ملحق
١
كان ذلك في صباح السادس من أغسطس ١٩٤٥م، انقضَت ليلةٌ طويلة مرعبة قُمتُ خلالها بالتردد مرارًا على ملجأ الوقاية من الغارات الجوية مدفوعة بصفارات الإنذار التي بدَت أصواتها منذرة بالسوء، والتي جعلَتني أشعر كأن قلبي تهزُّه أيدي الشيطان.
كان اليوم شديد الحرارة منذ الصباح، وكنت أقيم بحي داي ياشو وكان عليَّ أن أتوجه في ذلك اليوم إلى «جمعية الجيرة» لأقوم بنوبتي في التبرع بالعمل في حفر خنادق الوقاية من الغارات الجوية. لم يكن زوجي الذي يعمل موظفًا بجريدة تشوجوك قد عاد إلى البيت منذ هرع في الليلة السابقة إلى مقر الجريدة حين سمع صفارات الإنذار. فقدتُ شهيتي للطعام غير أني أرغمتُ نفسي على تناوُل إفطارٍ سريع، وانطلقتُ بعد أن أعددتُ وجبة لزوجي الذي قد يعود أثناء غيابي تركتُها على المنضدة.
عقدَت مجموعتُنا اجتماعها في السابعة والنصف صباحًا، كانت غالبيتها من النساء بما في ذلك سيدات تجاوزن سن الستين. كان التحذير من الغارات الجوية مستمرًّا منذ الصباح، غير أنه كان أمرًا يوميًّا تعودْنا عليه فلم أكن أشعر بخوفٍ معين وأنا أمضي في الطريق مع جارتي السيدة ياماجوتشي، سمعْنا صفارات الإنذار بوضوحٍ طوال الطريق، وكانت مهمتنا أن نزيح أنقاض المباني التي تهدمَت بمطقة تسورومي تشو لنقيم محلها خنادق الوقاية من الغارات.
بدأ العمل في الثامنة واصطففنا لعبور جسر تسورومي، لن أنسى ما حييتُ مجرى الماء الذي كنت أرقبه تحت الجسر مقارنة بالمجتمع البشرى الذي كان يلهث في الصراع الدموي للموت والحياة، ما أجمله من منظرٍ طبيعي هادئ! إنني أتذكر بوضوحٍ مجرى الماء الصافي الذي يجري في سلام ودعة منذ الأزل.
وبعد أن خطوتُ نحو ثلاثين مترًا فوق الجسر سمعتُ فجأةً وبوضوحٍ صوت محرك طائرة. وكان من الغريب حقًّا بعد أن سمعْنا إشارةً واضحة أن نجد طائرةً معادية فوق رءوسنا، ولكنها ظاهرة كانت تحدث مرارًا حتى اعتدناها واستطعتُ بصعوبةٍ أن أقدِّر مدى ارتفاع الطائرة، كانت أجنحتها الفضية تتألق بوضوحٍ تحت ضوء الشمس. وبدَت الطائرة صغيرة الحجم بالقدر الذي يجعلني أستطيع حملها بين يدي.
همسَت إليَّ السيدة ياماجوتشي قائلة: «يا له من منظرٍ جميل إنها تبدو مثل الصورة!» فأجابتني قائلة: «لعلَّكِ أصبحتِ شاعرة، كيف تواردَت هذه الفكرة إلى ذهنك في مثل هذا الوقت؟» غير أنه كان منظرًا جميلًا حقًّا. كانت الطائرة الجميلة تبدو كقطعة زينةٍ فضية تتألق في كبد السماء الزرقاء الصافية تطير ببطء من الشرق إلى الغرب بأزيزٍ خافت، فأخذتُ أنظر إلى السماء بعض الوقت مأخوذة بالمنظر.
وصاحت إحدى السيدات: «تلك مظلة … مظلة تهبط!» فاتجهتُ ببصري نحو الجهة التي أشارت إليها، وفي تلك اللحظة بالذات أضاءت السماء، لا أستطيع وصف ذلك الضوء، شعرتُ كأن نارًا أُوقدَت في عيني … كان اللون أرجوانيًّا ذا وميض يفوق الوميض الذي يصدر عن عربة الترام في الليل الدامس ببلايين المرات.
ولا أتذكَّر أيهما كان الأسبق: الضوء، أم صوت الانفجار الذي زلزل هديره رحمي. على كلٍّ فقد سقطتُّ بعد برهةٍ طريحة الأرض، وبدأَت الأشياء من حولي تتساقط على الفور حول رأسي وكواهلي. ولم أعد أرى شيئًا فقد صارت الدنيا حالكة الظلام، فظننتُ أن لحظة المصير النهائي قد حانت.
ثم فجأةً رأيتُ في المنام بوضوحٍ أطفالي الثلاثة الذين كانوا قد هُجِّروا إلى الريف، وحاولتُ النهوض بغتةً، موقنة بدافعٍ غريزي أنه ليس من الحكمة أن أظل راقدة هناك، غير أنني لم أستطع التحرك بسبب الأنقاض الخشبية وقرميد السقوف التي لم تتوقَّف عن السقوط على جسدي. وقلتُ لنفسي: «لا يمكن أن أموت هنا، ليس ثمة من يرعى أولادي إذا متُّ، فربما يكون زوجي قد مات … لا بد أن أحاول النجاة بقدر المستطاع.» وبعدما تخلصتُ من حالة الارتباك التي ألمَّت بي استطعتُ أن أزحف من تحت الأنقاض.
وما لبثتُ أن أدركتُ أن رائحة الهواء أصبحَت كريهة، فتناولتُ منديلي من الحزام لأحك أنفي وفمي بقوةٍ ظنًّا مني أن ما أُلقي علينا قد يكون قنابل الفسفور الأصفر الحارقة، ولكني صُدِمتُ حين وجدتُ جلد وجهي قد تساقط على المنديل، آه … لقد حدث نفس الشيء ليدي وأرجلي أيضًا، وتدلَّى جلد يدي اليمنى من المرفق إلى أطراف الأصابع ببشاعة، وكذلك كان الحال بالنسبة ليدي اليسرى وأصابعها الخمسة.
وتأوهتُ قائلة: «يا للعنة … لقد حُرِقتُ!» وظننتُ أن وجهي قد أصبح مثل يدي رغم أنني لم أتمكن من رؤيته، لا بد أن أكون قد ألحقتُ الضرر بوجهي ويدي أثناء محاولتي إزاحة الأنقاض عني بعصبية، وشملَتني الحيرة، فجلستُ هناك، وما لبثتُ أن اكتشفتُ أن ليس ثمة أحد من حولي، تُرى ماذا حدث لجيراني؟ أين السيدة ياماجوتشي؟ ونهضتُ يتملكني رعبٌ دفعني إلى الأمام حيث أخذتُ أجري بعصبية ولكن إلى أين؟ أين أجد الطريق؟ لقد اكتست الأرض بأخشاب الأنقاض وقرميد السقوف، ولم أعد أتبين معالم الطريق.
ماذا حدث للسماء التي كانت زرقاء صافية منذ قليل؟ إنها الآن مظلمة وكأنما قد حل الغسق. كان كل شيء من حولي غامضًا غائمًا وكأن الضباب قد خيَّم على عيني، وظننتُ أنني قد فقدتُ حاسة البصر، وأمعنتُ النظر من حولي لأتبيَّن ما حدث فرأيتُ على الجسر ما يبدو كإنسان يعدو. أجل إنه جسر تسورومي لا بد أن أُسرع بعبوره وإلا فلن أجد سبيلًا للفرار. وجريتُ كالمجنونة نحو الجسر وأنا أقفز كالمجنونة فوق الأنقاض.
وما رأيتُه خلف الجسر صدمني فقد كان المئات من البشر يتلوَّون في مجرى النهر، ولم أستطع أن أتبين ما إذا كانوا رجالًا أم نساء؛ فقد كانوا جميعًا متشابهين: وجوههم متورمةٌ رمادية اللون، شعرهم منتصب، وكان الناس يندفعون إلى النهر رافعين أيديهم إلى أعلى يئنُّون من الألم، وأحسستُ بنفس الرغبة مدفوعة بالألم الذي استشرى في جسدي بعد تعرُّضه لإشعاعٍ حراري على درجة من القوة كانت كافية لحرق سراويلي وكنت على وشك القفز إلى النهر لولا أنني تذكرتُ أنني لا أستطيع العوم.
عُدتُ أدراجي إلى الجسر، وهناك رأيتُ تلميذاتٍ يمشين شبه نائمات يتجوَّلن هنا وهناك في حالة ذهول، فشجعتُهن على عبور الجسر قائلة: «أسرعْن أسرعْن.» وما كدْن يعبرْن النهر حتى نظرتُ ورائي فوجدتُ منطقة تاكيا تشو-هاتشوبوري قد شبَّت فيها النيران فجأة. كنت أظن أن القنبلة قد أصابت المنطقة التي كنت فيها إصابةً مباشرة.
وبينما كنت أجري ناديتُ أطفالي بأسمائهم قائلة: «لن أموت يا أعزائي سأشفى.» وفي الحقيقة إنما كنتُ أشجع نفسي بمثل هذا الكلام. وحاولتُ تكرار ذلك ولكني لم أستطع تكرار النداء، وبينما كنتُ أجري كان بصري يقع على كثير من المناظر التي تدعو إلى الإشفاق أثناء الطريق، ولا تزال هذه المناظر ماثلةً أمام عيني حتى الآن.
رأيتُ أمًّا وقد تلطَّخ وجهها بالدماء حتى كتفيها تصرخ: «ابني حبيبي.» تندفع بجنونٍ نحو بيت يحترق، بينما كان رجل يمسك بها يمنعها بالقوة من دخول البيت ولكنها ظلَّت تصيح بجنون: «دعني أذهب، دعني أذهب ابني سيموت حرقًا.» وكانت تبدو كالجن في ثورة الغضب، وكان ذلك المنظر تنفطر له القلوب. ويبدو أنني سلكتُ طريق ماتوبا أثناء فراري وهو طريقٌ يؤدي إلى شرق ساحة العرض العسكري فأذكر أنني سلكتُ طريقًا يقع فيه خط الترام.
وعندما عبرتُ جسر كوجن لم أستطع التعرف عليه فقد كان سوره المُقام من الحديد المسلَّح لا وجود له، وأصبح الجسر آيلًا للسقوط غير مأمون الاجتياز، وكانت تطفو تحته الكثير من الجثث التي تبدو كأنها جيف كلاب أو قطط عارية تمامًا من الثياب إلا من بعض الخرق البالية، وكان ثمة جثة امرأة ترقد في المياه الضحلة القريبة من الشاطئ وجهها للسماء، وقد تمزَّق ثدياها وانبثق منها الدماء. يا له من منظرٍ مريع! كيف يحدث مثل هذا الشيء الفظيع في العالم؟ إن الحكايات الخيالية المفزعة التي كانت تقصها عليَّ جدتي بدَت متواضعة بجانب ما أراه ماثلًا أمام عيني في دنيا الواقع.
ووجدتُني أجلس القرفصاء وسط ساحة العرض العسكري، ولا بد أنني قد استغرقتُ ساعتَين للخروج من منطقة تسورومي-تشو حتى بلغتُ شرق ساحة العرض العسكري، ولست أدري كم ظللتُ أحوم حول المكان، فقد بدأ الظلام الذي اكتسَت به السماء ينقشع قليلًا، ولكن الشمس كانت لا تزال محتجبةً خلف السحب الكثيفة، فأضفَت على الجو لونًا من الكآبة.
وبدأت جروحي تؤلمني، ولكن الألم كان يختلف كثيرًا عن الألم الذي ينتج من الجروح العادية، كان ألمًا فظيعًا يفوق الاحتمال، وأخذَت يداي تنضح بإفرازٍ أصفر، وتصورتُ أن وجهي لا بد أن يكون قد أصبح في حالةٍ يُرثى لها، وإلى جانبي كان هناك الكثير من تلاميذ المرحلة الإعدادية من الأولاد والبنات الذين كانوا يشكلون فِرق المتطوعين يئنُّون في حالة احتضارٍ ويصرخون بلا وعي: «أمَّاه! أمَّاه!» كانت حروقهم بالغة ودماؤهم تنزف، حتى إن المرء لا يطيق النظر إليهم، وما كدتُ أرى هذا المشهد الفظيع حتى وجدتُني أتساءل: لماذا يحدث كل هذا لهؤلاء الأطفال الأبرياء؟ ولكن لم أكن أدري إلى من أتوجَّه بهذا السؤال. لم أستطع أن أفعل شيئًا من أجلهم سوى أن أرقبهم وهم يموتون الواحد تلو الآخر يبحثون عبثًا عن أمهاتهم.
وواصلتُ السير من جديدٍ أتبع الناس المتجهين نحو سفح التل، وكان عليَّ أن أشجع جسدي وروحي على متابعة السير، فقد كنت أحس كأنهما يهويان إلى الأرض. وقدَّرتُ أن الساعة كانت الثالثة بعد الظهر؛ إذ يبدو أنني مكثتُ بساحة العرض العسكري وقتًا طويلًا في حالة ذهولٍ تامٍّ، وبقدر ما استطاعت قوة إبصاري التي أخذَت تتداعى أن تمكنني من الرؤية تبينتُ أن محطة سكك حديد هيروشيما وكذلك منطقة آتاجو-تشو تحترقان. آه كيف استطعتُ أن أقطع كل هذه المسافة الطويلة.
وأخذ وجهي يصبح جامدًا وتحسستُ خدودي بيدي بحرصٍ شديد لأتبين ما صار إليه الحال، فبدا وجهي متورمًا حتى أصبح حجمه مضاعفًا، وأصبحَت قوة إبصاري الآن تقل شيئًا فشيئًا يا للخسارة! لن أستطيع أن أرى بعد حينٍ، هل سيكون مصيري الموت بعد كل هذا العناء؟ وتابعتُ المشي بجوار سفح التل حتى بلغتُ قرية هيساكا، وطوال الطريق رأيتُ الكثير من الضحايا يُنقَلون على المحفات، ومرَّت بجانبي الكثير من العربات والشاحنات المحمَّلة بالجثث وبالجرحى المشوَّهين، وعلى جانبَي الطريق كان هناك الكثير من الناس يمشون على غير هدًى وكأنهم نيام.
وفكرتُ في البحث عن ملجأ يعصمني من الشاحنات التي تقطع الطريق بسرعةٍ بالغة قبل أن أفقد البصر تمامًا، وفي مثل هذا الملجأ أستطيع أن أنتظر مصيري المحتوم بهدوء. وكنتُ أتلفَّتُ هنا وهناك ببصري المكدود، وفجأةً وقعَت عيناي على أختي التي كانت تجلس القرفصاء بالقرب مني فصِحتُ: «النجدة يا أختاه.»
واندفعتُ نحوها فحملقَت في وجهي في بداية الأمر مندهشة ثم ما لبثَت أن عرفَتني: «آه، أنت فوتايا يا للهول!»
ونهضَت ثم احتضنتني.
– «يا أختاه، إني أكاد أن أعجز عن الرؤية، أرجو أن تأخذيني إلى أطفالي.»
فقالت وقد انفجرَت باكية: «لن أترككِ تموتين، أعدكِ بأن آخذكِ إليهم.»
وفحصَت جروحي ثم قالت: «يا لكِ من مسكينة، لقد أصبح شكلكِ يبعث على الرثاء.»
واستمرَّت في البكاء ومددتُ جسدي فوق الحشائش ولم أُحس يومًا ما بقوة حب الأسرة مثلما أحسستُ تلك الساعة، فلو لم أقابل أختي لكنتُ هالكة لا محالة. وكانت أختي تعاني من بعض الجراح البسيطة برأسها وقدميها، ولكن جراحها كانت طفيفة. وعندما كنت نائمة على الأرض بجوار أختي أحسستُ بالراحة لأنني فقدتُ القدرة على الرؤية تمامًا، كما لم يعُد باستطاعتي أن أقف على قدمَي، ويبدو أن الظلام كان قد حل، فقد شعرتُ بقشعريرة؛ إذ لم يكن يكسو جسدي سوى سراويل محترقةٍ ممزقة.
وعثرَت أختي على عربةٍ لنقْل الخضروات متروكة في مكانٍ ما، وقالت لي إنها تستطيع نقلي بهذه العربة إلى مركز الإسعاف بمدرسة «ياجاجرام مار» التي تقع على بعد أربعة كيلومترات. وأخذ الوهن يدب في جسدي ولكني تمنيتُ من أعماق قلبي أن أعيش: «إني لا أريد أن أموت هنا، لا أريد أن أموت قبل أن أرى أطفالي.» وبلغْنا مدرسة ياجا في الليل كما علمتُ بعد ذلك لأنني فقدتُ الذاكرة عندئذٍ فلم أعد أعي شيئًا. وفي مركز الإسعاف كان هناك العديد من الجرحى وجثث الموتى، ويبدو أنه كان على أختي أن تنتظر ليلتَين معي في طابورٍ طويل أمام المركز، وقالت لي أختي فيما بعد إنني كنت فاقدة الوعي، ورغم ذلك كنت أصيح طول الوقت: «خذوني إلى أطفالي بسرعة.»
ورغم اعتراض الأطباء فقد أيقنَت أختي أنه إذا كنت سأموت فيجب أن أموت بين أطفالي، وتوسلَت إلى الطبيب أن يوافق على خروجي من المركز ونقلَتني بواسطة إحدى المحفَّات بالقطار إلى أقاربنا بقرية «كامي سوجي».
في الثامن من أغسطس وبعدما فحصني طبيب القرية أكَّد أن حالتي ميئوس منها، أمَّا أطفالي الذين كانوا قد تم إجلاؤهم عن المدينة وظلوا عند أقاربنا في مكانٍ يبعد ثماني كيلومترات فقد حضروا إليَّ في تلك الليلة، وعندما سمعتُهم ينادوني «أمَّاه!» شعرتُ أن روحي قد عادت من الجحيم السحيق.
– «إنني بخير يا أعزائي، جروحي طفيفة.»
كنت فقط أشم رائحة أطفالي الأعزاء الذين كانوا يحيطون بي باكين، ومنذ تلك الليلة لم تتركني ابنتي الكبرى التي كان عمرها عندئذٍ أربعة عشر عامًا، وظلَّت قابعةً بجواري، وكنت نائمةً بصفةٍ مستديمة وقد أُحيط وجهي ويداي بالضمادات.
وفي ١١ أغسطس بعد نقلي إلى هناك بثلاثة أيام حضر زوجي وتعلَّق به الأولاد وهم يُطلقون صيحات الابتهاج، وكانت حالتي عندئذٍ بالغة السوء، وشعرتُ نحوه بالعرفان «آه شكرًا للسماء، إن لهم الآن على الأقل أبًا إذا ما قُدِّر لي أن أموت!»
ولم تعمر سعادتنا طويلًا على أية حال؛ فإن زوجي الذي كان لا يكاد يبدو مصابًا أمضى الأيام الثلاثة التالية يتقيأ دمًا، ورحل عنا تاركًا زوجًا على شفا الموت وثلاثة من الأطفال الأحبَّاء. لقد انقضَت ستة عشر عامًا على زواجنا، ولكنني لم أستطع حتى أن أُرتِّب وسادته عند الموت، إنني أحس بالأسى عندما أشعر أنني لم أستطع ذلك. لقد أحب عمله وكان يبدو وكأنه جاء إلى هذه الدنيا ليعمل، ولكنه مات تاركًا الكثير مما يحب عمله. وجاء ابني وجلس بجانب فِراشي باكيًا «أماه!» يا لها من مأساةٍ جعلتني أشعر بالتمزق حتى الآن.
– «آه يا أطفالي المساكين، إنني الآن لا أستطيع أن أموت، لا أستطيع أن أترككم لليتم.»
وأخذتُ أصلي على روح زوجي، وظلَّت حالتي ميئوسًا من شفائها، ولكني عشتُ أخيرًا بمعجزة، عادت إليَّ قوة الإبصار خلال عشرين يومًا، فأصبحتُ قادرة على رؤية وجوه أطفالي كخيالاتٍ باهتة، ولكن حروق وجهي ويديَّ لم تبرأ، انقضى الصيف وجاء الخريف ولكن الجروح كانت لا تزال تبدو كثمرة الطماطم المتعفنة. وفي أوائل أكتوبر استطعتُ أن أجلس في الفِراش قليلًا، ولم أستطع أن أمشي بعض الشيء قبل ديسمبر، وبعد يناير استطعتُ أخيرًا أن أتخلص من الضمادات لأكتشف أن وجهي ويديَّ لن يعودا إلى طبيعتهما مرةً أخرى.
لقد تقلَّص صوان أذني اليسرى إلى نصف حجمه، وكان هناك تشوُّه في بشرتي يقع فيما بين ذقني وحنجرتي، كما كانت يدي اليمنى تعاني نفس الشيء، والتصقَت أصابع يدي اليسرى ببعضها البعض عند الكف، وأصبحتُ عاجزة (غير متوقعة)، تُرى كيف أستطيع أن أعيش وأولادي الأطفال الثلاثة، وخاصة أن الحياة أصبحَت لا تُطاق مع ارتفاع أسعار السلع التي صاحبَت التضخم بعد الحرب؟ وفي أبريل ١٩٤٧م بينما كنا قد أوشكنا على التسول مدَّت جريدة تشوجوك شيمبون التي كان يعمل بها زوجي يدها إلينا وأنقذَتنا، فمنحَتني عملًا بها. ولن أنسى ما حييتُ الفرحة التي غمرَتني ساعتئذٍ، وقد مرَّت حتى الآن خمس سنوات، وما زلتُ أعمل وأعاني من الخجل بسبب عجزي وتشوُّه جسدي، أعمل فقط من أجل أطفالي المساكين.
٢
بدأتُ التطوع في العمل بالمجهود الحربي في مكان عملي في أغسطس، وكان عليَّ أن أستمر في خدمة المجهود الحربي منذ ذلك الحين، فكُلِّفتُ في الثاني من أغسطس بالاشتراك في إزالة أنقاض البيوت بمنطقة كوك تاي جي تشو التي كانت تقع جنوب دار البلدية لإفساح الطريق أمام سيارات الإطفاء.
وفي صباح ٦ أغسطس لم نكن قد بدأنا العمل وكنا ننتظر تحت السقيفة، وأعلن الراديو القريب منا أن كل شيء على ما يُرام؛ ولذلك لم نعد نخشى من الغارات الجوية فاستغرقتُ في التدخين ثم حدث بعد الساعة الثامنة والربع صباحًا أن سقط عمود من النار الكهربائية يبلغ عرضه قدمَين وطوله نحو ثلاثة أقدام في موقعٍ يقع على بعد ثلاثة أقدام على يسار أشجار الحديقة، وكان هذا العمود الناري فظيعًا ينبعث منه وميضٌ غريب، وهالني أن أرى ناره التي تشبه البرق، فوجدتُني أجلس فجأةً وسط حجرةٍ لا أدري هل قفزتُ إليها متعمدًا، أم أن قوة الانفجار قذفَت بي إليها، وبعد دوي انفجارٍ قوي أعتقد أنني سمعتُه، تحطَّم سور الشرفة، وتهاوَت أرض الغرفة تحت قدمَي، ووجدتُني أهوي على الأرض، ووقع جانب من السور على أمِّ رأسي مباشرة، وكان وقعه عنيفًا حتى ظننتُ أنني قد هلكت.
ورفعتُ رأسي بطريقةٍ آلية دون أن أنبس بكلمة من هول ما حدث، ولبثتُ مكاني نحو خمس دقائق، وحين فتحتُ عينيَّ كان هناك شيء يشبه العَرق يغرقها ويسبب لي ألمًا فمسحتُها بيديَّ كما أفعل عندما أغسل وجهي، وحاولتُ أن أنهض وأنا مغمض العينين، واكتشفتُ أن باستطاعتي النهوض، ثم استعدتُ الوعي فأحسستُ أنني ما زلتُ حيًّا. فتحتُ عينيَّ لأكتشف أنني لا أستطيع الرؤية بوضوحٍ؛ فقد كان هناك ضبابٌ أسود أو بُنِّي اللون يحيط بالمكان، وكان ثمة من يصيح: «لقد فعلوها.» فصرختُ: «لقد أُصِبتُ.» وشعرتُ بألمٍ حاد في رأسي ثم هبَّت نسمة انقشع على أثرها الضباب شيئًا فشيئًا.
وشعرتُ أن هذه النسمة نجدة من السماء، فبدأتُ الزحف إلى الخارج ورأيتُ شخصًا يستنجد وقد سقط عليه أحد أعمدة السقف، وهناك بعض موظفي البلدية الذين لم يلحقهم الأذى يقفون حولنا، فطلبتُ منهم أن ينقذوا الرجل، وجلستُ القرفصاء ماسكًا رأسي بيدي. وقام الرجال برفع الأعمدة الواحد تلو الآخر فعثروا على زميلٍ لهم على عمق نحو قدمَين من سطح الركام، وكان الرجل مصابًا في جميع أجزاء جسده ولكنه لا يزال متماسكًا. كانت رأسي تؤلمني، فنزعتُ المنديل من حول رقبتي وربطتُ به رأسي، واكتشفتُ أن ما ظننتُه عرقًا كان دمًا، وأن وجهي جميعه كان مكسوًّا بالدم الذي ينزف من رأسي. عندئذٍ تبيَّنتُ أن ما ظننتُه ضبابًا كان ترابًا نتج عن سقوط ملاط الحائط الذي تحطم تمامًا، وكان التراب يختلط بالدم على وجهي ثم ما لبث هذا الطين الأحمر أن جف فوق وجهي بصورةٍ جعلَتني أحس بالضيق، ووجدتُ قميصي قد أصبح ملطخًا بالدماء وممزقًا فخلعتُه لأصبح نصف عارٍ.
واتجهتُ نحو منزلي، وبعد أن قطعتُ بضع مئات الأمتار فوق أسقف العديد من المنازل المنهارة، وصلتُ إلى محطة ترام تاكانوباشي، ورأيتُ الكثير من الناس يصرخون طلبًا للنجدة داخل منزلٍ منهار، فتلفتُّ حولي بحثًا عن أناسٍ غير مصابين ليساعدوهم ولكن الجميع كانوا قد وقعوا في الفخ فلم أستطع نجدتهم لأن الدعائم التي سقطَت فوقهم كانت أثقل من أن يرفعها ستة رجال، فطلبتُ من الضحايا أن ينتظروا حتى أحضر لهم فرقة من عمال الإنقاذ، ووقفتُ على طريق تاكانوباشي ونظرتُ حولي لأجد جميع المنازل التي تقع على مدى كيلومترَين إلى الشرق والغرب وكيلومتر ونصف إلى الشمال والجنوب قد تحطَّمَت جميعًا وأصبحَت ركامًا فوق الأرض فيما عدا المباني الخرسانية، وأحسستُ أن العدو قد استخدم سلاحًا جديدًا، كان المنظر فظيعًا لدرجةٍ لا تُصدَّق.
وكانت جموع القادمين من منطقة البلدية كالأشباح، أصبحَت وجوههم المحترقة سوداء، وملابسهم ممزقة، وشعرهم منتصبًا، واكتسَت أجسادهم بالطين الملطخ بالدماء، وحاولتُ العودة إلى المنزل عبر ميدان البلدية، وفي الطريق إلى منزلي وجدتُ الشارع الذي كان يمر منه الترام قد اكتسى بأعمدة التيار الكهربائي والأسلاك المتداعية، حتى أصبح يبدو مثل بيت العنكبوت، سلكتُ طريقي قفزًا فوق هذه الغابة من الحطام حتى بلغتُ ميدان البلدية، وهناك كان العديد من الناس يرقدون على الطريق المرصوف بالأحجار قرب حديقة البلدية وقد احترقَت وجوههم وملابسهم يعانون سكرات الموت، والدم يتدفق من أفواههم، يا له من منظر لا يستطيع المرء أن يواجهه! اتجهتُ غربًا حتى بلغتُ مدخل أوه تي ماتشي حيث كان يقع منزلي، ولكني رأيتُ على البعد أن منزلي قد تحطم تمامًا، ولم أستطع الوصول إليه لأن الطريق كان مكسوًّا بأنقاض البيوت المنهارة، ونظرت حولي لأجد النار وقد اشتعلَت في المدينة المحطمة، وأيقنتُ أنني إذا خاطرتُ بمحاولة الوصول إلى بيتي سأموت حرقًا لا محالة، فعدلتُ عن المحاولة ملتمسًا الفرار عبر ساحةٍ كبيرة نتجَت عن انهيار قاعة الاجتماعات العامة التي تقع شمال دار البلدية. وفي الطريق تبعني صبي يبلغ نحو العاشرة من عمره وقد احترق وجهه وتعرَّى جسده تمامًا إلا من الدماء المتجمدة يصرخ في: «النجدة يا سيدي … النجدة!» ولكني كنتُ أعجز من أن أنجده، وبينما كنت أتجول حول المكان اختفى عن ناظري لعلَّه مات هنا أو هناك، وازدادت النار اشتعالًا حتى بدَت المدينة كلها كتلة من الحريق، واحترقت مدرسة أوه تي ماتشي الابتدائية التي كانت على الجانب الآخر من دار البلدية، ثم امتدَّت النار إلى بعض الشاحنات التي كانت واقفة أمام دار البلدية، وانفجرَت صهاريج البنزين التي كانت تحملها تلك الشاحنات، ثم انفجرَت إطاراتها مخلفة أصواتًا فظيعة، وحول الميدان تراكمَت كتل الخشب والألواح التي كانت من قبلُ تشكل مبنى قاعة الاجتماعات العامة فوق بعضها البعض، ثم ما لبثَت أن اندلعَت فيها النار، ولم أستطع المكوث هناك لأن الحرارة كانت فوق كل احتمال، ثم إلى الجنوب من هذا الموقع بدأت النار تندلع في مبنى البلدية من الداخل، وارتفعَت ألسنة اللهب من النوافذ بالطوابق الثلاثة، وازدادت النار استعارًا، ثم سقط مطرٌ أسود اللون ولكنه ما لبث أن توقف، وظننتُ أنني قد متُّ حرقًا، ولكن لحُسن الحظ وجدتُ بركة ماءٍ خلف موقع حديقة الاجتماعات العامة فقفزتُ إليها مع نحو خمسين أو ستين شخصًا، وكان عمق هذه البركة نحو نصف متر تبدو مثل حقل الأرز الممتلئ بالطين مياهها راكدة ويطفو على سطحها الحشائش المائية.
ثم هبَّت ريحٌ شمالية فجأةً فحوَّلَت ألسنة اللهب إلى زوبعة من النيران أخذَت تصول هنا وهناك تحرق أوراق الأشجار عند حافة البركة، وتلتهم الأشجار الصغيرة وتنتزع بعضها وتقذف به من السماء ثم تعود تلك الأشجار إلى السقوط في البركة.
وكانت زوبعة النيران هذه تبلغ المتر اتساعًا والستة أمتار ارتفاعًا، واتجهَت نحوي مزمجرة ولكنها كانت على بُعد مترَين مني فأغلقتُ عينيَّ فزعًا. وشعرتُ بدنو أجلي، فاستغرقتُ في الصلاة مراتٍ عديدة، وسألَتني بعض السيدات اللاتي كن بجواري: «هل تعتقد أننا سننجو؟ هل باستطاعتنا أن نظل أحياء؟» ثم أخذن يتلُون الصلوات، وأحسستُ أن زوبعة اللهب تكاد تقتلع رأسي وتقذف به في الهواء.
احترق جميع الناس في البركة وتمزَّقَت أشلاؤهم، وكانت زوبعة النار تهبط فوق البحيرة تلتهمهم فيعلوا صراخهم، لقد كان جحيمًا فوق الأرض، ولحُسن الحظ خمدَت زوبعة النيران بعد خمسة عشر أو عشرين دقيقة، ولكن النار كانت تطوق الساحة وتلبدَّت السماء فوق المدينة بسُحبٍ داكنة من الدخان، ولما لم تكن معي ساعة فقد عجزتُ عن تحديد الزمن، ولعلِّي مكثتُ داخل البركة نحو ساعة ثم أخذَت النيران تخبو فخرجتُ من البِركة واستعدتُ رباطة جأشي.
لقد نجوتُ وجلستُ لأستريح قليلًا، وكانت هناك منطقةٌ جافة تحت الجسر المقوس فوق البركة، فاسترحتُ هناك قليلًا وشعرتُ بالجوع، وقدرتُ أن الساعة تبلغ نحو الثانية بعد الظهر، وكانت النيران قد خمدَت بعد أن قضَت على كل المنطقة المحيطة بدار البلدية، فأخذتُ أجوب الشارع المتجهة إلى دار البلدية بحثًا عن ماء، وكان صنبور إطفاء الحرائق الذي يقع أمام المبنى محطَّمًا وتندفع المياه منه فشربتُ منه بيدي، وكانت هناك جثة شرطي في ملابسه الرسمية بالقرب من صنبور إطفاء الحريق وقد احترق وجهه تمامًا، فبحثتُ في حقيبته عن طعام وعثرتُ على صندوق غذائه المصنوع من الألومنيوم، ورغم أن الصندوق كان قد احترق إلا أنني وجدتُه ممتلئًا بالأرز وبقِطع صغيرة من السمك، وكان سطح الطعام جافًّا ولكني تناولتُه وأنا جالس على درج قاعة الاجتماعات العامة، وبعد أن شبعتُ اتجهتُ إلى مدخل الموقع الذي كان فيه منزلي، ولكن الدخان الأبيض كان يكسو المنطقة التي كانت لا تزال تحترق، وبينما كنت أرقبها بلا حيلةٍ اتجه إليَّ شخص من غير المصابين قائلًا: «إنه شيء فظيع أليس كذلك؟ إنني أعمل في يوجينا حيث ترسانة بناء السفن، وأمي وزوجتي يعيشان في هذا الموقع من أوه تي ماتشي، وقد جئتُ إلى هنا سيرًا على الأقدام لأبحث عنهما، ولكن ما أراه أمامي يدعو إلى اليأس، أعتقد أن هذا الدخان سام؛ ولذلك سأعود إلى يوجينا، ألا ترغب في المجيء معي؟ إن برأسك جرحًا بالغًا فإذا ذهبتَ معي إلى مدرسة كوريو الإعدادية بيوجينا فإن وحدة الإسعاف التابعة للجيش هناك قد تضمِّد جرحك.» ولمَّا كانت رأسي تؤلمني فقد تبعتُه، وما كدتُ أصل إلى المدرسة حتى عالجَت وحدة الإسعاف العسكرية رأسي، ومكثتُ ساعة في حجرة الاستقبال، ثم أخذتُ أفكر فيما أفعله بعد ذلك، ولكني وجدتُ نفسي مرةً أخرى أمام مدخل أوه تي ماتشي حيث كنت أسكن.
كانت النار لا تزال مشتعلة هنا وهناك، وشعرتُ أن حذائي المصنوع من المطاط يكاد يشتعل، ولكني تحمَّلتُ حرارته وتوغلتُ داخل أوه تي ماتشي متجهًا إلى الشمال.
رأيتُ هناك جثة محترقة تمامًا لشخص يجلس في الشارع وكفاه ملتصقتان تحت ذقنه في وضع الصلاة، وفتاة محترقة تمامًا ترقد جثتها أمام مدخل الشارع، كما رأيتُ رجلًا وقد احترق تمامًا فوق كرسي الحلاق حتى إنني حين لمسته أخذ جسده يتفتت بين يدي، واستطعتُ أن أتعرف على أصحاب الجثث الثلاث فقد كانوا جميعًا جيراني، ووصلتُ إلى موقع بيتي فوجدتُ إحدى العربات محترقة أمامه، وقد سقط الحصان ميتًا بعد أن احترقَت بطنه وانفجرَت أحشاؤه تاركة حفرةً كبيرة بالمكان. ووجدتُ زوجتي ملقاة في الطريق متقطعة الأنفاس، وقالت لي بصعوبةٍ بالغة إن مفصل فخذها قد كُسِر حين تهدم المنزل فوقها، وإنها لم تستطع أن تمشي على قدمَيها فزحفَت عبر حفرة مملوءة بالمياه بجوار بيتنا ومكثَت هناك حتى احترق البيت تمامًا، وكان عمق الحفرة نحو نصف متر وقد امتلأَت بمياه الأمطار وترسب في قاعها بعض قطع من الزجاج المحطَّم والآنية المكسورة، ولما كان لهيب النيران قويًّا فقد تعمدَت زوجتي أن تغطس في قاع الحفرة فتمزق ظهرها، وكانت رأسها محترقة، وعاجزة تمامًا عن السير، واستطاعت أن تترك الحفرة بعناءٍ شديد قبل وصولي بقليل، وكانت عارية من الثياب تمامًا.
أعطيتُها سراويلي وشجعتُها على ما كانت عليه من سوء الحال، ثم حملتُها فوق ظهري وتلفتُّ حولي على مدى البصر فلم أجد شيئًا سوى الدمار اللانهائي في جميع أنحاء المنطقة، وأيقنتُ أنني الشخص الوحيد الذي بقي على قيد الحياة وما زال يسير في الطريق وجعلني ذلك أحس بالارتياح، ولكنني كنت كمن يعيش في جبَّانة، لقد شملني إحساسٌ شديد بالوحدة. وألقيتُ نظرة على مستودع المياه لأجد ست جثث محترقة تطفو على سطحه، فاستجمعتُ قواي وواصلتُ السير حاملًا زوجتي فوق ظهري وهي تبدو كالميتة، واتجهتُ بها نحو مبنى قاعة الاجتماعات العامة القديم، واضطُررتُ أن أستريح في الطريق ثلاث مرات رغم أنني قطعتُ مسافة لا تزيد على ٣٠٠ متر، وكانت زوجتي تطلب مني ماءً طوال الوقت، وعثرتُ على كوبٍ مكسور في الشارع فملأتُه ماء من طلمبة الحريق وسقيتُها، وأخيرًا وصلتُ إلى درج قاعة الاجتماعات فمددتُ جسد زوجتي على الدرج، وبينما كنا نستريح هناك أحضر أحد موظفي البلدية خبزًا جافًّا داخل سطل وأعطانا حفنة منه فالتهمناها.
ورغم أن إصابة زوجتي كانت بالغة فقد تم إنقاذها، وبدأتُ منذ الآن الاهتمام بموضوع ابني شيرو، غير أني أرجأتُ مهمة البحث عنه إلى اليوم التالي؛ فقد كان الظلام قد حل، وبحثتُ عن مكانٍ ننام فيه فوجدتُ مأوى بالقرب من دار البلدية، كانت أرض المكان ترشح مياهً، غير أنها كانت مغطاة بطبقات من الألواح الخشبية، فحملتُ زوجتي إليه لتنام، ولحق بنا نحو ستة أو سبعة أشخاص، ولما كان المأوى مليئًا بالبعوض فقد فضلتُ أن أقضي الليل على السطح. وحول المأوى كان هناك أربعة أو خمسة من الضحايا يبحثون عبثًا عن الماء، ولفظوا أنفاسهم صباح اليوم التالي. وقبل طلوع الفجر بدا أن شركات البترول في منطقة يوكوجاوا قد بدأَت تحترق، فكانت صفائح البترول تنفجر من حين لآخر وترتفع ألسنة اللهب إلى عنان السماء، حضر بعض الجنود في حوالي التاسعة من صباح اليوم التالي لنقل المصابين إلى المستشفى على الأبواب التي أُخذَت من بين الأنقاض، فطلبتُ منهم أن يعتنوا بزوجتي التي نُقلَت على لوح من الخشب إلى مستشفى الصليب الأحمر القريب من المكان، ورغم أن المستشفى نجا من الحريق إلا أن حوائطه كانت متهدمة، وكان الطين يكسو أرضية الحجرات فبدَت وكأنها قد أصابها زلزال، وقد رقدَت زوجتي هناك فوق حصير من القش وبطانية، ولم يكن هناك طبيب؛ إذ يبدو أن جميع الأطباء قد لقوا حتفهم.
وكان يفحص المرضى معاونٌ صحي شاب في العقد الثالث من عمره بمساعدة بعض الممرضات، وقد شمل زوجتي برعايته فوضع المراهم على حروقها، وأحسستُ ببعض الراحة فأخبرتُ زوجتي أنني ذاهب للبحث عن ابننا، كنت متأكدًا تمامًا أنه لا بد أن يكون قد مات حرقًا، ولكن على أية حال فهو صبي في السابعة من عمره؛ لذلك واصلتُ البحث عن جثة أو هيكلٍ عظمي يشبه ولدي، وبجوار سور معبد كومبرا وجدتُ طفلَين ميتَين يبلغ كلٌّ منهما نحو السادسة أو السابعة من العمر وكانا قد احترقا فوق دراجتَيهما، ورغم أنه كان من الصعب التعرف عليهما، فقد كانت ملامح أحدهما تشبه ابني، فأمسكتُ برأسه وتفحصتها جيدًا ولكني وجدتُ أنه من العبث أن أحمل عظام طفل قد لا يكون ابني؛ ولذلك تركتُ الجثة مكانها، وعُدتُ إلى المستشفى حيث أخبرتُ زوجتي بالحادث، وبعد نصف ساعة عاودني التفكير في البحث عن عظام ابني فاستأنفتُ البحث من جديد.
وعندما اقتربتُ من منزلي التقيتُ بتلميذ في المدرسة الإعدادية من أبناء جيراننا ذكر لي أن ولدي شيرو قد نجا، ولم أستطع تصديقه غير أنه ذكر لي أن شيرو كان في بيتٍ محترق بالقرب من شن باشي، فذهبتُ إلى هناك لأجد ابني جالسًا وقد تعرَّى جسده تمامًا يتطلع حوله، وكانت هناك سيدة ترعاه ذكرَت لي أن أحد الرجال أحضر ولدي إلى نهر موتويسو قبل أن تنتشر النيران في كل مكان، وأنه بقي معهم في النهر؛ ولذلك نجا، ولم تكن حروقه بالغة، وفحصتُه فوجدتُ أن يده اليسرى قد احترقَت من الكوع حتى أطراف الأصابع، وكذلك الجانب الأيسر من رأسه حتى أنفه، ولكني أيقنتُ أنه سيشفى قريبًا، فشكرتُ السيدة وحملتُ ولدي على ظهري إلى المستشفى وكان ذلك حوالي السادسة من مساء يوم ٧ أغسطس.
كانت حال زوجتي سيئة للغاية؛ فلم تكن تستطيع أن تزدرد أي شيء، حتى حساء الأرز كان من الصعب عليها ابتلاعه، فأيقنتُ أن حالتها تبعث على اليأس. وشعرتُ بالجوع لأنني لم أذق طعامًا سوى طبق من الأرز قدَّمه لي المستشفى في ذلك اليوم، فذهبتُ إلى مكان عملي وطلبتُ من وكيل الإدارة بعض الطعام فأعطاني قدحًا من الأرز والميسو وعُدتُ أدراجي إلى مستشفى الصليب الأحمر حيث أشعلتُ نارًا وطهوتُ الأرز. وفي اليوم التالي نقلتُ زوجتي وابني إلى مأوى بجوار المستشفى ولم يقدم المستشفى لابني سوى المرهم علاجًا لجروحه، وأصابته الحمَّى صباح التاسع من أغسطس فطلبتُ من الممرضة أن تعطيه دواء مضادًا للحمى، ولكنها قالت لي إن الدواء قد نفد، فلم يكن باستطاعتي أن أصنع شيئًا سوى النظر إليه. وكان معنا في نفس المأوى عشرون من الجنود الجرحى الذين كانوا يُعالَجون بمستشفى الصليب الأحمر، وحوالي الرابعة بعد الظهر تقيأ شيرو شيئًا جافًّا بُنيًّا داكن اللون بضع مرات ثم أسلم الروح خلال دقيقتَين.
وبعد وفاة ابني بساعةٍ واحدة أيقنتُ أنه ليس من الصواب الاحتفاظ بجثته في المأوى وسط رفاقنا الجرحى، وكانت هناك عند باب المستشفى فرقة من الجنود تتولى حرق الجثث، فلففتُ جسد ابني في ثوب (كيمونو) ملوَّث بالدماء كان بعض الناس قد ألقى به بالقرب من باب المستشفى، وطلبتُ من الضابط الذي كان يشرف على حرق الجثث أن يحرق جثة ابني. سجَّل الضابط اسم ولدي وعمره ومحل إقامتنا ثم أصدر أوامره إلى الجنود بحرق الجثة، فقام جندي بصب بعض البترول على بطن ولدي، ثم قذف جنديان بالجثة إلى النار، يا له من أمر يمزِّق نياط القلوب!
وفي اليوم التالي جمعتُ بعض الرماد من المكان الذي حُرِق فيه جثمان ولدي وعُدتُ إلى المستشفى، فأمَّنتُ مكانًا لزوجتي في أحد أركان غرفةٍ كبيرة، وكانت ممرات المستشفى مملوءة بأشخاص يعانون من حروقٍ بالغة كانوا يتصايحون في المساء: «نريد ماءً … نريد ماءً …» فلم أذق للنوم طعمًا بسبب صياحهم، وملأ الضحايا الأرض المحيطة بالمستشفى، وكانوا يلفظون الأنفاس جماعاتٍ جماعاتٍ كل يوم.
وفي صباح ١٤ أغسطس ذهبتُ إلى منزلنا المحترق لأبحث عما تبقَّى فيه من مواد تموينية كنا نحتفظ بها في إحدى الغرف التي خصصناها لذلك، وفكرتُ في أن أحفر الحطام المحترق بحثًا عن هذا المكان، ولكني وجدتُ جميع المواد التموينية التي اختزنَّاها قد احترقَت؛ لأن المكان الذي خصصناه لها كانت به فتحة ساعدَت على امتداد النار إليه فعُدتُ إلى المستشفى بخفَّي حنين لأجد زوجتي قد لفظَت آخر أنفاسها.
٣
ارتفعَت الأعلام الوطنية الجديدة على أبواب المنازل بمناسبة عيد البالغين في ١٥ يناير هذا العام (١٩٥٤م)، وذهب الشباب من جيراننا لحضور الاحتفال الذي يقام بهذه المناسبة كل عام مؤذنًا ببلوغهم مرحلةً جديدة من العمر، فأخذتُ أقدِّر عمر ولدي المفقود منذ حدثَت مأساة هيروشيما. فإذا كان فقيدي لا يزال حيًّا لأصبح الآن طالبًا بالجامعة، تُرى هل كان يدخن التبغ؟ لعلَّه كان قد وقع في حب فتاةٍ جميلة! ومع مثل هذه الأفكار قضيتُ معظم النهار مع الذكريات. وحين أعود إلى رشدي أعتقد أنني ربما أُصِبتُ بازدواج في الشخصية وإلا لَما حدث لي ذلك، فقد كان عليَّ أن أقتنع بالواقع وأتعايش معه عندئذٍ تختفي هذه الأفكار، وقبل أن أنهض من فِراشي كل صباح أفكر في ولدي قليلًا وأغسل وجهي بالدموع، وأحيانًا أنسى أن أغسل وجهي كبقية الناس، وكثيرًا ما سألتُ نفسي ألستُ أشعر بالسعادة عندما أعيش مع الذكريات!
لقد كان ولدي هيروهيسا منذ نعومة أظفاره يختلف عن الأطفال الآخرين كان ممتعًا حقًّا، وعندما بلغَت قامته ارتفاع المنضدة كان باستطاعته أن يدرك أن الملعقة التي تُوضَع في كوب الماء تبدو مكسورة، ويتعجب لتلك الظاهرة، وكان يثير ضحكنا عندما يقول إن الدجاجة تحملق في وجهه رغم أنه لم يصنع لها شيئًا.
كان عمره يقرب من عمر أختَيه ولذلك كانوا يتعاركون مع بعضهم البعض، وحينما كانت أخته الكبرى تعلمه الرياضيات واللغة الإنجليزية كان يمتثل لها ويطيعها، ولكن عراكًا حدث ذات مرة عندما أثار هيروهيسا ملاحظةً ذكية؛ فقد طلبَت منه أخته الكبرى أن يعيد إليها كل ما علمَته له في اليوم السابق وثار بينهما شجار حول هذا الموضوع، ولكن حتى تلك الحوادث أصبحَت مجرد ذكريات يعاودنا إليها الحنين.
وصادف اليوم يوم أحد، تمامًا كاليوم السابق على يوم الحادث المشئوم، كان ثلاثتهم يقضون العطلة معًا، وبالقرب من منزلنا كان هناك نهرٌ يُدعَى كيوباشي جايا صافي الماء واسع المجرى، سبح فيه ثلاثتهم وقضوا وقتًا طيبًا. ولما كنا قد عشنا خمس سنوات في أوكاياما حيث يقع شاطئ فيزونوكي الوعر تدرَّب أولادنا على السباحة بمهارة؛ ولذلك كانوا يختلفون إلى النهر يستمتعون بقضاء يوم عطلتهم في السباحة. وفي ذلك اليوم، اليوم السابق على الحادث المشئوم، عادوا من النهر جميعًا وذهبَت البنتان إلى الحمام العام وتركتا هيروهيسا معي بالمنزل.
وبينما كنت أقلي بعض الحبوب تحدَّث معي هيروهيسا في أشياء شتَّى، وفجأةً وجدتُه يقول: «أماه إنني أُحس أننا جميعًا سوف نموت.» فقلتُ له: «ربما كنتَ على حق فأنتَ تعلم أن في مثل هذه الظروف التي نعيشها لا نعرف على وجه التحديد متى سنرحل عن هذا العالم، تُرى هل نعرف حقًّا؟ فلنكن إذن أقوياء.» فقال: «ما دُمنا نزداد شعورًا بالجوع يومًا بعد يوم، ونعاني من متاعب العمل، فإن من الخير لنا أن نموت بسرعةٍ أليس كذلك؟» فأجبتُه قائلة: «يجب ألا تقول مثل هذه الأشياء السمجة، نحن لا نتصور إلى أي مدى يعاني الجنود الذين لا يجدون ما يأكلونه سوى جذور الأشجار وجذور الحشائش ليتابعوا القتال، وإنه لمن العار علينا ألا نتحمل بعض الجوع بينما نتمتع بالحياة داخل منازلنا، ونعيش أحرارًا. صحيح أن الناس ما داموا قد ولدوا فإنهم لا بد سيموتون، ولكن لماذا يحدث ذلك؟ لأن لنا حياةً محدودة؛ فأمك مثلًا تريد أن تعمل عملًا نافعًا من أجل الناس الذين يعيشون في هذا العالم قبل أن تموت.» عندئذٍ قال هيروهيسا: «هذا صحيح … هذا صحيح.» ووافقني من أعماق قلبه على ما قلتُ.
وبعد قليلٍ عادت ابنتاي وكذلك عاد زوجي وجلسْنا حول المائدة نتناول طعامنا البسيط على الضوء الخافت الذي تفرضه علينا التعليمات الخاصة بالإظلام، وبينما كنت أتحرك هنا وهناك أرفع الأطباق من على المائدة سمعتُه ينادي من الطابق العلوي: «أمَّاه، تعالي هنا لحظة.» فقلتُ وأنا في طريقي إلى الطابق العلوي: «كم تعلَّم هيروهيسا لهجة هيروشيما بسرعة.» وعندما سألتُه عن مكانه قال: «هنا على السطح، احترسي حتى لا تنزلق قدمكِ وتقعي.» وعبرتُ سقف المطبخ زحفًا على أربع فقال لي: «لقد أحضرتُ لك وسادة يا أماه لتجلسي عليها.» فأجبتُه شاكرة وقلتُ له: «شكرًا، شكرًا لك، إن السماء تبدو وكأنها صندوقٌ يحوي لآلئ تُقدَّر بثمنٍ باهظ، يا لها من سماءٍ متألقة بالنجوم! إنها تبدو جميلة وكأن البلاد لا تعاني حربًا ضروسًا.» فقال: «لهذا دعوتكِ يا أماه.» وسألتُه: «يا هيرو أتعرف أين يقع النجم القطبي؟» فأجابني: «أجل أعرف.» وأشار بإصبعه إلى موقع النجم فنظرتُ تجاه الموضع فإذا بطائرتَين تنبعث منهما إشاراتٌ ضوئية حمراء تطيران على ارتفاعٍ شاهق متجهتَين صوب الجنوب، ربما كان هدفهما أوكيناوا.
شعرتُ عندئذٍ أن وجه ولدي الأكبر يواتشيرو الذي كان على وشك التخرج من كلية ضباط الطيران يطل علينا من بين النجوم، عندئذٍ اعتقدتُ أن ولدي سيموتُ وشيكًا فامتلأَت نفسي بالحزن، ويبدو أن هيروهيسا كان يشاركني نفس الشعور؛ فقد تنهَّد فجأةً وقال: «أماه، إن أخي الأكبر سيموتُ بعد حين أليس كذلك؟ إنني أشعر بالحزن.» ثم أخذ يبكي. وبعد قليلٍ قال: «أماه يجب أن أصبح طبيبًا؛ حتى إذا عاد أخي إلينا مصابًا عاجزًا استطعتُ علاجه حتى يشفى؛ لأننا يجب أن نجعله يحس بالسعادة بقية حياته، أليس كذلك؟» يا له من طفلٍ رقيق القلب! وشعرتُ بارتياح لذلك فقلتُ له: «نعم بكل تأكيد، إن أخاك محظوظ حقًّا أن يكون له أخٌ رقيق القلب مثلك.» واستطرد هيروهيسا: «إنني أعجب لماذا تشتعل نيران الحرب، كم أتمنى أن تتوقف تلك الحرب، ألا يمكن أن تحصل اليابان على السلع التي تحتاجها من أمريكا، وتحصل الفلبين على ما تحتاجه من اليابان، ويعيش العالم في وئام. عندئذٍ يتحول العالم إلى أمةٍ واحدة ونصبح نحن سكان قسم أوينياجي بقرية هيروشيما محافظة اليابان بدولة آسيا المنضوية تحت لواء العالم.» ولم تتوقف ثرثرته فقلتُ له: «يا هيرو يجب أن تكون يقظًا عندما تكتب موضوعات الإنشاء في المدرسة، فإذا كتبتَ مثل هذه الأشياء سيحضر البوليس الحربي لإلقاء القبض عليك، ألا تفهم ذلك؟»
وكانت مدينة كوري تُقصَف كل ليلة قبل ذلك بأيام، ويتناهى إلينا على البعد صوت القنابل، وكانت السماء فوق هذه المدينة مليئة بألسنة اللهب التي أحالت الليل إلى نهار. وكان من الغريب حقيقة أن تظل هيروشيما بمنأى عن القصف. ثم ذهبنا لننام ونحن ندعو من أجل ليلةٍ سالمة، فقد وضعنا حاجياتنا بجوار الوسائد وصففنا أحذيتنا فوق أوراق الصحف، ولكن طوال الليل كانت صفارات الإنذار تنطلق حتى كدنا لا نستطيع النوم.
وطلع فجر ٦ أغسطس لينبئ بيومٍ صافٍ معتدل الجو، فناديتُ أطفالي قائلة: «انتبهوا جميعًا فصفارات الإنذار ما زالت واضحة، عليكم بالنهوض والخروج من المنزل.» فناداني هيروهيسا: «أمَّاه تعالي لحظة.» فتركتُ طعام إفطاري وذهبتُ إليه فقال: «انظري يا أماه، إنني أصبحتُ الآن أُجيد لفَّ القماط حول ساقي.» وكان يقول ذلك بينما يضع قدمه على عتبة الباب ويلف القماط على ساقه أمامي، فشجعتُه قائلة: «إنك بارع لا شك، ولكنك تبدو كما لو كنتَ تلف قطعه قماش حول دبوس رفيع.» فأجاب: «إننا لا نحصل على قدرٍ كاف من الطعام كما تعرفين.» ومضى إلى حال سبيله. كان يبدو وسيمًا في ملابس الميدان بغطاء الرأس وقماط الأرجل، فقلتُ لزوجي: «إنه يبدو ببشرته البيضاء كأميرٍ صغير.»
كانت ابنتي الكبرى كي كو طالبة بالصف الرابع بالمدرسة الثانوية للبنات، وتعمل بأحد المصانع ضمن برنامج التعبئة العامة، ولما كانت قد سبحَت كثيرًا في اليوم السابق فإنها كانت تعاني من ارتفاع في درجة الحرارة. لذلك قررتُ أن أبقيها في المنزل ذلك اليوم. أما ابنتي الثانية سوزوكو فقد خرجَت مع ولدي. وكان زوجي يعمل موظفًا في إدارة التموين بمصلحة المواصلات، ولكن أُسنِد إليه عمل الموظف الفني بالإضافة إلى عمله الأصلي، ولما كان مشغولًا دائمًا فقد غادر البيت بعد الساعة السابعة بقليل، وما إن ودعتُهم جميعًا حتى طلبتُ من ابنتي كي كو أن تدبِّر أمور المنزل حتى أذهب إلى محطة هيروشيما لأرسل بعض الأشياء إلى أمي التي كانت قد هاجرَت إلى كيوشو. وما كدتُ أضع حقيبتي تحت إبطي وأهم بالخروج حتى وقع نظري على جريدة الصباح داخل صندوق الخطابات، فقلتُ لنفسي لقد خرج زوجي دون أن يلقي نظرة على الجريدة، ثم مضيتُ في طريقي عبر الحديقة. كانت شمس أغسطس حارة ونظرتُ إلى السماء فإذا بطائرة من طراز ب-٢٩ وكان ثمة بريق لم أستطع معه أن أرى الطائرة بوضوح، قلتُ لنفسي: «حسنًا لا شيء يهم ما دامت الغارة الجوية قد انتهت.» وما كدتُ أمضي حتى حدث برقٌ شديد واصفرَّ الجو فجأةً وارتعشَت كتفي اليمنى كما لو كان قد أصابها ماسٌّ كهربائي، ولم أدرِ ماذا أفعل عندما سمعتُ صوتًا يشبه الرعد يتردد بشكلٍ مفزع وكأن السماء قد انطبقَت على الأرض، ثم فقدتُ الوعي فلم أعُد أدرك ما يدور من حولي.
وحينما أفقتُ على ألمٍ حاد في أنفي وجدتُ نفسي مدفونةً بين تراب الحوائط المهدمة، لا أكاد أستطيع أن أحتفظ بعيني مفتوحة بسبب التراب، وزحفتُ نحو النور، لقد نجوتُ … ونظرتُ حولي لأرى منزلي وقد لحق التدمير نحو نصفه فتقوَّض الطابق الثاني وتحطمَت أعمدته فتذكَّرتُ ابنتي واستجمعتُ كل قواي منادية عليها فسمعتُها تجيب بصوتٍ خافت، فصفقتُ من الفرح أنها لا زالت تعيش، وجاءت ابنتي على صوت التصفيق، وكانت تبدو كامراةٍ عجوز اشتعل رأسها شيبًا، وصِحْنا ونحن نحتضن بعضنا البعض: إننا محظوظتان لقد نجونا. ورأيتُ الدم ينزف من ركبة كي كو وظلَّت تتقيأ ماءً أصفر وتبينتُ أن قدمي قد أُصيبَت إصابةً بالغة، وأحسستُ بالألم الشديد فقلتُ لابنتي: «هيا بنا نذهب إلى مركز الإسعاف لنعالج جروحنا.» وعاونتُ ابنتي التي خارت قواها على السير حتى بلغنا الربوة التي تقع في حديقتنا ولكننا لم نتمكن من أن ندرك مركز الإسعاف، فعلى مدى البصر كانت مباني مدينة هيروشيما جميعًا قد تهدمَت وأصبحَت حطامًا، وارتفع التراب الأحمر أربعة أقدام فوق سطح الأرض، يا له من حادثٍ فظيع! تُرى ماذا حدث لزوجي وابنتي سوزكو وولدي هيروهيسا؟ كيف استطاعوا الهروب من هذا الجحيم؟ وأحسستُ بقلبي يسقط بين ضلوعي.
ولأول مرة في حياتي صليتُ بإخلاص من أجل بوذا، وناداني جاري قائلًا: «هل أنت بخير يا سيدتي؟» فأجبتُه: «أجل نحن بخير جميعًا وأنتم أيضًا؟» فقال: «إنني سأبعد عن هذا المكان، وأنصحكِ بالبعد عنه بسرعة؛ فإن النيران بدأت تشتعل في المنطقة حولنا، وإذا لم تسرعي في الهرب ستموتين حرقًا.» وما كاد ينتهي من كلامه حتى أخذ يعدو هاربًا، وأخذتُ بيد ابنتي، وهممتُ بالهرب ولكنني تذكرتُ أنه ليس من الحكمة أن أترك بيتي المتهدم يحترق، فعُدتُ أدراجي ووضعتُ كميات من الماء حوله من مستودع مياه الأمطار، ثم هرعتُ إلى ملجأ الوقاية من الغارات الجوية، وأحضرتُ بطانية بللتُها بماء المستودع ولففتُها حولنا، وعاونتُ ابنتي على الزحف فوق أنقاض المنازل المتهدمة حتى وصلنا أخيرًا إلى جسر ساكاي، ولاحظتُ أن النيران قد اشتعلَت حول المحطة وأن ألسنة اللهب تعلو إلى عنان السماء، فأيقنتُ أنه من الأسلم أن نتخذ من مجرى النهر ملجأ حتى نتحاشى النيران، فأخذتُ ابنتي ونزلنا إلى مجرى النهر.
كان هناك عدد من الناس في مجرى النهر يبلغ نحو المائة، ولمحتُ بينهم خادمة تعمل عند بعض جيراننا وقد تغير وجهها تمامًا، وكان بين الناس من سُلخَت جلودهم من أكتافهم حتى ظهورهم، فعجبتُ لهذا وتساءلتُ تُرى ماذا حدث لهم؟ وازداد لهيب النيران، وأخذَت تهب رياحٌ حارة ثقيلة كريهة الرائحة على مجرى النهر، ثم تحولَت إلى زوبعةٍ بلغَت من القوة حدًّا جعلها تقذف بالرمال وبمياه النهر إلى ارتفاع مئات الأقدام في السماء ثم تعود المياه والرمال إلى السقوط مرةً أخرى لتُعيد الكرَّة من جديد. فغطَّينا أنفسنا بالبطانية وعدَونا لنتفادى الزوبعة، وبمرور الوقت غطَّت ألسنة اللهب السماء، وبدأَت المنازل التي تقع على جانبَي النهر في السقوط في مجراه بعدما اشتعلَت فيها النيران، وارتفع الماء حتى بلغ خصرنا، وقلتُ وقد ملأني الفزع: «لقد نجونا حتى الآن فكيف نستطيع الهرب من هذا الجحيم؟ تُرى ماذا حدث لزوجي وأطفالي؟ إذا متنا جميعًا فإن ولدي الأكبر يواتشيرو المسكين سيصبح يتيمًا.» وحين دارت تلك الأفكار في رأسي انهالت الدموع من عيني دون توقُّف، فقالت ابنتي: «أماه، إنني محظوظة حقًّا، إنني لا أشعر بالخوف لأنكِ معي.» وعندئذٍ صاح أحد الأشخاص: «أيها الناس، الكثير من الأخشاب يطفو هنا.» فنظرتُ فإذا بالألواح والأعمدة الخشبية تتجه على صفحة الماء نحونا فتعلقتُ بإحداها قائلة: إذا ازدادت الأحوال سوءًا فإننا سنهبط إلى قاع النهر مع هذه الكتلة الخشبية، ثم سمعْنا صوتًا يقول: «ها هم الجنود قد جاءوا، لقد جاءوا بالقوارب.» فنظرتُ إلى بعيد فإذا بالجنود يتحركون بالقوارب نحونا وتوقف القارب الأول أمام ابنتي فشعرنا بالفرح، وقال الجنود: «اصعدوا، كل أربعة أشخاص في قاربٍ واحد، لا تنزعجوا.» ثم حملنا الزورق إلى الشاطئ الآخر حيث كانت النيران قد خمدَت، ولهجَت ألسنتنا بعبارات الشكر، وفكرتُ في أن أعطي الجنود شيئًا، ولكنهم لم يمنحونا الفرصة، فقد تركونا على الشاطئ وعادوا أدراجهم بالقارب ليتابعوا أداء واجبهم.
أخذت أرقب القوارب وقلبي يصلي من أجل نجاة هؤلاء التعساء، وقد وضعتُ في قدمَي قبقابًا خشبيًّا لطفل وجدتُه في النهر؛ لذلك كنت أسير على أطراف أصابعي حتى بلغْنا ساحة العرض العسكري، وشاهدنا في الطريق الكثير من الجنود وقد سقطوا على الأرض، كما رأينا ضابطًا وقد تشبثَت يده بسيفه بينما كان لا يكاد يلتقط أنفاسه يرسم بسمة على شفتَيه، ولكنها لا تعكس حقيقة شعوره، وبدَت الخيول شديدة الاحمرار بسبب ما نالها من حروق، وكانت عيونها تنزف دماء، بينما كان العديد من البشر يتلوَّون من آلام الحروق.
وقبعْنا في مكانٍ آمن حيث افترشنا جميعًا الأرض، واستمرَّت ابنتي تتقيأ السائل الأصفر بلا توقف، ولكني كنت في حالةٍ لا بأس بها، هادئة تمامًا. وكان الناس من حولي جميعًا ينادونني: «يا سيدتي، أعطينا ماء، يا سيدتي نريد أن نشرب!» وعثرتُ على إناءٍ صغير أخذتُ أملؤه وأسقي به الناس مرات ومرات. إن ما حدث لنا لا بد أن يكون جحيمًا نزل إلى الأرض، وعندما تذكرتُ زوجي وأولادي أصبحتُ لا أكاد أستطيع التنفس. وكانت هيروشيما تبدو من فوق التل في المساء مثل عمود اللهب الذي يرتفع صوب القمر، وأمضينا ليلتنا فوق الحشائش، وما كاد يطلع الصباح حتى سكتَت أصوات أولئك الذين كانوا يئنون حولنا؛ فقد أسلموا الروح جميعًا. وبدأتُ أشعر بالقلق على بيتنا عندما تذكرتُ أن زوجي وأولادي ربما عادوا إلى المنزل بعد رحيلنا وقد يُسلمون الروح هناك؛ ولذلك لم أستطع أن أمكث طويلًا فوق التل، فتركتُ ابنتي هناك وهبطتُ بمفردي صوب المدينة، كانت البيوت التي انهارت قد احترقَت تمامًا وامتلأَت الشوارع بأسلاك الكهرباء والتليفونات، وكان ثمة دخانٌ أبيض يتصاعد من الحطام، والناس مبعثرون هنا وهناك.
أخذتُ أجر قدمي الجريحة التي لففتُها بقطعة حصير وجدتُها فوق التل، وحين وصلتُ إلى منزلي كان قد احترق تمامًا فيما عدا الأساس الخرساني وغرفة الحمام، وكانت الحصر (التتامي) المثبتة بالأرض لا تزال مشتعلة، فوجدتُني أدخل ملجأ الوقاية من الغارات الجوية المجاور لمنزلي، والغريب أن النيران لم تصل إليه، وكان يبدو باردًا من الداخل، فافترشتُ حصيرًا داخل الملجأ، وكأن كل ما حدث بالأمس مجرد حلمٍ مفزع. وخارت قواي تمامًا لأنني لم أكن قد ذقتُ الطعام منذ تناولتُ إفطاري في اليوم السابق.
اتجهتُ إلى الحديقة وقطفتُ ثمرة قثاء فوجدتُها شديدة الاصفرار من الداخل يتصاعد منها البخار، فأكلتُها ووجدتُها لذيذة الطعم مثل القسطل المشوي، وكان هناك نحو ستة أو سبعة أشخاص راقدين بالحديقة دون أن يستطيعوا الحركة، فحملتُهم إلى الملجأ والدموع تغسل وجهي، تُرى كيف نعيش هنا الآن؟ وكيف ستتلقَّى أمي المسكية نبأ هذا الحادث المفجع عندما تسمع به؟ وبدلًا من أن أزورها بملابسي الحريرية المطرزة كيف أذهب إليها بأسمالٍ بالية؟ لا، إنني لن أجعل مثل هذا الإحساس التعس يجد طريقه إلى والدتي. وبينما كانت هذه الأفكار تدور في رأسي سمعتُ وقع أقدامٍ متجهة نحوي تتوقف أمام الملجأ، فنهضتُ لأرى من القادم، فإذا به زوجي ينظر داخل الملجأ: «آه، إنكِ لا تزالين على قيد الحياة، ماذا جرى لكي كو؟» وبدَت رنة الصدمة في صوت زوجي وهو يخاطبني، ولم أحر جوابًا للحظات، ثم قلتُ له: «إنها على قيد الحياة، تركتُها فوق التل، ما أسعدني أن أراك حيًّا، ثلاثتنا لا زلنا أحياء، شكرًا للسماء!» وجلسنا معًا فأعطاني حفنة من البقسماط كانت في جيبه واستطرد قائلًا: «لقد كنت أصب الماء على جسدي طوال ليلة أمس من مستودعات المياه الخاصة بالأمطار واتجهتُ إلى هنا، ولكني وجدتُ البيت يحترق فظننتُ أنكما قضيتُما نحبكما، وصليتُ من أجلكما، وغادرتُ المكان.» ثم انفجر باكيًا. كانت قدمي قد تورمَت بسبب الماء الذي تشبَّع به الجرح فقلتُ لزوجي أريد ماءً ساخنًا، فبحث بين حطام المنزل حتى وجد إناء، ثم أشعل نارًا وأعد لي الماء الساخن وتناهى إلى أسماعنا من بعيد صوتٌ ينادي: «يا أبتاه! يا أبتاه!» فصاح زوجي: «إنها سوزوكو!» فملأتني السعادة حتى إنني لم أعد أستطيع السيطرة على نفسي وهرعتُ خارج الملجأ حيث كانت سوزوكو تبكي وقد فتحَت ذراعَيها وجرَت نحوي، شكرًا للسماء! لم يحدث أي سوء ببشرتها، فشعرتُ بالارتياح وجلستُ منهكة، فقال زوجي: «ما دمنا نحن الأربعة أحياء فكل شيء يهون، إن ولدنا سريع الجري، ولعلَّه التجأ إلى مكانٍ بعيد، ومن المؤكَّد أنه غدا صحيحًا معافى.» وعندئذٍ استجمعتُ قواي وذهبتُ إلى التل وأحضرتُ ابنتي، وقضينا تلك الليلة جميعًا معًا داخل الملجأ، وحين حل يوم الثامن من أغسطس كان الصباح مشمسًا، وذهب زوجي ليبحث عن هيروهيسا، وبدأ جيراننا يعودون الواحد تلو الآخر، وكان الناس يقابلون بعضهم بعضًا بالدموع مهنئين أنفسهم بالنجاة. كان المشهد يبدو مثل الروايات وهم يتبادلون الأخبار: «فلان وفلان لم يعودا، وفلان وفلان هربا، فلان وفلان ماتا، وفلان وفلان قضيا نحبهما خلال الحريق.» وبدَءوا رفع الرماد من موضع الحريق فعثروا على أربع جثث لبعض الجيران الذين بقوا داخل المنازل، أما أنا فقد تملكني الذهول.
وعاد زوجي بعد وقتٍ طويل ليقول: «يبدو أنه لا أمل، لعلَّ هيروهيسا كان عند مركز الانفجار!» وظلَّت نظرات ولدي البريئة تلوح في مخيلتي، وأحسستُ أنه في مكانٍ ما يبحث عني، إنه لا بد أن يكون حيًّا، فتوكأتُ على عصًا حتى أستطيع السير بقدمي الجريحة التي أخذَت تؤلمني متجهة إلى موقع المدرسة الإعدادية.
كم كانت المنطقة التي تقع بين كامي ياتشو ومعبد شيرا كاني تبدو مقفرة! موحشة! حتى رائحة الفل أصبحَت كريهة، واتجهتُ نحو موقع المدرسة الإعدادية وقد تملكني الخوف، وسألتُ كل من رأيتُهم عن تلاميذ الصف الأول، ولكن أحدًا لم يكن يعرف عنهم شيئًا. وكنت على يقينٍ أنني سأجد من يهديني إليهم، ولكن منظر الجثث التي تملأ المكان جعلني أشعر بالانقباض، غير أنها كانت لصبيةٍ أكبر سنًا من ولدي أو لأطفالٍ صغار. وقلتُ لنفسي: إن هيروهيسا وزملاءه يتمتعون بصحةٍ جيدة، ولعلَّهم فروا من المكان قبل وقوع الكارثة. واتجهتُ صوب البِركة التي تجاور موقع المدرسة، فشاهدتُ جثة صبي تفترش الأرض، وتفحصتُ وجهها فوجدتُ اسم الصبي مطرزًا فوق قميصه، إنه جوهارا زميل ولدي الذي كان معه في مدرسة واكاياما، يا لتعاسة والدَيه! لعلَّهم يبحثون عنه مثلما أبحث عن ولدي. وتركتُ المكان وقد انفجرتُ باكية وتذكرتُ أن هيروهيسا قال لي يومًا: «عندما وقعَت غارةٌ جوية عدَونا نحو جبل هيجي حيث كنا نتدرب على الجري هناك في اليوم السابق على الغارة تدريبًا عنيفًا.» حينما تذكرتُ قوله هذا ذهبتُ نحو الجسر، ولكن قدمَي لم تساعداني على السير، فجلستُ القرفصاء وقد تبعثرَت حولي الجثث هنا وهناك، ولكن عددها كان قليلًا، وظننتُ أنه لا بد أن يكون قد عبر الجسر في الطريق إلى الجبل، فنهضتُ متحاملة على نفسي لأتابع السير إلى هناك حيث وجدتُ امرأة في منتصف العقد الرابع من عمرها واقفة في المكان، وحين سألتُها: عمَّ تبحثين؟ قالت: «لقد رأيتُ الناس يجرون في هذا الاتجاه يوم السادس من أغسطس، وكان منظرًا فظيعًا!» فذكرتُ لها أن ولدي طالب بالمدرسة الإعدادية وأنه لم يعد حتى الآن؛ ولذلك أبحث عنه، فنصحَتني بأن أكف عن البحث، فقد رأت المئات والآلاف من تلاميذ وتلميذات المدرسة الإعدادية وقد تمزَّقَت قمصانهم كما تمزَّقَت سراويل الأولاد فأصبحوا شبه عراة، وسُلِخَت جلودهم وتشابكَت في بعضها البعض وتورمَّت وجوههم، وأخذوا يقفزون في النهر فتساقطوا فوق بعضهم البعض، وكان من بين الأطفال من ينادي: «يحيا الإمبراطور!» ثم يسقط صريعًا، بينما آخر يترنم بنشيدٍ عسكري، وطفل ثالث يضحك ضحكاتٍ هستيرية، وآخر يصيح بكلام يشبه ما يقال عند القيام بالتمرينات الرياضية، بينما يصيح البعض: «أماه … يا أماه!» واستطردَت قائلة: «إن هذا المنظر لا زال في مخيلتي، حتى إنني أصبحتُ عاجزة عن تناوُل أي طعام.» وعند هذا الحد من الحديث أصابني الجنون، وقلتُ لنفسي لا بد أن يكون ذلك الطفل الذي كان ينادي أمه هو ولدي. وعُدتُ أدراج وأنا أبكي، وفي الطريق كان هناك أناس اصطفوا من أجل الحصول على كمية من الأرز فوقفتُ في الصف، ولم يكن معي شيء أضع فيه الأرز فاستخدمتُ خوذة الوقاية من الغارات الجوية كوعاءٍ حصلتُ فيه على قدر من الأرز ثم عُدتُ إلى الملجأ، فأكلنا جميعًا ولكننا لم نتناول ملحًا منذ السادس من أغسطس، وكان من حُسن الحظ أن قدَّم لنا جيراننا بعض المخللات.
وفي اليوم التالي جاء أحد أقاربنا من أوكاياما لاستطلاع جلية الأمر، وكانت سعادته بالغة حين وجدنا أحياء فأخذ البنتين معه وعاد. وبعد رحيل البنتين ازددتُ وزوجي حزنًا، وعند المساء أخذتُ أتناقش مع زوجي بحدة، فقد كان من رأيي أن يهاجر هيروهيسا إلى الريف حتى تنتهي الحرب، ولكن زوجي رفض الفكرة وقال إنه ليس من المستحسن أن يبقى الطفل على قيد الحياة إذا قُدِّر لأبويه وإخوته أن يموتوا. تذكرتُ هذا فأخذتُ أقول لزوجي ونحن في الملجأ: «أنت السبب لكل ما حدث لولدي، لقد قتلتَه، أنت الذي قتلتَه.» فردَّ عليَّ زوجي قائلًا: «إنه القدر.» فأجبتُ بغضب: «لقد صنعتَ أنت هذا القدر، وصنعتَه بنفسك، هيأتَ له هذا القدر!» كنت فاقدة العقل تقريبًا، ولكنه ظل يحاورني قائلًا: «لقد مات أحد الأمراء، كما مات مديرنا في المصلحة التي أعمل بها أيضًا، حتى مدير المواصلات الشاب قضى نحبه، وولدنا لا يقاس بهؤلاء، إن فقده ليس خسارةً كبيرة.» فازداد جنوني وقلتُ: «لا يهمني كم من المديرين قد مات، كل ما يهمني أن يظل ولدي حيًّا.» وانفجرتُ في البكاء.
وأثناء الليل شعرتُ بقشعريرة فتحسستُ وجهي فإذا بضفدعة فوق جبهتي، فقذفتُ بها بعيدًا، وقلتُ لنفسي إنها مجرد ضفدعة وما زالت تعيش، وأصختُ السمع فإذا بصوت بكاءٍ شديد، ونظرتُ حولي فلم أجد زوجي داخل الملجأ، فاتجهتُ إلى الخارج بهدوء لأجد زوجي قد ركع على ركبتَيه أمام جانب من حطام البيت كان يومًا ما غرفة أطفالنا، يتمتم ببعض الكلمات ويبكي بحرارة، يبدو أنه كان يسأل روح ولدنا الغفران. وشعرتُ بالندم من أعماق قلبي لأن كلماتي الطائشة هي التي سببَت له كل هذا العناء، ولكني فضلتُ أن أتركه يبكي حتى يشعر ببعض الراحة من الحزن العميق الذي يعانيه، وعُدتُ أدراجي إلى الملجأ فانخرطتُ في البكاء، وتبينتُ أن الحزن لم يكن نصيبنا وحدنا، فهناك عشرات الآلاف من الناس لم يعثروا على آبائهم ولا أطفالهم، ومثلهم أيضًا من فقدوا إخوتهم وأخواتهم، وقد اتجهَت عيونهم جميعًا إلى السماء بقلوبٍ مفعمة بالحزن. وكان أنين الناس الذين لا يربطهم بالحياة سوى خيطٍ رفيع يملأ المكان، فتذكرتُ كلمات ولدي هيروهيسا التي كان يتمنى بها انتهاء الحرب، بل واختفاء الحروب من الأرض، إن مثل هذه الكلمات لم تكن كلمات طفل في الرابعة عشر من عمره، إنها كلمات الله، تلك كانت قناعتي.
ومنذ ذلك الحين وأنا لا أكف عن النظر إلى السماء الممتلئة بالنجوم، يُخيَّل لي أن روح هيروهيسا وأصدقائه من تلاميذ المدرسة الإعدادية الذين ماتوا معه، وأرواح شعب هيروشيما الذي قضى نحبه في ذلك اليوم، قد صعدَت إلى السماء، وتحولَت إلى نجومٍ تتألق كل مساء تشع نورًا على الأرض، وكأنها تحميها من تكرار تلك المأساة.