بعد حركات التحرر الوطني التي بدأت في أوائل هذا القرن، واشتدَّت في الأربعينيات
والخمسينيات، وقاربت على تحقيق أهدافها في السبعينيات والثمانينيات، وبعد حصول الشعوب
الأوروبية على استقلالها الوطني، بدأت مهمة البناء الداخلي للدولة باستصلاح الأراضي أو
بقوانين الإصلاح الزراعي، وإقامة صناعات وطنية، وتحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة
الاجتماعية، وسيطرة الشعب على وسائل الإنتاج. وكان من ضمن هذه المهام الدفاع عن تراث
الأمة
وهُويتها القومية؛ حفاظًا عليها من التغريب الذي كان ولا يزال أهم مظهر من مظاهر الاستعمار
الثقافي، واتساع المجال لإبداعها الذاتي، وإنهاء فترة «التتلمذ» على أيدي الغرب، بل تحجيمه،
ورده داخل حدوده، وتقليص إشعاعاته، وإنهاء أسطورة الحضارة الغربية كحضارةٍ عالمية ممثلة
للحضارة البشرية جمعاء.
وكانت إحدى وسائل تحقيق هذا الهدف ندوة «الإبداع الفكري الذاتي في العالم العربي»
١ التي شارك فيها عديدٌ من الباحثين العرب والمسلمين والغربيين هذا العام، وقد
قامت الندوة على أربعة محاور رئيسية:
وسنقوم بعرض أهم الأبحاث التكوينية في هذه الندوة ومناقشتها، وبيان مدى تحقيقها للهدف
من
الندوة أو قصورها عنه بموضوعيةٍ وأمانة، دون الإخلال بوجهات نظر مقدمي البحوث، ودون تخلٍّ
عن وجهة نظر أخرى شاملة تعين على الفهم وتحث على النقاش والحوار.
(١) من نقل المعرفة إلى الإبداع الذاتي
كان الهدف من هذا المحور هو الانتقال بمجتمعاتنا العربية من مرحلة نقل المعرفة عن
طريق الترجمة والشرح والعرض إلى إبداع المعرفة عن طريق التأليف والخلق والأعمال
التكوينية؛ فقد بدأنا عصر الترجمة منذ القرن الماضي، وما زلنا نترجم ونشرح ونعرض. وإذا
ألفنا فإننا نترجم ونجمع ما ترجمنا، نؤلف بينه وننسق، ولا يتعدى دورنا دور العارض
لنظريات الغير، حتى زاد التراكم، وغطت الواقع طبقة سميكة من نظريات الغير، أصبحَت
مانعًا للرؤية، وكونت طبقة عازلة تمنع الإحساس بالواقع وتحليله ورؤيته رؤية مباشرة،
فأصبح العالم لدينا هو حامل المعرفة وليس مبدعها، تاجرًا في سوق الوراقين، بائعًا
لبضاعته، كالحمار يحمل أسفارًا.
وتتمثل مخاطر نقل المعرفة في الآتي:
- (١)
اعتبار الغرب هو المبدع باستمرار، واللاغرب هو الناقل باستمرار؛ بحيث
تكون العلاقة بينهما أبدية، علاقة المعلم بالمتعلم، والأستاذ بالطالب،
والمبدع بالناقل، والخالق بالمخلوق مما يؤدي إلى التبعية الحضارية؛ حيث
تكون العلاقة بين الغرب وغيره علاقة المركز بالمحيط.
- (٢)
القضاء على القُوى الإبداعية للشعوب غير الأوروبية؛ وذلك بحبسها داخل
أرواحها، ودفنها تحت طبقات سميكة من المعارف المترجمة والمنقولة من حضارات
الغير التي تمثلها، وتتربع على عرشها الحضارة الغربية حتى تسكن وتهدأ
وتستكين، فيهدأ بال الاستعمار وتقوى دعائمه. وقد كانت مهمة الاستعمار
باستمرارٍ القضاء على الهويات القومية المعبرة عن روح الأمة، كما حدث في
الجزائر وإيران، وفي كثيرٍ من البلدان الأخرى في آسيا (فيتنام) وأفريقيا
(جنوب أفريقيا) وأمريكا اللاتينية (المكسيك).
- (٣)
ضياع معالم الشخصية القومية في العلم، وتحويل العلم إلى مجرد نظرياتٍ
مبتورة الجذور، لا مكان لها ولا وطن، ولا مستقر ولا مقام. ويكون الأمر أكثر
خطورة في الفن وفي مظاهر الإبداع الفني التي تعبر عن تلقائية الروح، فسادَ
التقليدُ، وظهرت التكعيبية والسيريالية في أفريقيا!
- (٤)
إعطاء الحضارة الغربية أكثر مما تستحق، واعتبارها مركز الكون، ومنبع
الحضارات، وأنها الحضارة «بالأصالة»، ممثلة للحضارات العالمية، مع أنها
حضارة بيئية خالصة، نشأت في ظروفٍ خاصة، وذات طابع محلي صرف. وكان ادعاء
عالميتها إحدى وسائل التبشير والاستعمار التي استعملها الغرب خارج حدوده
للسيطرة على قدرات الشعوب، وحصار قواها الذاتية، ومحو حضارتها الخاصة،
وإهدار إمكانياتها، والقضاء على ثقافاتها الوطنية.
- (٥)
استحالة اللحاق بالإنتاج الغربي لغزارته؛ وبالتالي فإن معدل الترجمة يكون
أقل بكثيرٍ من معدل الإنتاج، مما يعطي الشعوب غير الأوروبية الإحساس
بالتخلف، وبأن الزمن يسير في غير صالحها، وأن مصيرها هو أن تلهث وراء الغرب
دون أن تلحقه فتصيبها «الصدمة الحضارية» التي لا تفيق منها، وكأن انتكاسات
الغرب، ومخاطر الحرب النووية، وثورات الشعوب حفاظًا على أصالتها وهُويتها
لا وجود لها.
- (٦)
عزل الشعوب غير الأوروبية عن واقعها، وهو مادة علمها، وإخراجها عن
الطبيعة وهي مصدر العلم حتى تصاب بالعجز التام عن التعامل مع الواقع،
وبالعمى التام عن رؤيته فتتحوَّل ثقافاتها إلى ثقافاتٍ مكتبية لا شأن لها
بحياة الشعوب، فيحدث الفصل بين الثقافة والواقع، وبين العلم والتجربة، وبين
الحضارة والحياة فتموت الروح ويخمد الجسد.
- (٧)
عدم تطوير المجتمعات ومنع تقدمها؛ إذ إنها تلبس «قشرة الحضارة، والروح
جاهلية»، وتكون لدى الشعوب أحدثُ منتجات العصر ووسائل الترفيه، ولكن تظل
متخلفةً بتصوراتها للعالم وبعاداتها وممارساتها اليومية من البصق والتبوُّل
في الطرقات، واستغلال الشعوب باسم الدين، وانتظار الفرج والإلهام.
ولكن للأسف لم تستطع البحوث المقدمة — في هذا المحور — تحقيق هذا الهدف؛ فقد ظل أحدها
عامًّا للغاية يتحدث عن الكل ولا شيء، والعموميات لا تحقق أهدافًا ولا تسمن عجافًا،
والأفكار التي لا مكان لها ولا زمان والتي لا تضع مشكلاتٍ أو تحاول حلها تكون أشبه
بأفكار الصالونات الأدبية، أو المنتديات الثقافية، أو الهيئات الدولية، يطير ممثلوها
من
الشرق إلى الغرب، أو من الغرب إلى الشرق فيُمحى بعد المكان والزمان. وما أسهل التنقُّل
بين الخبرات الدولية كالتنقل بين الأزهار في بستان، خاصة لو كان البحث عرضًا شفاهيًّا
ليس له نصٌّ مكتوب موزع على المشاركين، ومقروء من قبل.
٢
ولم يستطع البحث الرئيسي في هذا الموضوع تحقيق الهدف المرجو من هذا المحور الأول، بل
عمل على تحقيق الهدف المضاد، وهو الإقلال من شأن التراث الذاتي، والإعلاء من شأن تراث
الغير، وإعطاء تراثنا أقل مما يستحق، وإعطاء التراث الغربي أكثر مما يستحق،
٣ ففي تشخيص المشكلة يتم الربط بين الرؤية المستقبلية والعلم، مع أنها في
الغرب سابقة على العلم؛ إذ إنها وليدة فلسفة التاريخ التي هي بدورها وريثة العناية
الإلهية التي تحولت على يد هردر وكانط ولسنج إلى غائيةٍ في التاريخ؛ فالرؤية المستقبلية
مرتبطة — حتى في الغرب — ارتباطًا جوهريًّا بالدين، وهي موجودة في الأخرويات وفي
الإعداد للحياة الآخرة، وفي إثبات خلود النفس وفي النبوة ذاتها التي تعني قراءة
المستقبل، كما هو معروف من لفظ «نبي» المشتق من فعل «تنبأ»؛ وبالتالي كانت النبوة
والنبوءة صنوَيْن. وفي تعليل المشكلة بالأسباب الدينية، فإن التواكلية إحدى الاتجاهات
في التصوف، وقد سادت لظروفٍ تاريخيةٍ إبان تخلف المجتمعات الإسلامية، ولكنها كانت إحدى
الاتجاهات مع اتجاهات أخرى مضادة لها، تثبت خلق الأفعال وحرية الإرادة والتدبر والروية
والتخطيط والإعداد للمستقبل، على ما هو معروف عند المعتزلة وفي «سورة يوسف» في القرآن
الكريم وتدبير يوسف لأعوام القحط بتخزين الغلال، بالإضافة إلى محاربة القرآن للعِرَافة
والتنجيم والأزلام والأنصاب، وضرب الأقداح والطِّيرة والفأل إلى آخر ما هو معروف عند
العرب، وعند القبائل السامية بوجهٍ عام، أما الأخرويات فإنها تعني الإعداد للمستقبل
والسعي والكد والكدح، وأن العمل هو وحده مقياس التقييم، أما ختم النبوة فإنها لا تعني
توقف التاريخ والتطور، بل اكتمال الوعي الإنساني واستقلال الإرادة والعقل، وتستمر
النبوة في العلم؛ فالعلماء ورثة الأنبياء، وفي الاجتهاد وإعمال العقل والاستدلال والنظر
والدراية، وقد اكتمل التاريخ عند كانط وهيجل وهوسرل، وعند كل فلاسفة التاريخ، ولم يمنع
ذلك من ظهور الدراسات المستقبلية في الغرب، ولا يمثل المستقبل أي خطرٍ على القيم
الدينية؛ فقد قال المعتزلة بالتوليد أي مسئولية الإنسان عن أفعاله المستقبلية، والقرآن
نفسه يميز بين التأخُّر والتقدم
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ
يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٧٤: ٣٧)، أما الأسباب الحضارية فهي في حقيقة
الأمر أسباب دينية أيضًا؛ فالعصر الذهبي المجيد في الماضي الذي ولَّى ولا يمكن اللحاق
به، والذي يمثله حديث «خير القرون قرني …» موجود في كل فلسفات التاريخ، والحديث نفسه
ضعيف ضد روح الإسلام القائم على التخطيط والتدبر، والإعداد للمستقبل والفتح، ومحاربة
القرآن للتخلف والقعود والاستثقال والارتكان إلى الأرض، أما حديث المجددين المشهور «إن
الله يبعث على رأس كل مائة سنة مَن يجدد لهذه الأمة دينها.» فإنه يعني الإصلاح والتغير
وإعادة التفسير، طبقًا لظروف الحياة في الدين والدنيا معًا، وليس في الدين فقط،
والإسلام لا يفرق بين الدين والدنيا، والاجتهاد نفسه لا يعني الارتباط بالأصل قدر
اعتبار الفرع، بل إن المصلحة يمكن أن تُقضى بإعطاء الأولوية المطلقة للفرع على الأصل،
أي للجديد على القديم؛ لذلك سمَّى إقبال «الاجتهاد» مبدأ الحركة في الإسلام، أما عقيدة
المهدي المنتظر فهي إحدى العقائد التي تبعث المجتمعات على الثورة، كما هو واضحٌ في معظم
دراسات علم الاجتماع الديني في موضوع «المشيانية»
Messianism التي تقوم على التخطيط والإعداد
للمستقبل وظهور المخلِّص آخر الزمان. هذه الأسباب الدينية يمكن تأويلها لصالح النظرة
إلى الخلف، كما يمكن تأويلها لصالح النظرة إلى الأمام، ويكون المحك حينئذٍ هو موقف
الباحث المسبق من موضوع «الدين والتقدم»، أما الأسباب الاجتماعية والسياسية فإنها لا
تخصُّ العالم العربي والإسلام وحده، بل هي نظريات عامة في علم التاريخ مثل انهيار
التاريخ في كل حضارةٍ في دورته الأولى، دون أن يسبب ذلك بالضرورة نظرة تشاؤمية قدرية
أبدية، خصوصًا لو كان التفاؤل هو جوهر الوحي
لَا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللهِ (٣٩: ٥٣)،
وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ
فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (٤١: ٤٩). أما الحتمية الطبيعية وتفسير سلوك المجتمعات
بالبيئة الزراعية الصحراوية في مقابل البيئة الصناعية، فإنه تصورٌ غربي خالص يربط بين
الزراعة والتأخر والصناعة والتقدم، وقد استطاعت مجتمعات زراعية مثل الصين وفيتنام ومصر
أن تقيم حضارةً وتخطِّط للمستقبل، أما أيديولوجيات الماضي فلها ما يقابلها في نظريات
الصلاح والأصلح الغائية عند المعتزلة، بل في ارتقاء الصوفية وفي تصورهم لتطوُّر العالم
كما هو الحال في «فصوص الحكم» عند ابن عربي، إن لفظ «التقدم» في النهاية لا يعني القديم
في مقابل الجديد، بل التقدم في الزمان في مقابل التأخر؛ وبالتالي فقد حاول الباحث
انتقاء حجج ومواطن من التراث لتؤيد حكمًا مسبقًا لديه، وهو عدم توجه الذهن العربي نحو
المستقبل، كما يتوجه الذهن الغربي الذي حول المستقبل إلى همٍّ وصنعة، وفقد الحاضر
والماضي والطبيعة والتلقائية، وسعى إلى مستقبلٍ مهدد بالفناء والدمار بالأسلحة النووية.
٤
(٢) العلم والتكنولوجيا: من التبعية إلى التحرر
ويهدف هذا المحور إلى إثبات أنه حتى في مجال العلم والتكنولوجيا لا يوجد نقل بل
إبداع، ولا توجد تبعية بل استقلال؛ فالعلم — وتطبيقاته في التكنولوجيا — مرتبط بالنظرة
العلمية للكون. لا ينشأ في جيلٍ واحد، بل نشأ في الغرب في عدة أجيال نتيجة لتراكم حضاري
طويل، سالت فيه الدماء، وحُرقت فيه الأبدان، وسُجن فيه العلماء، وعُذب فيه الرواد، وقد
حدث ذلك على النحو الآتي
- (١)
تحرير الوجدان الأوروبي في عصر الإحياء، في القرن الرابع عشر من ثقل
العصر الوسيط في الدين والعلم والفلسفة، وبدأ اكتشاف أدب القدماء الإنساني
في أدب اليونان وإحيائه والنسج على منواله؛ فلا إبداع بلا بحث في الأصول،
وبلا خيال وشعر وأدب (بوكاشيو، بترارك).
- (٢)
كانت حركة الإصلاح الديني تاليةً للإحياء وسابقة على تأسيس العلم، فتصحيح
موقف الإنسان في العالم شرط لقيام العلم، وكذلك الصلة المباشرة بين الإنسان
والله دون توسط، وحرية الإنسان في تفسير الكتب المقدسة، وأولوية التقوى
الباطنية على المظاهر الخارجية والطقوس والشعائر، وارتباط الدين بالوطن
واللغة القومية، فإعادة بناء الموقف الحضاري هو شرط قيام العلم، وهو الذي
يسمح بظهوره، وقد تم ذلك في القرن الخامس عشر، وكان ثمنه المطالبة برأس
لوثر ومذابح البروتستانت.
- (٣)
تحقيق نهضة شاملة تقوم على اعتبار الإنسان محورَ الكون، والطبيعة مصدر
العلم، وتقوم بمهمة نقد القديم، وإفساح المجال للجديد، وإعادة بناء التراث،
وقد تم ذلك في عصر النهضة، في القرن السادس عشر، وظهور النزعة الإنسانية
وبداية تأسيس العلم الطبيعي، وكان ثمن ذلك محاكمة كوربنيكس وحَرْق جيوردانو
برونو علنًا لنظرياته في الفلك وفي الإنسان المعارضة لأرسطو
والكنيسة.
- (٤)
الإعلاء من شأن العقل، واعتباره آلة العلم، وتأسيس المنهج العقلي
الاستدلالي (ديكارت). وتحوُّل العقلانية إلى تيارٍ حضاري من أجل إعادة قيام
النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على أسسٍ عقلانية، فحرية الفكر
ليست خطرًا على التقوى، ولا على سلامة الدولة، بل إن القضاء على حرية الفكر
خطر على التقوى ويهدد سلامة الدولة (اسبينوزا). وقد تم ذلك في القرن السابع
عشر، وكان الثمن تعذيب جاليليو ومحاولة اغتيال اسبينوزا بخنجرٍ في الظهر من
الخلف.
- (٥)
تفجير العقل في شتى مجالات الحياة، وظهور تطبيقات العقل في المجتمع،
فاندلعت الثورة الفرنسية تطبيقًا لمبادئ فلسفة التنوير: العقل، والطبيعة،
والإنسان، والتقدم، والحرية، والديمقراطية، ودفع الثمنَ شهداءُ الثورة
الفرنسية من المفكرين الأحرار، ووُضعت رقابهم تحت المقصلة مثل
كوندرسيه.
- (٦)
الانتقال من العقل إلى المادة، ومعرفة قوانين الحركة والتطور، ونشأة
العلم التجريبي وقيام الثورة الصناعية، وظهور مكتشفات العلم وتطبيقاته، حتى
أصبحت الحضارة الأوروبية مرادفة للحضارة العلمية الصناعية، وكان الثمن تهم
الإلحاد والكفر والمادية ضد العلماء، وقد تم ذلك في القرن التاسع
عشر.
- (٧)
ظهور الثورة الصناعية الثانية، وتطبيقات العلم في التكنولوجيا، وظهور
المجتمعات الصناعية المتقدمة، والحاسبات الآلية، وحساب مستقبل العالم، وقد
كان الثمن المدفوع هذه المرة من روح الحضارات ودماء الشعوب. وعلى هذا
النحو، كانت التكنولوجيا وريثة العلم، والعلم وريث التنوير، والتنوير وريث
العقل، والعقل وريث النهضة، والنهضة وريثة الإصلاح، والإصلاح وريث الإحياء.
ولم يحدث العلم في فراغ، ولم تنشأ التكنولوجيا من عدم؛ وبالتالي كان نقل
العلم والتكنولوجيا دون المراحل الممهدة لها هو نقل لمظاهر التقدم على أسسٍ
من التخلف.
ولم تستطع الأبحاث المقدَّمة في هذا المحور تحقيق هذه الرؤية على وجه التمام؛ فقد
وقعت بعض الأبحاث في النموذج الغربي للتقدم عن طريق النقل المباشر لآخر إنجازات العصر،
فامَّحت خصوصيات الشعوب نظرًا لتقدم وسائل الاتصال التي قضت على بُعد المسافات وتمايز
الحضارات،
٥ ويمكن تلخيص الوضع كالآتي:
- (١)
اعتبار الحضارة الإنسانية واحدة، وأن التفاعل الحضاري قادر على صهر
الحضارات؛ وبالتالي إنكار خصوصيات الشعوب، وتكون الحضارة الغربية ونموذج
تقدمها هو النموذج الأوحد للتقدم لكل الشعوب، وعلى رأسها الشعوب غير
الأوروبية.
- (٢)
النظر إلى التراث على أنه يمثِّل عودة إلى الماضي بالضرورة، وعلى أنه
أساس الدعوات المحافظة في حين أن التراث قد يكون أيضًا رؤية مستقبلية، وقد
يكون قادرًا على إقالة الحاضر من عثراته والإعداد للمستقبل، وتهيئة شروط
التقدم.
- (٣)
إنكار محاولات كل شعبٍ لتحقيق التغير الاجتماعي من خلال التواصل الحضاري
والتجانس في الزمان، واعتبار أن محاولات الجمع بين النقل والعقل، وبين
الماضي والحاضر، وبين التراث والتجديد، كلها محاولات مدانة سلفًا، وإيثار
نموذج الانقطاع. فالدولة العثمانية انقطاع في المجتمع العربي. في حين أن
المجتمع العربي هو الذي يمثل انقطاعًا عن الدولة العثمانية، فما زالت
التيارات الثلاث الرئيسية المكونة لفجر النهضة العربية؛ وهي الإصلاح الديني
والتيار العلماني والتيار الليبرالي، ما زالت كلها مفروضةً في الإسلام
فعلًا أو رد فعل أو إعادة صياغة وبناء.
- (٤)
إنكار تجارب الشعوب الأصلية، وطرق التغير الاجتماعي التي تقوم على
المحاولة والخطأ مثل التجربة الناصرية، والاشتراكية العربية، والاشتراكية
الأفريقية، ومحاولات أمريكا اللاتينية لإقامة علوم اجتماعية وطنية مستقلة
عن العلوم الاجتماعية الغربية، واتهام كل التجارب الأصلية (محمد علي، عبد
الناصر) بأنها نماذج غربية برجوازية.
- (٥)
التأكيد المطلق على أن عوامل التغير والتنمية تكمن حقيقة في القوى
الاجتماعية والعوامل الاقتصادية؛ مما يوحي بمنهجٍ مادي خالص على الرغم من
أثر الأفكار والمعتقدات وأنساق القيم في سلوك المجتمعات النامية، وتحديد
تصوراتها للعالم وبواعثها، وأنها لا تقلُّ مادية من ناحية الأثر عن العوامل
المادية الفعلية.
ويقوم بحثٌ آخر بتصحيح الوضع، فيرفض محاكاة الغير وتقليد النمط الغربي،
٦ ويحدد عقبات الإبداع في خمس؛ أولًا: الاستمرار في محاكاة النمط الغربي من
أجل سد الفجوة أو اللحاق بالركب؛ وذلك لأن محاكاة الغير تقضي منذ البداية على أي حافزٍ
للإبداع، ما دام ما نحتاج إليه معدًّا وموجودًا سلفًا. ثانيًا: الاستيراد على نطاقٍ
واسع للمنتجات التكنولوجية دون جهد مواكب لتملك ناحية التكنولوجيا ذاتها، باعتبارها
مجموعةً من المهارات والمعارف. ثالثًا: غياب حرية الفكر والتعبير وسيادة القهر الذي يجد
له مبررات — أحيانًا — في بعض جوانب تراثنا الديني، فلا إبداع إلا في مجتمعٍ واعٍ وعالم
بما يدور على أرضه ومن حوله. رابعًا: النظر إلى العلم نظرة السحر، وأن حقائقه أبدية لا
يمكن نقدها؛ وبالتالي يتحول العلم إلى أسطورة. خامسًا: عبادة القديم أو الانفصال عنه،
في حين أن الموقف النقدي من التراث هو شرط الإبداع؛ فالتراث متغير ومتحول ومتبدل، ويمثل
اجتهادات الأجيال على تباعد الأزمنة والأمكنة.
وبالإضافة إلى البحوث النظرية أو التاريخية في الإبداع، هناك بحوث أخرى تطبيقية في
إبداعات العرب في العلم والفلسفة والاجتماع واللغة، ففي مجال التكنولوجيا حقق العرب
إبداعًا ضخمًا لا نعرفه نحن اليوم، كما نعرف إبداعاتهم في الأدب واللغة والتاريخ وعلوم
الدين.
٧ وهو الإبداع الذي سبقنا الغرب في دراسته في مجال تاريخ العلوم، ولم نلحق به
نحن إلا مؤخرًا بإنشاء معاهد تاريخ العلوم في جامعاتنا، وقد أعطى الباحث نماذج من
منجزاتٍ للهندسة الميكانيكية العربية، وحلل بعض أمهات الكتب مثل «كتاب الحيل» لِلُبنى
موسى، و«الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل» للجزري، و«الآلات الرومانية»
لتقي الدين مع إعطاء أمثلة شارحة من الكتب الثلاث.
٨ ثم يبين الباحث بعض العوامل الكامنة وراء الإبداع التكنولوجي العربي؛
ومنها: أهمية الدولة المستقلة والجيش الوطني، أهمية اللغة العربية، أهمية البحث العلمي
والتجربة والاختراع، الاعتماد على الذات والصنع المحلي، العلاقة بين العلوم التكنولوجية
وبين التطبيق، توافر الخبرات الكافية، رعاية العلماء والمهندسين وتمكينهم من التفرغ
للعمل العلمي، إيمان الدولة بالعلم ونبذ التزمُّت. لم يكن دورنا إذن نقل العلم اليوناني
إلى الغرب، فهمًا أو عن سوء فهم، بل كان إبداع العلم، ولم يعُد تاريخ العلم خارج العلم
إخفاء لمصادر العلم الأوروبي، بل أصبح دالًّا على تصور العلم، وعاملًا على تقدم العلم.
وربما كان البحث في حاجةٍ إلى بيان أثر التوحيد على العقلية العربية في دفعها نحو البحث
عن اللامتناهي في الرياضة، وعن قوانين حركة المادة في الطبيعة، وعن إحساس الأمة
بالرسالة والغاية والهدف، أو ما يسمى بلغة العصر بالمشروع القومي.
وفي مجال الفلسفة يغلب على أحد البحوث طابع الدفاع والتقريظ، للحاضر الحضاري الإبداعي
المؤيد بمنهج النصوص، والشواهد التاريخية على عظمة الإسلام، ودفعه العقل العربي على
التفلسف والنظر والاستدلال، وخلافة الإنسان لله على الأرض، وربط النظر بالعمل، واحترام
فكر الآخرين وحضارات الأمم، واتباع منهج التجريب عند العلماء،
٩ ولن يتم الإبداع في الحاضر المنشود إلا باتباع مناهج القدماء في النظر
والتجريب، ولكي يتم ذلك لا بد من إنشاء جامعات متخصصة من نوعٍ جديد أو على الأقل
اثنتين؛ واحدة للعلوم الإنسانية، والأخرى للعلوم النظرية التطبيقية مع ضمان حرية الفكر.
وقد غاب عن البحث أي تحليلٍ للأوضاع الاجتماعية التي ساعدت في الماضي على الإبداع في
الفلسفة أو في الحاضر التي تعوق هذا الإبداع، ولم يربط الإبداع الفلسفي بأي مشروعٍ
قومي، وكأن الفلسفة تتم في فراغ، لا مكان لها ولا زمان، ودون بيان لكيفية تحقيق ذلك في
نظامٍ سياسي يعتمد على القوة دون العلم.
١٠
وفي ميدان علم الاجتماع بين أحد البحوث مساهمة العرب في علم الاجتماع؛
١١ فقد انفتح العرب على القدماء، ورفضوا الانغلاق والتعصب، وخلقوا أطرًا واسعة
لتطوير ثقافتهم وحضارتهم، وقد تباينت المواقف بالنسبة لإبداع العرب بين موقفين؛ الأول:
عنجهية وأنانية المنهج الأوروبي في التأكيد على أن أوروبا هي منبع العلوم. والثاني: رد
فعل مضاد يجعل للمفكرين الشرقيين آثارًا حاسمة على الفكر الأوروبي منشأً وتطورًا،
تعصبًا بتعصب، وهوًى بهوًى. ويحاول الباحث شقَّ طريقٍ ثالث موضوعي علمي هادئ. ويجد ذلك
في ابن خلدون كمؤسس لعلم الاجتماع قبل أوجست كونت؛ فقد وقف العرب موقف الرفض من منطق
أرسطو من منظورٍ اجتماعي وليس فقط من منظورٍ فلسفي، كما حدث بعد ذلك في الغرب، كما رفضه
الفقهاء عندما رأوا مخاطر القياس في علوم الدين والدنيا، وقد نقد ابن خلدون منطق أرسطو
ظاهريًّا وذلك لأنه مجرد آلة للعلم، وباطنيًّا بنقده الصورية وبحثه عن منطق الحس
والتجربة والاستقصاء لمعرفة الواقع، لقد أسس ابن خلدون مناهج البحث التاريخي، ودرس
المجتمعات البشرية وتطورها دراسةً علميةً تجريبية تاريخية، وميز بين المجتمع والدولة،
وهو ما لم تعرفه أوروبا إلا مؤخرًا، وبيَّن عوامل تطور المجتمعات وقوانين التطور
الاجتماعي، وجعل للعلوم الإنسانية منهجًا خاصًّا، في حين أن الغرب ظل حتى الآن يستعير
لها مناهج العلوم الطبيعية لدراسة الظواهر الإنسانية. كما استطاع ابن خلدون أخيرًا أن
ينتهي إلى تصورٍ شامل وكلي للمجتمع نفسه، يضع الفكر والثقافة في إطارهما السياسي
والاجتماعي والاقتصادي، ويبدو أن الباحث ما زال تحت تأثير رد الفعل على الغرب وتحيزه
لحضارته.
وفي بحثٍ آخر يعتمد على علم نفس الطفل الغربي، وعلى تجربةٍ خاصة على ابن الباحث،
تظهر
إمكانية تعلم اللغة العربية منذ الطفولة الأولى إذا ما تحدثها الطفل في المنزل؛
١٢ وبالتالي تسقط دعوى القائلين بترويج العامية كلغةٍ للحياة اليومية، وإبقاء
الفصحى لغة الثقافة والتدوين: وعلى هذا النحو يتحقق الإبداع، ولكن بأطرٍ نظرية غربية
وبمناهج تربوية غربية دون إحساسٍ بالتناقض بين شروط الإبداع وأطر الإبداع ونتائج
الإبداع، ودون أية إشارة إلى دراساتٍ لغوية مشابهة في تراثنا اللغوي القديم.
(٣) التراث والنهضة الحضارية
وهو أغنى المحاور وأهمها، بل محورها الأساسي لأن المحاور الثلاثة الأخرى كانت تعود
وترجع إلى هذا المحور، أي الصلة بين التراث القديم والنهضة المعاصرة. ويهدف هذا المحور
بالفعل إلى البحث عن شروط الإبداع في ربط الماضي بالحاضر، والحفاظ على الهوية القومية
المتمثلة في تراث الأنا في مواجهة التغريب المتمثل في تراث الغير، وإعادة بناء تراث
الأنا على التجارب الوطنية المعاصرة، رصيد الشعوب الضخم المتمثل في خبرات أجيالها الحالية،
١٣ فإذا كان الغرب قد أعطى نموذج النهضة على أنقاض التراث، فإن المجتمعات غير
الأوروبية تعطي النموذج الآخر للنهضة على أكتاف التراث؛ وبالتالي تكون البشرية أمام
نموذجَين: الانقطاع أو التواصل. والتراث لدى الشعوب النامية، وهي الشعوب التاريخية، هو
الذي يعطيها هُويتها وأصالتها وخصوصيتها، ويحميها من التميع والتغريب والذوبان في
الآخرين. وتمتد جذوره في وجدان الشعب، يحدد تصوراته للعالم، ويعطيها موجهات للسلوك،
يعطيها عمقها التاريخي ضد النقل والاستيراد، ويجعل حاضرها أكثر ازدهارًا وكمالًا وغنًى
من التحديث المنقول، ويدفعها نحو التقدم، ويطلق طاقاتها؛ وبالتالي تتحقق الاستمرارية
التاريخية وخصوصيات الشعوب، وتتعدد النماذج، وتتجاور فيما بينها، وتكون الحضارات كلها
على مستوًى واحدٍ من المساواة، وتكون علاقاتها علاقات تبادل وتساوٍ لا علاقة مركز
وأطراف. ولا تقتصر مادة التراث فقط على التراث الديني، الكتب المقدسة والعلوم الدينية،
بل تشمل أيضًا الأمثال العامية والأدب الشعبي والسير والملاحم التي ما زالت الشعوب
تستشهد بها، بالإضافة إلى تجاربها ورصيدها الحياتي وخبراتها اليومية المعاشة. ولما كان
كل تراث يشمل النقيضين، أتت أهمية تفسير التراث كشرطٍ للنهضة الحضارية عن طريق استبعاد
أحد النقيضين الذي يتعارض مع مصلحة الأمة ومتطلبات الأجيال الحاضرة؛ وبالتالي تتم قراءة
الحاضر في الماضي، وينتقي من القديم ما يحقق مصالح الأغلبية، ويعاد الاختيار بين
البدائل طبقًا لحاجات العصر. وتتمثَّل سلبيات التراث في التصور التسلطي للعالم المتمركز
حول الواحد، وسيادة المعرفة النصية كما هو الحال في علم أصول الدين، وغلبة المنطق
الصوري، والتصور الثنائي للعالم، وسيادة الفضائل النظرية على الفضائل العملية، كما هو
الحال في علوم الحكمة، وسيادة القيم السلبية على القيم الإيجابية، كما هو واضح في
التصوف، وتتمثل إيجابيات التراث في جوانبه العقلانية والطبيعية والإنسانية والعملية
والاجتماعية، كما هو واضحٌ في التراث الاعتزالي. والتراث ليس موجودًا فقط في بطون الكتب
وأمهات المتون بل هو سلطة، تمثلته حركات المعارضة من شيعةٍ وخوارج ومعتزلة، كما تتمثله
القوى الاجتماعية المختلفة، العليا أو المتوسطة أو الدنيا. كما أصبح الآن نقطة انطلاق
إلى الثورة بعد تغيير المراكز من الواحد إلى الكثير، أو من الله إلى الإنسان، أو تغيير
المحاور من الأعلى والأدنى إلى الأمام والخلف، أو في تغيير المستويات اللاهوتية
والفقهية والصورية إلى المستويات الفردية والاجتماعية.
ويقف التراث الذاتي في مواجهة تراث الغير لتحجيمه، ورده داخل حدوده، وإفساح المجال
للإبداع الذاتي؛ فالحداثة لا تعني العيش على مستوى الإنتاج في الغرب والتمتع بها، سواء
في أساليب الحياة أو في الاطلاع على آخر صيحات العصر في الثقافة والأدب والفن؛ فالحداثة
بهذا المعنى تروج للتقدم الخارجي، وتترك التخلف في الأعماق، وتُحدث الانقطاع بين الحاضر
والماضي، وتولد المحافظة من أجل الدفاع عن الوضع القائم، وتقضي على خصوصية القديم
ونوعيته، ويستحيل من خلالها اللحاق بالغرب، وتكون طبقة من المستغربين المتأوربين تدين
بالولاء للغرب والدوران في فلك الأجنبي. ومع ذلك فقد استطاعت الحداثة بهذا المعنى تكوين
جيل من المتخصصين كانت له فاعليته وأثره في الحياة، وتعليم أجيال لاحقة من الوطنيين،
وتكوين نوافذ مفتوحة على العالم الخارجي، ونوافذ للعالم الخارجي على العالم العربي.
وكانت خطورة ذلك أن نشأ تزاوجٌ بين التحديث والتغريب، فأصبحت وظيفة الشعوب الناهضة
النقل والاستيعاب، تخلط بين العلم والمعرفة، بين نشأة العلم ونتائج العلم، بين التصور
العلمي للعالم واكتشافات العلم، وتتصوَّر أن التقدم هو استيراد آخر المخترعات
والإنجازات التكنولوجية الحديثة، فتقفز إلى النتائج دون المقدمات، وقد أدى التغريب على
هذا النحو إلى عدة مخاطر منها التعلم المستمر والتتلمذ على أيدي الغير إلى ما لا نهاية،
وتحويل الذهن من مبدعٍ للعلم إلى متلقٍّ للعلم، واستمرار الترجمة والنقل إلى ما لا
نهاية في ذاتها، وليست وسيلة للتمكن من شروط الإبداع، وتكوين مركب العظمة الحضاري لدى
الشعوب الغربية، وفي مقابلها مركب النقص الحضاري لدى الشعوب غير الأوروبية، ما دامت
العلاقة بينهما باستمرارٍ أحادية الطرف؛ طرف يعطي وطرف يأخذ، وضياع قدرة العقل على
التفكير، وتحويله إلى وظيفة الذاكرة في الاستيعاب والحفظ، حتى أصبحت الحضارة الغربية
هي
النموذج الأوحد لكل الحضارات، وتم تزييف الحضارات الأخرى على يد الاستشراق
والأنثروبولوجيا، وانتشرت خارج الحدود كمقدمةٍ للاستعمار أو كتاليةٍ له كأحد مخلفاته.
ومنذ فجر النهضات القومية بدأت الشعوب المتحررة حديثًا في التحرر من الأسر الحضاري
الغربي بعد أن رأت نفسها في مرآة الغير، فاطلعت على الجديد، وحدثت لها الصدمة الحضارية،
ونهلت من حضارة الغير، وبدأت في النقد الذاتي للتراث. حاولت الحضارات الوطنية تأصيل
حضارات الغير مثل العقل والطبيعة والعلم والنزعة الإنسانية والحرية والديمقراطية
والتقدم، وكأنها منبثقة من التراث القديم، ثم حدثت محاولات لتحجيم الغير، وتم إدراك
محلية الثقافة الغربية، وأنها ثقافة بيئية خالصة، لها بداية وتطور ونهاية، وحدثت
محاولات عدة للتخلص من آثارها، وكتابة تاريخ جديد من منظورٍ غير أوروبي، ومحاولة إقامة
علمٍ جديد لنقد الغرب «الاستغراب» أسوة بالاستشراق، وكان في ذلك إفادة للغرب ذاته لرؤية
ذاته في مرآة الغير، كما رأينا ذواتنا في مرآته منذ عدة أجيال وإبان عصر نهضته، وذلك
كله من أجل القضاء على تمركز العالم حول الغرب، ووضع الحضارات الإنسانية كلها على نفس
المستوى بعد حَصْر «فائض القيمة التاريخي»، ورده للشعوب التاريخية صاحبة الحق
فيه.
وبعد إثبات تراث الأنا وتحجيم تراث الغير تبدأ النهضة الحضارية؛ وذلك بصياغة الثقافة
الوطنية ابتداءً من حركات التحرر الوطني؛ حيث انتهى عصر الهيمنة الأوروبية، وظهرت
ثقافات التحرر الوطني، وتفجير القوى الوطنية الخلاقة، وصياغة المشروعات القومية. وقد
أعطت ثقافات التحرر الوطني نماذج عدة مثل الثورة الثقافية في الصين، والمقاومة
الفيتنامية، والثورة الكوبية، وثورات الفلاحين في أمريكا اللاتينية، والثورة الأفريقية،
وأخيرًا الثورة الإيرانية. كما أبدعت الثقافة الوطنية في موضوعاتٍ مثل دور الجيوش
الوطنية في قيادة الثورة، ودور الدولة في التنمية، وتحالف قُوى الشعب العامل، وصياغة
الاشتراكية العربية، وبروز القومية العربية كحركة تحرر وطني، وتكوين حركة عدم الإنجاز.
وتمثل اتجاهات التجربة لدينا ثلاثة تيارات؛ الأول: الإصلاح الديني أو الإصلاح السياسي
الذي استطاع إشعال الثورة ضد الاستعمار، والدفاع عن الحرية والديمقراطية ضد طغيان
الحكام، والدعوة إلى الاشتراكية، والعدالة الاجتماعية، والإسهام في حركة التقدم،
والدعوة إلى العلم والقوة والصناعة، والدعوة إلى وحدة الأمة الإسلامية. ومع ذلك فقد
كانت له حدودٌ منها: احتياجه لصياغات فكرية محكمة وبرامج وطنية أكثر تفصيلًا، ورفض
الفكر الطبيعي المادي واعتباره إلحادًا، وغياب التمييز بين مفاهيم الإصلاح والنهضة
والتغير الاجتماعي والثورة، وانتهاء الحركة ذاتها إلى سلفية كما بدأت. والثاني: العلمية
أو الماركسية، وهو الاتجاه الذي بدأ من تراث الغير الذي استطاع أيضًا الثورة ضد
الاستعمار، وتميز بحيويته وحماس أفراده، ومع ذلك فقد كانت له حدود منها: عدم التخلص من
تراث الغير، والدجماطيقية، والحذلقة الفكرية، وغياب الواقع الإحصائي، وعدم قيام وحدة
وطنية بين فصائلها أو بينها وبين غيرها من القوى الوطنية، والولاء للأممية بصرف النظر
عن المصالح القومية للشعوب، وإعطاء الأولوية للمذهب السياسي على الوطني القومي.
والثالث: الليبرالية أو الرأسمالية، وقد قدر لهذا التيار أن يحكم بالفعل، واستطاع بناء
الدولة الحديثة ونشر مفاهيم الحرية والدستور والعدالة، وتفجير الثورات الوطنية،
وارتباطه بالاتجاه الإسلامي، ومع ذلك فقد كانت له حدود منها: نشأة الرأسمالية كنتيجةٍ
طبيعية، وسيادة النظم الملكية الوراثية، والتلاعب بالحرية والدستور والحياة النيابية،
والفساد العام والرشوة والتهرب من الضرائب. وقد تعثرت نهضتنا الحالية نظرًا لعدم وجود
تصور جدلي بين الزمان والتاريخ، بين مرحلة التجربة الوطنية ومراحل التاريخ، فإما نرجع
إلى الماضي كما هو الحال في الحركات الدينية السلفية، أو نستبق المستقبل كما هو الحال
في الحركات العلمانية، وننسى اللحظة التاريخية الحاضرة التي يمكن وصفها بأنها أزمة
الغرب وريح الشرق، والقدرات الذاتية للشعوب غير الأوروبية؛ ولذلك يتم اليوم حصار
الإبداع وإجهاض العقول عن طريق احتكار النظم السياسية للعمل الوطني وعزل المثقفين عنه،
وعدم تجنيد طاقات الشعب كلها لخدمة القضية الوطنية، والعزلة عن الواقع، وعدم وجود خبرات
محلية تبدأ منها التجربة الوطنية حتى يحدث الإبداع، والهجرة إلى الخارج أو ما يسمى
باستنزاف العقول، أو الهجرة إلى الداخل والتقوقع على الذات، والتخصص العلمي الدقيق دون
وعي سياسي، والتعايشية والارتزاق وإيثار السلامة وتوظيف العلم لمن يدفع أكثر، ومحاصرة
المبدعين وإجهاض العقول حتى يعم الإحباط العام ويسري الموت في الروح، ويسود الاكتئاب
والسوداوية.
١٤
وفي نفس المحور يقيم أحد الباحثين تحليلًا لفظيًّا لمفاهيم التراث والانبعاث والإبداع
أو الأصالة، ويستعمل منهجًا لغويًّا اجتماعيًّا فقهيًّا دقيقًا يصل إلى حد القضاء على
التجارب الحية التي خاضتها الشعوب العربية منذ القرن الماضي، ويميز بين عوامل ست في
الخطاب العربي: اللغة، والسلوك المتجسد اللاواعي في سلوك الأفراد، ونوعية الخيال،
والنظرة إلى الكون المستمدة من التوحيد، والنظرة إلى الإنسان المنبثقة من مفهوم الفطرة،
وتصور المجتمع الأفضل المتفرع من مفهوم مكارم الأخلاق، وكان يمكن إضافة عوامل أخرى مثل
الأمة والطبيعة والتاريخ.
١٥ ويوجد هذا الخطاب في ظروفٍ ثلاث: الظرف الزمني أو الآن التاريخي، الظروف
الاجتماعية أو اختيار النخبة إطار الفضيلة والأخلاق، وظروف المواجهة والاعتراض. ولا
يحدث أيُّ انبعاثٍ حضاري إلا بمفهومٍ نقدي تاريخي للثقافة، مثل نظرة العرب إلى التاريخ
الدائرية أو الحلزونية، والبؤس كوعيٍ بالانحطاط، وضرورة أن يتم الانبعاث على يد العرب
أنفسهم، ويقوم الانبعاث على عدة دوافع مثل إرادة توسيع قاعدة الانبعاث والإصلاح وضرورة
اختزال التطور، ولكن البحث يغفل عن خصوصية الثقافة، ويرى وضعها في إطار الثقافات
الإنسانية المشتركة، كما يجعل الوفاء والإبداع متعارضين، في حين أنه لا إبداع بلا جذور،
ولا خلق بلا أصالة، كما أن البحث لا يميز بين العلم وتاريخ العلم، فرياضيات الخوارزمي
وطب ابن سينا يعبران عن تصورٍ علمي في عصريهما، وإن كانت نتائج العلم متغيرة. ويدعو
البحث في النهاية إلى ثورةٍ تربوية على نهج محمد عبده، وهو نهج لا يتفق مع المنهج
الاجتماعي الذي يؤدي بالضرورة إلى الثورة السياسية أي إلى تغييرٍ في البنية
الاجتماعية.
وفي نفس المحور ولنفس الهدف، حاول أحد الباحثين صياغة نظرية ثورية للتراث لخدمة قضية
الهُوية الحضارية والمستقبل، وطرح إشكالية الهوية الحضارية في أوقات الأزمة، كما هو
الحال في الأزمة الراهنة،
١٦ ولا تعني الهوية الحضارية أي بناءٍ ميتافيزيقي أو تاريخي، بل مجموعة
الأنساق الثقافية الحية، ترتسم في مجالٍ تاريخي. والتراث هو ما بقي من التاريخ حيًّا
فيها، وتتكوَّن من عناصر متعددة مثل البيئة والزمن، والحركة الاجتماعية ووسائل الإنتاج،
ونوعية النظم السياسية وقدرات الجماعة. وتكشف عن ذاتها في مفاهيمها للإنسان والكون
والزمن والمعرفة، أما بالنسبة للهُوية الحضارية والمستقبل، فإنهما يتحدان معًا في
الواقع الحضاري وتحديات العصر. ويتميز الواقع الحضاري العربي بعدة أشياء منها: أنه
منطقة حضارية صاغها الإسلام، تشترك في لغةٍ واحدة كأداةٍ للتعبير، مستمرة العطاء،
بنيتها الاجتماعية قديمة، يغذيها الدين، ويعيش مع الرواسب التراثية، وعجزها عن تحويل
أصالتها إلى قُوًى دافعة للتقدم، واستمرار الصراع فيها خصوصًا في جناحها الشرقي، أما
تحديات العصر فتتمثل في ثورتين: ثورة المعرفة وثورة التكنولوجيا، وقد وضعت هاتان
الثورتان الإنسان أمام مفهومَين جديدَين للزمان والمكان، وانقلاب جذري في البنى
الحضارية المختلفة للعالم، وأزمة اتجاه فكري وروحي كامل للحضارة البشرية، وفي نفس الوقت
وضعت هاتان الثورتان العالم الغربي في مواجهة المجتمعات في صراعٍ غير متكافئ نظرًا
لتهدم البنى الاجتماعية والثقافية في العالم الثالث، وشلل النظم الإنتاجية والسياسية
وغزو الفكر الغربي. وفي نفس الوقت ظهرت نماذج حضارية أخرى في مواجهة النموذج الغربي
أفقدت الحضارة الغربية طابعها المطلق، أما المشروع المستقبلي فإنه يتم من خلال متحولين:
العصر والإبداعية الذاتية؛ ولذلك تجد الأمة العربية نفسها أمام صدمتين، صدمة المستقبل
وسرعة التحولات، وصدمة الحداثة نظرًا لبطء التمثلات، وهناك بعض الموانع الداخلية التي
تعوق عملية الإبداع مثل التراث كعاملٍ كابح، ونقص الاستعداد، وعدم التواصل بين النظم
السياسية والقدرات الإنتاجية.
١٧
وفي نفس الوقت الذي غلب فيه الطابع النظري الخالص على معظم بحوث هذا المحور، جاءت
بحوثٌ أخرى يغلب عليها الطابع الدعائي للإسلام، بالاعتماد على منهج النص وشواهد التاريخ؛
١٨ فالدين به استمرار وتغير، ثبات وحركة، من طبيعته انطلاقه بالمجتمع. ولا
خلاف في ذلك بين دينٍ وآخر؛ فالأديان كلها طريق متكامل، والناس جميعًا إخوة؛ لذلك احترم
الإسلام الحضارات السابقة. ويركز الباحث على أن الإبداع الذاتي للحضارة الإسلامية الذي
يتحقق في الفن الإسلامي خاصة في المسجد، فالأشكال الهندسية تعبر عن اللامتناهي والعقبات
هي الأرض السليبة، مما سبب نشأة أدب المقاومة وتفجير طاقات عربية غير محدودة، والإسلام
يحتوي في طياته على مقومات الإبداع مثل الحركة نحو المستقبل واحترام العمل، وتطبيق ذلك
في التربية، ويحدد الباحث دعائم خمسًا للتغيير: أهمية المناهج الخاصة، وإعداد الأفراد،
وإعداد الميزانيات، وإعداد الأبنية والمؤسسات، وصياغة ذلك كله في قوانين ولوائح،
والتغيير شجاعة ومسئولية، وله نماذج إسلامية في التاريخ، ويحدث الإبداع في الإنتاج
والاستهلاك ويكون حينئذٍ في حاجةٍ إلى ترشيد، ولا يكفي الرفض بل لا بد من الانتقال من
الرفض إلى الإبداع. ويبدو أن الباحث غلب عليه الحديث من موقع المسئولية والإعداد
والتخطيط، وكأنه وزير مسئول.
١٩
(٤) الفكر العربي في النظام العالمي الجديد، التحديات والرؤيا
وقد حاولت البحوث في هذا المحور الرابع والأخير بيان إمكانيات الإبداع في الفكر
الإسلامي في مجال السياسة والحكم،
٢٠ وهي قضية قديمة عُرفت عند القدماء — منهجيًّا — باسم الوعي والعقل، وعند
المحدثين باسم التطور، وهي تمثل أهمية خاصة بالنسبة للإسلام؛ نظرًا لأنه خاتم الرسالات،
ولأنه تنظيم فكري شامل، وقد ظهر مؤخرًا التيار السلفي كتيارٍ محافظ بالرغم من دعوة
أئمته المؤسسين إلى الاجتهاد، وقد كانت الحركات الإسلامية المعاصرة رد فعل على حصر
الإسلام في الشعائر والعبادات؛ وبالتالي التأكيد على تحول الإسلام كنظامٍ عامٍّ للحياة،
كما ظهر أثر «الحاكمية» أي السيادة لأبي الأعلى المودودي وسيد قطب على هذه الحركات. ومع
ذلك يجب التمييز بين نوعَين من السلفية: سلفية محافظة وأخرى عقلانية، ويكون حينئذٍ
السؤال الرئيسي: إلى أي مدًى يجب الوقوف عند ظواهر النصوص، وما هو مدى الاجتهاد وإعمال
العقل؟ وطريقة الإجابة على هذا السؤال هي التي تحدد التيار المحافظ أو المجدد، وقد
اتجهت الحركات الإسلامية المعاصرة نحو المحافظة متأثرة بعدة عوامل منها: رفض الأنظمة
السياسية المعاصرة نظرًا لما لاقته هذه الحركات من اضطهاد، والرغبة في العودة إلى
الإسلام بسرعةٍ متناهية، والانتماء إلى جيل الشباب، والعمل السري الذي يقوم على الطاعة
والتلقين، وظهور مصطلحات الجاهلية والمفاضلة. إن مستقبل الحركات الإسلامية مرهونٌ
باستعمال منهج العقل وإعمال الاجتهاد والابتعاد عن منهج النص. وكما يقول ابن القيم إن
تطبيق الشريعة ينطوي على عملياتٍ ثلاث: معرفة الحق، ومعرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على
الآخر؛ وذلك يعني أولوية الواقع على النص على ما هو معروف في أسباب النزول. يبدأ الباحث
بتحديد عناصر المشكلة، وتحديد الوقائع التي يبحث لها عن حكمٍ في الشريعة، ومواضع
الإشكال فيها، ثم معرفة النصوص، ثم تطبيق أحدهما على الآخر. ويجتمع المجددون على ثلاثة
أشياء: ممارسة الاجتهاد والانشغال بالواقع والحاضر والاتجاه نحو المستقبل، والانفتاح
على الآخرين والتعرف على المذاهب والتيارات العالمية، وهو تيار مجلة «المسلم المعاصر»
التي وصفت نفسها بأنها مجلة الاجتهاد، ثم يحاول الباحث بعد ذلك في قسمٍ تطبيقي عن نظرية
الإسلام السياسية، أو نظام الحكم في الإسلام، أو النظام السياسي الإسلامي إعمال
الاجتهاد؛ نظرًا لعدم اعتناء القدماء بهذا الفرع، ونظرًا لأهميته في الصحوة الإسلامية
الجديدة، والتبرير غير صحيح، فقد اعتنى القدماء بالنظام السياسي الإسلامي في فرعٍ من
فروع الفقه هو «الأحكام السلطانية» أو «السياسة الشرعية» أو «الحسبة، وظيفة الحكومة
الإسلامية» أو في أبواب الإمامة في علم أصول الدين، ولكن الاستشراق لم يعتنِ بها كما
لم
يعتنِ بها الباحثون المسلمون نظرًا لتخوفهم في عصرهم من التطرُّق لموضوعات السياسة وطرق
الحكم. ويرى الباحث أنه تغلب على البحوث الحالية في هذا الميدان آفتان؛ الأولى:
الانحصار في قضية واحدة وهي قضية الخلافة أو الإمامة؛ والثانية: غلبة بعض النظريات
الدستورية والسياسية في الغرب على الفكر الإسلامي السياسي المعاصر. ومع ذلك يرى الباحث
أن هناك قنوات غربية لم تخطر على بال القدماء مثل «ديمقراطية القرارات السياسية
والاجتماعية»، «حماية الحقوق والحريات»، وذلك غير صحيح إذ لا تهم الصياغات، فالمهم
المضمون وليس الصيغة، لقد كانت قنوات القدماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
والحسبة، واستقلال القضاء، وعدم جواز عزل قاضي القضاة، وحاكمية الشريعة التي لا تعبر
عن
فئةٍ أو طبقةٍ أو سلطة. ويعد الباحث ظواهر أربعة جديدة أثرت على مشكلة الديمقراطية وهي:
الثورة الإعلامية وقدرة أجهزة الإعلام على توجيه الرأي العام، التعاظم المطرد لدور
أجهزة المخابرات والمعلومات ونفوذها إلى دوائر السلطة وأعماق الأفراد، امتداد فترات
الظروف السياسية غير العادية وتعاقب حلقاتها؛ بسبب تعقُّد لعبة الأمم في عصر السباق
الذري، وأثر الثورة العلمية والتقنية المستمرة على طبيعة ونطاق حقوق الإنسان، وهذه كلها
في حقيقة الأمر أوهام أوروبية تنشرها أجهزة الإعلام ولا تؤثر في أصالة الفكر الإسلامي
أو في طبيعته. ثم يلخص الباحث طرق تجديده للفكر الإسلامي في خمس قضايا رئيسية يعتمد في
البرهنة عليها منهج النص والشواهد التاريخية أكثر من اعتماده على العقل والبرهان،
والبعض منها صحيح، والبعض الآخر خاطئ وهي
- (١)
السياسة الشرعية جزءٌ من شريعة الإسلام وإقامة الحكم الصالح من رسالته
وذلك صحيح.
- (٢)
لم يفرض الإسلام نظامًا سياسيًّا مفصلًا، والخلافة ليست نظامًا محدد
المعالم، وذلك غير صحيح نظرًا لوجود الشريعة الإسلامية واستنباط الفقهاء
وأصل الاجتهاد، وقد ظل نظام الخلافة نظام الحكم الإسلامي على مدى أكثر من
ألف عام. ويدل ذلك إما على عجز الفقهاء المحدثين عن استنباط القوانين
والوعي بمشاكل العصر، وإما أن تكون كلمة حق يراد بها باطل للسماح
بالاستعارة من النظم السياسية الغربية ماركسية أو رأسمالية.
- (٣)
الحكم الإسلامي نظام مدني، وسلطة الحاكم المسلم مرجعها إلى الشعب،
والحقيقة أن الحكم للقانون، وأن التفرقة بين المدني والديني تفرقة غربية،
وأن الشعب مصدر السلطات من خلال البيعة وليس من خلال الشريعة
الوضعية.
- (٤)
جوهر الديمقراطية المعروفة مقبول في الإسلام، ولكن سلطة الأغلبية ليست
مطلقة نظرًا لوجود القانون العام الموضوعي لحماية الأقليات، وأهل الشورى
ليسوا أهل الحل والعقد أو أهل الاجتهاد بل أهل الاختصاص.
- (٥)
عالمية الدعوة لا توجب وحدة الدولة، وهذا صحيح على مستوى السلطة
التنفيذية، أما السلطتان التشريعية والقضائية فواحدة مع أخذ تباين المكان
والزمان في الاعتبار عند المشرع والقاضي.
ويثير بحثٌ آخر موضوع الإسلام والعروبة مبينًا تمايزهما وتكاملهما، والخلاف بين
إسلامية الجماهير وعروبة الطلائع،
٢١ لقد أدى كلاهما، الإسلام والعروبة، نفس الوظيفة في تحدِّي الاستعمار
الغربي، ولو أن القومية العربية كانت متأخرة في الظهور. وقد سبق بها المشرق العربي
نظرًا لظروفه ومعاناته من التخلف والاضطهاد إبان الحكم العثماني على عكس المغرب العربي
الذي ظل ولاؤه للإسلام قائمًا في وحدةٍ عضوية بين الإسلام والعروبة، وقد كان الكفاح ضد
معاهدة سايكس بيكو في المشرق بين الحربَين أحد العوامل الرئيسية في تفجير القومية
العربية، تلك المعاهدة التي عملت على تجزئة العالم العربي إلى دويلاتٍ وطوائف، ثم ظهر
المد القومي الثاني بعد قيام إسرائيل وبروز الناصرية وثورة المغرب العربي في مواجهة
الاستعمار الأوروبي. وفي هذه المواجهة فرض الإسلام نفسه كجزءٍ من حركة التحرر العربي،
وظهرت العروبة والإسلام كدوائر منفتحة بعضها على بعض، كما ظهرت الاتجاهات المعادية
لحركة التحرر العربي، تتمسح بالإسلام أو المعادية للإسلام تتمسح بحركة التحرر العربي،
وقد خلقت هذه القوى المعادية لدى المثقفين عقدة ذنب إسلامية داخل الفكر القومي، وعقدة
ذنب عربية داخل الفكر الإسلامي، وقامت بزرع سوء تفاهم بين عروبة الطلائع وإسلام
الجماهير. وبينما كان إسلام الجماهير يعني تشبثًا بحركة التحرر العربي، فإن النخبة ظلت
متهيبة من موقف الاعتراف بالهُوَّة العميقة بين العروبة والإسلام، والنخبة لم تقوِّ
عروبتها إلى حد اتحادها مع إسلامية الجماهير، وتتمثل المؤامرة الاستعمارية في إيهام
الطلائع بأن إسلامية الجماهير هي نوعيًّا غير عروبة الطلائع، وإيهام الجماهير بأن عروبة
الطلائع هي نوعيًّا إسلامية الجماهير. كما يوحي الاستعمار بأن الإسلام هو علة التخلف
الذي قضت عليه الثورتان؛ الكمالية في تركيا والبورقيبية في تونس، كما يوحي الاستشراق
بضرورة تقديس الماضي الذي يتمثله الأغنياء ويجدون فيه مبررًا لشرعيتهم، ويقع في الإيهام
الأول المصلحون والثوريون، وتقع في الإيهام الثاني النظم الحاكمة. وما من أحدٍ في وقتنا
هذا في أي بلدٍ من البلدان إلا ويشعر أمام الإسلام أنه إزاء قيمة مضطهدة؛ وبالتالي قوة
ثورية، وهذا ما يجعله التوءم التاريخي لحركة التحرر العربي.
وقد أحيطت هذه البحوث العربية الأساسية بمجموعةٍ أخرى من البحوث المقارنة المساعدة
من
باحثين مسلمين وغربيين؛ لإعطاء نماذج تاريخية لمحاولات الإبداع في باقي أرجاء العالم
الإسلامي وفي الغرب، فقد استطاعت بعض البحوث من باحثين مسلمين وَضْع البحوث العربية في
دائرتها الطبيعية، وتدور معظمها في المحور الرابع، وكان أقوى البحوث من هذا النوع
الخطاب الافتتاحي عن أوضاع العلماء المسلمين في المجتمعات الإسلامية قديمًا وحديثًا،
وكيف رعت الدولة العلم وقدرت العلماء، ولم تمارس أي اضطهادٍ عقائدي أو مذهبي أو فكري
ضدهم، على عكس النظم الحالية التي تضحي بالعلم والعلماء؛ بسبب الخلاف الفكري بينها
وبينهم حتى ضاعت الهجرة، وعظم استنزال العقول، فلا علم بلا حرية، ولا علم بلا استثمار،
٢٢ وذكر باحثٌ آخر أن العرب لا يمثلون إلا سدس المسلمين، وأن القضايا الرئيسية
في موضوع الإبداع ليست عربية بقدر ما هي إسلامية، وأن الإبداع الذاتي الإسلامي أكثر
شمولًا وأوسع نطاقًا من الإبداع الذاتي العربي، ومن ذلك أثَّر مفهوم المساواة الإسلامية
على نظام الطبقات الطائفية في الهند، وكيف استطاع الإسلام هز المجتمع الهندوكي من جذوره.
٢٣
وقد حاولت عدة بحوث أخرى، من باحثين غربيين، إعطاء تجارب شعوبهم الخاصة في فرنسا
وألمانيا وإيطاليا وأمريكا اللاتينية؛ لإعطاء الفرصة للمقارنة بين الإبداع الذاتي
العربي والإبداع الذاتي الغربي،
٢٤ وركز أحد الباحثين على أهمية الخصوصية في عمليات الإبداع في الغرب، كان
أهمها نموذج أمريكا اللاتينية التي يتشابه موقفها الحضاري مع الموقف العربي، والتي
استطاعت إقامة علوم اجتماعية وطنية، تأخذ الحياة القومية مادة للعلم في مقابل العلوم
الاجتماعية الغربية،
٢٥ وقد تضافرت جهود جميع المشاركين لإبراز هذه القضية القومية، التي حملت
لواءها مجموعةٌ من طليعة المثقفين العرب والمسلمين.
٢٦