إلى الدنا. ويهاجر الدنا بعد ذلك إلى نواة الخلية اللمفاوية
ويغرس نفسه في الدنا الخاص بالخلية ذاتها. وتظل تلك الخلية اللمفاوية طوال فترة حياتها،
وطوال فترة حياة ذريتها، مصابة بعدوى (infected)
الفيروس.
وبدايةً من تلك النقطة، كلما انقسمت الخلية المصابة بالعدوى، يتضاعف الدنا الفيروسي
مع
جينات الخلية ذاتها، ويبقى في حالة عدوائية كامنة (latent).
ولأسباب غير معروفة، يأمر الدنا الفيروسي — عند نقطة معينة — بإنتاج الرنا الفيروسي
الجديد،
والبروتينات الفيروسية الجديدة. وبهذه الطريقة، يتم تصنيع فيروسات جديدة، وتتبرعم
تلك من
الغشاء الخلوي للخلايا اللمفاوية، وتتحرر، ثم تنطلق لإصابة خلايا جديدة. وإذا كانت
هذه
العملية سريعة بما فيه الكفاية، يمكنها قتل الخلية اللمفاوية التي تؤويها، والتي تتحطم
أثناء تبرعم جزيئات الفيروس خارجة منها. وتستغل طريقة أخرى لتدمير الخلايا اللمفاوية،
حقيقة
إمكانية التحام بعض البنى الموجودة على سطح الفيروس المتبرعم حديثًا، بخلايا
T (الخلايا التائية) التي لم يصبها الفيروس حتى الآن،
مما ينتج عنه اندماج مجموعة كبيرة من الخلايا ببعضها البعض لتكوين تكتُّلات تسمى بالمخلويات
(Syncytia). ولأن هذه المخلويات لم تعُد ذات فائدة في
الوظيفة المناعية، فقد أثبت هذا التكتل كونه طريقة فعالة للغاية في تعطيل وظائف عدد
كبير من
الخلايا اللمفاوية على الفور.
وكما ذكرنا سابقًا، ففيروس العوز المناعي البشري يهاجم الخلايا اللمفاوية التائية،
وهي
إحدى الخلايا الدموية البيضاء التي تلعب دورًا رئيسيًّا في الاستجابة المناعية للجسم.
ولمزيد من التحديد، فالضحية الفعلية هي مجموعة فرعية من الخلايا التائية تسمى بالخلايا
اللمفاوية CD4 أو T4 (وهناك
اسم آخر لها، وهو الخلايا المساعدة التائية). ونظرًا للأهمية الفائقة للخلايا
CD4 في الوظيفة الكلية للجهاز المناعي، فقد سُمِّيت
«بلاعب ارتكاز» (Quarterback) هذا الجهاز.
وبهذا يمكن لفيروس العوز المناعي البشري إصابة الخلايا
CD4 بطرق متنوعة. فيمكنه أن يتناسخ في داخلها، وقد يظل
كامنًا لفترات زمنية طويلة، كما يمكنه أيضًا أن يقتلها أو أن يثبط عملها. ويُعَد النضوب
(Depletion)
الهائل للخلايا اللمفاوية CD4، والذي يحدث تدريجيًّا بمرور
الزمن، العامل الرئيسي في منع الجهاز المناعي للمريض من وضع دفاعات فعالة ضد أنماط
متنوعة
من عداوى البكتيريا، والخمائر، والفطريات، وغيرها من الكائنات الحية المجهرية.
ويهاجم فيروس العوز المناعي البشري أيضًا نوعًا آخر من خلايا الدم البيضاء، تسمى
بالوحيدات (Monocytes)، والتي يحتوي حتى ٤٠٪ منها على
مستقبلات CD4 في غشائها الخلوي، وبذلك يمكنها اجتذاب
الفيروس. وهناك ملجأ آخر للفيروس، وهو البلاعم
(Macrophage)، التي يعني اسمها حرفيًّا «الآكلة الكبيرة»،
والتي تضم وظائفها التهام وتحطيم النُّفايات الخلوية العدوائية. وعلى العكس من الخلايا
اللمفاوية CD4، فلا يحطم فيروس العوز المناعي البشري أيًّا
من البلاعم أو الوحيدات؛ ويبدو أنه يستخدمهما كمستودعات أو كمخابئ يمكن أن يبقى الفيروس
كامنًا فيها لفترات طويلة من الزمن.
ولا يزيد كل ما سبق عن كونه تخطيطًا موجزًا للطريقة التي يسبب بها فيروس العوز المناعي
البشري ذلك الدمار التدريجي للجهاز المناعي. وبالرغم من اعتراض البعض على استخدام
التشبيهات
العسكرية لتوضيح الفيزيولوجية المرضية للأمراض، فإن الإيدز يُكيِّف نفسه جيدًا بصورة
خاصة
على هذه المقارنات الوصفية. ولا تختلف العملية كثيرًا، في واقع الأمر، عن بناء تدريجي
للقوات، تدمر فيه قذائف المدفعية والقصف الجوي في مراحلها النهائية دفاعات الدولة
استعدادًا
للغزو الأرضي الشامل، والذي ينفذه حشد هائل من المحاربين، الذين يتحالفون مع بعضهم
البعض
لتحقيق الدمار الشامل. ويشتمل جيش الجراثيم التي تقتل ضحايا الإيدز، بعد أن يحطم فيروس
العوز المناعي البشري خلايا CD4 في أجسامهم، على كتائب
شديدة التنوع والاختلاف، لكل واحدة منها هدفها الخاص وآليتها الهجومية المميتة المميزة.
ويتوقع أكثر علماء الوبائيات تحفُّظًا أنه بحلول عام ٢٠٠٠م، سيكون هناك ما بين ٢٠
و٤٠ مليون
شخص موجب المَصْلية (Seropositive) للفيروس على كوكبنا، والذين يكونون إما تحت
الحصار أو تعرضوا للغزو بالفعل. وسيصاب من أربعين إلى ثمانين ألف أمريكي جديد بالفيروس
سنويًّا، كما سيموت عدد مماثل منهم.
وحسب آخر ما أمكن تحديده حتى الآن، هناك ثلاث طرق فقط يمكن أن تحدث بها العدوى: عن
طريق
الاتصال الجنسي، أو تبادل الدم (مثلما يحدث مع إبرة، أو مِحقَن، أو منتجات الدم الملوثة)،
أو الانتقال من أم مصابة إلى طفلها داخل الرحم، أو أثناء الولادة، أو حتى عن طريق
حليب
الرضاعة فيما بعد الولادة. وقد تم عزل فيروس العوز المناعي البشري في المختبر من الدم،
والسائل المنوي، والإفرازات المهبلية، واللعاب، وحليب الرضاعة، والدموع، والبول، والسائل
النخاعي. لكنه لم تثبت قدرةُ سوى الدم، والسائل المنوي، وحليب الرضاعة، على نقل المرض
حتى
الآن. ويتم منذ عام ١٩٨٥م فحص إمداد الدم المخزون بعناية شديدة، حتى أصبحت إمكانية
انتقال
فيروس العوز المناعي البشري عن طريق نقل الدم بعيدة للغاية. وفي الولايات المتحدة
وأغلب
الأمم المتقدمة، تكون الغالبية الساحقة ممن ينتقل إليهم الفيروس عن طريق الاتصال الجنسي
من
الرجال اللوطيين أو الذين يمارسون الجنس مع الجنسين
(Bisexual)، أما في أفريقيا وهايتي، فالغالبية العظمى
هم من مغايري الجنس (Heterosexual). وبالرغم من أن عدد
الحالات المنقولة بالجنسية الغيرية تظل قليلة في الغرب، فإن عددها يرتفع تدريجيًّا،
كما
يزداد عدد الرُّضَّع المصابين. ونحو ثلث الأمريكيين الذين يصابون بالفيروس سنويًّا
هم من
مدمني المخدرات بالحقن، إضافة إلى نسبة مماثلة على الأقل من الرجال اللوطيين. أما
البقية
الباقية والتي تتكون في معظمها من النساء الزنجيات أو الإسبانيات الأصل، فتصاب بالمرض
بالاتصال الجنسي الغيري، كما توضح إيجابيتهن المَصْلية سبب وجود ألفَي طفل يولدون
مصابين
بالفيروس سنويًّا.
والإيدز مرض ذو قدرة ضعيفة على إحداث العدوى (Contagion).
كما أن فيروس العوز المناعي البشري يُعَد فيروسًا هشًّا للغاية؛ فليس من السهل أن
يصاب
المرء به. ويقتل سائل التبييض المنزلي البسيط، في تركيز ١٠:١، الفيروس بكفاءة عالية،
وكذلك
يفعل الكحول، وفوق أكسيد الهيدروجين، والليسول (Lysol). وفي
خلال عشرين دقيقة من سكبِه على سطح منضدة وتركه ليجف، يفقد السائل المشبع بالفيروس
قدرته
على العدوى. وليس المرء بحاجة للخوف من تلك الغيلان الأربعة (Bugbears) الذين يتجنبهم من يخشون
الإصابة بالجراثيم وهي: الحشرات، ومقاعد المراحيض، وأواني الطعام، والتقبيل. وبالرغم
من أن
هناك حالات يُعتقد أنها ناتجة عن اتصال جنسي وحيد، فإن الإيجابية المَصْلية عادةً
ما تحتاج
لجرعات عالية جدًّا من الفيروس، أو نوبات متكررة من الاتصال. وفي الولايات المتحدة،
يُعَد
خطر الإيجابية المصلية بفعل اتصال جنسي غيري عَرَضي حقيقة واقعة، لكن نسبتها ضئيلة
للغاية.
وبقدر الطمأنينة التي قد يبعثها التفكر في الصعوبات التي يتوجب على الفيروس تخطِّيها
قبل أن
يتمكن من إصابتنا، يختفي الإحساس بالأمان في مواجهة الحقيقة الكالحة بأنه بمجرد إصابة
أحدنا
به، فمن المرجَّح أنه سيموت. ويُبرِّر هذا الاعتبار بمفرده تلك الاحتياطات التي تفرضها
علينا سلطات الصحة العامة.
وكثيرًا ما يكشف الفيروس عن نواياه بعد دخول جسم عائل جديد مباشرة. ففي غضون شهر
واحد أو
أقل، ينتج عن استنساخه السريع زيادة تركيزه في الدم إلى معدلات مرتفعة للغاية، ويظل
هكذا
لمدة تتراوح بين أسبوعين إلى أربعة أسابيع. وبالرغم من أن كثيرًا من الأشخاص المصابين
بالعدوى حديثًا يبقَون بدون أعراض مرضية، ففي خلال نفس الفترة قد يصاب آخرون بحُميات
منخفضة
الشدة، وغدد متورمة، وآلام عضلية، وطفح جلدي، وأحيانًا بأعراض إصابة الجهاز العصبي
المركزي
مثل الصداع. ونظرًا لكون هذه الأعراض غير نوعية، كما يمكن أن يصاحبها إحساس عام بالضعف،
فكثيرًا ما تُعزَى — بالخطأ — للإصابة بالزكام أو كثرة الوحيدات
(mononucleosis). ومع اقتراب نهاية هذه المتلازمة
القصيرة، تبدأ أولى الأجسام المضادة لفيروس العوز المناعي البشري بالظهور في الدم؛
ويمكن
لاختبار الدم أن يكتشف وجودها، ويُعتبر المريض منذ ذلك الحين إيجابي المصلية. وبالرغم
من
انتهاء الفترة القصيرة لظهور الأعراض، يستمر استنساخ جزيئات الفيروس.
ومن المرجَّح تمامًا أن تنتج متلازمة قصيرة شبيهة بكثرة الوحيدات، عن رد الفعل الأول
للجهاز المناعي للجسم لذلك التحذير الذي يطلقه عدد هائل من جزيئات الفيروس الجديدة
والتي
يكون قد تم إنتاجها بحلول ذلك الوقت. وينجح الجسم في البداية، فينخفض عدد الجزيئات
الفيروسية في الدم بصورة مفاجئة، حتى يصل إلى معدلات منخفضة. ويبدو أن ما يحدث في
تلك
المرحلة هو انسحاب الجراثيم المتبقية إلى الخلايا اللمفاوية
CD4، والعقد اللمفاوية، ونخاع العظام، والجهاز العصبي
المركزي، والطِّحال، حيث تبقى كامنة لسنوات طويلة، أو تُستنسخ ببطء لدرجة يبقى معها
تركيزها
الكلي المنخفض في الدم ثابتًا. وفي الواقع أن من ٢٪ إلى ٤٪ فقط من الخلايا اللمفاوية
CD4 توجد في الدم. والاحتمال الأرجح أن تلك الخلايا
منها الموجودة في العقد اللمفاوية، والطِّحال، والنخاع، يتم تحطيمها تدريجيًّا خلال
فترة
الكمون الطويلة، لكن هذا الدمار لا تنعكس صورته على الدم حتى نهاية تلك الفترة، عندما
تبدأ
معدلات الخلايا CD4، والتي ظلت ثابتة حتى ذلك الوقت، في
الانخفاض بصورة فجائية، مما يتيح الفرصة لحدوث تلك العَداوى الثانوية المتعددة التي
تُميِّز
مرض الإيدز. وعند تلك النقطة، ترتفع معدلات الفيروس في الدم مجددًا. وليس معروفًا
سبب تلك
الفترة الطويلة من الخمول النسبي، لكنها تقترح أن الجهاز المناعي للجسم قد يلعب دورًا
في
تلطيف حدة العدوى، على الأقل ذلك الجزء منه الذي يقتصر على الدم ذاته. وعندما يتم
تقويض
الجهاز المناعي لدرجة كافية، تزداد كَميات الفيروس بصورة ملحوظة، سواء تلك الموجودة
في داخل
الخلايا اللمفاوية، أو الحرة في الدم.
ويفسر لنا تسلسل الأحداث سبب إصابة معظم الأشخاص الإيجابيين لفيروس العوز المناعي
البشري
بتضخم في الغدد اللمفاوية بالعنق وتحت الإبطين، خلال الفترة المبكرة لظهور الأعراض،
والتي
تستمر من أسبوعين إلى أربعة أسابيع، والذي لا ينحسر عند نهاية تلك الفترة. وعندما
تنقضي تلك
الفترة، يستمر المرضى في الإحساس بالعافية لمدة تتراوح بين ثلاث إلى خمس سنوات، وقد
تصل إلى
عشر سنوات. وفي نهاية ذلك الوقت، عادةً ما يُظهر تحليل الدم أن عدد الخلايا
CD4 قد انخفض بصورة كبيرة، من معدلاته الطبيعية التي
تتراوح بين ٨٠٠ و١٢٠٠ لكل ملليمتر مكعب، إلى أقل من ٤٠٠. ويعني ذلك أن نحو ٨٠٪ إلى
٩٠٪ من
تلك الخلايا قد تحطَّم بالفعل. وفي غضون نحو ثمانية عشر شهرًا في المتوسط، تبدأ الاختبارات
الجلدية القياسية للحساسية في إظهار أن الجهاز المناعي بسبيله للتعطل عن العمل. وتستمر
معدلات الخلايا CD4 في الانخفاض، لكنه من الممكن ألا تظهر
على المرضى خلال تلك المرحلة أعراض المرض السريري. وفي الوقت نفسه، ترتفع معدلات الفيروس
في
الدم، كما يتم تحطيم العقد اللمفاوية المتضخمة ببطء.
وعندما تقل معدلات الخلايا CD4 عن ٣٠٠، سيصاب أغلب المرضى
بعداوى فطرية في اللسان أو تجويف الفم، تسمى بالسُّلاق (Thrush)، والتي تُظهر نفسها في صورة لطخ
بيضاء في تلك المناطق. وغالبًا ما تحدث العَداوى الأخرى التي تبدأ في الظهور عندما
ينخفض
المعدل عن ٢٠٠، حول الفم، وفتحة الشرج، والأعضاء التناسلية، بالإضافة إلى عدوى مهبلية
شديدة
بنفس الفطر المسبب للسُّلاق. ومن الموجودات المميزة، هناك حالة تسمى بالطَّلَوان الفموي
المشعر (Oral Hairy Leukoplakia) [من اليونانية
leukos بمعنى
«الأبيض»، وplakoeis
بمعنى «المسطح»]، وهي مجموعة من اللطخ (Patches) البيضاء
العمودية ذات المظهر الشبيه بالزغب، والتي تقف منتصبة تمامًا مثل الأخاديد بطول الحوافِّ
الوحشية للِّسان. وتنتج هذه الأذيات عن تغلُّظ يسببه الفيروس في الطبقات السطحية
للِّسان.
وفي غضون سنة إلى سنتين من ذلك الوقت، يبدأ كثير من المرضى في الإصابة بالعداوى
الانتهازية في مناطق غير الجلد وفتحات الجسم. وبحلول ذلك الوقت، عادةً ما يكون عدد
الخلايا
CD4 قد انخفض عن المائتين كثيرًا، كما يستمر في
الانخفاض سريعًا. وتبدأ المتلازمة الكاملة لنقص المناعة في إظهار نفسها، في الوقت
الذي تظهر
فيه الأمراض الناتجة عن الجراثيم التي تعيش بصورة اعتيادية في الأشخاص المتمتعين بصحة
جيدة
تمامًا، والذين تمنع دفاعاتهم الفيزيولوجية الطبيعية حدوث المتاعب. وهنا يكون المرض
قد وصل
إلى المرحلة التي تنتج فيها المراضة الخطرة عن أي جرثومة يلزم لمواجهتها جهاز مناعي
سليم.
وبالرغم من أن المصابين بالإيدز يكونون معرضين بصفة خاصة للإصابة بتلك الأمراض المعروفة،
مثل التدرُّن، والالتهاب الرئوي البكتيري، فإنهم يصابون أيضًا بمجموعة من الأمراض
النادرة
فيما عدا ذلك، والناتجة عن مجموعة متنوعة من الطفيليات، والفطريات، والفيروسات، وحتى
تلك
الأنواع من البكتريا التي نادرًا ما كان الأطباء يصادفونها خلال ممارستهم قبل ظهور
الإيدز.
وبالنسبة لبعض هذه الجراثيم، لم يكن هناك علاج فعال قبل حلول نهاية الثمانينيات، عندما
تكللت جهود المختبرات الجامعية وشركات صناعة الأدوية بالنجاح أخيرًا، مع إنتاج مجموعة
من
العقاقير التي أظهرت نِسَبًا متفاوتة من النجاح السريري.
وتتسلح كل مجموعة من الغزاة الجرثوميين الذين يهاجمون الدفاعات الممزقة للشخص المقوَّض
جهازه المناعي نتيجة لإصابته بالإيدز، بأسلحتها الهجومية الفريدة، كما توجه هجومها
نحو
أهداف محددة. وعندما لا تجد في طريقها سوى مقاومة قليلة باقية من الخلايا
CD4، تدمر الفيالق والكتائب المنفردة من القتلة
الانتهازيين تلك المناطق التي تضم أنسجة المريض. وتشق النُّدف المتجمعة من العدوى
طريقها عن
طريق إنهاك طاقة الفرد وإمداده الضئيل من الذخيرة الاحتياطية أحيانًا، وأحيانًا بتدمير
عضو
حيوي مثل الدماغ، أو القلب، أو الرئتين. وبالرغم من أنه يمكن إبطاء — أو إبطال — تلك
الحملات الوبائية لفترة مؤقتة، بفضل أحد تلك العوامل الدوائية الجديدة، فإنها ستعيد
تنفيذ
هجومها بمرور الوقت، إن لم يكن بإحدى الطرق فبالأخرى. وقد يتحقق الانتصار في إحدى
المناوشات
هنا أو هناك، أو قد يُمنع وقوع معركة ما باستخدام العقاقير الوقائية في الوقت المناسب،
وبذلك يتم الحصول على بضعة شهور من الثبات المؤقت، لكن النتيجة النهائية لذلك الصراع
قد تم
تحديدها مسبقًا. فالمهاجمون الجرثوميون المصممون لا يقبلون سوى الاستسلام غير المشروط،
والذي لا يتأتى إلا بوفاة مضيفهم المغلوب على أمره.
وبالرغم من أن مرضى الإيدز قد يموتون بفعل عدد كبير من العمليات المرضية، فإن هناك
مجموعة
صغيرة نسبيًّا من الجراثيم هي التي تضطلع بالغالبية العظمى من الوفَيَات. وفي مقدمتها
تمامًا نجد المتكيسة الرئوية الجؤجؤية، وهي أول الجراثيم التي تم التعرف عليها عند
بداية
تلك الجائحة العالمية. وتنخفض معدلات وجودها حاليًّا نتيجة لاستخدام المعالجات الوقائية،
ولكن حتى فترة قريبة نسبيًّا، كان أكثر من ٨٠٪ من المرضى قد عانَوا على الأقل من إحدى
نوبات
الالتهاب الرئوي بالمتكيسات (PCP)، كما مات العديد منهم
خلال واحدة من تلك النوبات، سواء نتيجة للقصور التنفسي ذاته، أو لإحدى المشكلات المتعلقة
به. واعتمادًا على شدة الإصابة، فقد اعتادت النوبة المنفردة أن تقتل من ١٠٪ إلى ٥٠٪
من
ضحاياها قبل أن يتم التوصل إلى وسائل فعالة لمقاومتها. وتبقى تلك الجرثومة عاملًا
مهمًّا في
وفاة نحو نصف المصابين بالإيدز، لكن هذه النسبة المئوية مستمرة في التناقص.
وأعراض الالتهاب الرئوي بالمتكيسات هي، في الأساس، تلك التي عانى منها إسماعيل جارسيا
عندما أصبح تنفسه متزايد الصعوبة حتى بحث عن العلاج لحالته. وأحيانًا يمكن العثور
على
الجرثومة في أجزاء أخرى من الجسم غير الرئتين، وأحيانًا ما نجدها، عند تشريح جثث المرضى
الذين يموتون بفعل تلك العدوى، منتشرة خلال جميع الأعضاء الحيوية تقريبًا، وخصوصًا
الدماغ،
والقلب، والكُلْيتين.
ومثلهم في ذلك مثل أولئك المرضى الذين يصابون بأنواع أخرى من الالتهاب الرئوي، يختنق
المرضى الذين يموتون بفعل الالتهاب الرئوي بالمتكيسات نتيجة لعجز الرئتين المعدوَّتين
عن
تهوية نفسيهما. ومع إصابة مناطق أوسع من الأنسجة، تتحطم الأسناخ الرئوية أكثر فأكثر،
حتى
يتم الوصول إلى نقطة لا يمكن فيها رفع المعدلات الشريانية للأكسجين، برغم استخدام
كل السبل
المتاحة لدفع ذلك الغاز إلى الأنسجة الغارقة والمسدودة. ويتسبب عوز الأكسجين وتراكم
ثاني
أكسيد الكربون في حدوث التلف الدماغي، ثم توقُّف القلب في النهاية. وأحيانًا ما يكون
تدمير
الأنسجة من الشدة بحيث تتكون تجاويف في مناطق التحلل، مما يشبه كثيرًا ما يحدث في
التدرُّن.
وتُعَد الرئتان أكثر أعضاء الجسم تعرُّضًا لهجوم الإيدز. فجميع الجراثيم الانتهازية
تقريبًا، إضافة إلى الأورام، تنظر إلى الرئتين كهدف لهجومها. وفي الجولات التي حضرتها
في
المستشفيات، كان التدرن، والبكتيريا المكونة للقيح، والفيروس المضخم للخلايا
(CMV) الشبيه بفيروس الحَلَأ (Herpeslike)، وداء المقوَّسات، من أكثر
المشكلات التي كانت تتم مناقشتها. وباستثناء آخرها، تبحث جميع تلك الجراثيم عن مأوى
لها في
الأنسجة التنفسية. وتبلغ نسبة الإصابة بالتدرن في مرضى الإيدز نحو خمسمائة ضعف نظيرتها
في
مجمل السكان.
وقد كان داء المقوَّسات (Toxoplasmosis) مرضًا من الندرة
بحيث واجهتُ صعوبة في التعرف على كُنْهِه عندما صادفته لأول مرة في أحد مرضى الإيدز
المبكرين. وفيما لا يزيد على العَقد إلا بقليل، كان المرض قد أصبح واحدًا من المقاتلين
الرئيسيين في غزو الإيدز، ولن يكون عليَّ بعد ذلك أن أسترجع تفاصيله من ذاكرتي، فكم
كانت
بشاعة تلك الأشياء التي رأيت المرض يفعلها بضحاياه الذين لا حول لهم ولا قوة. والجرثومة
ذاتها هي إحدى الأوالي (الحيوانات الأولية)، التي تصيب الطيور عادة، بالإضافة إلى
القطط
وغيرها من الثدييات الصغيرة الحجم. وتنتقل إلى الإنسان في الغالب عن طريق اللحم غير
المطهيِّ جيدًا، أو عندما يتم ابتلاعها عند تلوث الطعام ببراز الحيوانات المصابة.
وتعيش
المقوَّسة بدون ضرر في أجسام من ٢٠٪ إلى ٧٠٪ من الأمريكيين، حيث تعتمد تلك النسبة
على نوعية
المجموعة الاجتماعية أو الاقتصادية قيد الاختبار. ومع ذلك، فهي تُظهر نفسها في المريض
المصاب بالقصور المناعي، في صورة حُمى، والتهاب رئوي، وتضخم الكبد أو الطِّحال، وطفح
جلدي،
والتهاب السحايا، والتهاب دماغي، وأحيانًا إصابة القلب أو غيره من العضلات. ويُعَد
الجهاز
العصبي المركزي أكثر مركز لهجومها في مرض الإيدز، حيث يمكن لها أن تتسبب في حدوث الحُمى،
والصداع، والاضطرابات العصبية، والنوبات الصرعية، والتبدلات العقلية التي تتراوح بين
اختلاط
الذهن والغيبوبة العميقة. وفي صور الأشعة المقطعية المحوسبة، أحيانًا ما تشبه المناطق
المصابة بالعدوى من الدماغ، تلك الإصابات الناتجة عن اللِّمفوم، لدرجة يصبح التفريق
بينهما
أمرًا غاية في الصعوبة. وقد كانت تلك هي المعضلة التشخيصية التي سببت قدرًا كبيرًا
من الشك
أثناء علاج إسماعيل جارسيا.
ومن النادر أن تجد مريضًا بالإيدز وقد نجا جهازه العصبي من انتهاب المرض. وحتى خلال
المرحلة الأولى من العدوى بفيروس العوز المناعي البشري، قليلون هم المرضى الذين يتعرضون
لمرحلة مؤقتة من الإعاقات العصبية، والتي قد تظهر أحيانًا حتى قبل أن يظهر الإيدز
نفسه.
ولحسن الحظ، فإن معدل حدوث هذه المضاعفة المرهقة على وجه الخصوص، يقل كثيرًا في المراحل
المبكرة عنه في تلك المتأخرة لمرض فيروس العوز المناعي البشري، حيث تكون أكثر شدة،
فتسمى
بمركب خرف الإيدز (AIDS dementia complex). ويمكن أن تصبح
آثارها النهائية مدمرة على العمليات الاستعرافية والوظائف الحركية والسلوكية، لكنها
تظهر في
البداية غالبًا في صورة نسيان بسيط وفقدان للقدرة على التركيز. وبعد فترة قصيرة، يصبح
التبلُّد والانطواء من الأعراض المألوفة، في حين يعاني عدد أقل من المرضى من الصداع،
أو
يصابون بنوبات صَرَعية. وإذا لم تزُل هذه الأعراض عند حدوثها في مرحلة مبكرة من العدوى
بفيروس العوز المناعي البشري، فهي تتفاقم ببطء. وفي هذه الحالة، أو في أولئك المرضى
الأكثر
عددًا ممن تظهر عليهم الأعراض المرضية خلال مرحلة الإيدز من المرض، كثيرًا ما تتدهور
الوظائف العقلية، كما تظهر الصعوبات المتعلقة بالتوازن أو التوافق العضلي. وفي أكثر
مراحل
المركب تقدمًا، يصاب المرضى بخرف شديد، كما يُظهرون استجابة ضئيلة لما يحيط بهم من
أحداث؛
وقد يصابون بشلل الطرفين السفليين (Paraplegia)، أو قد يعانون من الرعشة أو الاختلاجات من
حين لآخر. وتوجد هذه المضاعفات بدون أدنى عَلاقة تربطها بتلك العمليات الناتجة عن
داء
المقوَّسات المخي، أو اللِّمفوم الدماغي، أو غيرها من الإعاقات العصبية الانتهازية
مثل
التهاب السحايا الناتج عن الإصابة بالفطر الشبيه بالخميرة — والمسمى بالمستخفية
(Cryptococcus). ويُعتقد أن مركب خرف الإيدز ناتج عن
الفيروس ذاته، لكن سببه المحدد يظل مجهولًا حتى الآن، كما أنه ليست هناك عَلاقة بين
الضمور
المخي الذي نراه في صور الأشعة المقطعية المحوسبة وفي العينات، وبين أي عامل آخر.
ومن بين
المشكلات العصبية العديدة المتعلقة بالإيدز، تُعَد هذه المشكلة — بالإضافة إلى داء
المقوسات
— أكثرها شيوعًا. ولحسن الحظ، فقد نتج عن الآثار المفيدة لعقَّار الزيدوفودين بعض
التناقص
في معدلات حدوثها.
ويشترك اثنان من أبناء عمومة جرثومة التدرن في كونهما الجرثومتين الأكثر انتشارًا
في
أنحاء أجسام المصابين بالإيدز. فتوجد كلٌّ من المتفطرة الطيرية (Mycobacterium avium) والمتفطرة داخل
الخلوية (Mycobacterium intracellulare:
MAI)، اللتين تسميان إجمالًا بمركب المتفطرة الطيرية
(MAC)، في نحو نصف مرضى الإيدز عند وفاتهم، بعد أن
تتسببا في حدوث مجموعة كبيرة من الأعراض المرضية أثناء الحياة. وتُعَد المتفطرتان
(MAI) حاليًّا سببًا للوفاة يفوق الالتهاب الرئوي
بالمتكيسات. وكثيرًا ما تُعزَى الحُمى، والتعرق الليلي، وفقد الوزن، والإرهاق، والإسهال،
وفقر الدم، والألم، واليرقان، لهذين التوءمين المغِيرين. وبالرغم من أن ذلك المركب
نادرًا
ما يسبب الوفاة بمفرده، فإن آثاره التي تصيب الجسم بالهزال تُعَد من العناصر الرئيسية
في
حالة الوهن وسوء التغذية العام، والتي تزيد من إضعاف الوسائل الدفاعية في مواجهة الغزاة
الآخرين.
ولا يعدو ما سبق كونه بعض قليل من مظاهر الإيدز. ولا تفيد إطالة القائمة إلا في سرد
أسماء
بعض المشكلات المعتادة الأخرى التي تصيب المرضى، لكنها لن تستطيع حتى الوصول إلى تلك
القائمة الكاملة للعذاب؛ مثل العمى الناتج عن التهاب الشبكية
(
Retinitis) بفعل العدوى بالفيروس المضخم للخلايا أو
المقوَّسات؛ أو الإسهال الحاد الذي قد ينتج عن أيٍّ من خمسة أو ستة أسباب معروفة،
أو عن آخر
غير معروف؛ أو التهاب السحايا (
Meningitis) أو الالتهاب
الرئوي العَرَضي نتيجة للعدوى بالمستخفية؛ أو السُّلاق أو صعوبات البلع الناجمة عن
داء
المبيِّضات (
Candidiasis)، وربما ذلك النز الرقيق من
إصاباته الجلدية؛ أو الضيق الذي تسببه الإصابة بفيروس الحَلَأ حول فتحة الشرج؛ أو
الالتهاب
الرئوي الفطري (
fungal)، أو انتثار فطريات المصورة النسيجية
(
Histoplasma) في مجرى الدم؛ أو أنواع البكتيريا
النمطية وغير النمطية؛ وتلك الكائنات الزاحفة المتسللة، التي يزيد عددها عن العشرين،
والتي
تحمل أسماء مثل الرشَّاشيات (
Aspergillus)، والأسطوانيات (
Strongyloides)، والمبوَّغة الخفية
(
Cryptosporidium)، والكُرَوانيات
(
Coccidiodes)،
والنوكاردية (
Nocardia)،
١ والتي حان وقتها، فتعمل كالنهابين (
Looters)
بعد الكوارث الطبيعية، والتي تمثل ما هم عليه تمامًا. فبالرغم من أنها لا تشكل أي
خطر على
الأشخاص ذوي المناعة الطبيعية، يُعتبر كلٌّ منها هلاكًا بالنسبة لأولئك الذين نضب
معينهم من
الخلايا
CD4.
ويصاب القلب، والكُلى، والكبد، والبنكرياس، بالإيدز بطرق متعددة، وكذلك الحال بالنسبة
لتلك الأنسجة التي يقل التفكير بها عادةً كأعضاء مستقلة، مثل الجلد، والدم، وحتى العظام.
فقد يظهر الطفح الجلدي، والتهاب الجيوب الأنفية، واضطرابات تجلُّط الدم، والتهاب البنكرياس،
والغثيان، والقيء، والقُرح النازَّة، والإفرازات المؤذية، واضطرابات الرؤية، والألم،
وتقرحات وأنزفة الجهاز الهضمي، والتهاب المفاصل، والعداوى المهبلية، والتهاب الحلق،
والتهاب
العظم والنِّقْي (Osteomyelitis)، وعَداوى عضلة القلب وصماماته، وخراريج
الكُلى والكبد … وهناك كثير غيرها. وكأنما لم يكفهم الإنهاك والإحباط الذي يصيبهم
به ذلك
المرض، يشعر كثير من المرضى بالإهانة بفعل التفاصيل الدقيقة لمحنتهم.
وكثيرًا ما تتأثر وظائف الكُلى والكبد؛ وقد تحدث اضطرابات في التوصيل الكهربي للقلب
أو في
صماماته؛ كما يخون الجهاز الهضمي مالكه بطرق متعددة؛ وقد تفقد الغدد الكُظْرية أو
الصنَوبرية قوتها أحيانًا. وعندما تفقد القدرة على مكافحة العداوى البكتيرية، تطغى
صورة
الإنتان المعروفة. وطوال كل هذه الفترة، يزيد سوء التغذية وفقر الدم من إضعاف قدرة
الجسم
على إبطاء وتيرة العمليات التدميرية. وكثيرًا ما يتفاقم سوء التغذية بفعل الفقد الهائل
في
البروتينات عبر الكُلى التالفة، والذي ينتج عن حالة مرضية تتفاقم سريعًا وسببها غير
معروف
على وجه الدقة، وتسمى بالاعتلال الكُلَوي المرتبط بالإيدز (AIDS-related
nephropathy). وقد يتواصل الاعتلال الكُلَوي، حتى يصل إلى الفشل
الكُلَوي (اليوريمية: uremia) النهائي، في غضون ثلاثة إلى
أربعة أشهر من بداية المرض.
وحتى بدون أن تصيبه العدوى بصورة مباشرة، فأحيانًا ما يصبح القلب في مرضى الإيدز متضخمًا
وقد يصاب بالقصور، أو قد يشذ نَظم ضرباته، مما يؤدي إلى الوفاة الفجائية. والكبد معرَّض
بدوره للهجوم، ليس فقط بسبب الإيدز ذاته، بل لأن كثيرًا من المرضى يصابون في الوقت
نفسه
بعدوى فيروس الالتهاب الكبدي «ب». وتُظهر الفيروسات المضخمة للخلايا، والمتفطرات الطيرية،
وجرثومة التدرن، بالإضافة إلى عدد كبير من الفطريات، تفضيلًا لمهاجمة الكبد. ولا يتحطم
ذلك
العضو العاجز بفعل المرض وحده، بل وتحت تأثير المحاولات التي تُبذل لعلاجه، حيث تؤثر
السُّمِّية الدوائية على أدائه بطرق متعددة. وفي ٨٥٪ من المرضى الذين يتم تشريح جثثهم،
نجد
الكبد غير طبيعي بشكل أو بآخر.
ويتكون الطول الكلي للجهاز الهضمي من نفق هائل متعرج من الفرص المتاحة لتلك الوحوش
الضارية المتنوعة لمرض الإيدز. فبداية من الحلأ (Herpes)، وتلك المجموعة الواسعة من التقرحات والعَداوى
التي تحدث حول وداخل الفم، إلى تلك القرح النازَّة ومشكلات الحَكْم
(Continence) عند الشرج، قد تتضاعف معاناة الشهور
الأخيرة في حياة المرضى، بإصابة عدد كبير من الأعضاء لدرجة تمنع معها تناول الطعام،
وتصيب
عملية الهضم بالاضطراب، وتتسبب في حدوث إسهال مائي لا يمكن التحكم فيه، والذي لا يمثل
مصدرًا لانزعاج متكرر بصورة مستمرة فحسب، بل ويجعل من الصعوبة بمكان المحافظة على
المستوى
الملائم من النظافة عند تلك المناطق المعرضة حول الشرج والمستقيم. ويُعَد تصور استخراج
أي
فتات من الكرامة من مثل هذه الوفاة، أمرًا يفوق إدراك معظمنا. ومع ذلك، فأحيانًا ما
تجلب
تلك الكرامة ذاتها لحظات من النبالة تتغلب على واقع العذاب مؤقتًا، وهي تنبع عن مصادر
من
العمق بحيث لا يسعنا سوى التعجب منها، إذ إنها تتخطى قدرتنا على الفهم.
ويحتاج الجسم لجهاز مناعي سليم، ليس فقط لمقاومة العداوى، بل ولمنع نمو الأورام أيضًا.
وفي غياب دفاعات فعالة، تجد بعض أنماط العمليات الخبيثة بيئة ملائمة لكي تُظهر نفسها
علانية. وظل فيروس العوز المناعي البشري عاملًا مساعدًا بصورة خاصة لظهور نوع محدد
من
السرطان، كان من الندرة في السابق بحيث لم أكن قد رأيت منه سوى حالة واحدة فقط، في
مهاجر
روسي عجوز، منذ تخرجي في كلية الطب منذ نحو أربعين سنة. وقد تزايد معدل الإصابة بذلك
الورم
الخبيث الذي يسمى بساركومة كابوزي (Kaposi’s sarcoma)،
بأكثر من ألف ضعف، من معدل كان يبلغ نحو ٠٫٢٪ من مجموع السكان، إلى نحو ٢٠٪ من الأمريكيين
المصابين بالإيدز. ويُعَد ذلك أكثر الأورام شيوعًا بين المصابين بهذا المرض، ولأسباب
غير
معروفة حتى الآن، فهو يصيب نسبة تزيد كثيرًا في الرجال اللوطيين (من ٤٠٪ إلى ٥٠٪)،
عن
مثيلتها بين مدمني المخدرات بطريق الحقن (من ٢٪ إلى ٣٪)، أو المصابين بالناعور «الهيموفيليا»
(١ في المائة). وتتعلق تلك النسب فقط بأولئك المرضى الذين يتم تشخيصهم أثناء الحياة.
أما
عند إجراء تشريح ما بعد الوفاة، فتتضاعف نسبة الإصابة بساركومة كابوزي من ثلاثة إلى
أربعة
أضعاف، مما يجعل من وجوده في مكان ما من جثث الرجال اللوطيين أكثر شيوعًا.
وفي عام ١٨٧٩م، وصف «موريتس كابوزي» — وهو أستاذ الأمراض الجلدية في كلية الطب التابعة
لجامعة فيينا — حالة مرضية أطلق عليها اسم «ساركومة الأصباغ المتعددة»
(Multiple Pigment Sarcoma)، وتتكون من مجموعة من
العقيدات (nodules) ذات
اللون البني المُحْمَرِّ أو الأحمر المائل للزرقة، والتي تظهر على اليدين والرجلين
أولًا،
ثم تنتشر بطول الأطراف حتى تصل إلى الجذع والرأس. وبمرور الوقت، كما يذكر تقريره،
يزداد حجم
الأذيات، وتتقرح، ثم تنتشر إلى الأعضاء الداخلية. «وعند تلك المرحلة، تظهر الحُمى،
والإسهال
الدموي، وسعال الدم (Hemoptysis)، والهزال الشديد، ويلي ذلك حدوث الوفاة. وعند
إجراء تشريح ما بعد الوفاة، توجد عُقيدات مماثلة بأعداد كبيرة في الرئتين، والكبد،
والطِّحال، والقلب، والجهاز الهضمي.»
وتُشتق تسمية الساركومة (الورم الغَرَني: Sarcoma) من
اللفظتين اليونانيتين: sark بمعنى «اللحم»، وoma بمعنى «ورم». وتنبع تلك الأورام من
نفس أنواع الخلايا التي تُكوِّن النسيج الضام (Connective
Tissue)، والعضلات، والعظام. وبرغم تحذير «كابوزي» ذاته بشأن مرضه
بقوله: «إن مستقبلية المرض (Prognosis) سيئة … وقد لا يمكن
منع نهايته المميتة بالاستئصال؛ سواء الموضعي أو الشامل، أو باستخدام الزرنيخ
(Arsenic) [وهو علاج مفضل للسرطان في ذلك الوقت].» إلا
إن الأطباء قد ظلوا — لمدة قرن كامل من الزمان — يقللون من الخطر الذي تشتمل عليه
تلك
الخباثة غير العادية.
وحيث إن نمو ساركومة كابوزي كان معروفًا بالبطء، إذ يستغرق «من ثلاث إلى ثماني سنوات
أو
تزيد»، فقد استُخدمت الكتب الدراسية الطبية التالية لاكتشافه لفظة الكسول
(Indolent)
لوصف سيرورته المرضية. وبذلك تم نقل رسالة خاطئة بخصوص الطبيعة المميتة أساسًا لهذا
الورم
الخبيث، بالرغم من أن بعض المؤلفين استمروا في الكتابة عن مظاهره المرضية القاتلة،
مثل
النزيف المعوي الشديد. وفي واقع الأمر أن لفظة «الكسول» هذه قد ظهرت في التقارير الأصلية
التي نُشرت عام ١٩٨١م في المَجلات الطبية البريطانية والأمريكية، والتي تناولت جائحات
الإصابة بساركومة كابوزي بين الرجال الشواذ. ومع ذلك، كان مؤلفو هذه التقارير يشعرون
بالخطر
من العدوانية المفاجئة لمرض كان يُعتبر خاملًا بصورة نمطية، بحيث وجد كاتب المقالة
الأمريكية أنه من الأجدر تذكير قرائه بأن سير المرض كان يُعرف أحيانًا بكونه: «شديد
الحدة،
مع إصابات حشوية (visceral) واسعة.» وقد ركَّز البحث المنشور في إنجلترا على
الأمر نفسه، وأظهره بصورة فورية بتوضيح أن: «نصف مرضانا قد تُوفُّوا خلال عشرين شهرًا
من
تشخيص الورم.» ومن الواضح أن تلك كانت صورة جديدة من ساركومة كابوزي، والتي أصبحت
فجأة
مَدعاة للقلق بصورة تفوق حتى تلك التي حذَّر منها كابوزي نفسه.
وقبل عقود من ارتباط ساركومة كابوزي في أذهان الأطباء بعدوى فيروس العوز المناعي البشري،
كثيرًا ما كان يُكتشف مصادفة كمصاحب لأنماط متعددة من السرطان اللمفاوي المعروف باسم
اللِّمفوم. أما اليوم، فيُعَد كلٌّ من ساركومة كابوزي واللمفوم — وليس بالضرورة اجتماعهما
معًا — أكبر نوعين من السرطان افتراسًا لمرضى الإيدز. وباستثناء تلك الأسباب الراجعة
للعوز
المناعي، فلم يتم تحديد طبيعة العَلاقة بين الاثنين. ولا يقل اللمفوم المرتبط بالإيدز،
والذي غالبًا ما يصيب الجهاز العصبي المركزي، والجهاز الهضمي، والكبد، ونخاع العظام،
في
توحشه عن ساركومة كابوزي.
وعلى عكس أي نوع من الجائحات الأخرى التي عرَفها الجنس البشري من قبل، فلا يَقصر فيروس
العوز المناعي البشري نشاطه على الخيارات المميتة. فهناك عدد محدود فقط من الوسائل
التي قد
يقتل بها سرطان البَنكرياس، على سبيل المثال. وعندما يصاب القلب، أو الكُلى، بالقصور
تقع
أحداث شديدة التحديد؛ وتتخذ السكتة الدماغية المميتة من نقطة محددة في الدماغ هدفًا
لها،
مما يبدأ طريقًا واضح المعالم لتدهور ضحيتها. لكن ذلك لا يحدث مع فيروس العوز المناعي
البشري؛ فهو يوفر خيارات تبدو لا نهائية مع إصابة جهاز من أجهزة الجسم ثم آخر بفعل
مجموعة
عريضة التنوع من الجراثيم والسرطانات. وعند إجراء تشريح ما بعد الوفاة، تُعَد العلامة
الوحيدة التي يُتوقع وجودها باستمرار، هي النضوب الشديد للأنسجة اللمفاوية التي هي
جزء من
الجهاز المناعي. وحتى أفراد فريق معالجة الإيدز يصابون بالدهشة على طاولة التشريح،
من
المناطق غير المتوقعة التي يرونها للإصابة، ومن الشدة التي دُمِّرت أنسجة مرضاهم
بها.
ويُعَد القصور التنفسي، والإنتان، وتدمير النسيج الدماغي بفعل الأورام أو العدوى،
أكثر
أسباب الوفَيَات الفورية شيوعًا؛ ويصاب بعض المرضى بنزيف في داخل المخ، أو الرئتين،
أو حتى
الجهاز الهضمي، كما يموت بعضهم الآخر بفعل التدرن أو ساركومة منتشرة؛ فتصاب الأعضاء
بالفشل،
وتنزف الأنسجة، وتنتشر العدوى في كل مكان. ويوجد سوء التغذية في جميع الحالات بلا
استثناء.
ومهما بلغ حجم الإجراءات التي تتخذ لمحاربتها، فلا يمكن منع حدوث المَخمَصة
(Starvation). ويحتل وحدةَ الرعاية المخصصة لمرضى
الإيدز الانتهائيين، رجال ونساء ناحلون كالأشباح تبدو عيونهم الضامرة ذابلة في محاجرها
الكهفية، وكثيرًا ما تخلو وجوههم من التعبير، كما تضمر أجسادهم بفعل الوهن الذاوي
للعمر
المتقدم قبل الأوان. ويكون أغلبهم قد تخطى مرحلة الشجاعة. فقد سلبهم الفيروس شبابهم،
كما
يوشك أن يسلبهم البقية المتبقية في حياة كلٍّ منهم.
ويفرق علماء تشريح ما بعد الوفاة بين علامتين منفصلتين كسبب للوفاة: وهم يشيرون للسبب
التقريبي للوفاة (Proximate Cause Of
Death) وللسبب المباشر للوفاة
(Immediate Cause Of
Death)، اللذَين يطلق عليهما رسميًّا الاختصاران
PCOD وICOD على
الترتيب. وبالنسبة لجميع أولئك الشباب، سيكون السبب التقريبي للوفاة هو الإيدز، ويبدو
أن
السبب المباشر المحدد للوفاة غير ذي أهمية كبيرة، وتتساوى كَمية العذاب بالنسبة للجميع،
على
الرغم من تفاوت النوعية. ناقشتُ هذه الأمور غير بعيد مع الدكتور بيتر سيلوين، وهو
واحد من
كثير من أساتذة كلية طب جامعة ييل، والذين أحيا إخلاصهم المتفاني في رعاية مرضى الإيدز،
جهود كثير من الأطباء المقيمين والطلاب في كليتنا. وبرغم مساهماته الكبرى في فهمنا
الحالي
للإصابة بفيروس العوز المناعي البشري، فهو رجل متحفظ يعبر عن مفاهيم كبيرة بكلمات
قليلة.
وقد قال ببساطة: «يموت مرضاي، باعتقادي، عندما يحين أجلهم.» بدا ذلك تصريحًا غير مناسب،
يطفو هناك بصحبة التعقيدات الطبية الأحيائية التي لا تزال عالقة في الهواء من بقايا
مناقشاتنا الطويلة عن البيولوجيا الجزيئية والمعالجة السريرية، ومع ذلك كان مفهومًا.
وقال
في النهاية تفشل أشياء كثيرة، حتى يأتي الوقت الذي يبدو فيه أن القوى المنهكة للحياة
التي
تلفظ أنفاسها الأخيرة بسبيلها للاستسلام النهائي. ويأتي الموت مع الإنتان وفشل أعضاء
الجسم
والمَخمَصة (Starvation)، ومع الرحيل النهائي للرُّوح، كل
ذلك في الوقت نفسه. رأى سيلوين ذلك في مرات عديدة، وهو يفهم مغزى ذلك جيدًا.
أبعُد عن المستشفى بمائة ميل. وتلك واحدة من الأمسيات غير المتوقعة من منتصف الخريف،
حيث
أصبح كل شيء تحت السماء الزرقاء الصافية حيث يجب أن يكون تمامًا، لكن معظمها لم يكن
كذلك
على الإطلاق. كان الصيف المنصرم لتوِّه ماطرًا، وربما لذلك السبب، اكتسبت التلال المحيطة
بالمزرعة المملوكة لصديقي تلك التأثيرات اللونية التي تَخلِب الألباب، والتي تفوق
قدرة
رُوحي التي تربت في المدينة على الفهم أو الاستيعاب تقريبًا. كانت الطبيعة طيبة بدون
علمها
بذلك، كما يمكن لها أن تكون قاسية بدون أن تدري. وفي مثل هذه الحالات، يبدو الأمر
وكأنما لن
يكون هناك أي يوم متمتع بتلك الروعة المستحيلة التي يحظى بها ذلك الوقت. وبالفعل،
كنت أشعر
بالحنين ليومنا هذا — بالرغم من أنني أعيشه. تملَّكتني رغبة ملحة لتذكُّر صورة كل
شجرة
لأنني أعرف أن ازدهارها المتفجر سيبدأ سريعًا في الزوال، ربما في الغد، ولن يبدو كما
هو
عليه الآن تمامًا بعد ذلك على الإطلاق. وعندما يكون هناك شيء جميل وجيد، تجب رؤيته
بوضوح،
والتمسك به بشدة، بحيث لا يمكن لأي إنسان أن ينسى كيف يبدو، ولا كيفية الإحساس به.
أجلس الآن في المطبخ المشمس لبيت جون سيدمان الريفي، والذي بُني منذ قرن مضى وسط عشرين
فدانًا من الأراضي الخصبة، قرب مدينة «لومونتفيل» في أعالي ولاية نيويورك. وفي إحدى
غرف
النوم الواقعة في الطابق العلوي، تُوفِّي منذ عشر سنوات أعز أصدقاء جون، واسمه ديفيد
راوندز، بين ذراعيه، بعد مرض طويل عضال. كان جون وديفيد أكثر من مجرد صديقين حميمين؛
كانا
يتشاركان حبًّا جُعل ليبقى. لكن السرطان قرر عكس ذلك. اختطف ديفيد من بين يدي جون،
ومنا نحن
الذين أحببناه أيضًا بطرقنا المتنوعة، في ذلك الوقت الذي بدا فيه المستقبل آمنًا وأكيدًا
بالنسبة لكل منهما. حصل ديفيد على جائزة «توني» لأفضل ممثل مساعد في مسارح برودواي
قبل ذلك
بسنتين فقط، وكانت وظيفته المسرحية تبشر بخير متزايد. وفي ذلك البيت الريفي، مرَّ
الحزن قبل
أن تكتسب الحياة إيقاعها المفروض بزمان طويل.
عرَفت، مع زوجتي سارة، جون سيدمان لمدة تقارب العشرين عامًا، وقد تشاركنا معه، ومع
ديفيد،
منزلًا قبل ذلك بفترة طويلة. وقد كان صديقًا مقربًا لأسرتي لدرجة أن أطفالي الصغار
كانوا
ينادونه «بعمي». ومع ذلك كان هناك جزء كبير من حياته لم أتناقش فيه معه على الإطلاق،
كما لم
أكن أعرف عنه شيئًا تقريبًا. وفي ذلك اليوم الرائع، قبل أن تزول تلك العظمة السريعة
الزوال
للخريف، كنا نجلس معًا وكنا نتحدث عن الموت، وعن الإيدز.
أصبح الموت مألوفًا بدرجة كبيرة بالنسبة لجون. وكأنما كان موت ديفيد مقدمة لمجموعة
متتالية من الأحزان، حيث أصيب أصدقاؤه، وزملاؤه في المسرح، وحتى معارفه السطحيون،
بالمرض،
والذبول، ثم الموت. وخلال العَقد الماضي، أعاد جون مرارًا وتكرارًا تلك الدائرة من
اكتشاف
الإيجابية المَصْلية، وتطور المرض، والرعاية الحذرة، والانحدار إلى المرض الانتهائي
ثم
الموت، مع كل واحد منهم. وبالرغم من أنه في أوائل الأربعينيات من عمره، فإنه واحد
من شهود
المأساة. كان هناك كثيرون غيره، وقد مات منهم أكثر من مجرد قليل. أخذ الشبان، والشابات
القلائل، الذين صاحب الواحد منهم الآخر إلى القبر، من أكثر سنوات حياتهم إثمارًا.
ضاع ما
كان من الممكن أن يحدث وما كان يجب أن يحدث؛ فحيوية، ومواهب، وبدون شكٍّ ذكاءُ جيل
كامل
بسبيله للاضمحلال، وكذلك مجتمعنا.
وقد تحدثنا عن صديق جون، «كنت جريسولد»، والذي تُوفِّي عام ١٩٩٠م بفعل داء المقوَّسات
وثلاثية من الاختصارات المألوفة: CMV «الفيروس المضخم
للخلايا»، وMAI «المتفطرات الطيرية»، ونوبات متعددة من
PCP «الالتهاب الرئوي بالمتكيسات». أردت أن أعرف: إن
كان هناك أي قدر من الكرامة في مثل تلك الوفاة؟ وهل من الممكن استخلاص شيء مما كان
في
السابق، من أجل جلب الإحساس بنفسه لرجل قريب من ساعته الأخيرة، بعد تعرُّضه لمثل هذه
المعاناة؟ فكر جون طويلًا قبل أن يجيب، ليس لأنه لم يتفكر بذلك السؤال من قبل، بل
لأنه أراد
أن يتأكد من أنني سأتفهم. قال إن البحث عن الكرامة الخادعة، قد يصبح غير ذي مغزى بالنسبة
للشخص المحتضَر؛ فقد أتم صراعه بالفعل، وكثيرًا ما يحدث قرب النهاية، ألا يصبح المحيطون
به
قادرين على التعرف على أية أفكار واعية محددة. وقال جون إن الكرامة شيء يختلسه الناجون،
وليس يوجد إلا في مخيلاتهم، إذا كان موجودًا في الأساس:
«يبحث من يبقَون على قيد الحياة منا عن الكرامة، حتى لا ننظر لأنفسنا بصورة
مريضة. فنحن نحاول تعويض عدم قدرة صديقنا المحتضَر على الحصول على قدر من الكرامة،
ربما بفرضها عليه فرضًا. وهذا هو نصرنا الوحيد المحتمل على العملية الرهيبة لمثل
هذا النوع من الموت. فمع مرض مثل الإيدز، نحتاج للتعامل مع الحزن الذي تحمله رؤية
صديقنا المحبوب وهو يفقد خصوصيته وتفرده. وقرب النهاية، يصبح مجرد آخر شخص رأيته
يمر بتلك المأساة. وهنا تشعر بالحزن من رؤية شخص يفقد فرديته ويتحول إلى مجرد نموذج
طبي سريري.
ما هو قدر «الموت الجيد» (Good Death) الذي يحصل
عليه الشخص المحتضَر، وما هو القدر الذي يحصل عليه الشخص الذي يساعده؟ ويرتبط كلٌّ
منهما بالآخر بصورة واضحة، لكن السؤال هو: كيف؟ وبالنسبة لي، مفهوم الموت الجيد
على
وجه العموم ليس شيئًا يمكن للشخص المحتضَر أن يتحكم فيه تمامًا. وما ذلك «الموت
الجيد» سوى شيء نسبي، ويتمثل ما يعنيه حقيقة في تقليل الاضطراب الذي نعانيه. فليس
هناك من كثير يمكنك التحكم به فيما عدا محاولة المحافظة على الأمور منظمة بدقة،
والمحافظة على جعل الأمور غير مؤلمة؛ بمنع المرء من الإحساس بأنه وحيد. ولكن عندما
يتعلق الأمر بتلك اللحظات الأخيرة، أعتقد بأننا نخمِّن حتى أهمية ألا يبقى المحتضَر
وحيدًا.
وبنظرة استرجاعية للماضي، ويبدو ذلك وحشيًّا بصورة ما، تدل تجرِبتي على أن
الوسيلة الوحيدة التي يمكن لنا بها أن نعرف ما إذا كنا قد ساعدنا شخصًا ما على وفاة
أفضل، هي معرفة ما إن كنا نشعر بالندم من عدمه، أو ما إن كان هناك أي شيء يُشعرنا
بالأسف أو أي شيء لم يتم فعله له كما يجب. فإذا استطعنا بصدق أن نقول بأننا لم
نُضيِّع أية فرصة لفعل ما بوسعنا، فقد أنجزنا أفضل مهمة ممكنة. ولكن حتى ذلك،
كإنجاز مطلق، لا يحمل قيمة مطلقة إلا للفرد نفسه. فما يتبقى لك عند نهاية موقف لا
يترك أي شخص سعيدًا، هو حقيقة أنك قد فقدت شخصًا عزيزًا. وليس هناك سبيل لأي شعور
طيب نحو ذلك الموقف.
أما الرابطة الوحيدة التي نحتاج للإيمان بأنها لا تنكسر مطلقًا بالموت فهي الحب.
فإذا كان الحب هو ما نشعر بأننا نقدمه في تلك اللحظات الغامضة المؤدية للموت، فذلك،
حسب اعتقادي، هو ما يجعل الموت «جيدًا»، إذا كان هناك أي شيء يمكنه جعله كذلك.
لكنها خاصية شخصية (subjective) بصورة
كبيرة.»
وأثناء أسابيعه الأخيرة في المستشفى، لم يبق «كنت» وحيدًا على الإطلاق. ومهما كانت
المساعدة التي كان بوسعهم تقديمها له، أو تلك التي عجزوا عن تقديمها، في ساعاته الأخيرة،
فليس هناك شك في أن الوجود المستمر لأصدقائه جعله يشعر بارتياح لم يكن ليحس به مع
طاقم
التمريض، مهما كانت درجة تفانيهم في رعايته. ومن المستحيل مراقبة مرضى الإيدز من اللوطيين
بدون أن تذهلك الطريقة التي تتجمع بها، بصورة متوقعة، دائرة الأصدقاء — الذين لا يُشترط
أن
يكونوا جميعًا من الشواذ — كأسرة للمريض، وتباشر تلك المسئوليات التي يمكن أن تضطلع
بها
الزوجة أو الوالدان في الأحوال الأخرى. أطلق على هذه الظاهرة من الالتزام المشترك،
الدكتور
ألفين نوفيك (Novick)، وهو أحد أوائل ناشطي الإيدز في
أمريكا وواحد من أكثرهم احترامًا، اسم «محيط الرعاية» (The Caregiving
Surround). وذلك فعل جماعي للحب، لكنه أكثر من ذلك أيضًا، ويصفه جون
قائلًا:
«يصيب الإيدز أشخاصًا، خصوصًا في حالة الرجال اللوطيين، صنعوا عائلاتهم بالاختيار
الواعي للقرابة، فقد اخترنا أولئك الأشخاص الذين سيصبحون عائلاتنا. ولا يعتمد
إحساسنا بالمسئولية تجاه بعضنا البعض على الأنماط المجتمعية المعتادة. ففي كثير
من
الحالات، تلفظنا العائلات التقليدية. لذلك فالأسرة التجانسية
(affinitive) هي أكبر أهمية بكثير. ويحس قسم
كبير من المجتمع الكبير حقيقة بأن ما يحدث لنا يجب أن يحدث لنا بالفعل كنوع من
البلاء النازل بنا عقابًا على خطايانا وطرقنا الشاذة. ولذلك فمن مصلحتنا المشتركة
ألا نترك أحدنا وحيدًا في مواجهة مثل هذا الحكم من المجتمع. وقد يجد من يشعر منا
بنوع من كراهية الذات أنه من السهل تمامًا رؤية الإيدز كصورة من صور العقاب، ولكن
حتى أولئك — منا — الذين لا يشعرون بذلك، يدركون أن أغلب المجتمع يرى الأمر كذلك.
ويُعتبر إهمال أصدقائنا الذين كُتب عليهم مواجهة المرض بأنفسهم، بصورة ما، ضربًا
من
تركهم يواجهون حكم العالم السوي عليهم.»
ويخبرني جون بأن الأسابيع القليلة الأخيرة في حياة «كنت»، كانت مثل تلك التي عاشها
كثيرون
غيره من مرضى الإيدز، وكثيرون من المصابين بأيٍّ من تلك الأمراض التي تلتهم ببطء قوة
الحياة
المتدفقة. وبعد تلك الشهور التي أُجبر فيها على محاربة مشكلة غير متوقعة تلو الأخرى،
بدا
أنه يعاني من تعطُّل أي فهم لأن فقدًا هائلًا للسيطرة يصاحب كلًّا من المضاعفات الجديدة
للمرض. وعندما توقف عن محاولة الفهم، توقف أيضًا عن محاربة الهجمات المتوالية للمرض،
وكأنما
بدا أن المقاومة الآن ليست من الأهمية بمكان؛ فلم يعد لها أي مغزى. أو ربما كان الجهد
المطلوب لإدراك أهمية الأحداث قد استنزف ببساطة من طاقاته المحدودة.
وتفقد تفصيلات المذبحة الأخيرة إلحاحها. وهناك من يعتبرون تلك اللامبالاة المُرهَقة
قبولًا، لكن تلك الكلمة ذاتها تنطوي على الترحيب. وربما كانت أقرب لكونها تسليمًا
بالهزيمة،
وهو الاعتراف اللاإرادي بأن الوقت قد حان للتوقف عن القتال. ويبدو أغلب المحتضَرين،
ليس فقط
بفعل الإيدز، بل بفعل أي مرض طويل، غير مدركين لأنهم قد بلغوا هذه المرحلة. وبالنسبة
لقلة
منهم، تظل القدرات الذهنية متماسكة لدرجة أنهم يظلون قادرين على التقرير الواعي، لكن
القرار
كثيرًا ما يُتخذ بدلًا منهم عندما يدلِفون إلى درجة من النقص الحسي، أو حتى الغيبوبة.
وتلك
هي مرحلة الاحتضار التي نادرًا ما رآها أي من وليام أوسلر أو لويس توماس معبرة عن
أي شيء
سوى السكينة. وبالنسبة لمعظمنا، سيتراءى لنا متأخرًا للغاية تقديم العزاء لأولئك الذين
يشهدون موت عزيزهم.
وعندما كان «كنت» أقل اعتلالًا، كان أحيانًا يتحدث عن اهتمامه بقدر الألم الجسدي الذي
سيتمكن من احتماله، وكيف ستكون أسابيعه الأخيرة مرهقة. وقد عبَّر عن أمنيته في العثور
على
تلك اللحظة الحاسمة التي سيقرر فيها على علمٍ ما إن كان سيواصل الصراع. ولا يستطيع
أحد ممن
كانوا حوله أن يخبرنا على وجه اليقين عما إذا كانت تلك الأمنية قد تحققت بالفعل.
تمكَّن أحد الأصدقاء من ذوي النفوذ، بصورة ما، من الحصول على غرفة مريحة لكنت في
المستشفى، وفي تلك المساحة الواسعة كان يبدو في كل يوم أصغر حجمًا مما كان بالأمس.
بدا
وكأنه من الصعب العثور عليه. وحسب قول جون: «كان ينكمش تحت الأغطية أكثر فأكثر.» وحتى
عندما
كان في أقوى حالاته، كان «كنت» بحاجة للمساعدة للوصول إلى الحمام، لكنه كان قعيد الفراش
تمامًا طيلة الجزء المتبقي من اليوم. ولما لم يكن رجلًا ضخم الجثة في أيٍّ من مراحل
حياته،
بدا الآن وكأنه يتلاشى. وعندما يصف جون اضمحلال كنت، أفكر مجددًا بمراقبة توماس براون
لصديقه المحتضَر وهو يمر بنفس تلك العملية قبل ٣٥٠ عامًا: «لقد وصل إلى نصف حجمه تقريبًا،
كما ترك وراءه جزءًا كبيرًا منه لم يأخذه معه إلى القبر.»
وبسبب إصابة «كنت» بداء المقوَّسات، ظل يفقد تعرُّفه على الأشياء حتى وصل إلى مرحلة
لم
يعد فيها قادرًا على استيعاب ما كان يجري من حوله. وتسبب التهاب الشبكية الناتج عن
الفيروس
المضخم للخلايا في إصابة إحدى العينين بالعمى في البداية، ثم تلتها الثانية سريعًا.
وكان قد
بلغ وقتها من الهزال درجة كان من المستحيل معها قراءة وجهه أو سبر مشاعره: هل كان
مبتسمًا،
أم أن ذلك لا يعدو كونه تكشيرة (grimace) تسببت في ليِّ
أطراف فمه الصامت؟ وعبَّر جون عن ذلك الموقف جيدًا، فقال: «تُفقد جميع صور الاتصال
عندما
يبلغ المرء حدًّا من الاضمحلال مثل هذا.» كان جسد الرجل المحتضَر قد اكتسب بكامله
لونًا
قاتمًا، وخصوصًا وجهه.
وفي مرحلة مبكرة من مرضه، أعلن كنت بوضوح أنه لن تُستخدم وسائل عنيفة لعلاجه بمجرد
أن
يثبت أنها ستكون بلا طائل. واسترشادًا بذلك، قام «محيط الرعاية» الخاص به باستشارة
الأطباء،
وحاولوا معًا اتخاذ القرارات الصائبة في مواجهة كل الضرورات المتتالية التي كانت تتراءى
لهم. وفي نهاية الأمر، لم تعد هناك أية قرارات لاتخاذها. بات واضحًا تمامًا أنه لم
يبق هناك
شيء آخر يمكن عمله. كان الأمر كما وصفه بيتر سيلوين تمامًا، فقد حان أجل «كنت».
أصبح إحساس كنت بأي نوع من الضيق متناقصًا باطِّراد. ولم يعد يهم أن يتلقى رعاية طبية
من
أي نوع كانت. «أصبحت مهمتنا تنحصر في الإحاطة به باستمرار، لمجرد أن نُبقيه على اتصال،
على
الأقل بالقدر الذي يمكنه من الإحساس بأي نوع من الاتصال. وأهم شيء هنا هو أننا لم
نكن نرغب
في أن نتركه وحيدًا.» وفي نهاية الأمر، مات «كنت» ببساطة. وهنا يأتي جون للجزء الأخير
من
القصة:
«لم أكن متواجدًا في نيويورك عند وفاته، كنت هنا في المزرعة لقضاء بضعة أيام.
نزلت من الحافلة عند قيادة الميناء واتصلت بآلة تسجيل المكالمات في هاتفي. كانت
هناك رسالة مفادها أن «كنت» قد مات، وقد أصابني ذلك بالصدمة. وعندما رأيته لآخر
مرة، لم يكن من الواضح كونه على قيد الحياة، وبالتأكيد لم يكن واضحًا أنه «كنت»
الذي عرَفته. وبالرغم من أنه كان متوقَّعًا أن يموت في أية لحظة، كانت فكرة أنه
قد
ذهب بالفعل صادمة؛ وأظن أن الصدمة تتعلق بحقيقة أنه كان عليَّ، بعد الوقت الطويل
الذي قضيته معه، أن أعرف الخبر بتلك الطريقة القذرة وأنا أقف هناك وحيدًا في أحد
أكشاك الهاتف الكئيبة، وأنا أسمع الخبر من خلال جهاز تسجيل المكالمات في
هاتفي.»
مات «كنت» بين رفاق ساعدوا في إعاشته خلال السنتين الأخيرتين في حياته. ولم يكن واحدًا
من
اللوطيين ومدمني المخدرات الكثيرين الذين قاطعتهم أسرهم. كان الابن الوحيد لأبوين
طاعنين في
السن ماتا قبل ذلك بسنوات عديدة. وبدون تفاني أصدقائه، كان من الممكن أن تُنسى وفاته،
بل
وحياته ذاتها، سريعًا.
يجب ألا يتم تأويل أي شيء كتبته هنا على أنه يعني ضمنيًّا أن الأسر التقليدية نادرًا
فقط
ما تُعنى برعاية أبنائها وبناتها (أو الأزواج والزوجات) الذين يموتون بفعل الإصابة
بالإيدز.
فالعكس تمامًا هو الصحيح. ويصف جيرالد فريدلاند عودة واتحاد الآباء، وخصوصًا الأمهات،
مع
أبنائهم الذين رفضوا أسلوب حياتهم وأصدقائهم قبل سنوات. وهذا الأمر صحيح، ليس فقط
بخصوص
أُسَر الرجال اللوطيين وحدهم، بل وفيما يتعلق بأسر مدمني المخدرات أيضًا. وبطبيعة
الحال،
فلم ينسلخ جميع اللوطيين ومدمني المخدرات عن جذورهم أساسًا، ولذلك فليس من المستغرَب
أن تجد
الشهور الأخيرة من حياة شاب أو شابة مصابة بالإيدز محاطة بالرعاية المتفانية للأبناء
أو
الآباء، وأحيانًا مع مجموعة صغيرة من أصدقاء أبنائهم أو أحبائهم. وعادةً ما يكون من
الأسهل
كثيرًا بالنسبة لوالد من الطبقة المتوسطة أن يترك وظيفته أو منزله البعيد، عما هو
الحال
بالنسبة لأفراد أسرة قدِمت من أحد الأحياء الفقيرة في قلب المدينة، حيث يمثل حتى التغيب
عن
العمل ليوم واحد فقدًا، ليس فقط للدخل، بل وربما لتلك الوظيفة ذات الدخل المنخفض ذاتها.
سمعت بأمهات لديهن حتى أربعة أبناء يموتون بالإيدز في الوقت نفسه، فقد بلغت قسوة الفيروس
حدًّا يفوق أي واقع يمكن تخيله.
ويمكنك أن تشاهد بجانب فُرُش الموت للشباب المحتضَرين، أمهات وزوجات، وأزواجًا وأحبابًا،
وأخوات وإخوة، وأصدقاء، يفعلون ما بوسعهم لدرء هجمات ذلك الموت القذر. وكما كان يحدث
في
العصور السابقة عندما يصاب طفل بمرض مميت، تُسمع الأصوات المغمغمة للآباء والأمهات،
والتي
تكون في بعض الأحيان مسموعة بالكاد وسط ذلك السكون الذي يسبق انتهاء حياة ما. وتلك
هي
الكلمات المشجعة الرقيقة وهي الصلوات. ففي اللغة الإنجليزية أو الإسبانية، وفي أية
لغة أخرى
في جميع أنحاء العالم، تتكرر مرات عديدة صورة أو أخرى من تلك الكلمات التي نطق بها
الملك
داود المذكور في التوراة، وهو ينتحب على جثة ابنه المذبوح، أبشالوم
(Absalom) المتمرد، الذي تغرَّب عنه لسنوات
طويلة:
أي بنيَّ، أبشالوم،
ولدي، ولدي أبشالوم!
ليتني مت بدلًا منك،
أي أبشالوم، ولدي، ولدي.
ويتحدث جيرالد فريدلاند عن انعكاس دورة الحياة المتوقعة، حيث يدفن الآباء
أبناءهم. فقد تكرر انحراف (Aberration) كان يحدث في القرون
السابقة، في الوقت نفسه الذي افترضنا فيه، بفخر، أن علومنا قد قهرته. ولم يلتف الفيروس
ليعود إلى المقدمة فحسب، فكذلك حدث لأنماط المنطق الطبيعي الذي يجب أن يقوم الصغار
بموجبه
بدفن الكبار. ونجد هنا في النهاية درسًا مجازيًّا يمكن تعلُّمه؛ ففي تلك المعالجات
التي
تُعتبر الآن أفضل السبل التي نمتلكها لمنع انتشار فيروس العوز المناعي البشري؛ سواء
بعقَّار
الزيدوفودين أو بغيره، نحاول أن نثبط إنزيم الترانسكربتاز العكسي (Reverse transcriptase)، وبهذا نوقف
أيضًا ذلك الانعكاس الذي يقلب دورة الحياة رأسًا على عقِب. وتنجح خطتنا، لكن ليس بالجودة
التي نتمناها، فيستمر الموت في حصد شبابنا، وأحيانًا أطفالنا، في الحين الذي لا يمكن
فيه
للكبار سوى الوقوف بجانبهم والحداد.
لن يتمكن أحد على الإطلاق من التعرف على تلك الكرامة التي يمكن انتزاعها من مثل هذا
الموت، باستثناء أولئك الذين احتضنت حياتهم تلك الحياة التي فُقدت للتو. وينظر الشبان
الذين
يقدمون الرعاية الطبية في المستشفيات لأولئك الشبان الذين يموتون — ولست أعني هنا
الأطباء
والممرضات وحدهم، بل كل واحد من أفراد تلك الفرق المتفانية — ويتعجبون من وجود مثل
هذا
الإنكار للذات في عالم كانوا يظنون أنه منكر للخير
(Cynical). وباعتبار أن جهودهم اليومية تكذِّب ذلك الإنكار
للخير فهم، أيضًا، يُعتبرون أبطالًا بصورة ما. وتُعَد بطولتهم معاصرة وخاصة بذلك الطريق
الذي اختاروه لأنفسهم كمهنيين صحيين، يقهرون مخاوفهم الشخصية، كما يتغلبون على مشاعر
الإحساس بالضعف (Vulnerability) من أجل أولئك المصابين
بالإيدز. وهم لا يتخذون أية أحكام أخلاقية؛ فهم لا يفرقون بين الطبقات الاجتماعية،
أو بطرق
الإصابة بالمرض، أو بالانخراط ضمن تلك الفئات المسماة بالمجموعات المعرَّضة للخطر
(Risk groups). وقد عبَّر عن ذلك جيدًا كامي
(Camus) بقوله: «ما يصدُق على جميع شرور العالم، يصدُق
على الطاعون بالمثل. فهو يساعد الناس على التفوق على ذواتهم.»
ومن بين القصص التي لا تزال تصلنا عن أطباء لا يرغبون في المعالجة هنا، وآخرون يخشون
الإيدز هناك (بالإضافة إلى تلك النسبة التي تتخطى خُمس الأطباء المقيمين الذين شملهم
الاستقصاء في الولايات المتحدة، والذين قالوا بأنهم سيعالجون أولئك المصابين بفيروس
العوز
المناعي البشري، بينما سيرفضون لو أتيح لهم الخيار)، نجد أنه من المشجع معرفة أن المصابين
بالإيدز يقوم على رعايتهم أشخاص مثل هؤلاء. وبالنسبة لأبنائنا الذين يقومون على رعاية
أبنائنا المصابين بفيروس العوز المناعي البشري، تزداد جسامة العبء المُلقى على عواتقهم
بالأسى الذي يجلبه كونهم قيِّمين على وفاة رجال ونساء في مثل أعمارهم، أو ربما أكبر
بعَقد
واحد. وفي تلك العدالة يوجد مصدر أكثر تلك المعاتبات غضبًا، والتي نصبها على الطبيعة
القاسية، التي أنتجت فيروس العوز المناعي البشري؛ لأنها تسلبنا أجزاء هائلة من ذلك
النسيج
الذي سيمكننا صناعة مستقبلنا منه. ومن اللائق، عندما نتحدث عن تلك الفيالق الشابة
التي
نفقدها خلال حربنا مع الإيدز، أن نردد تلك الكلمات التي نطق بها قبل سبعين عامًا جرَّاح
الأعصاب «هارفي كوشنج» (Cushing)، في معرِض حزنه على رفاقه
الذين استشهدوا خلال الحرب العالمية الأولى، والذين تفجَّع كوشنج عليهم بقوله: إنهم
«ماتوا
موتًا مزدوجًا في أنهم ماتوا في تلك السن الصغيرة.»