أحاديث في الدين والتحرر الثقافي١
(١) تحرر العقل العربي
(١-١) لماذا لم يتحرر العقل العربي؟ هل لأنه لم يمرَّ بفترةٍ ومرحلةٍ تشبه عصر النهضة الأوروبية؟
لا يمكن الحديث عن العقل العربي والعقل الفرنسي والعقل الألماني، فهذه مصطلحات تكشف عن مواقف عنصرية نشأت في الغرب منذ القرن الماضي، وما زال يتم الترويج لها في إسرائيل عن قصدٍ بدليل آخر كتاب صدر لبتاي بعنوان «العقل العربي» ولدينا عن غير قصدٍ وتبعية للآخرين، ولكن هناك الفكر، ولا يمكن أيضًا أن نطلق عليه العربي؛ فالفكر لا جنسية له، بل هو الفكر الإسلامي أو فكرنا القومي إن شئنا.
كما يصعب الحكم عليه بالتحرر أو عدم التحرر؛ فهذه أحكام مطلقة لا تصدق على عمليةٍ تاريخية ومسار طويل تساهم فيه الإرادات الفردية والجماعية؛ وبالتالي يكون السؤال أصحَّ عن شروط التحرُّر أو درجة التحرر أو نسبة التحرر أو أوجه التحرر، ولا تكون الإجابة علمية عن طريق أخذ نمط آخر من الغرب أو الشرق تقاس عليه عملية التحرر، فلكل حضارةٍ نمطها الخاص، النمط الصيني غير النمط الأوروبي، والنمط الهندي غير النمط الأمريكي؛ وبالتالي ليس عصر النهضة الأوروبي مقياسًا للتحرر، وإن كان يعطي نموذجًا للتحرر في إطار النمط الغربي القائم على الانفصال بين الماضي والحاضر، وليس الاتصال.
ومع ذلك يمكن الإجابة على السؤال على النحو الآتي: بعد انتهاء الحضارة الإسلامية في دورتها الأولى في القرون السبعة الأولى، وأعطتنا نموذجًا أولًا لنشأة الحضارة وتطورها واكتمالها في القرنَين الرابع والخامس، جاء الغزالي وهاجم العلوم العقلية، ودعا إلى العلوم الذوقية، ولم تفلح بارقة ابن رشد في القرن السادس في وقف التيار المناهض للعقلانية، فجاء ابن خلدون ليؤرخ للحضارة الإسلامية في الدور الأول محددًا عوامل النشأة ومركزًا على أسباب الانهيار، ثم استمرَّت الحضارة الإسلامية بطريقٍ آخر، في القرون الخمسة التالية إبان الحكم العثماني، تؤرخ لذاتها، وتدون إبداعاتها ما دامت عاجزةً عن الإبداع، وهو عصر الشروح والملخصات، ولكن منذ قرنَين، منذ محمد بن عبد الوهاب، والأفغاني، والكواكبي، ومحمد عبده، والسنوسي، والمهدي، والشوكاني، والألوسي، بدأنا «الإصلاح»، وهو سابق على النهضة أي إعادة الحياة إلى الموروث الديني، وتخليصه مما علق به من خزعبلاتٍ وخرافات، فطهارة الدين، ونقاء الإيمان شرط أولي سابق على أية نهضة، ولكنه ظل إصلاحًا نسبيًّا أشعريًّا في التوحيد وإن كان معتزليًّا في العدل، أي إنه ما زال قائمًا في نطاق السلفية الأشعرية التي سادت منذ ألف عام دون تقليصها، ثم إيجاد البديل الاعتزالي العقلاني لها. كان التحرُّر إذن محاولةً نسبية فقط فيما يتعلق بقدر العقل على التمييز بين الحسن والقبيح والإرادة الحرة، ولكن ليس فيما يتعلَّق بتصوُّر الله أو النبوة أو المعاد أو السياسة؛ فالعقل ما زال في حاجةٍ إلى نبوة، والمعاد ما زال يدفع بالناس إلى التفكير فيما وراء العالم بعد الموت، وليس في هذا العالم أثناء الحياة، والسياسة ما زالت مركزة حول صفات الإمام وليس حول المؤسسات أو الجماهير ودورها. سادت الأشعرية ألف عام، وظهر الاعتزال على مدى ثلاثمائة عامٍ ثم انتهى، الإشكال إذن هو أن السلفية في حياتنا ما زالت لها الأولوية على العقلانية، والاعتزال يعني أن يكون العقل قادرًا على تصور الحقائق، الله كمبدأ وليس كشخص، الإنسان حرٌّ عاقل، والطبيعة مستقلة لها قوانينها الثابتة، والإنسان له ماضٍ وله مستقبل، ولكن يعيش في حاضره بعمله وجهده في مجتمعٍ ودولة يختار نظامها، وعليه واجب «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، إذا استطعنا إيجاد الأشعرية إلى جانب الاعتزال تحرر العقل وأرسينا قواعد النهضة وشروط التقدم.
(١-٢) يرى البعض أن هناك فرقًا يصل إلى ١٦٠٠٠٠ عام بين العقل الأوروبي والعقل العربي؛ لأن العقل الأوروبي يدخل الآن مرحلة تغير كيفي جديدة، ما رأيكم؟
إن أخطر ما يهدد أمة هو اليأس، اليأس من نفسها، والولولة المستمرة، والإحساس بالنقص أمام الآخرين. وفي معارك التخلف والاستعمار، يكون اليأس في صالح أعداء الأمة؛ لأنه يقضي على إبداعها، ويشل حركتها، ويجعلها تحول التبعية إلى سلوكٍ دائم، وتصبح حضارة الآخرين، والحضارة الغربية نموذجًا لها، هي الحضارة الفريدة الواحدة التي تلحق بركبها كل الحضارات الأخرى.
وأكبر مثل على ذلك ما يروج بيننا باسم «الصدمة الحضارية»، ومؤداها أن معدل إنتاج الغرب أكبر بكثيرٍ من معدل اللحاق به، وأنه كلما حاولنا اللحاق بالغرب، فإن المسافة تتسع بيننا حتى تصل إلى ما لا نهاية؛ وبالتالي يُحكم علينا بالتخلف الأبدي، وعلى الغرب بالتقدم الأبدي، ونظل تابعين إلى الأبد، وقد ننقرض لأنه قد لا يكون للتابع مكانٌ في هذا العالم، وخطورة ذلك هو جَعْل الغرب باستمرارٍ نقطة إحالة، ومعيار التقدم، ومقياس كل شيء … وهو يدل على موقف مغترب يصل إلى حد العمالة والخيانة، والتنكر لقدرات الأمة على الخلق والإبداع، وانسلاخ عن ماضيها وتاريخها وأصالتها. فالغرب ذاته ليس نمطًا فريدًا عبقريًّا على غير منوال، بل إنه ضم كل نتاج الحضارات السابقة عليه من الصين والهند وفارس واليونان ومصر القديمة، والحضارة الإسلامية، والتراث الأفريقي والمكسيكي … إلخ، وأخفى هذه الروافد حتى يشع هذه الأسطورة وهو أنه نموذجٌ عبقريٌّ فريد لا تقدر أية حضارة أخرى على الإتيان بمثله «ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيرًا». وعلى هذا النحو تنفصل الشعوب غير الأوروبية من تراثها، ومواطن إبداعها، وشروط نهضتها، وتتحوَّل إلى حضاراتٍ مقلِّدة تابعة للغرب، فتتم الهيمنة للحضارة الغربية، بعد أن كانت له الهيمنة العسكرية من خلال احتلال الأرض والغزو، ثم الاقتصادية من خلال نهب الثروات والمواد الأولية وغزو الأسواق والشركات المتعددة الجنسيات، ثم السياسية من خلال الأحلاف ومناطق النفوذ، ثم الثقافية من خلال نشر الثقافة ومراكز البحث والإعلام، وأخيرًا الحضارية من خلال بثِّ اليأس وإجهاض العقول، وتحويل كل الشعوب غير الأوروبية إلى مستهلكةٍ ناقلة للعلم وليس إلى مبدعةٍ وخالقة له. وقد نهضت الصين، وتحررت فيتنام، ونشأت علومٌ اجتماعية وطنية في أمريكا اللاتينية، وتحرَّرت شعوب العالم الثالث ضد النمط الأوروبي، وبنموذجٍ وطنيٍّ أصيل.
كل شعبٍ يعيش مرحلته التاريخية، إذا كانت للغرب الريادة منذ خمسمائة عام فإن هذه الريادة قاب قوسين أو أدنى من الانتهاء، فقد ظهرت ريادات أخرى تبشر بمستقبلٍ قريب في الصين والهند والمكسيك وفي الأمة العربية، وفي العالم الثالث بوجهٍ عام الذي أصبح يمثل نوعًا من الضمير العالمي؛ فالتقدم لا يستمر إلى الأبد لكل شعب، كل شعب له دورته، وقد قاربت الدورة الأوروبية على الانتهاء، بل إن مفكري الغرب وفلاسفته مثل اشبنجلر وهوسرل وبرجسون ونيتشه وشنير ينعون حضارة الغرب لأهله، يتحدثون عن أفول الغرب، انتحار الغرب، قلب القيم، وينتهون إلى العدمية المطلقة. وخرجت آلاف الدراسات عن مخاطر المجتمع الصناعي المتقدم، وتهديدات الحاسبات الآلية للحياة الإنسانية، وتلوث البيئة وحوادث الانتحار والبطش والجريمة والعنف، مظاهر الفساد والانحلال والاستغلال. فإذا كان الغرب ينعى ذاته لنا، فما بالنا نباركه ونتخذه نبراسًا لنا ومقياسًا للتقدم فنبعث في روحنا اليأس، ونقتل أنفسنا بأيدينا؟
(١-٣) يرى بعض المفكرين أن المنطقة العربية نتيجة تخلف العقل العربي سوف تتحول إلى ما يشبه الهنود الحمر؟ وأن الحضارة العربية تشبه حضارة الإنكا؟
إن إدانة الذات وتعذيبها إنما ينشأ من عدم الإحساس بها أو بعقدة النقص في مواجهة غيرها، وإن الذي يعتبر حضارتنا تسير نحو الفناء والانقراض إنما يعبِّر عن مجرد أماني ما أنزل الله بها من سلطان، ويكون أكبرَ داعيةٍ للغرب، ومروجٍ لأسطورة الصدمة الحضارية، مشعًّا اليأس في قلوب الأمة، في مقابل نهضة إسرائيل الجديدة، ولمِّ شعبها من الشتات، وكأن حركات التحرر الوطني لم تحدث في جيلنا، وكأن محاولات النهضة منذ أكثر من قرنٍ من الزمان، بالرغم من نسبيتها، لم تتم، ولم تُحدث أثرًا فينا! بل إن المستشرقين أنفسهم الذين روجوا لمثل هذه الأسطورة قد تخلوا عنها، وإن أعتى النظريات العنصرية التي جعلت الجنس الآري وحده هو الصانع للتقدم في مقابل الجنس السامي المختلف بطبعه؛ قد انهارت أمام شواهد التاريخ، لكن يبدو أن «العلوم الحضارية» في الغرب قد ورثت هذه النظرية القديمة، ووجدت لها المروجين بيننا الذين يرَوْن حضارة الغرب هي الحضارة العالمية الوحيدة، ويسعَوْن إلى سيادتها وانتشارها والقضاء على كل الحضارات المحلية الأخرى للشعوب غير الأوروبية.
نحن لسنا غرباء عن حضارتنا، ولسنا مستشرقين، بل هي جزء منا، ونحن جزء منها، نحن مسئولون عنها، ولسنا متفرجين عليها، التخلف والتقدم عملية تاريخية حية حركية وليست جواهر ثابتة وصفات مطلقة لشعبٍ دون شعب، بل إن هذه الحضارة التي يرى البعض فيها سائرة إلى الانقراض هي أساس حضارات العالم؛ فقد كانت الحضارة العربية الإسلامية وريثة لحضارات ما بين النهرين في العراق ولحضارات الفينيقيين في الشام وحضارة مصر القديمة على ضفاف النيل، وقد قامت الحضارة الإسلامية على مدى سبعة قرون، رائدة لحضارات العالم، تمثلت حضارات الهند وفارس واليونان والروم، وأبدعت وأنتجت، وترجم عنها الغرب في بداية نهضته، لم تخرج نظريات في الغرب تنعى شعوبه وتؤلِّه حضارة المسلمين، بل ظهر نقاد لحضارة المسلمين ولشرحهم على أرسطو، كما ظهر فلاسفة وعلماء ومفكرون أحرار يستأنفون الفكر الإسلامي والعلم الإسلامي والنهضة الإسلامية.
إنه عيبنا نحن هو أن نؤلِّه الآخرين، وأن نتنكر لقدرات الذات. ولا يأخذ هذا الموقف إلا مَن انسلخ عن حضارته، وباع نفسه لحضارات الغير بثمنٍ بخس دراهم معدودة، إما لولاء طائفي للغير، أو لتعصبٍ ديني من الأقلية لتراث الأغلبية، وإن حضارة الإنكا لفي ازدهار، وتبعث المكسيك حضاراتها القديمة، وتقيم أمريكا اللاتينية علومها الإنسانية الوطنية في مقابل علوم الغرب، بل ظهرت نظريات حضارات خليج المكسيك كأولى حضارات العالم، فهناك ظهرت الأهرامات، وهناك تعانق المصريون القدماء. كما قامت الصين بنهضتها الحالية حتى في العلوم الطبيعية في علوم الطب والكيمياء وعلوم الذرة ابتداءً من التراث الصيني الخالص، كما قامت فيتنام باستعمال الوسائل المحلية الخالصة، السراديب والبنادق داخل غابات الأشجار في مواجهة أعتى آليات الحرب الحديثة في الغرب … إلخ، ألم يأنِ الأوان لإعادة النظر في ولائنا القومي، هل هو للغير أم للذات؟
(١-٤) هل هناك مفكرون عرب؟ أم أنهم مجرد نَقَلة للفكر الغربي فقط؟
لا يعني المفكر بالضرورة ما حدث في الغرب من اعتبار المفكر صاحب نظرية أو مذهب؛ فقد أسقط الوعي الأوروبي في عصر النهضة كل الغطاء النظري السابق الذي ورثه من العصر الوسيط وتراث الكنيسة، فأصبح الواقع عاريًا من أي غطاءٍ نظري بديل، وهنا جاء دور المفكر والعالِم في إيجاد غطاء نظري آخر معتمدًا على جهده الخاص، ووسائل المعرفة الإنسانية الحسية والعقلية والوجدانية، بعد رفضه كل الوسائل المسبقة للمعرفة بعد اكتشاف تعارض الكتب المقدسة مع حقائق التاريخ، وتعارض عقائد الإيمان مع أبسط حقائق العقل والبديهة، فظهرت النظريات والمذاهب الغربية مثل الحسية والعقلية، والمثالية والواقعية، والكلاسيكية والرومانسية … إلخ، كلٌّ منها رد فعل على الآخر، يبتر جزءًا من الواقع، فيجيء مذهب آخر ليبرز الجزء الآخر، وهكذا حكمت المذاهب الغربية قوانين الأفعال وردود الأفعال، ثم نقلنا ذلك نحن، وتصورناها علومًا ونظريات، ومذاهب مستقلةً عن الزمان والمكان خارج ظروف نشأتها ومكونات بيئتها، دعاية لأنفسنا وتشدقًا بالجديد، وحرصًا على الكسب، حتى أصبحنا وكلاء حضاريين للغرب وعملاء لمذاهبه، ففرشنا على أرضنا كمًّا من المذاهب، والواقع لدينا ما زال مغطًّى بغطائه النظري التقليدي الموروث، فوضعنا قشورًا فوق الأعماق، لم تؤثر، بل تتساقط إذا ما تحرَّكت الجذور.
فالمفكر لدينا له معنًى آخر تمامًا، ينبثق من المرحلة التاريخية التي تمرُّ بها مجتمعاتنا، فنحن ما زلنا، وقد بدأنا ذلك منذ أكثر من قرون، في عصر الإصلاح الديني نحاول أن نتجاوزه إلى عصر النهضة؛ وبالتالي يكون كل مفكرٍ لدينا هو بالضرورة مصلح ديني، يعيد النظر في معنى العقيدة، ويعيد الحياة لها، ويعطي الأولوية للمعاملات على العبادات، وللأعمال على الأقوال، وللدنيا على الآخرة، وللعقل على النقل، وللحرية على الجبر … إلخ؛ فإذا ما تم الإصلاح الديني على نحوٍ جذري لجيلنا، وتلك هي مهمته، الانتقال إلى عصر النهضة، ومفكر عصر النهضة هو الذي يتصدَّى للموروث القديم محاولًا نقده وإعادة بنائه، والتحرر من معوقاته، وأخذ نقاط قوته، واكتشاف الطبيعة مصدرًا للعلم، والحواس والعقل أحد وسائله، واعتبار الإنسان مركزًا للعالم، والحاضر أولى من الماضي، والإنسان جسدًا قبل أن يكون روحًا. يقوم مفكر عصر النهضة بهذا التحول الجذري في محاور الحضارة ومستوياتها ولغتها ومناهجها؛ حتى يمكن بعد ذلك أن يتحرَّر العقل ويتجه نحو الطبيعة، ويتم تطبيق العقل وتفجيره في المجتمع فتنشأ الثورات الاجتماعية قبل الثورة الصناعية، ولكن لسوء الحظ جعلنا أنفسنا وكلاء حضاريين للغرب، ننقل ما ينتج، ونترجم، ونؤلف مترجمين، منسقين بين المعارف، ولم نقُم بمهمة جيلنا أي إتمام الإصلاح الديني على نحوٍ جذري ثم نقله إلى نهضةٍ شاملة، وفرحنا بألقاب مفكرينا: وضعي، بنيوي، مثالي، واقعي، علمي، وجودي، تحليلي، رومانسي، كلاسيكي، تكعيبي، سريالي، وأعطيناهم الجوائز في عيد العلم حتى أصبحوا فقاعاتٍ سرعان ما تنفجر؛ لأنها مجتثة الجذور، أمام أي مدٍّ أصيل من تراث الأمة وتاريخها.
(١-٥) ما الفرق بين ما يتم من نقلٍ الآن للفكر الغربي، وما كان يحدث في فترة ازدهار الحضارة العربية؟
نشأت حضارتنا القديمة بفضل الوحي، فقبل الوحي كان لدينا الشعر العربي وكان فيه سجل حياة العرب، وكان لدينا بعض العرف والعادات والتقاليد والقيم العربية الموروثة، ولكن بفضل الوحي وحوله نشأت الحضارة الإسلامية. وقد امتاز الوحي بأنه كان نداءً للواقع «أسباب النزول» ومتطورًا متكيفًا مع القدرة البشرية «الناسخ والمنسوخ». وبعد عصر الفتوحات بدأَت الترجمة بالتعرُّف على حضارات الآخرين، دونما تخوُّف أو تهيُّب أو اتهام بأنها أفكار مستوردة، وتمت الترجمة عدة مرات إما من خلال لغاتٍ متوسطة كالسريانية، أو مباشرة من اليونانية إلى العربية، وتأسَّس «ديوان الحكمة» لهذا الغرض، ورعت الدولة الترجمة والمترجمين، ولكن لم تستمر الترجمة أكثر من قرنٍ من الزمان، القرن الثاني، حتى ظهرَت بعده بوادر التأليف، وخرج المفكرون يتمثَّلون القديم ويبدعون الجديد، فخرج لدينا الكندي والفارابي وابن سينا بعد ثابت بن قرة، وحنين بن إسحق، وإسحق بن حنين، ويحيى بن عدي كمترجمين، قاموا بالشرح ثم بالتأليف. استطاع القدماء الانفتاحَ على الحضارات السابقة بلا تحيزٍ مسبق وتمثُّلَها، واستيعاب ما يتفق مع الذات والرد على ما يخالفها.
أما نحن الآن، فلا نحن وعينا بما فعله القدماء، ولا درسنا عمليات التمثيل والاستيعاب، وكيفية التعبير عن مضمون الذات بلغة الغير، وأصالة الأنا بمصطلحات ومفاهيم الآخر، دونما وقوع في الاغتراب، ولا نحن استأنفنا نفس العملية مع الحضارات الغازية المجاورة الحالية وعلى رأسها الحضارة الأوروبية، فانفصلنا عن القدماء، وجهلنا التراث، ونقلناه كمًّا دون فهمه كيفًا، وترجمنا من الغرب دونما تمثُّل أو وعي أو استيعاب، فتراكم الكم الغربي عن واقعنا، فحدثت الازدواجية الثقافية بين أنصار القديم، أهل السلف، وأنصار الجديد، العلمانيون الغربيون، ووقع الفصام في شخصيتنا القومية بين الأزهر والجامعة، بين التعليم الديني والتعليم الدنيوي، فتراكم فوق الواقع علم القدماء، والعلم الغربي، وأصبح عقل الأمة مشحونًا من هذَين المصدرَين دونما وحدة، ومطحونًا بين دفتَي الرحى دونما خلاص. فوقع الاغتراب في حياتنا، الاغتراب عن القدماء، والاغتراب عن المحدثين، وأصبح البعض يمثِّل أهل السلف، والبعض الآخر يمثل الخلف. البعض يرى نفسه في فكر الفقهاء أو الصوفية أو المتكلمين والبعض الآخر يرى مستقبله مع الماركسيين أو الوجوديين أو العقلانيين أو الاشتراكيين أو الرأسماليين، والحاضر نفسه محاصر بين هؤلاء وهؤلاء لا يجد له مخرجًا، وكلاهما نَقَلة بصرف النظر عن مكان النقل ومصدره. وطالت فترة التعليم عن الغرب أكثر من اللازم، فما زلنا نترجم أكثر من قرنَين من الزمان، وما زلنا نقيم مشاريع الترجمة، ونرى نهضتنا في الترجمة دونما استيعاب أو إدراك لوظيفة التعلم، وعدم تمييز فصل القدماء بين علوم الوسائل وعلوم الغايات، ولم يظهر فينا الإبداع إلا في نقاطٍ متفرقة وعند أفرادٍ معدودين انعزلوا عن مجتمعهم حرصًا على وعيهم الذاتي المستقل (جمال حمدان).
(١-٦) حدث انهيارٌ هائل في الفكر والثقافة في السنوات العشر الماضية، ما تفسيرك لسهولة هذا الانهيار والتغير في المفاهيم، وتقبل الناس لهذا التغير؟
لقد بدأ الانهيار منذ أكثر من عشر سنوات، ولكن آثاره هي التي بدأت في الظهور بشدةٍ منذ عشر سنوات؛ فقد بدأ فجر النهضة العربية والإسلامية منذ القرن الماضي ابتداءً من ثلاثة تيارات متمايزة ومتقاربة في آنٍ واحد؛ التيار الإصلاحي ابتداءً من الأفغاني، والتيار الليبرالي ابتداءً من الطهطاوي، والتيار العلماني ابتداءً من شبلي شميل. وقد استمر كل تيارٍ عند ممثِّليه، ولكنه ابتدأ في الهبوط بمجرد الارتفاع، وكأن الصاروخ قد وقع بمجرد الانطلاق، ولم يستطع اختراق حجب الفضاء؛ فقد هبط الإصلاح الديني من الأفغاني إلى محمد عبده إلى المنتصف، بعد أن آثر تَرْك الثورات السياسية وفضَّل الإعداد التربوي، وشارك في الثورة العرابية ثم انقلب عليها، ثم هبط مرة أخرى إلى النصف عند رشيد رضا، وتحول الإصلاح إلى حركةٍ سلفية، ثم حاول حسن البنا تلميذ رشيد رضا النهوض من جديد عن طريق تجنيد الجماهير، وأصبحت جماعة الإخوان المسلمين كبرى الحركات الإسلامية الحديثة، ولكن اصطدام الحركة بالثورة المصرية وبالثورات العربية الأخرى جعلها تنزوي، وتتشكل بين جدران السجون فخرجت الحركات الإسلامية عنيفةً متصلبة لا تقبل الحوار، وتكفِّر كل ما عداها كرد فعل على ما حدث للحركة الإسلامية على يد الثورات العلمانية، فتحول الإصلاح إلى سلفية، والانفتاح على حضارات الآخرين إلى انغلاقٍ على الذات، وتقلَّص المشروع الإسلامي في مواجهة الاستعمار والصهيونية في الخارج، والتسلُّط والفقر في الداخل إلى مجرد إعلان الحاكمية كشعارٍ ومبدأ.
كما تحولت الليبرالية التي بدأها الطهطاوي إلى قوميةٍ مصرية، وليبراليةٍ غربيةٍ عند لطفي السيد، وطه حسين، والعقاد، وتحولت الاستنارة إلى تعتيم، والحرية إلى تسلط، بعد الثورة المصرية وسيادة الرأي الواحد والحزب الواحد، وانقلب الفكر الليبرالي إلى فكرٍ سلطوي وظيفته تبرير قرارات السلطة، وانتهى تعدُّد الأحزاب إلى حزب السلطة، وخاف الإنسان الجهر بالرأي، وانتهت حرية الصحافة، وكأن الليبرالية كانت إنجازًا سطحيًّا عصفت بها النظم الثورية باسم الإنجازات الاجتماعية.
كما انتهت العلمانية العلمية إلى عكس ما انتهت إليه، وانقلب إسماعيل مظهر من العلم إلى الدين، وتحول المجتمع كله من العلمانية إلى الدولة الدينية، وأصبح العداء للغرب تعصبًا وعداءً للآخر دونما نقد أو وعي حضاري بالذات، وازدوج العلم مع الإيمان، أو ارتبط بفعل المعجزات عن طريق التكنولوجيا، وأصبح مفتاحًا سحريًّا لمشاكل العصر.
والسبب الرئيسي لهذا الانهيار الذي بدأنا نرى آثاره المدمرة هو أن بدايات كل تيارٍ لم تكن بدايات جذرية؛ فالإصلاح الديني ظل أشعريًّا في أسسه النظرية ولم يتحوَّل إلى الاعتزال، وكان النمط الغربي له في الصناعة والقوة والنظم البرلمانية نمطًا للتحديث، والتيار الليبرالي أيضًا نشأ على منوال الغرب وبناء على الإعجاب بمبادئ الثورة الفرنسية، ولكنه كان مجتث الجذور، لا يؤصل مفاهيم الحرية والمساواة من الداخل أي في تراث الأمة، فتحولت الليبرالية إلى أيديولوجية الطريقة الحاكمة وظل الشعب في جهله وتخلفه التاريخيين، أما التيار العلماني فنشأ أيضًا مجتث الجذور لا أصول له ولا منابت، مقلدًا للغرب، فسرعان ما انتهى إلى التغريب والانعزال عن الرافد الرئيسي التاريخي في ثقافة الجماهير، ولو كانت هناك بداياتٌ أساسية جذرية مؤصلة لاستمرَّت النهضة وعاشت فترة أطول.
(١-٧) ما جوهر الأزمة في تصوركم؟
جوهر الأزمة هو عدم إرساء شروط النهضة من منظورٍ تاريخي، سواء في البحث عن الجذور الماضية، أو في سبر أعماق الحاضر، أو التخطيط لمراحل مستقبلية، فلا يمكن تغيير المجتمعات بين يومٍ وليلة بناءً على نمطٍ خارجي هو في الغالب النمط الغربي.
- (أ)
عدم البحث في الجذور، فالتخلف له جذور في الماضي، والتسلط له جذوره، والفقر أيضًا له جذوره، وما لم يتم القضاء على هذه الجذور فإنه لا يمكن حل الأزمة نهائيًّا، وسنكتفي بالمسكنات الوقتية لها، ولكن سرعان ما تعود الأزمة للظهور. والجذور في التراث لأن التراث هو الرافد الأساسي في وجدان الجماهير الذي يكون ثقافتها، ويعطيها نظرياتها، ويوجه سلوكها، فطالما لم تُنتزع جذور الأزمة من التراث القابع في وجدان الجماهير فستظل الأزمة قائمة.
- (ب)
عدم رصد دقيق لمكونات العصر ومشاكله الرئيسية وتحويل ثقافة الجماهير وإعادة بنائها طبقًا لحاجات العصر، فتظل الثقافة دائمًا في جانب محافظة تقليدية كأساس لإنجازاتٍ اجتماعية ثورية، مثل الإصلاح الزراعي والتأميم والتصنيع والقطاع العام، فإذا ما اختفَت القيادة الثورية بالوفاة أو بالثورة المضادة انتهَت الإنجازات الاجتماعية، وانقلبت رأسًا على عقب دون أن تتحرك الجماهير لأن قوالبها الذهنية لم تتغير ولم تواكب الثورة.
- (جـ)
عدم الإحساس بالمراحل التاريخية، وغياب الوعي التاريخي في وجداننا المعاصر، فنكون محافظين تاريخيًّا ونُنشِئ الليبرالية على النمط الغربي، مع أنه الأجدى إيجاد البديل الاعتزالي من الداخل، ونكون مجتمعات تراثية ما زال الدين فيها أحد المكونات الرئيسية لثقافتها، ونحاول أن نقيم دولًا علمانية على النمط الغربي، فيثور المد الديني ويثأر ويشتد ويقضي على كل محاولات للتحديث. ونكون مجتمعات خرافية سحرية ونحاول أن نؤسس مجتمعات علمية صناعية فننظر إلى الآلة نظرتنا للمعجزة، وإلى التكنولوجيا نظرتنا إلى السحر، فلا نحن مجتمع سيرى الاشتراكية أو العلمية أو العقلانية في جيلنا، بل نحن مجتمع ممهد لها عن طريق نقد الموروث، والتحرر من التقاليد، واعتبار الطبيعة مصدرًا للعلم، والإنسان مركزًا للكون. الإحساس بالمرحلة إذن ضروري حتى لا نقع في السلفية التي تُحيل الحاضر إلى الماضي، ولا نقع في الطفولة اليسارية التي تريد تحويل الحاضر إلى المستقبل فتسبق الأحداث، وتريد الحصول على النتائج دون المقدمات، فنضع العربة أمام الحصان.
(١-٨) ما السبيل إلى الخروج منها؟
- (١)
إعادة بناء التراث القديم حتى يمكن القضاء على معوقات التقدم من الجذور، وإيجاد البدائل التي نرسي عليها أسس التقدم الدائم دونما خوف من ردةٍ أو انتكاسة أو انهيار أو ثورة مضادة، أو إحياء للمحافظة كتيارٍ تاريخي سائد في وعي الجماهير، ويتم ذلك عن طريق إيجاد البديل في كل علمٍ تقليدي، من الأشعرية إلى الاعتزال، ومن الفقه الافتراضي إلى الفقه العلمي، ومن النص إلى الواقع، ومن النقل إلى العقل، ومن الآخرة إلى الدنيا، ومن العبادات إلى المعاملات، ومن ترك الدنيا والزهد إلى الالتزام بها والعمل بداخلها، ومن الفناء عن الذات إلى إبقاء الذات، ومن الإلهيات إلى الإنسانيات، وذلك يعني إعادة قراءة التراث طبقًا لحاجات العصر.
- (٢)
أَخْذ موقفٍ من التراث الغربي باعتباره التراث الذي نقف منه موقف التحدي، فلا يمكن الإبداع طالما أن التراث الغربي قد انتشر خارج حدوده طاغيًا على الثقافات المحلية وقاضيًا عليها، لا بد من أخذ موقفٍ منه، ورده إلى داخل حدوده الطبيعية حتى يمكن التحرُّر منه وإبراز الثقافات المحلية كشرطٍ للإبداع، والانتقال من مرحلة نقل المعرفة إلى إبداع العلوم، ومن مرحلة تقليد الفنون إلى الإبداع الفني؛ وبالتالي تنشأ بيننا وبين الآخر علاقة صحيحة لا علاقة تبعية أو تقليد.
- (٣)
إيجاد نظرية في التفسير تُعيد قراءة النصوص المقدسة طبقًا لحاجات الواقع؛ فالواقع هو الحاضر، وهو المحك في إعادة بناء التراث القديم أو أخذ موقف من التراث الغربي، المخرج من الأزمة هو التنظير المباشر للواقع، وحصر قضاياه، ورصد مشاكله، والتعرف على مصيره، ثم أخذ ذلك كله في الاعتبار وإعادة وضعه داخل الثقافات الوطنية للجماهير، والكتاب المقدَّس في مركزها ومحورها الأول، لا بد أن تكون لدينا نظرية في التفسير، وفي قراءة النصوص، وفي فهم الواقع، حتى يمكن أن تحدث الوحدة في شخصيتنا القومية بين حضارة الكتاب وحضارة الطبيعة.
(٢) قضية الديمقراطية٤
إن قضية الحرية والديمقراطية في بلادنا هي الشرط الأساسي لكل تحديث، والتحديث هو الشرط الأول لأي تغييرٍ في الأبنية الاجتماعية، فنحن نعيش في مجتمعاتٍ متخلفة ولا يمكن تغيير أبنيتها إلا من خلال قضية التخلُّف، فما أسهل من تغيير نظام اقتصادي إقطاعي أو رأسمالي إلى نظامٍ اشتراكي، والتخلف قائم في النظامَين في صورة دكتاتورية النظام أو فوقيته أي بنائه من السلطة وبفعل الدولة. فإحداث التقدم في المجتمعات المتخلفة شرطٌ أساسي سابق على تغيير أبنيته الاجتماعية، ومن مظاهر التخلُّف في مجتمعاتنا أولوية القمة على القاعدة، والسلطة على الشعب، والحاكم على المحكومين، والرئيس على المرءوسين؛ فنحن نعيش في مجتمعاتٍ أبوية السلطة فيها لرئيس القبيلة، وكبير العائلة، وأب الأسرة، وشرطي الطريق، وشيخ الغفر، وعمدة القرية. ولا يمكن أن تتغيَّر الأبنية الاجتماعية إلا بعد ثورة العائلة على كبيرها، والقبيلة على رئيسها، والأسرة على أبيها، والطريق على شرطيه، والقرية على عمدتها، والغفر على شيخه؛ أي عندما يكون للقاعدة حق مناقشة القمة وفرض حقوقها عليها أو انتزاعها منها، بحيث يتساوى الطرفان: القادة والقمة، الرئيس والمرءوس، الحاكم والمحكوم … إلخ.
إن أزمة الحرية والديمقراطية في مجتمعاتنا الحالية إنما ترجع إلى المرحلة التاريخية التي تمر بها، مرحلة النهضة بعد مرحلتَي الإحياء والإصلاح الديني؛ فقد مر الغرب بمرحلة الإحياء في القرن الرابع عشر وبمرحلة الإصلاح الديني في الخامس عشر، ثم وصل إلى مرحلة النهضة في السادس عشر، وتتمثَّل هذه المرحلة في القدرة على نقد الموروث، وإعمال العقل، والاعتماد على الجهد الإنساني وحده دون تسليم بسلطة النقل، أو بمسلَّمات السلطات الدينية أو السياسية، واكتشاف العالم الخارجي، واعتبار الطبيعة مصدرًا للعلم والمعرفة والأخلاق والدين والقانون، ثم ظهرت العقلانية في السابع عشر من أجل سيطرة العقل على المعارف الإنسانية، وتفجره في فلسفة التنوير في الثامن عشر؛ حيث تم قلب النظم السياسية من ملكيةٍ إلى جمهورية في الثورة الفرنسية، حتى ظهور الاشتراكيات والثورات العلمية والصناعية في التاسع عشر، ثم أزمة القيم والحضارة ومراجعة النفس الحساب في القرن العشرين؛ وبالتالي فإن نقل مجتمعاتنا العربية من مرحلة التقليد والموروث والسلطة إلى مرحلة الاجتهاد والتجديد وحرية البحث؛ هو الشرط الأول لإحداث أي تغير في النظم السياسية والاجتماعية.
ولتحقيق ذلك يجب البحث عن الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر، ثم اقتلاعها من أساسها حتى تتحول مجتمعاتنا وتهتز أبنيتها تحت معاول النقد، ونقد الموروث والمسلمات والمقدسات هو البداية الحقيقية للتغير الاجتماعي. ولما كان النقد لا يتم إلا بالعقل، كان استعمال العقل هو بداية تنشيط مجتمعاتنا وتحريكها. والعقل هو العقل الطبيعي المرتبط بالحس والمشاهدة والتجربة، وبه يتم التأكيد على حرية الإنسان واستقلال إرادته ودوره في التاريخ وسيادته للطبيعة ومساواته للآخرين، يمكننا حينئذٍ اجتثاث هذه الجذور التاريخية التي تكمن وراء أزمة الحرية والديمقراطية، وعلى رأسها سلطوية التصور، وحرْفية التفسير، وتكفير المعارضة، وتبرير المعطيات وهدم العقل، بعدها تستطيع مجتمعاتنا أن تواجه مشاكلها الفعلية وتعيد الاختيار بين الأبنية السياسية والاجتماعية المختلفة طبقًا لمصالحها واحتياجاتها.
أما تجربة الحزب الواحد، فهي وإن كانت تعبِّر عن مطالب الأغلبية في الحرية والاشتراكية والوحدة إلا أنها كانت تمثِّل دكتاتورية السلطة القائمة، ولا تسمح بالمعارضة أو بتكوين أجنحةٍ فيها. والدليل على ذلك فشل تجربة المنابر ثم تحولها إلى أحزابٍ مستقلة عندما بدأ منبر اليسار، أو حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي في مصر القيام بالمعارضة الجادة وتقديم البرامج البديلة عن برامج الحكومة. أصبح الحزب الواحد هو حزب الحكومة، وغاب عنه دوره في قيادة الجماهير والدفاع عن مصالحها. وكان بحكم تكوينه من تحالف قُوى الشعب العامل أن غاب دوره في الصراع بين حقوق الأغلبية ومصالح الأقلية، فأصبحت الرأسمالية «الوطنية» حليفًا للعمال والفلاحين! وانضم إلى الحزب الواحد كبار الملاك والصناع ورجال الأعمال، وكل مَن يرغب في الوصول إلى مراكز السلطة. ويرجع السبب في ذلك أيضًا إلى التخلُّف وأهم مظاهره التبعية للسلطة، وسيطرة القمة على القاعدة، وتسلُّط الواحد على الكثير.
ويبدو أن هذه الواحدية في الحكم تنبع من طبيعة المخزون الحضاري عند الناس، فحتى لو كان هناك نظامٌ ديمقراطيٌّ ليبراليٌّ لحولته الناس بالضرورة إلى نظامٍ تسلطي؛ فالجماهير تودُّ عبادة الأفراد وتأليه الحكام، فالله مسيطرٌ على العالم، وفرعون إله مصر، وكما قال هيجل من قبل: في الشرق واحد فقط هو الحر والباقي كلهم عبيد. وما وصفه علماء الاجتماع والتاريخ على أنه «الاستبداد الشرقي»، وما طالب به المصلحون في القرن الماضي من أنه لا يُصلح الأمة إلا «المستبد العادل»، وما يقوله بعض العلماء المحدثين من أن نمط التحديث في الشرق هو الحاكم القوي صانع الدولة القوية، في مقابل نمط التحديث الغربي الليبرالي، كل ذلك تعبير عن بناءٍ حضاري أساسي في وعي الجماهير، ولكن المهم هو توظيف هذا التصور الهرمي للعالم لصالح القاعدة وليس لصالح القمة؛ وبالتالي يكون قيام أيديولوجية سياسية واحدة تنبع من حضارة الأمة، وظهور زعيم واحد، منقذًا للأمة اعتمادًا على الولاء المزدوج بين الزعيم والأمة هو نمط التحديث في مجتمعاتنا. ولما كان هذا الدين هو حضارة الأمة، والثورة هو مستقبلها، كان الدين الثوري أو الإسلامي السياسي هو أيديولوجية الأمة، والشيخ أو الإمام هو زعيمها بالإضافة إلى الرأي والمشورة بين أهل الحل والعقد، دون تسلُّطٍ أو طغيان البعض ودون خوف أو جبن أو تملق أو نفاق البعض الآخر؛ وبالتالي يمكن الجمع بين الحزب الواحد الذي يعبِّر عن قلب الأمة وحضارتها واستقرارها في التاريخ، وبين تعدُّد الأحزاب الممثلة في تعدُّد وجهات النظر من خلال الشورى، وثورة إيران العظمى خير شاهد على ذلك؛ فمستقبل الأمة مرهون بإنشاء الحزب الإسلامي الثوري، الذي يعبِّر عن تراث الأمة ومصلحة الجماهير بقيادة العلماء.
ولا تعني الجبهة الوطنية مجرد التعاون السياسي على مستوى التحقيق الفعلي للبرامج السياسية، بل تعني أيضًا الاتفاق على الحد الأدنى من الأهداف القومية التي لا يختلف عليها أحد؛ فمثلًا بالنسبة لمجتمعاتنا العربية تتحدد أهدافنا القومية في ثلاث؛ الأول: تحرير الأراضي المحتلة والقضاء على جيوب الاستعمار في المنطقة واستئصال الغزو الصهيوني لها، أي القضية الوطنية. والثاني: القضاء على جميع مظاهر التخلُّف، مثل التفاوت الطبقي، الأمية، البيروقراطية، التسلطية، المركزية، أي القضية الاجتماعية. والثالث: تحويل الكم الجماهيري إلى كيف والقضاء على سلبية الجماهير ولامبالاتها وإشراكها في الحكم أي قضية الحرية والديمقراطية. يمكن إذن الاتفاق على هذا الحد الأدنى من الأهداف القومية: الاستقلال الوطني، والعدالة الاجتماعية، والحرية والديمقراطية بحيث تلتقي عليها جميع الاتجاهات السياسية.
ومع ذلك يمكن تعدد المداخل النظرية لصياغة هذه الأهداف، فقد يكون الإطار النظري لأحد الاتجاهات السياسية هي الماركسية، وقد يكون عند اتجاهٍ آخر هو الإسلام الثوري، وعند اتجاهٍ ثالث الوطنية الديمقراطية، وعند اتجاهٍ رابع الليبرالية، ولكنها تصب جميعًا في وحدة الأهداف القومية. فتعدُّد المداخل النظرية ووحدة البرامج السياسية هو شرط تأسيس الجبهة الوطنية، ويكون المحكُّ في النهاية هو قدرة الإطار النظري لهذا الاتجاه أو ذاك على إقناع الجماهير وتجنيدها، وعلى تشخيص الواقع وتقديم الحلول لمشاكله، كما تتعدَّد المناهج العملية لتحقيق الأهداف القومية؛ فقد يبدأ اتجاه بتجنيد العمال والفلاحين أي الطبقة العاملة، وقد يبدأ اتجاهٌ آخر بتجنيد المثقفين ورجال الدين، وقد يبدأ فريقٌ ثالث بمحو الأمية أولًا، وقد يبدأ فريقٌ رابع بمحاولة إقامة ثقافةٍ وطنيةٍ واحدة تكون بوتقةً لصهر القوى الوطنية. قد يبدأ اتجاهٌ بتربية الأفراد، وقد يبدأ اتجاهٌ آخر بتغيير الهياكل الاجتماعية، وفريقٌ ثالث بتغيير نمط الإنتاج الزراعي إلى النمط الصناعي. فتعدد الأساليب العملية يُشابه تعدُّد الأطراف النظرية في نطاق وحدة الأهداف القومية، ولنضرب المثل بمصر حاليًّا؛ إذ تتفق الاتجاهات السياسية الرئيسية فيها على عدم الاعتراف بالكيان الصهيوني، ورفض معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وهي الاتجاه الإسلامي عند الإخوان، والاتجاه اليساري بجميع فصائله الممثَّلة في حزب التجمع الوطني، والناصرية الممثلة في رفاق عبد الناصر وحركة الضباط الأحرار، والاتجاه الليبرالي التقليدي الذي يمثله حزب الوفد. هنا يمكن إقامة جبهة وطنية من أجل الدفاع عن حق الجميع في التعبير الحر، ومن أجل رفض معاهدة السلام وما زالت الأراضي العربية محتلة، والأطماع الصهيونية قد جاوزت الأرض والشعب إلى الحضارة والتاريخ، لتكون الصهيونية التاريخ الأوحد لشعوبنا.
وبالإضافة إلى أن وعينا التاريخي لم يكترث بدور الشعوب، فإن طابع المجتمع المتخلف جعل النقابات أيضًا لدينا على هامش الحياة السياسية. ويتمثل هذا الطابع في النظم السياسية التسلطية التي سادَت مجتمعاتنا، والتي لم تكن تسمح بوجود أية مؤسساتٍ مستقلةٍ تراجع عليها قراراتها، مثل المؤسسات الدستورية أو التعليمية أو القضائية، ومنها المؤسسات النقابية. كما أن قادة النقابات كانوا أقرب إلى تنفيذ أوامر السلطة السياسية منهم إلى تمثيل مصالح العمال وجماهير النقابات، مثل قادة المؤسسات كلها حتى ولو كانوا في الظاهر منتخبين إلا أنهم في حقيقة الأمر مرشحو الحكومة، كما أن الطابع البيروقراطي للنقابات أفقدها حركتها ونشاطها، واقتصر دورها على جمع الاشتراكات إجباريًّا من المنبع، وعمل مؤتمرات دورية لتأييد السلطة، وبعض الأنشطة الجزئية في ميدان الخدمات الاجتماعية. ولم يرَ أعضاء النقابة نتائج ملموسةً من انضمامهم إليها، ولم يُشاهدوا نضال زعمائها دفاعًا عن مصالحهم، مما جعلهم أقرب إلى السلبية منهم إلى الإيجابية.
ومع ذلك، فإن تكوين الجمعيات والهيئات والنقابات المهنية في هذه الظروف؛ خطوةٌ ضرورية لتحريك القواعد، وتجنيد الجماهير، وربط السياسة بمصالح الناس دون الاكتفاء بالشعارات العامة، خاصة إذا ما أفرز كل تجمُّعٍ زعاماته الخاصة، والتفت حولها جماهير النقابة، والمطالبة بالحد الأدنى من الحقوق، والتنسيق مع باقي الجماعات، والمطالبة بحق التعبير والنشر في الجرائد والمجلات النقابية، والانضمام إلى الاتحادات العربية والدولية، والقيام بمهام التربية السياسية للنقابيين.
إن الانتقال من مجتمع السلطة إلى مجتمع المؤسسات، ومن مجتمع الأفراد إلى مجتمع القوانين؛ هو الذي سيسمح بتنشيط النقابات ومشاركتها في الحياة السياسية. وتلك مهمة التحديث الشامل لمجتمعاتنا العربية.
(٣) من بيروت إلى النهضة: أسئلة واختيار٥
أعطي نماذج من التاريخ، واسمحوا لي أن أعطي نماذج من مصر، ونماذج من العالم العربي … بعد تعاليم الطهطاوي، وتعاليم الأفغاني وغيرهما، قامت ثورة عرابي في ١٨٨٢م باسم الدستور، والدفاع عن الفلاحين، والحرية ضد توفيق المتعاون مع الإنجليز، فإلى ماذا انتهت الثورة؟ إجهاضٌ مبكر، وفشل، واحتلال. كانت المحاولة من الجيل الثاني، لطفي السيد وغيره، ومنها خرجت الأحزاب الوطنية المصرية. قامت ثورة ١٩١٩م بناءً أيضًا على فكرة الشعب، والحرية والدستور والنضال ضد الاستعمار … وماذا كانت النتيجة؟ انتهَت أيضًا إلى نوعٍ من الليبرالية لا كنظامٍ سياسي، ولكن كنظامٍ اجتماعي، كان الإقطاع؛ وبالتالي فشلت الحياة السياسية وضعفت قضية العدالة الاجتماعية، وبالرغم من النضال ضد الاستعمار، كان هناك نوعٌ من التعاون مع باشوات مصر الوطنيين، ولكنهم كانوا يرون أن الحليف هو الغرب، ثم بعد ذلك، بعد ثورة ١٩١٩م، استمر النضال ضد الإنجليز، ودخل الفكر الاشتراكي في أتون المعركة، وظهرت الطليعة الوفدية واليسار المصري، من خلال الحركات الوطنية، وفي أواخر الأربعينيات كانت مصر تغلي، وكانت حبلى بالثورة، واختطفها الضباط الأحرار، وقاموا ربما بأروع إنجازٍ على المستوى الاجتماعي فيما يتعلق بالإصلاح الزراعي، والتصنيع، وتكوين القطاع العام وإعطاء العمال حقوقهم، ولكن تحولت الثورة إلى ثورةٍ مضادة من الداخل، وتحول المشروع القومي العربي من مناهضة الاستعمار والصهيونية إلى الاستسلام، من الدفاع عن الحريات إلى قهرٍ وتسلط، من وحدة الأمة إلى تجزؤٍ وطائفية وحروب أهلية، من تجنيد الجماهير وإدخالها في أتون المعركة إلى نوعٍ من إبعاد الجماهير، وتحول المشروع العام إلى أيدي الفئات الحاكمة. أقول، إذن، هذه هي الظاهرة التي أسميها ظاهرة الإجهاضات المستمرة، ونحن أبناء جيلٍ واحد، يعني لو أخذت المناضل العربي الذي قارب الخمسين عامًا، فستجد أنه عاصر معظم هذه الإجهاضات، رأى الثورة العربية، ورأى الثورة المضادة، ولا ندري كم تجربةً سيراها أيضًا. هذه الظاهرة هي التي أتوقَّف أمامها باستمرار، وأشخِّص بها المرحلة الحالية التي تمر بها المجتمعات العربية. ألا يمكن أن نضمن، مرة، ثورةً دائمةً بأي شكلٍ كان؟ كيف نستطيع أن نطمئن إلى أن أي محاولة — سمِّها نهضة، سمِّها ثورة، سمِّها إصلاحًا، سمِّها تمردًا، سمِّها غضبًا، لا تهم التسمية الآن — يمكن أن تنجح؟ جربنا الليبرالية، والمحافظة الدينية، والتحالف مع الأحزاب التقدمية. جربنا كل شيء، ولكن مزيدًا من الأراضي المحتلة، من القهر، ومن التفاوت الطبقي، كأن مشروعنا القومي باستمرارٍ يحتوي في داخله على مشروعٍ قومي مضاد. يعني إذا كان ابن خلدون قد وصف تطور الحضارة بأربعة أجيال: جيلَين للنهوض وجيلَين للسقوط، فنحن في جيلٍ واحد رأينا أربعة أجيال. أقول، إذن، هذا تشخيص للمرحلة التاريخية، والتحدي الحقيقي أمامنا نحن المثقفين العرب، هو طرح هذا السؤال: ما هي شروط الثورة الدائمة؟ ما هي مقومات النهضة التي لا تحتوي على انتهائها بمجرد بدايتها؟ كيف تستطيع أن تكون لك رؤية تاريخية، موضوعٌ تاريخي. خلال العمل السياسي، فلا وعي سياسي بلا وعيٍ تاريخي، هذا يتم في القومية وكأن كل نظامٍ حاكم لا يهدف إلا الحاكم وما بعده الطوفان. ربما كنا نحزن؛ لأننا نعيش الآن عصر الهيمنة الإسرائيلية، ولكن لا يهم الآن، الذي يهم الآن هو الإعداد لمائة سنة حتى تستطيع أن تضمن بعدها كيف يتحوَّل المد التاريخي لصالحك، أي كيف يمكن إعداد جماهيرك وفكرك ونظمك الاجتماعية، وأبنيتك الفوقية وهياكلك الاقتصادية؟ كيف يمكن أن تعد أكبر قدر ممكن من الضمان مستعينًا بالتجارب الماضية؟ كيف يمكن أن تؤسس ثورات ربما لا تقطف أنت ثمارها، ولكن حتى يمكن بعد ذلك أن تضمن، في هذه المرة، أن أي حركة تقدم اجتماعي أو إصلاح، أو ثورة لا تكبو بمجرد أن تنشأ؟ هذه في رأيي هي الإشكالية الحقيقية.
أعتقد في تدخلي أن هنالك، في حديث الأستاذ حنفي، نوعًا من رصدٍ يتعلق بالإشكال للواقع العربي والإسلامي الراهن، ولكن يظل هنالك جانبٌ آخر غائب وهو التفسير، كيف الكبوة؟ إذا كنا نتحدث عن الكبوة؛ لأنني أعتقد أنه لا يمكن للكبوة أن تتحوَّل إلى تغيرٍ إيجابي تتعرَّف ذاتها، وربما من نقائص الواقع العربي الراهن، ومن ضمنه الثقافة، أنه لم يستطع أن يتعرَّف ذاته بما فيه الكفاية؛ لأن هنالك أدوات كان من الممكن أن تلعب هذا الدور ولكنها ظلَّت غائبة؛ لأننا في كثيرٍ من الأحيان نقصيها باسم الأصالة، تلك الأدوات، ربما الثقافية والمعرفية التي كان من الممكن أن تلعب دورًا في تفسير الواقع العربي الراهن في كثيرٍ من الأحيان يتم إقصاؤها باسم الأصالة. نقطة ثانية أريد أن أشير، وربما أشار إليها عبد الصمد من قبلي، وهي أنني أخشى أن يصبح كلامنا عن الكبوة والسقوط والتراجع في الفكر العربي كثيرًا، خاصة وأنني مع كلامك في «ندوة الإصلاح» التي شاركت فيها قبل شهر، ثم الآن أستعيد أيضًا حديث الأستاذ الجابري في كتابه «الخطاب العربي المعاصر» فهو أيضًا يتحدَّث عن توقف الفكر العربي عن الإنتاج الفاعلي، وأخشى أن يصبح هذا الحديث إحدى الظواهر السلبية في الفكر العربي الراهن، بحيث يصبح الفكر العربي الراهن قادرًا بصورةٍ واضحة على أن يقدم سلبياته، ولكنه غير قادر على أن يرصد إيجابياته، أليس في الفكر العربي منذ مائة عام أي نوعٍ من التقدم؟ هذا السؤال خطير: وأتساءل عن الذين يسجلون في الفكر العربي كبواته ولا يسجلون إيجابياته، هل هم يسجلون حقيقة موضوعية أم واقعًا ذاتيًّا؟
ما أسمِّيه ظاهرة التغريب لدى الجيل الرابع والخامس، أن كل شيءٍ يأتي من الغرب، من العلوم والثقافة والسياسة، والانقطاع عن التراث والدعوة إلى الغرب كثقافةٍ عالمية، ربما لو عاش الأفغاني لغير، فمسئوليتي أنا أنني لم أغير الغرب كمنطٍ للتحديث … هذا كان سائدًا وله شرعية في القرن الماضي، وعلى أساسه قامت الثورة الكمالية في تركيا، وقامت على أساسه الليبراليات في العالم العربي، والأنظمة الحاكمة، ولكن بعد انهيار الثورة الكمالية في تركيا وزيادة تغريب تركيا ووقوعها في الأحلاف العسكرية الغربية، وانهيار الاقتصاد في تركيا، لم يراجع أحدٌ فكرة الغرب كنمطٍ للتحديث، ما الذي حدث؟ اشتداد الحركة السلفية في تركيا، تكفير كمال أتاتورك، واشتداد اليسار في تركيا كرد فعل على التغريب، والجماهير لا تدري ماذا تفعل لأنه لم يَقُم أحدٌ حتى الآن بمراجعة مشروع أو نمط التحديث الذي أخذه الإصلاح، ربما كان الإصلاح في القرن الماضي بالنسبة للتراث القديم دفاعًا عن الهوية ضد الغرب، فالتزم بالتراث، والتزم بكل ما لدينا من أصالةٍ في الفكر وفي الحكمة وفي العلم؛ ومن ثم وقف من التراث موقفًا خطابيًّا؛ ومن ثم إذا وقفت أنا من التراث موقف المدافع، يكون خطئي أنا وليس خطأ الإصلاح؛ ومن ثم عليَّ أَخْذ موقفٍ نقدي من التراث، تحليلي للتراث مبينًا نشأته والظروف التي ساعدت عليه وأنواعه، وكيف استخدمت العقائد في معترك الحياة السياسية … ربما خطئي أنا؛ لأنني لم أوظِّف جهود التنوير في القرن الماضي، في عدم أخذ موقف نقدي من التراث، ربما ليس خطأ الحركة العلمية العلمانية أنها نادت بالعلم، وبالفيزيقا وبالرياضيات، وكانت مجلة «المقتطف» تعطينا آخر المكتشفات العلمية الغربية، واعتبار أن النظرية الداروينية، هي العلم وأنه لا شيء غيرها. وطبعًا هذه كانت صورة العلم في القرن ١٩، ولكن خطئي أنني ما زلت أتصور أن العلم هو الاكتشافات العلمية أو الاختراعات العلمية أو القوانين العلمية، وليس التصور العلمي للعالم، العلم في القرن ١٦ جاء نتيجة نضال طويل ضد سلطة الكنيسة وسلطة أرسطو وسلطة بطليموس في الفلك، إلى وقوف غاليلي في محاكم التفتيش، إلى نيوتن، إلى العلم في القرن ١٧، إلى الميكانيكا؛ ومن ثم يأتي ما يسمَّى بالإنجاز العلمي. نحن نريد أن نأخذه ثمرةً دون غرس؛ وبالتالي نقطف العلم والتكنولوجيا دون أن تتوفر لدينا الرؤية العلمية للعالم، وأنا في رأيي أن أهم شيءٍ في العلم ليس هو النتيجة العلمية أو القانون العلمي، ولكن المدخل أو موقف الإنسان من الطبيعة الذي أدى في النهاية إلى الوصول إلى القانون العلمي، هذه المراجعة لم أقُم بها أنا، ما العلم؟ هل هو النتيجة أم المقدمة؟ هل هو القانون أم الموقف من الطبيعة؟ فنحن ننقل التكنولوجيا، ونريد أن نرسل صاروخًا إلى الفضاء وقمرًا صناعيًّا للاتصالات اللاسلكية، وفي نفس الوقت يظل تصوُّري للعالم تصورًا أسطوريًّا، تصورًا متخلفًا، لا أعرف بالضبط ما هي علاقة الإنسان بالطبيعة؟ وكيف أتصور الطبيعة؟ ولا أعرف بالضبط ما هي العلاقة بين العلة والمعلول؟ وكما أضرب المثل باستمرار، فأتصور أنني في قريةٍ في مصر أو المغرب أو تونس أو ليبيا وأدخلت آلة حديثة جدًّا، تدخل من ناحيةٍ فيها برتقالًا تخرج من ناحيةٍ أخرى معلبات عصير، تدخل من ناحيةٍ فيها بقرة تخرج من الناحية الأخرى معلبات لحوم مطحونة. تأكَّد أنه بعد جيلٍ أو جيلَين، أو ثلاثة أجيال في هذه القرية، بعد أن تتوقف الآلة ربما، أو يصيبها عطبٌ فني أو انقطاع كهربائي، ستجد أن مجموعة فلاحين قد أقاموا فوقها قماشًا أخضر وألبسوها طربوشًا وبنوا حولها سورًا، وظلوا يذكرون عنها أن هذا هو الشيخ الآلة أو الشيخ؛ لأن تصوراتهم للعالم لم تتغير. هناك ربط ضروري بين العلة والمعلول، هناك ظواهر طبيعية يمكن السيطرة عليها من خلال معرفة قوانين الطبيعة، فلا تحدث معجزة في العالم، لكن تصورات الناس للعالم ما زالت تقوم على الإعجاز وعلى المعجزة، فلا يوجد ربطٌ ضروري بين العلة والمعلول؛ ومن ثم حولوا العلم إلى أسطورة، ونحن نتكلم الآن عن العلم وعن التكنولوجيا كأنهما المخلص، وكأننا نتكلم عن المهدي كمخلص، والحديث عن العلم والتكنولوجيا والحداثة باعتبارها مخلصًا، والحقيقة أن العلم والتكنولوجيا والحداثة ليست معجزة ولا إعجازًا، ولكن كما أقول تراكمٌ تاريخي طويل، بل مشروط بموقف الإنسان من الطبيعة، ربما ليس خطأ الفكر الليبرالي عند الطهطاوي أنه أعجب بالثورة الفرنسية وبرسو ومونتسكيو وفولتير، وليس خطأ الطهطاوي هو أنه تصور الدولة القومية في مصر وإقامة دساتير، ولكن الخطأ خطؤنا نحن أننا لم نرَ ربما الآثار السلبية لليبرالية على قضية العدالة الاجتماعية؛ من ثم لم نزاوج بين قضية العدالة الاجتماعية والمساواة وبين قضية الحريات؛ ومن ثم نشأ الإقطاع من براثن الليبرالية، أقول إذن إن مشروع الإصلاح بتياراته الثلاثة في القرن ١٩، في أهدافه التي حددها، وفي الوسائل التي استعملت، أي في الغرب كنمطٍ للتحديث وفي النخبة كوسيلةٍ للتحديث، مشروع جيد وحقق أهدافه، ولكن الخطأ خطؤنا نحن أننا لم نغير الأهداف طبقًا للتغيرات التي حدثت في الواقع، فاكتفينا بتغيير الوسائل؛ فهي ليست كبوة النماذج الإصلاحية في القرن الماضي، بل كبوتنا وفشلنا نحن في أننا لم نغير ولم نطور تصورنا.
نرجع إلى التراث، هل نريد أن نحيي المعتزلة الذين إذ خضعوا لنوعٍ من الإبعاد ومن الإقصاء، ومن القمع لمدًى زمني طويل، مثلوا في الفكر العربي وفي الواقع العربي نوعًا من الخلط بين القمع الاجتماعي والسياسي لفئةٍ مناهضة، وبين قمع العقلانية على الصعيد الفكري، إذن نقول بشيئَين: نقد التراث النظري وفي نفس الوقت التعامل مع الواقع من داخل تراثه، أي من هذا الشيء الذي نحمله منذ ألف سنة، فكيف يمكن أن نستفيد من التراث في تحريك وتغيير الواقع الراهن من داخل هذا التراث؟ ما هو التراث؟
لقد قام الإصلاح بدوره في القرن الماضي، خطئي أنني لم أطوره إلى حركةٍ نهضوية شاملة، أي انقلاب في نظرية المعرفة من النصوص إلى الواقع «احتمى أبوك بالنصوص فدخل اللصوص» هذا ما قاله محمود درويش، أي الانتقال من النص إلى الواقع، من السلطة إلى العقل. أقول إنني مع نقد القديم، مع المشروع القومي، مع إيقاف التغريب، مع تجنيد الجماهير والالتحام بقضايا الواقع في إطارٍ من الوحدة الوطنية، وآن الأوان لننتقل من الفرقة المذهبية أو حديث تكفير الفرق إلى وحدةٍ وطنية في إطار مشروع قومي عام، مع تجنيد الجماهير، مع عدم التخلي عن روحها وثقافتها الوطنية كوسائل، وكحوامل للمشروع القومي، وإلا أتى الاستعمار وأتت الرجعية ونزعت مني السلاح. أنا أقوم بعملية نزع السلاح، وفي نفس الوقت أحمي العلمانية من محاصرتها وجعلها فكر النخبة وتكفيرها واتهامها بأنها عميلة مرة للغرب ومرة للشرق؛ وبالتالي أربط العلمانية بالتراث القومي، وأربط التراث القومي بالمشروع القومي، وفي هذه اللحظة فقط أستطيع أن أقدِّم للجماهير، للأغلبية الصامتة بديلًا ثالثًا.
لكن ربما نحن الآن على مشارف عصر يشبه عصر النهضة في القرن ١٦ الغربي الأوروبي، الذي بدأ فيه تحوُّلٌ في نظرية المعرفة وفي نظرية صورة الإنسان وموقف الإنسان من الطبيعة، وصلة النفس بالبدن، أي الانتقال من الإصلاح إلى النهضة، من التعامل مع إصلاح العقائد وإصلاح الخلق وإصلاح التعليم وإصلاح اللغة، إلى نهضةٍ اجتماعية شاملة، ترد الاعتبار للإنسان وللطبيعة، للبدن وللعلم وللقانون. أقول إذن: إن ديكارت وكانط وهيجل لم ينشئوا إلا بعد أن عُرِّي الواقع من كل غطاءٍ نظري، أي غطاء أرسطو وبطليموس والعصور الوسطى الذي كان يحدث اتفاقًا معرفيًّا بين الإنسان والطبيعة؛ وبالتالي لا حيلة لنا إلا المشاهدة والتجربة والحس والطبيعة والقانون؛ وبالتالي يصبح الواقع عاريًا من أي غطاءٍ نظري. أتى الإنسان في عصر النهضة بجهده وبعقليته ليعطي البديل، فكانت هناك مذاهب فلسفية كبديلٍ للأنظمة النظرية القديمة التي تم تكسيرها، ونحن لسنا، في هذا الوضع. بالنسبة لنا ما يزال هناك وفاق بيننا وبين الطبيعة، الطبيعة لها خالق، وأنا مخلوق، ولها بداية ونهاية. ولا يوجد شرخ في نظرية المعرفة بيني وبين الطبيعة، فلماذا أعطي مذهبًا فلسفيًّا والواقع لم يتعرَّ بعد؟ أقول إذن هذه مغالطة أو تعذيب للذات. إنني حتى الآن لم أبدع ديكارت، ولا كانط، ولا هيجل، ولا ماركس؛ لأن الواقع عندنا ما يزال مغطًّى؛ أي إن الله موجودٌ والعالم مخلوق والنفس باقية. وهذا الغطاء العام يمنع، لا أقول خطأً أو صوابًا، يعني لا يعطي حاجة لأن أقدِّم بديلًا نظريًّا يغطي البديل القديم، لكن لا يعني أنه لا يُنشئ ثقافة نهضوية.
لكن التحدِّي الأعظم هو هل نحن قادرون على التنظير المباشر للواقع؟ أي على الحصول على أكبر أداةٍ من أدوات التحليل لإيجاد نظرية مباشرة عن الواقع، أي لإنشاء تراث. يعني أن المرحلة التالية ليست فقط أخذ موقفٍ من التراث الغربي، أو من التراث القديم بل إنشاء تراث، كما أنشأ القدماء تراثًا، وهذا هو المحور الثالث.
فيما يتعلق بقضية التغيير عن طريق الفكر والواقع والوعي، أقول: وعيي أنا ليس هو الوعي الفردي، بل هو الوعي الاجتماعي السياسي مضافًا إليه الوعي التاريخي، وهذا هو الذي أقول إنه مساهمتي في الحركة التقدمية العربية، إذا كنا نفهم الماركسية جيدًا، فأهم دروس في الماركسية ليس هو التحليل الاجتماعي، وليس في تحليل الأبنية التحتية، ولكن أهم شيء في الماركسية هو الوعي التاريخي. حتى لو كنت ماركسيًّا فإني ماركسي شاب، معنى ذلك أنني ما زلت أعرف أن الانتقال من هيجل إلى فيورباخ، والانتقال من فيورباخ إلى ماركس هي النقلة الحقيقية لمجتمعنا. الهيجلية أي المثالية، أي المحافظة الدينية، عندنا، تتحوَّل إلى مثاليةٍ مطلقة، وهذا هو ما حاوله جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، أي الانتقال من الدين إلى الإنسانية والوعي الفردي، هذا انتقال طبيعي، وهذا ما فعله عثمان أمين والطهطاوي ولطفي السيد والعقاد وطه حسين، أي من الدين إلى المثالية، لكن أين الانتقال من المثالية إلى العالم الحسي كما فعل فيورباخ؟ لم يحدث لدينا هذا حتى الآن، وأين الانتقال من فيورباخ، الذي تعامل مع الأفكار من أجل اكتشاف الواقع ودراسة الاغتراب والتشيؤ إلى آخر هذه الأشياء للدراسة، من نقد الفكر الديني إلى دراسة الهياكل والأبنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟ هذا لم يحصل بعد، وأقول إذن، نُخطئ عندما نضع ماركس الناضج قبل ماركس الشاب، نخطئ عندما ننتقد الأيديولوجية الألمانية قبل أن نؤسس الأيديولوجية. نحن ننقد كل شيء نحن ننقد الأفكار، أفكار العائلة المقدسة، الأيديولوجية الألمانية، ونهضة ألمانيا وأفكار الوحدة والقومية، وهذه الأشياء التي كانت تحرك الجماهير الألمانية. ونحن ننقد ثورة ١٩٤٨م، قبل أن تحدث لدينا ثورة ١٩٤٨م، أي التغيير عن طريق الأفكار، أقول إذن بالرغم من أنني على وعيٍ تام بمحدودية الإنسان والوعي الفردي، والانتقال بذلك من الوعي الفردي إلى الوعي الاجتماعي، إلا أنني ما زلت أرى أن الوعي السياسي والاجتماعي يكون ضيق الأفق، قصير النظر، إن لم نربطه بالوعي التاريخي، وهذا الذي أرجو من الحركة التقدمية أن تعيه، أن تدخل الوعي التاريخي كرصيدٍ حقيقي للتحليل السياسي، ربما لن نرى الثورة الاشتراكية والمجتمع الاشتراكي الثوري، وربما لن نرى تحرير فلسطين، ولكن على الأقل فلنمهِّد له، ولنضع له شروطًا وقواعد، تأسيس إسرائيل في ١٩٤٨م كان رؤية، والصهيونية تعمل بهذا الوعي التاريخي منذ أواسط القرن الماضي للصهيونية السياسية عند هرتزل ١٨٨٧م، إلى وعد بلفور في ١٩١٧م، إلى محاولات الهجرة الأولى، من ثورة ١٩٣٦م إلى ١٩٤٨م إلى ١٩٦٧م إلى ١٩٧٣م إلى ١٩٨٣م. أقول إذن الوعي التاريخي قد يكون القوة الحقيقية في الصهيونية، وما الصهيونية السياسية إلا ظاهرة. أما الشعار الإسرائيلي الحقيقي فقد تجلى عندما كان يقابل يهودي يهوديًّا آخر في الغرب، ويقول له: سنتقابل في العام القادم في أورشليم، أي الإعداد للمستقبل. أقول إذن، إن الوعي التاريخي لا يقل أهميةً عن الوعي السياسي، وكلاهما تصوير للوعي الفردي، أنا لا زلت أتكلم في الوعي؛ لأني أريد أن أطور المثالية إلى وعيٍ اجتماعي، وأتعامل مع الحرية التقدمية العربية؛ لأني أريد أن أطورها وأعطيها رؤيةً تاريخية، أي أن أزاوج في وعينا بين الوعي السياسي والوعي التاريخي. أقول إذن أنا على وعيٍ تام بأهمية هذا الصراع بين البنية الفوقية والبنية التحتية، ولكن نظرًا لأنني من مجتمعٍ تراثي؛ ونظرًا لأنني خارج من إصلاح مثالي لأطوره إلى إصلاح اجتماعي، ونظرًا لأنني ما زلت أمثِّل الحركة العلمانية العربية بالأفكار الرئيسية بما فيها الماركسية، فإني أطرح أولوياتٍ وأسبقيات.
ولكن في الثقافة، ما هو التحول الذي يمكن أن أحدثه أنا في ثقافة الجماهير، حتى أحولها إلى ثقافةٍ ثورية تستطيع أن تكون البديل للأيديولوجية السائدة، وفي نفس الوقت البديل عن الأمية إلى أن نمهد كل الوسائل في القراءة والكتابة والتعليم؟ وثقافة الجماهير قد تكون أيضًا بديلًا لمحو أمية المثقفين الذين حصلوا على الدكتوراه في العلوم السياسية وغيرها. الأمية هي واحدة، أما أمية القراءة والكتابة أو أمية الحاصلين على الدكتوراه في العلوم السياسية والاقتصادية والقانون، أنا أعطي البديل الآتي وهو التنظير المباشر للواقع، أعني المشروع القديم لعصر النهضة، الأفغاني رأى أحوال الأمة وصاغ مشروعًا (بصرف النظر عن الصياغات المتعددة لهذا المشروع من الأفغاني إلى محمد عبده إلى رشيد رضا إلى الإخوان). أنا أبدأ من واقعٍ فيه بعض الإيجابيات وفيه بعض الثغرات، وعندي وسائل أكثر للتحليل من الأفغاني، فالأفغاني شيخ خطيب، وأنا عالم محلل، ولكن قدراتي على الصياغة قد تكون أكثر إحكامًا، وأكثر منطقية. لدى التنظير المباشر والثقة في الإبداع، وفي نفس الوقت أعطي وسائل كبيرة للتحليل، بل أنا قادر، لكن هذا مطروح على العلوم السياسية والاجتماعية مثلًا: في قضايا العدالة الاجتماعية والمساواة، ألمس قضية الدخل القومي، كيف يتم توزيع الدخل القومي، كعالمٍ اقتصادي تمامًا، ما هي خريطة توزيع الدخل القومي، وأنا جالس في مقهًى بمراكش سألت بعض الإخوة التقدميين، ما القضية بالنسبة لكم؟ قالوا: الحرية، وقلت ما القضية بالنسبة للناس؟ فقالوا: الفقر. في رأيي تفشل الحركة السياسية حين تكون قضيتك أنت مخالفةً لقضية الجماهير، أنا هنا أعيد المشروع السياسي ومنه قضية الفقر، هذه القضية لم أجد حتى الآن دراسة في توزيع الدخل القومي في المغرب، وأرى بعينَيْ رأسي السقوف المزركشة في البلاط العربي الذي تصرف فيه الملايين والملايين، وأرى بأبواب فاس الفقراء وأرى الشحاذين، والذين يجوعون، والذين لا يأكلون.
(٤) العقل العربي وحده القادر على صنع المعجزة
(٤-١) أطروحتك الأساسية
– هذه الرسالة معروفةٌ في الخارج في إنجلترا وفرنسا وأمريكا، وقد أشار إليها المستشرق جاك بيرك في كتابه «لغات العرب في الحاضر» باعتبارها إحدى المحاولات الرصينة لإيجاد لغة جديدة يعبر بواسطتها عن مضمونٍ قديم. وعندما قرأها «إتيان جلسون» (مفكر فرنسي) قال: «لأول مرة في حياتي أرى علم التفسير يستعمل لغة الوعي، والدين يعبر عنه بلغة جان بول سارتر.» نشأ هذا الموضوع وأنا طالب بالجامعة، عندما كنت أفكر في أحوال المسلمين الحاضرة أيام انتسابي لجماعة الإخوان، وقراءاتي لسيد قطب والمصلحين الدينيين وفي نفس الوقت خلال معرفتي بالفلسفات الغربية خاصة المثالية عند ديكارت وكانط، وسماعي لأول مرة عن «الذاتية» عند «محمد إقبال»، ونقد المسلمين للمنطق اليوناني، وتأسيسهم لمنطقٍ خاص بهم وسماعي عن «الظاهرية» كمنهجٍ للوعي.
وعندما وصلت إلى فرنسا في تشرين الأول/أكتوبر ١٩٥٦م، وهو نفس العام الذي تخرجت فيه من الجامعة المصرية كتبت بحثًا بعنوان «المنهاج الإسلامي العام» عرضت فيه لمشروع إقامة منهج جديد إسلامي له صورتان: واحدة ثابتة وأخرى حركية. وتشمل الثابتة التصور والنظام، بينما تشمل الحركية الطاقة والحركة. وقدمت المشروع كبحثٍ لدكتوراه الدولة، قرأه الفلاسفة الغربيون فقالوا هذه فلسفة مثالية تريد ضم ديكارت وكانط؛ لأنه يبدأ بالشعور ويريد أن يحل مشكلة القبلي والبعدي، ولكنهم لا يدرون ما صلة ذلك بما يسمى بالمنهج الإسلامي؛ فهم فلاسفة وليسوا مستشرقين، ثم قرأه المستشرقون: «برنشفيك» و«لاووست» و«ماسينيون» و«هنري كوربان» فقالوا: صحيحٌ أن به إشارات للإسلام، ولكنه أقرب إلى الفلسفة منه إلى الإسلام، وهم مستشرقون وليسوا فلاسفة. قال «كوربان»: هذه مشكلة التأويل أدرسها عند الشيعة الإسماعيلية. وقال «ماسينيون»: هذا علم أصول الفقه أدرسه عند أهل السنة، أنت عمرك ٢٠ عامًا فلماذا تتكلم وكأن عمرك ٨٠ عامًا، ادرس علم أصول الفقه كما أوصى بذلك «مصطفى عبد الرازق». وقد تم ذلك بالفعل عندما أعدت بناء هذا العلم واكتشفت فيه نظرية الوعي التاريخي (مناهج الرواية)، والوعي التأملي (التحليل اللغوي)، والوعي العملي (أحكام السلوك)؛ وبالتالي حاولت تأصيل ما يحتاجه جيلنا من اكتشافٍ للإنسان المعاصر كتاريخٍ ومعنًى وعمل.
(٤-٢) ماذا أردت أن تقول لبني عصرك من خلال هذا الكتاب؟
– هذه مساهمة في حل أزمة المنهجية التي نمر بها، دعوت فيها إلى اكتشاف الطبيعة محاولًا إعادة بناء تراثنا الديني القديم على أساس الطبيعة، والعقل، والحرية، والفردية، والجماعية، والتقدم. وهي الأفكار التي أصبحت فيما بعد عنوانًا لعصر التنوير العربي، الذي بدأناه منذ القرن الماضي مع رفاعة الطهطاوي وشبلي شميل وجمال الدين الأفغاني، والتي تخلينا عنها في هذا القرن مع نظمنا العسكرية واتجاهاتنا الخرافية.
(٤-٣) في بحثك الذي تقدمت به إلى مؤتمر «لوفان» الفلسفي «ثيولوجيا أم إنثوبولوجيا» نستشفُّ موقفًا ديكارتيًّا جديدًا … إذ تضع الإنسان أمام نفسه وفي مواجهة العالم؟
– ما زلت أعتقد أن التقدم لن يحدث في حياتنا، إن لم يحدث تحول في حضارتنا؛ وبالتالي في عقليتنا من التمركز حول الله إلى التمركز حول الإنسان. لقد استمر الصراع بين التيارَين حتى القرن الخامس الهجري بين الأشعرية والمعتزلة، ولكن الأشعرية انتصرت في فكرها بعد هجوم الغزالي على العلوم العقلية، وقد حاولت حركاتنا الإصلاحية الأخيرة على استياءٍ منها ومن دون جرأة كافية، إحياء التراث الاعتزالي (العقلاني)، ولكن للأسف بعد أن بدأه الأفغاني هبط إلى النصف مع محمد عبده، ثم إلى نصف النصف مع رشيد رضا، ثم استمر في الهبوط حتى التلاشي كلية في فكرنا الديني المعاصر؛ وبالتالي فإني أنقد التصور الهرمي للعالم، التصور المركزي، التصور الرأسي، وأقلبه إلى تصورٍ أفقي يضع الإنسان بين الأمام والخلف، بين التأخر والتقدم مع أخيه الإنسان في التاريخ، وليس بين الإنسان و«الآخر». وقد يكون العيب الأساسي في ثوراتنا العربية المعاصرة هو في محاولاتها تغيير مجتمعاتنا وتحقيق أهداف الثورة، من مناهضة الاستعمار والإقطاع والصهيونية والقضاء على التخلف بنفس التصور الهرمي، المركزي، الرأسي للعالم؛ بحيث انتهت إلى دكتاتوريات عسكرية؛ ذلك لأننا لم نكتشف الإنسان بعدُ كقيمةٍ مطلقة مستقلة. نحن نؤمن بالله ونضيِّع الأرض ونكمم الأفواه، وكما قال الشاعر محمود درويش: «أبوك احتمى بالنصوص وجاء اللصوص».
وقد كتبت في ذلك مقالًا في قضايا عربية، منذ أكثر من عامٍ عن الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر.
(٤-٤) ألا ترى وراء ذلك غياب أية معرفة فينومينولوجية (ظاهرية) في ثقافتنا؟ فالمعرفة ظلت عندنا مدرسية تلقينية … كلمة الجماعة لا كلمة الفرد المنبثقة عن الحرية … فالواحد منا يتعلم تلقينيًّا ويظل في العمق خرافيًّا!
– لسوء الحظ نحن نمرُّ بفترةٍ تاريخية محددة لم يحاول أحدٌ الكشف عنها وتشخيصها وتحليلها، رغم وضوح معالمها وتشابهها إلى حدٍّ كبير مع أوائل السادس عشر في الغرب، أعني مرحلة التحول من الإصلاح الديني إلى النهضة، وهو ما أدعو إليه باستمرارٍ على أنه مهمة جيلنا.
لقد مررنا بعصر الإحياء كما حدث في الغرب في القرن الرابع عشر، وحاولنا الإصلاح الديني كما فعل الغرب في القرن الخامس عشر، ثم تهنا بعد ذلك، ولم يحاول أحدٌ حتى الآن إقامة عصر نهضة يتمثل أساسًا في نقد الموروث القديم، وهذه هي الأزمة، فبالرغم من وجود طاقاتٍ علميةٍ هائلةٍ متخصصةٍ مهنيةٍ حرفية، إلا أنها منقولة إما عن القدماء أو من المعاصرين، وأعني بهم الغربيين، فأصبحنا ننقل العلم، دون أن نؤسس العلم، وأصبح تخصصنا في اتجاه وحياتنا في اتجاهٍ آخر؛ فلا ضير أن يكون الإنسان عالم ذرة أو اقتصاد أو فيلسوفًا وضعيًّا أو ماركسيًّا، ويؤمن في الوقت نفسه ببركة آل البيت، وينتظر الفرج من ليلة القدر؛ لذلك أحاول أن أبدأ عصر نهضة حتى أحدث التطور من الداخل، مبتدئًا من نقد الموروث القديم ومعتمدًا على التجربة والمشاهدة وتحليل الواقع، الذي هو محك ومقياس صدق المنقول القديم أو عدم صدقه. وعلى هذا النحو تتحقق وحدة الشخصية في حياتنا، ونكون أكثر قدرةً على المساهمة في الحضارة العالمية إبداعًا لا نقلًا.
(٤-٥) كيف تجد الفكر العربي اليوم بعد قرنٍ ونصف مما يسمى بعصر النهضة؟ ألا تراه تيهًا أيديولوجيًّا؟
- (١)
الإصلاح الديني الذي بدأه الأفغاني بقوةٍ وصلابة، والذي تلاشى في الجماعات الدينية المعاصرة وسيادة الدين الشعائري الجدلي المتحجر والمظهري.
- (٢)
الاتجاه العلماني الغربي الذي بدأه بوضوحٍ وجرأة «شبلي شميل» و«فرح أنطون» و«نقولا حداد» و«يعقوب صروف» و«ولي الدين يكن» داعين إلى العلم والعقل والطبيعة والحرية والديمقراطية والاشتراكية والتقدم، آخذين بالتحليل المادي، ولكنه للأسف انتهى على يد «إسماعيل مظهر» وسلامة موسى لأنه لم يخرج من تراث الأمة، وكان كالبالون المنتفخ الذي يسهل ثقبه فيتلاشى.
- (٣)
الاتجاه الليبرالي السياسي الاجتماعي الذي بدأه «الطهطاوي» و«خير الدين باشا التونسي» و«لطفي السيد» و«طه حسين» و«العقاد» داعين إلى تأسيس الدولة الحديثة على نمط الليبرالية الغربية، أي النظام البرلماني المتعدد الأحزاب، ولكن للأسف انتهى هذا التيار أيضًا بعد الثورات العربية التي قام بها الضباط الأحرار في الخمسينيات.
بتوقُّف هذه الروافد الثلاثة أصبح الفكر العربي خاويًا فارغًا، ولم تظهر في جيلنا إلا المحافظة التقليدية التي تعبِّر عن حقيقة المرحلة التاريخية، التي تمر بها مجتمعاتنا.
(٤-٦) الفكر العربي كما وصلنا ليس بريئًا هو الآخر من الأيديولوجيات الاستعمارية، لقد ناديت في كتابك «قضايا معاصرة» إلى قيام حركة استغراب — في مواجهة الاستشراق — فأية قراءةٍ نقديةٍ للتراث الغربي وما هي مبررات هذه الدعوة اليوم؟
- الأول: إفساح المجال للإبداع المحلي للشعوب غير الأوروبية … وسيُعقد في الكويت في تشرين الأول/أكتوبر القادم مؤتمر حول هذا الموضوع.
- الثاني: كتابة تاريخ الوعي الأوروبي من وجهة النظر غير الأوروبية عن تمركزها حول ذاتها، وحتى لا تصبح مرادفةً للتاريخ العالمي. مثلًا في دراسة مصادر الوعي الأوروبي يركِّز الأوروبيون على ثلاثة مصادر: اليوناني والروماني واليهودي المسيحي، في حين أن المصدر الشرقي في مصر وإيران والصين والهند يمثل رافدًا أساسيًّا في الوعي الأوروبي، وإذا أخذنا ما يسمى بالعصر الوسيط الأوروبي، فإننا نجد القرون السبعة الأولى هي فترة الخلط والصراع بين الفرق الدينية المختلفة. يمكن لحضارتنا أن تساهم في التحقق من صدق هذه الاتجاهات، خاصة فيما يتعلق بطبيعة المسيح وجوهر الدين. وفي القرون السبعة التي تلت ذلك استطعنا نحن أن نكون نموذجًا لتحديث الغرب وهو العصر الذهبي بالنسبة لنا، وعصر الظلام بالنسبة لهم. وفي العصور الحديثة للإصلاح الديني في القرن السادس عشر، والعقلانية في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والعلمانية في التاسع عشر، نستطيع أن نتلمس آثارهم في دفع عجلة التقدم. فإذا وصلنا إلى القرن الحالي وأزمة الغرب الحالية وبداية نهضة الشعوب غير الأوروبية، وبرؤيةٍ مستقبلية نستطيع أن نقول إذا كان للوعي الأوروبي مكان الريادة والصدارة في القرون الخمسة الأخيرة، فإن وعي الشعوب غير الأوروبية بذاتها، وما سُمي في فترة المد الثوري العربي بالكتلة الآسيوية الأفريقية، فإن الشعوب المتحررة سترث الريادة في القرون التالية، وربما يعود مركز الثقل الحضاري من جديدٍ إلى الشرق.
(٤-٧) ألا ترى أن الغرب ليس مجرد مستعمرةٍ فقط؛ فهو مستهلك كذلك على جميع أصعدة حياتنا … وبالتالي صار له وجود على مستوى أجسادنا؛ وبالتالي على مستوى اللاوعي … فكثير من حالات الثورة تأتي نتيجة تقبُّل أبوي له على مستوى اللاوعي؟
– هناك شيئان؛ الأول: هو أن الاكتشافات العلمية الغربية وما نتج عنها من صناعاتٍ واختراعاتٍ في الحقيقة ليست وليدة الغرب، بل نتيجة تراكم تاريخي طويل ساهمت فيه كل الحضارات الإنسانية غربية وغيرها، ويظهر ذلك بوضوحٍ في الترجمات اللاتينية للإسهامات العربية، ولا يوجد عالمٌ غربي في عصر النهضة الغربي إلا وقد تتلمذ على نظرائه العرب المسلمين. فنحن عندما نعيش بأجسادنا في اختراعات الغرب وتطبيقاتها، فإننا نجني ثمرة ساهمنا في زرع شجرتها، وهو الذي يسميه «أنور عبد الملك» فائض القيمة التاريخي.
ثانيًا: التغريب يتجاوز الجسد إلى ما هو أخطر وهو الروح، أي مقولات التفكير والتصورات للعالم وأنماط السلوك وتثبيت الأهداف، وهذه لا يمكن أن تكون عالمية بل خاصة بكل شعب، فإذا تسرَّب الغرب من خلال ثقافته ومقولاته وتصوراته إلى روحنا، قضى فينا على الثقافات المحلية، وعلى الإبداع، وجعلنا مقلدين له كما يحدث الآن. الغزو الاقتصادي ثم إلى السيطرة عن طريق الأحلاف ومناطق النفوذ؛ وبالتالي إذا كان الاستعمار قد نقل نفسه من الغزو العسكري، إلى الاستعمار الثقافي عن طريق التغريب، فإن الأخطر الآن هو القضاء على الثقافات الوطنية، وإنكار إبداع الشعوب غير الأوروبية بإفراز نظريات عديدة.
(٤-٨) ما هي هذه النظريات؟
– مثل الصدمة الحضارية من أجل الإيحاء للشعوب غير الأوروبية باليأس، والحكم عليها بالتخلف إلى الأبد؛ فالغرب في ثقافته وروحه الدفينة حتى في اتجاهاته الليبرالية الدفينة يقوم على عنصريةٍ حضارية تدفعه، ولا يستطيع أن يهرب منها لأنه يشعر أن حضارته كانت الرائدة لعدة قرون، ولكن التحرر الوطني للشعوب خاص بتلك التي سيطرت على ثرواتها الطبيعية، وفرضت نفسها على الصعيد العالمي: ثورة إيران وتحديها لأمريكا، كل ذلك قد يساهم في التخفيف من حدة الشوفينية الغربية.
(٤-٩) في مشروعك الفكري، كانت اللحظة البرجوازية في الفكر الغربي مهمة عندك، وخاصة موقفها من النص الديني؛ فقد درست اللاهوت الهيجلي وترجمت كتابات «ليبنتز» و«ليسنج» حول الدين … لماذا التركيز على الحضور الإلهي في التاريخ؟
– بالرغم من كل ما يقال من نقدٍ للبرجوازية، خاصة إذا كان في ذهننا النقد الماركسي، فإنها قد قامت بدورٍ تحديثي في المجتمع الغربي، فنقلته من مرحلة الدين والكنيسة والعقائد والآخرة والإيمان والخطيئة والخلاص، إلى مرحلة العقل والإنسان والمجتمع والحرية والدنيا، مثلًا استطاع «هردر» مؤسس فلسفة التاريخ أن يحول العناية الإلهية إلى قانونٍ للتقدم. كما استطاع «هيجل» أن يحول التثليث المسيحي إلى جدلٍ تاريخي؛ فالانتقال من الدين إلى العقل أو من الإيمان إلى الفلسفة انتقال مهم وحاسم، حين يمكن تحقيق انتقال ثانٍ من العقل والفلسفة إلى الطبيعة والعلم. ونحن في مرحلةٍ مشابهة من أجل نقل عقائدنا القديمة إلى مرحلة اكتشاف الإنسان والتاريخ والطبيعة، عن طريق تأويل الدين وتفجير طاقاته حتى نستفيد منه، فإذا حدث ذلك أمكن إحداث النقلة الثانية من الفلسفة إلى العلم، وهو ما يراه عبد الله العروي من إعطاء دور للطبقة المتوسطة في المجتمعات العربية التي يناط بها التحديث. ويخطئ الماركسيون عندما يتصوَّرون أنه يمكن الانتقال من المثالية إلى المادية، قبل الانتقال من الدين إلى المثالية.
(٤-١٠) هذا يجرُّنا إلى الثورة الدينية في إيران، لقد ذهبت إلى إيران كمفكرٍ يعيش تاريخه المعاصر، ونشرت وقدمت كتاب «الحكومة الإسلامية»، ألا ترى أن الحماس العربي لهذه الثورة مبالغٌ فيه … ولأن العربي لم ينجز ثورته، فهو يسقط على الثورة الإيرانية كل رغباته التاريخية المكبوتة وإحباطاته المتتالية؟
– هذا صحيح ولكن لا بد من تجاوز مرحلة الإسقاط إلى مرحلة الإثراء المتبادل؛ فالثورة الإيرانية تجديد لشباب الثورة العربية وإحياء للناصرية، واعتزاز بالقومية العربية، وتأكيد على الهوية الإسلامية وتحدٍّ للغرب والشرق وتجنيد للجماهير، وهي زعامة لا تقبل المساومة، ودين يتحوَّل إلى ثورةٍ وتقدم وتحرر؛ وبالتالي يمكن أن تكون درسًا لنا من أجل إخراج الدين من بوتقة الشعائر والعقائد إلى ميدان الثورة والتغير الاجتماعي، وأيضًا من أجل نزول الجماهير العربية إلى الساحة؛ لتقرر مصيرها بنفسها دون أن تترك مصائرها بيد الحكام، ومن أجل الاستمرار والتأكيد على إعداد الأمة ضد الاستعمار والصهيونية وتسلط الإقطاع والتخلف؛ ومن ثم يجب أن ننتبه إلى محاولات الاستعمار للوقيعة بين الثورة الإيرانية والثورة العربية، وما زال الشعار هناك «الطريق إلى القدس يمر بطهران» و«إيران اليوم وغدًا فلسطين». وعندما كنت في زيارة الإمام الخميني منذ عام، كنت سعيدًا للغاية عندما كان الناس في الشوارع ينادونني ﺑ «الفلسطيني».
(٥) ظاهرة العرج الحضاري
(٥-١) متى تصبح فلسطين قضية شعوب، لا قضية حكام؟٩
تؤرقني «كبوة الإصلاح»، فمنذ الأفغاني، والطهطاوي، وشبلي شميل وهم رواد النهضة التي ظهرت في القرنَين الماضيَين، والتي كانت لها أبعادها الدينية والاجتماعية والعلمية، مررنا بأربعة أجيال. حاول كلٌّ منها أن يفعل شيئًا ولكنه سرعان ما يكبو. وظلَّت الأجيال الثلاثة متأخرة عن الرواد الأوائل، فبعد الأفغاني تراجع محمد عبده عن منهاج الإسلام السياسي إلى منهاجٍ تربوي إصلاحي نتيجة لفشل الثورة العرابية، بينما عاد رشيد رضا إلى نوعٍ من السلفية الإصلاحية القديمة، متراجعًا إلى ما وراء خط تراجع أستاذه محمد عبده، وربما كان ذلك نتيجة للثورة الكمالية في تركيا، أما في العصر الحالي فقد تراجعت الحركات الإسلامية المعاصرة كثيرًا عن المشروع التحرري العربي الإسلامي الأول. فلماذا تتراجع أجيالنا جيلًا بعد جيل؟ لماذا دعا لطفي السيد إلى مصريةٍ ضيقة بعد دعوة الطهطاوي لبناء دولة ديمقراطية؟ ولماذا فقدت دعوة التحرر حرارتها عندما مرت خلال العقاد وطه حسين؟ ولماذا انقلبت دعوة الطهطاوي الليبرالية إلى دعوةٍ مضادة في الجيل الحالي؟
وشبلي شميل دعا إلى العلمية، لكن فرح أنطون في الجيل الثاني تراجع عن مستوى شميل، محاولًا أن يربط تراجعه بمؤثراتٍ تاريخية قديمة، ثم جاء إسماعيل مظهر في الجيل الثالث، فانقلب من العلم إلى الدين، ومن الجديد إلى القديم، أما الجيل الحالي من العلماء، فإنهم لا يختلفون عن الذين يذهبون إلى التمسح بقضبان الأضرحة.
فلماذا لا يوجد تراكم نهضوي حضاري كافٍ؟
لماذا تتراكم جهود النهضة الحضارية عند الآخرين، ولا تتراكم عندنا؟ مثال ذلك، تشبث اليهود منذ ثلاثة آلاف سنة بشعار «العام القادم في أورشليم»، وعلى قاعدة هذا الشعار تطوَّرت الحركة الصهيونية، من روحيةٍ إلى سياسية، من وعد بلفور بإنشاء دولة إلى قيام الدولة إلى توسع الدولة وهيمنتها في المنطقة، فكل جيلٍ يكمل ما بدأه الجيل السابق، وهو ما نلحظ خلافه بالنسبة لنا، فنحن نبدأ من الصفر، ثم نسقط، ثم نبدأ من جديد، فنسقط، وكأننا ضحايا العود الأبدي!
وكدليلٍ واضحٍ على ظاهرة عدم التراكم النهضوي الحضاري في التاريخ العربي المعاصر، تجربة الرجوع إلى نقطة الصفر التي انطلقت منها قيادة جمال عبد الناصر؛ لتحقيق ثورة في جميع الاتجاهات على الأصعدة المحلية والعربية والعالمية، فما إن مات حتى تحوَّلت سياسة الحكم في مصر إلى نقيض ما كانت عليه، فلماذا لم يواصل النظام اللاحق سياسة النظام السابق، ولماذا تخلَّى بسهولةٍ عن كل المكتسبات التي تحققت في عهد جمال عبد الناصر؟
(٥-٢) المجتمع العربي في حاجةٍ إلى منظمات شعبية: ما هي علة التراجع إلى نقطة الصفر؟
– تكمن العلة في غياب الأمان النظري، وهو أمان يمكن تحقيقه بوجود المنظمات الشعبية القادرة على حراسة المكتسبات، فعندما غابت هذه الحراسة الشعبية، سهل على الحكومات اللاحقة الانقلاب على مناهج الحكومات السابقة، وتعود أسباب هذا الغياب إلى سيادة تيار السلطة الذي يمثله الأشاعرة في تراثنا لمدة خمسة عشر قرنًا، مقابل تيارٍ آخر تلازم وجوده مع التيار الأول حتى القرن الرابع الهجري، وهو التيار الذي يمثله المعتزلة الذين انحازوا إلى حقوق الناس ضد سيطرة الحكام المؤيدين بفكر المذهب الأشعري السائد في البيئة الثقافية الإسلامية، والذي يتصوَّر العالم تصورًا هرميًّا يرتكز على أن هناك قوة واحدة مسيطرة يخضع لها كل شيء، ولا يستطيع أحدٌ أن يغير شيئًا، وهذه القوة يتمثلها الحاكم الذي تجب طاعته وتصبح من طاعة الله، فهو الذي يقدر الأسعار والأقوات والآجال، وليس للإنسان الخيرة من أمره، فعقله قاصر عن معرفةٍ للأشياء؛ ولهذا احتاج إلى وصي من الخارج هو النبي، ويكفي الإنسان أن يقول لا إله إلا الله بفمه فيكون مسلمًا، بصرف النظر عن الفعل والممارسة، ومصير الإنسان يحدَّد بعد الموت فينال الجزاء أو العقاب، ومن أخطائنا، أننا تصورنا أن رأي الأشاعرة هو التفسير الصحيح للعقيدة الإسلامية، بينما هناك تفسيرات أخرى، ورأي الأشاعرة واحد من آراءٍ متعددة، فهناك رأي آخر يجعل من الله مبدأً شاملًا عامًّا يتساوى أمامه الناس جميعًا، ليس كمثله شيء، يستطيع العقل أن يثبته بالبرهان، وله ذات وصفات كاملة، والإنسان حرٌّ وعاقلٌ ومسئول، ويستطيع أن يمايز بين الخير والشر، وأن النبوة قد اكتملت، ومعنى اكتمال النبوة أن الإنسان لم يعُد في حاجةٍ إلى وصايةٍ خارجية، فإن لشعوره المستقل وعقله البديهي، القدرة على هدايته في حياته، والإنسان بعمله وليس بكلامه، والإمام ليس ممثلًا لله، ولكنه يعيَّن باختيار الشعب، والإمامة بيعة وعقد واختيار، ومن حق الشعب النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعزل قاضي القضاة إذا تهاون في تنفيذ العدل.
كان التفسيران الأشعري والمعتزلي قائمين معًا في التراث الديني للمسلمين، ولكن التفسير المعتزلي توارى بينما استبدَّ التفسير الأشعري بالأمر، وجاء الغزالي فظن أن المسلمين غالوا كثيرًا في علوم الدنيا، فدعا إلى علوم التصوف، فازدوجت الصوفية بالأشعرية في العصور التالية للغزالي، إلى أن ورثنا نحن هذه الازدواجية التراثية التي تعزز مكانة السلطة، وتلغي دور الشعب.
(٥-٣) العرج الحضاري
في ظل سيطرة التيار السلطوي الممتدة جذوره في التراث، هل يستطيع العربي المعاصر مواجهة التحديات والمساهمة في قضايا التقدم، إن هذا لن يكون؛ لأن بينهما عدم اتساق، وهذه لا تؤدي إلى هذه، ولا سبيل إلى مواجهة التحديات المعاصرة إلا بفكر المذهب المعارض، مذهب الاعتزال، ولأن للأشعرية امتدادًا طويلًا في تراثنا، وللاعتزال امتداد قصير، فنحن الآن في حالة «عرج حضاري»، فإذا أمكن لنا إحداث توازن تراثي ما بين المذهبَين فإن التقدم يصبح أمرًا ممكنًا، وهذه هي عملية إعادة بناء التراث، وهي أن نزيد قيمة المذهب الاعتزالي، ونخفض قيمة المذهب الأشعري، فندفع بأفكار الاعتزال إلى الأمام، استنادًا إليها. نطالب بحرية الأرض والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والتقدم، فتكون مطالبتنا مبنيةً على قواعد من التراث، فلا يملك أحدٌ حق اتهامنا بالعمالة لحضارةٍ أخرى غير حضارتنا، وبهذا يتفادى مخاطر الوقوع في السلفية ومخاطر الوقوع في العصرية المنقطعة الاتصال بالتراث، فمن خلال مذهب تراثي، نعالج مشكلاتنا المعاصرة، ولا نقع أسرى الدوائر المنعزلة للدعوات الغربية التي تتردد بيننا، والتي يسهل مقاومتها بأقصر الطرق بواسطة مفاهيم دينية تؤمن بها الجماهير، فتنعدم جدواها، وتتواصل الأزمة.
(٥-٤) تغيُّب المواطن عن الوعي القومي … مسئولية مَن؟
الحديث عن أزمةٍ تعود جذورها إلى تيارٍ سلطوي في التراث، أدَّى إلى بروز دور الحاكم وانحسار دور المحكوم، هل يعني هذا إعفاء المحكومين من المسئولية؟
– ينقسم الناس إلى قسمَين الإنسان العادي الذي هو العامل والفلاح والمهني وأمثالهم، والإنسان العالم. أما الإنسان العادي فهو ضحية أجهزة الإعلام التي توقعه في نوعٍ من التغييب عن الوعي القومي، بالإضافة إلى عدم وجود المنظمات التي يمكن أن تشكل بديلًا يختاره للمطالبة بحقوقه والدفاع عن مصالحه؛ وبالتالي فلا ثقل للإنسان العادي في ميدان الحياة العامة.
أما الإنسان العالم، وهو إنسانٌ متميز فهو ثلاثة أنواع: فهناك العلماء الذين لا يقومون بدورٍ ما، والذين يرون أن العلم هو مجرد تعلُّمٍ ونقل معلومات؛ لأنهم يخشون المساءلة عما يمكن أن يفعلوه أكثر من ذلك؟ وهم يمثلون أغلبية العلماء، وهناك فريق من العلماء يسيرون في ركاب السلطة، ويدافعون عن سياستها، على كل حال، وترتبط مصالحهم بمصالح رجالها. وهناك علماء يولون الحق، وينالهم المكروه، وهؤلاء ورثة الأنبياء الذين ينفع الله الناس بعلمهم، والذين نرجو زيادتهم، وهم معزولون عن المجتمع، توجه لهم الاتهامات المختلفة لتشويه صورتهم في عيون الجماهير، وهؤلاء هم الذين يرون أن الخروج من الأزمة الراهنة التي تعاني منها الأمة، يكون ابتداءً من التراث، لا انسلاخًا عنه.
(٥-٥) لماذا فشلت دعوة العقل عندنا بينما نجحت في أوروبا؟ فهل يمكن رد هذا الفشل إلى أسبابٍ كامنة فينا؟
– ربما، لقد نجحت دعوة الغزالي لأنها ظهرت في عصر انحسار العقل عن مكانته البارزة، التي كانت له في القرون الأربعة الأولى من تاريخ المسلمين، بعد أن شعر المفكرون السلطويون بغلبة العقل على الجانب الديني، وبالحاجة إلى تجديد الجانب التعبدي، وهذا ما بلوره الغزالي رغم أن المسلمين في ذلك الوقت كانوا في حاجةٍ إلى فكرٍ مقاوم للغزو الصليبي الذي تحدَّى المسلمين، وفشلت دعوة ابن رشد العقلانية لظهورها في الأندلس في زمن الانقسامات، وفي ظل حالة هيمنة الفقهاء، فتم محاصرتها وتجميدها، وكان يمكن لدعوة العقل أن تنجح ولدعوة الحرية أن تنمو، لو وجدت مؤسسات منظمة تتبنَّى أفكار العقلانية كما دعا إليها ابن رشد، أو أفكار الحرية كما دعا إليها المعتزلة، وهذا ما انتبه له الأفغاني الذي كان يأمل في تكوين حزب ثوري يتبنى برنامج العروة الوثقى الداعي للحرية ومقاومة الاستعمار والتخلف، وليس المطلوب عملًا حزبيًّا تحت الأرض، المطلوب عمل إسلامي يأتي بالإسلام محمولًا على أعناق المسلمين، إسلامًا لا يدافع عن الحاكم فقط بل يدافع عن الأمة كلها.
(٥-٦) تمثِّل إسرائيل تحديًا حضاريًّا خطيرًا لنا، يتنامى يومًا بعد يوم بينما الاستجابة له أقل بكثيرٍ من التحدي نفسه، فكيف نصل إلى حالة تعادل الاستجابة والتحدي؟
– تتعادل الاستجابة للتحدي الإسرائيلي مع هذا التحدي، عندما تتحوَّل قضية فلسطين إلى قضية شعوب ولا تظل قضية حكام، وعندما تدفع إلى معرفة عناصر القوة لدى المستجيب، ومعرفة مواطن ضعفه، فبالقدر الذي نستطيع فيه تغيير التصورات الذهنية المعيقة للنهوض، يمكن التقدم إلى مستوى الاستجابة المطلوب.
(٦) الأصالة حماية للشعوب والمعاصرة إحساس بمشاكل العصر١٠
(٦-١) دكتور حسن … المحور الأول لهذا الحوار هو قضية الأصالة والمعاصرة … فما هو مفهوم الأصالة والمعاصرة في رأيك الخاص؟
– لا تعني الأصالة العودة إلى الماضي بكل ما فيه، ورفض الحاضر والانقطاع عن المستقبل، كما لا تعني أيضًا رفض التجديد والتنكر لخبرات الأجيال، كما أنها لا تعني كذلك التقوقع على الذات، إنما تعني في البداية العمق التاريخي الذي يميز شعوبنا في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، والاستفادة بهذا الرصيد الضخم الذي سلب منا أخيرًا إبان النهضة الأوروبية المعاصرة، التي لا تتعدى خمسة قرون، والتي وُصفنا فيها بأننا شعوب حديثة لا أشكال لها، أو أبنية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.
تعني الأصالة أيضًا التغير من خلال التوصل؛ إذ إن كل تغير مفروض ومقحم، على وجداننا الحالي، لا يعيش أكثر من سنوات، وسرعان ما يهترئ، أو تحدث ردة الفعل فيعود البناء القديم فارضًا نفسه؛ لأنه الأكثر قوة وانتشارًا في الزمان.
وما حدث في مصر في السنوات العشر الأخيرة دليل على ذلك، وما حدث من انتكاساتٍ للثورات العربية الأخيرة دليل آخر.
وما يحدث في تركيا وبولندا دليلٌ ثالث.
على أن التغير الذي يحدث في السطح ولا يؤثر في العمق يؤدي إلى ثورةٍ علمانية على النمط الأوروبي … كما هو الحال في تركيا التي يتركب وجدانها من تراثٍ إسلامي وحضاري وتاريخي، وكما هو الحال أيضًا في بولندا التي يتركب وجدان طبقتها التي تنتمي إلى الاشتراكية العلمية من تراثٍ كاثوليكي متدين.
الأصالة، إذن، هي شرط استمرارية التقدم، وبقاء عمليات التغير الاجتماعي، وهي الضمان والحماية للشعوب من الوقوع في الانتكاسات.
أما المعاصرة، فإنها لا تعني الحداثة، أي العيش على أحدث ما أنتجه العصر في الحضارة الأوروبية من زاوية ممارسة أساليب الحياة، كما هو واضحٌ في مجتمعات الوفرة والرفاهية، في المأكل والملبس، والمسكن، ونمط الحياة. إن هذا المفهوم يشبه، في هذه الحالة، استزراع نبتٍ في أرضٍ قاحلة، سرعان ما يجفُّ وينتهي.
المعاصرة لا تعني أيضًا التشدق بآخر النظريات في العلوم الإنسانية من بنيويةٍ ووجودية، أو من تقليد آخر المذاهب الفنية من تكعيبية وانطباعية وسيريالية، أو التغنِّي باللغات الحديثة في الحياة اليومية، أو الاعتماد على الحاسبات الآلية لتوجيه مظاهر نشاطنا.
كل ذلك غطاء خارجي لا مضمون له، ويكسو حياتنا بالفراغ داخل دائرة الفراغ.
-
الاستعمار.
-
والتخلف.
-
والصهيونية.
-
ومظاهر القهر السياسي.
-
والتفاوت الطبقي الشنيع بين من يكدسون الأموال وبين من يموتون جوعًا وقحطًا.
تعني المعاصرة القدرة على مجابهة هذه التحديات، بأسلوبٍ علمي منهجي مع الوعي بالمرحلة التاريخية التي تمر بها شعوبنا، والوصول إلى نتائج بالجهد الوطني دون الوقوع في التقليد، وتفجير الطاقات الخلاقة للشعوب، فهي وحدها صاحبة المصلحة في المواجهة.
والمعاصرة، بهذا المعنى، قد تأخذ أشكالًا بدائية، لكنها فعالة … كما حدث في مواجهة طائرات «الفانتوم» الأمريكية الإسرائيلية بالبنادق، وشق الطرق والجسور بالمعاول و«المقاطف» وقطع الأستار الرملية بمضخات المياه، كما حدث في فيتنام والصين ومصر.
(٦-٢) لماذا لا يتبلور هذا المفهوم في جدليةٍ تطبيقية الآن …؟ أو بعبارةٍ أوضح … لماذا لا نطبق هذا المفهوم للأصالة والمعاصرة على الوضعية العربية المحاصرة بأشكال الاستلاب والاغتصاب والقهر؟
– في تصوُّري يرجع السبب في ذلك إلى أننا حتى الآن لم نحاول أن نجرب الوحدة الوطنية، والاتفاق على حدٍّ أدنى من المبادئ والأهداف، يجعل كل فريق قادرًا على أن يسهم بدلوه، ويكون المحك في النهاية لأكثر التيارات قدرة على تحقيق هذه الأهداف.
حتى الآن هناك صراع تاريخي بين الأصالة والمعاصرة بمفهومَيهما السلبيَّين، نتيجة لما حدث من انتصار المحافظة الدينية والحضارية على وجداننا القومي في الألف عام الأخيرة، منذ القرن الخامس الهجري، والتي أصبحت السجن الكبير الذي وقع فيه أنصار الأصالة دون استطاعتهم الخروج منه.
وما حدث من نهضةٍ في المائتي سنة الأخيرة بعد احتكاكنا بالغرب، واكتشاف أنصار المعاصرة أن تحديث مجتمعاتنا لا يحدث إلا بالتقليد الشامل للغرب، كما هو الحال عند شبل شميل، أو بانتفاء أسباب العلم والقوة إلى جانب النظم البرلمانية، كما هو الحال عند الأفغاني والطهطاوي.
ولحد الآن … لم يستطع أنصار الأصالة بالمفهوم السلبي أن يقللوا من ثقل ألف عام، وأن يجدوا بديلًا آخر كان مطروحًا قبل القرن الخامس الهجري، عند المعتزلة في أفكارهم عن الحرية والعدالة، واعتمادهم على العقل والطبيعة، كما لم يستطع أنصار المعاصرة بالمفهوم السلبي أن يجدوا منفذًا لاحتياجات عصرهم، ليس فقط في نقل هذه الاحتياجات من الغرب، ولكن لتطوير تراث الأمة، واكتشاف هذه الحاجات في عمقها التاريخي.
ومع ذلك … تظل الرغبة في إقامة وحدةٍ وطنيةٍ بين هذَين الفريقَين الرئيسيَّين المتصارعَين أملًا وهدفًا.
قد تستطيع الثورة الإسلامية، أو حركة التقدم الإسلامي (أو النهضة الإسلامية)، أو حتى اليسار الإسلامي تحقيقه، وهو ما أحاوله أنا في هذه المرحلة بعد صدور مجلة «اليسار الإسلامي» (وهي عبارة عن كتاباتٍ في النهضة الإسلامية) التي تستأنف مجلة «العروة الوثقى» التي أسَّسها الأفغاني، والتي صدر منها ثمانية عشر عددًا، كان لها أبلغ الأثر في تحديد ملامح المشروع القومي الإسلامي الحديث.
(٦-٣) ماذا تقصد باليسار الإسلامي؟
-
أنصار الأصالة يبدءون بتراث الأمة.
-
وأنصار المعاصرة يبدءون بمواجهة تحديات العصر.
-
وهذا هو الأمل المنشود من جيلنا.
(٦-٤) هل هذا اتجاه جديد أم بدعة جديدة؟
– لا … بل تطوير لحركةٍ تاريخية طويلة، بدأت بثورة الأنبياء الذين تصدوا لكل مظاهر التخلف والقهر السياسي، وانتهت بالثورة الإسلامية الكبرى في إيران، بالإضافة إلى ثورة الفلاحين في ألمانيا بقيادة الراهب توماس مونزر، وثورات الرهبان الشبان في أمريكا اللاتينية بقيادة كاميلو توريز، دفاعًا عن الفلاحين والأرض ضد الإقطاع ورأس المال، والإسلام والوطنية متَّحدَين في الجزائر، والبوذية في فيتنام في مواجهة الغزو الأمريكي والكونفوشيوسية في الصين (في بداية الثورة الصينية) والديانات الأفريقية في مواجهة المستعمر الأبيض.
(٦-٥) كيف تعلل القهر السياسي، ونكوص «الفعالية» الثورية أي فعالية التغيير … على امتداد الخريطة العالمية بشكلٍ عام؟
– القهر السياسي ليس وليد الصدفة، ولن ينتهي اليوم، ولن يقضى عليه الغد؛ إذ إن له جذورًا تاريخية ومتشعبة؛ وبالتالي لا يمكن التغلب عليه إلا بانتزاع هذه الجذور، وغرس جذور أخرى قد تنبت فيما بعد نظمًا للدفاع عن الحرية والديمقراطية ضد جميع أنواع القهر والتسلط السياسي والفكري والاقتصادي.
وأستطيع أن أجمل هذه الجذور في التصور الهرمي للعالم الذي يجعل قمة الهرم مسيطرةً سيطرة كلية وشاملة على القاعدة، مع مراعاة أنه إذا تحركت القاعدة تزلزل الهرم؛ ومن ثم وجب على القمة أن تبتر وتفصل وتقطع العضو الفاسد حتى يظل البناء، وهذا هو ما قاله الفارابي في المدينة الفاضلة، والذي ظهر في تصور الأشاعرة للتوحيد، وهو التصور الذي تبنته الدولة على مدى تاريخنا الطويل، وهو يمثل المرحلة التي تم فيها التوحيد بين الرئيس والحاكم، والأمير ورب الأسرة، ورئيس العائلة، وتنصبه على قمة الهرم، ولا يمكن أن تظهر ديمقراطية أو حرية شعبية مع مثل هذا التصور للعالم؛ لأن العلاقة بين القمة والقاعدة ستكون أحادية الجانب … القمة تأمر والقاعدة تنفذ، القمة تستلهم والقاعدة تطيع …؟!
(٦-٦) هل المنهج النصي له علاقة بهذه القضية؟
– المنهج النصي الذي يجعل الحقائق منزلة مكتوبة سلفًا، يفرض نفسه على الواقع دون معارضة أو نقاش، وما على الإنسان إلا تطبيقها مما يمنع الحوار والرأي الآخر والمعارضة، واكتشاف الحقائق العلمية، وإعمال الفعل الإنساني خاصةً إذا ما قامت السلطة الدينية، بتأييدٍ من السلطة السياسية باحتكار مثل هذه الوظيفة.
أما حديث الفرقة الناجية القائل بأن «أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» فيعني أن كل الاجتهادات خاطئة ومرفوضة، وضالة وباطلة منذ البداية، ولا يوجد إلا رأي واحد صائب هو رأي الحكومة (أي الدولة أو النظام الرسمي) مما يجعل النظام السياسي يكفر ويلعن كل الاتجاهات المعارضة.
ومن ثم لا يمكن للحرية والديمقراطية أن تظهر في حياتنا كمجرد تغيير النظُم السياسية، ولكن باقتلاع هذه الجذور من أساسها، واستزراع جذور أخرى تقوم على أن اختلاف الأئمة رحمة بينهم، وأصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم، وجادلهم بالتي هي أحسن، أو أشداء على الكفار رحماء بينهم … أي أننا نحترم بعضنا بعضًا فيما بيننا كجبهةٍ واحدة، نقف صفًّا واحدًا متحدًا في مواجهة الأعداء.
(٦-٧) الجانب الآخر من القضية يقتضي طرح هذا السؤال: لماذا تقلَّصت الكيانية، وسمات الشخصية القاعدية بالنسبة للأمة العربية والإسلامية في القرون الأخيرة؟
– إن إبداع الأمة يتحقَّق طالما أن هناك تعارضًا بين الأنا والآخر، وقد يكون هذا الآخَر متمثلًا في القهر الداخلي، وقد يكون متمثلًا في القهر الخارجي، الأول يمثِّله التسلط السياسي، والثاني يمثله الاستعمار.
وطالما أن الطرف المقهور لم يسلم، ولم يقبل القهر الداخلي أو الخارجي، فإن شرط الإبداع قائم.
أنا لست من أنصار شعار أن القهر السياسي ضد الإبداع، بل قد يكون سببًا رئيسيًّا من أسباب الإبداع، ويجوز أن تختلف أشكال الإبداع، وربما تكون الصحافة غير الرسمية، خصوصًا صحافة اﻟ «أندر-جراوند» (وصحافة ما تحت الأرض) خير تعبيرٍ عن الإبداع في ظروف القهر السياسي، عندما تعبِّر شتى الجماعات عن كيانها وهُويتها ووجودها في كتاباتها، غير الرسمية، والتي تقلق السلطات وتجند جميع الأجهزة في الدولة لاقتناصها وتحريمها ومصادرتها، والتي تلقى صدًى هائلًا في قلوب الشعب في مواجهة الصحافة الرسمية التي لا يستعملها الناس إلا كقراطيس للبيع، القهر السياسي مفتاح إبداع الأمة.
لكن هذا الصمود أمام القهر السياسي لا بد أن يكون واعيًا، مكتشفًا عناصر القوة والمقاومة، ملتحمًا بالجماهير، وقادرًا على أن يحدد خطةً طويلة الأمد حتى يمكن القضاء بها على كل مظاهر القهر والتسلط السياسي، وذلك ينفي المعارضة من الخارج، فما أسهل الإبداع والتخطيط والتوجيه من خارج الحلبة، ولكن لا تحسب المعارك إلا على أرض المعركة الحقيقية.
إن القياس بالنسبة لوجود لينين في ألمانيا وسويسرا، أو وجود الأفغاني في باريس قياس باطل؛ لأن الجماعات الثورية كانت طنينًا يملأ روسيا، وكانت الاتجاهات الوطنية في مصر والعالم الإسلامي تقضُّ مضاجع القياصرة والملوك و«الخديوي»؛ وبالتالي كانت هناك أرضيةٌ وطنية، وكان هناك مئاتٌ من المناضلين داخل البلاد، وهذا ليس هو الحال في لحظتنا الراهنة حيث تتجمَّع المعارضة في الخارج ويظل الداخل خواءً.
إن تغيير الواقع بوصةً واحدةً خيرٌ من آلاف الجرائد والمجلات عن النضال والتحرر في الخارج.
إن ضربة شرطي لشابٍّ يحمل علم فلسطين في معرض الكتاب، كما حدث في مصر في العام قبل الماضي، تعبيرٌ عن موقفٍ يجسِّد رفض الصلح مع إسرائيل؛ وبالتالي فإنه أفضل من عشرات المقالات والكلمات في العواصم الأوروبية.
(٧) ما التنوير …؟١١
– التنوير العربي محاولة للتخلص من جذور التجهيل.
– مهمة المنورين الإسلاميين الآن إحياء المعتزلة.
– التنوير دور يتم في الشارع العربي وليس في باريس.
(٧-١) ما هي ضرورات التنوير في تقديرك؟
التنوير — بصرف النظر عن مدى دقة التعبير — ضرورة اجتماعية وتاريخية وسياسية، وقد يكون ما حدث للثورات العربية من انتكاساتٍ في العشر سنوات الأخيرة أنها لم تَقُم على أساسٍ تنويري؛ لأنه يمكن إحداث تغيير في البناء الاجتماعي وما أسهل ذلك، ولكن ما لم يكن هناك وراء هذه القرارات السياسية مثل الإصلاح الزراعي ومقاومة الاستعمار والدفاع عن الاستقلال الوطني للبلاد وعدم الانحياز … إلخ، ما لم يكن هناك لدى القيادة التي تصدر هذه القرارات رصيدٌ تاريخي وتصورٌ معين للجماهير، تحمي به هذه القرارات، ما أسهل أن تصاب بانتكاسات، بل وتشوه هذه الانتكاسات نفسها؛ وبالتالي فإن التنوير ضرورة لحماية أي حركة تغير اجتماعي، ولا توجد سياسة تسعى للتغيير الاجتماعي لا تقوم على أساس مجموعةٍ من الأفكار والتصورات … التنوير شرطٌ لأي حركةٍ سياسيةٍ تسعى للتغيير الاجتماعي، وهو الضامن لاستمرار أي مكتسباتٍ قد تحدث من قيادةٍ ثورية؛ لأنها هي التي تحدث تغييرًا فعليًّا في تصورات الناس وفي مفاهيمهم، وفي بواعثهم على السلوك، ربما أن الثورات العربية لم تحدث هزات في نفوس الناس وتصوراتهم، مثلما أحدثت في الأبنية الاجتماعية وفي موازين القوى في الشرق الأوسط.
(٧-٢) استخدمت الثورة البرجوازية شعار التنوير في فتراتٍ تاريخية سابقة … فهل يوجد معنًى مختلف للتنوير في تقديرك في عالمنا الراهن، وفي عالمنا العربي على وجه التحديد؟
ظهر مصطلح التنوير عند كانط في أواخر القرن الثامن عشر في مقال: «ماذا يعني التنوير؟» … يعني التنوير الآتي: وصول الإنسانية إلى مرحلةٍ من النضج؛ بحيث لا تقبل أن تكون هناك سلطة — مصدر من مصادر المعرفة — قد تكون سلطة دينية أو سياسية، أو سلطة حزب أو سلطة تقاليد، أو سلطة ما هو شائع أو سلطة عرف، يعني أن يصل الإنسان حدًّا من النضج أن يقول أنا أصبحت عاقلًا قادرًا على استخدام عقلي، والعقل هنا يعني الحرية أي ممارسة حريتي في التفسير؛ فالتفسير بمفهوم كانط ولسنج بلوغ سن الرشد، أي أنا حر، أي أنا أفكر بلا وصاية خارجية … تحول مفهوم التنوير من ألمانيا لفرنسا، وأصبح التنوير تفجير أنا أفكر، وأنا حر في القضايا الاجتماعية؛ وبالتالي أمارس حريتي ليس فقط بيني وبين نفسي، ولكن بيني وبين الآخرين، وبيني وبين النظام السياسي؛ وبالتالي حدث تفجيرٌ للتنوير في الأبنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع؛ وبالتالي فإن الثورة الفرنسية بنت التنوير.
التنوير يستند على خمس فِكَر: الحرية، العقل، الطبيعة، الديمقراطية، التقدم في التاريخ، هذا هو محور التنوير بالمعنى الغربي، أما التنوير هنا، فله معنًى مختلفٌ فهو يعني محاولة التخلص بطريقةٍ ما من الجذور التاريخية للإظلام (أو التجهيل) … كيف يظهر الإظلام؟ مظاهره عديدة، أولًا: عدم وجود بدائل، أي تفسير الظواهر بعلةٍ واحدة استنادًا لعدم تعدُّد المداخل، وهذا التفسير الذي يستند لعلةٍ واحدة هو التخلف بعينه؛ لأن الظاهرة الإنسانية لا يمكن أن نفسرها بعلةٍ واحدة، ثانيًا: أن نتصوَّر أن الظواهر متفاوتة في الترتيب بين الأدنى والأعلى … بين الأقل قيمةً وشرفًا والأكثر قيمة وشرفًا، فإن هذا هو التجهيل لأن التنوير هو تصورٌ للظواهر على مستوًى واحد، كلها متشابكة ومتداخلة، وقد تكون العلاقة بين الأدنى والأعلى هي في الحقيقة علاقة بين الأمامي والخلفي، وهو ما يصل بنا لفكرةٍ تنويرية تقول بأن كل مجتمع به قوة تدفع للأمام وقوة تدفع للخلف، ثالثًا: بالنسبة لتراثنا القديم، كانت هناك معركةُ تنويرٍ بين الأشاعرة والمعتزلة التي ازدهرت وبلغت القمة في القرن الرابع الهجري، وحمل المعتزلة لواء التنوير، وتبنَّوا نفس الأفكار التي ظهرت فيما بعد في القرن الثامن عشر: الحرية، العقل، الطبيعة، الديمقراطية، التقدم. وربما لم يظهرا بما فيه الكفاية وكان علينا أن ننتظر طويلًا حتى يظهر ابن خلدون الذي لم يرَ التاريخ إلا بوصفه تاريخ نهوض الأمم وانهيارها، ولم يرَ الفكرة التنويرية القائلة بأن التاريخ يتقدَّم للأمام، ولا يبدأ لكي ينهار؛ وبالتالي يمكن الغوص في فكرة التنوير الاعتزالية القديمة، وإكمال الفكر الاعتزالي كبديلٍ للأشاعرة الذين حُسمت المعركة لصالحهم لأسبابٍ سياسية. وحاليًّا فإن الأشاعرة سادوا للألف عام، والمعتزلة حاولنا إحياءها على يد الأفغاني ومحمد عبده إلى درجةٍ ما، ثم ضاعت على أيدي رشيد رضا؛ ولذا فإن المهمة المطروحة الآن على التنوير هي إحياء المعتزلة، وإكمال الطريق وطرحه كبديلٍ للأشاعرة، وهو أمرٌ قد لا يتطلَّب ألف عام، ولكنه يتطلَّب عدة أجيال، وجيلنا عمومًا سيمهد الطريق فحسب، ولن يجني ثمارًا، فعصرنا هذا قريب الشبه بعصر النهضة، ومهمة جيلنا هي تحويل الإصلاح الديني الذي بدأه الأفغاني ومحمد عبده إلى نهضةٍ شاملة.
(٧-٣) محاور التنوير الفكرية التي تطرحها مرتبطة بعملية تغير حضاري–اجتماعي ذي طابعٍ برجوازي؟
التنوير مربتطٌ بالطبقة المتوسطة بصرف النظر عن تسميتها: برجوازية أم لا … ببساطة، الأفندية: أنا وأنت … الذين أتاح لهم الفلاح المصري أن يتلقَّوا تعليمًا جامعيًّا وفي هذا، فأنا أتفق تمامًا مع صديقي عبد الله العروي في كثيرٍ من محاولاته، لإثبات ذلك ضد الماركسيين العرب الذين يوقنون بأن الطبقة البرجوازية، بطبيعتها وتكوينها ونفسيتها ومصالحها، طبقة لا يرجى منها خير لأنها تستغل وتنافس الطبقة الوسطى …
(٧-٤) المقصود بالطبقة الوسطى هي الطبقة الحاكمة في العالم العربي …
لا .. الجهاز الإداري … الجهاز الحكومي …
(٧-٥) التكنوقراطيين والبيروقراطيين …
نعم … ولكن ليس بجوانبه السلبية، فإنك لو أخذت نسبة دخلي لوجدتني سارق خبز ألف فلاح، وبالطبع فأنا طبقًا للفكرة التنويرية القائلة بالمساواة مدان … أنا أنتسب من ناحية الدخل للطبقة الوسطى، ولكنني أنتسب فكريًّا لطبقة العمال والفلاحين، قد يكون ذلك نوعًا من تبرئة الضمير، ولكن من الذي سيقوم بعملية التغيير؟ … خذ الضباط الأحرار كمثال أنهم ينتمون للطبقة الوسطى … أليس كذلك؟ … إذن لا زالت الطبقة الوسطى قادرة على التأثير في المجتمعات المتخلفة شبه الإقطاعية، شبه الرأسمالية … لأننا أخذنا فرصة للتفكير وللتأثير؛ وبالتالي فلن تقوم بمهمة التنوير الطبقات الدنيا، وأنا أتكلم عن مجموع هذه الطبقات الذي لم يتح له فرصة التعليم، وأستثني من ذلك أفرادًا انضموا لمنظماتٍ سياسية، وتلقَّوا في خضم ذلك قدرًا من الثقافة.
الغرب من حقه أن يرفض الطبقة الوسطى، ومن حقه أن يرفض الليبرالية لأنه تمثلها؛ ولذلك يستطيع الآن أن يتجاوزها ويبحث عن تحقيق الهدف الأعلى بماركسية القرن التاسع عشر، عن طريق إثارة العمال والفلاحين، أما أنا العربي فلا أستطيع أن أرفض قِيمًا لم أتمثَّلها بعدُ وهي الليبرالية؛ ومن ثم فإن عبد الله العروي، يسمي ما نحن في احتياجٍ إليه: الماركسية الليبرالية أو العربية التاريخيانية، وهذا منوط بالطبقة المتوسطة: الطلاب، الأساتذة، الضباط، المثقفون، المفكرون، الأدباء.
(٧-٦) التغيير الاجتماعي الملقى على عاتق الطبقة المتوسطة له طابعٌ اشتراكي أم برجوازي؟
إعادة توزيع الدخل القومي طبقًا لمفهومٍ من المساواة بما يحقِّق مزيدًا من العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، وتذويب الفوارق بين الطبقات، وهي المفاهيم التي كانت سائدةً في الثورات العربية الأخيرة، بالرغم مما قد يشوبها من بعض السلبيات.
(٧-٧) هل لا زلنا في مرحلة الثورات العربية؟
(مسترسلًا) … التي يمكن إقالتها من عثراتها والتي يمكن تجديد شبابها وإكمالها؛ بحيث تصبح قائمةً على حرية الفرد وحرية التعبير، وحق الجميع في الحوار الوطني، وفي نفس الوقت، عدم ظهور طبقاتٍ جديدةٍ ضد مصالح الأغلبية.
(٧-٨) ما هي المدارس الفكرية المرشحة لأن تلعب دورًا في التنوير؟
أهم التيارات الفكرية الموجودة هي التيارات الماركسية، الناصرية الوحدوية القومية، الليبرالية، الدينية المستنيرة، أي إن هناك أربعة اتجاهات رئيسية فكرية واجتماعية وسياسية وثقافية في آنٍ واحد، ولا بد من الاجتماع على حدٍّ أدنى من المبادئ، مثلًا لا بد من أن يسمح لكل تيارٍ بمدخله النظري المستقل، فأنا أريد برنامجًا للعمل الوطني.
(٧-٩) برنامج سياسي …
لا … ليس فقط برنامج سياسي، ولكن برنامج اجتماعي سياسي وطني تاريخي مرحلي، يتفق عليه الجميع بصرف النظر عن المداخل النظرية.
(٧-١٠) ماذا عن الجانب الفكري في الموضوع؟
في تقديري هناك نقاط عديدة للاتفاق بين المدارس الفكرية المختلفة، ولكن الجبهة على المستوى الفكري لا تتحقَّق إلا بالإجابة على السؤال التالي: أي التيارات أكثر قدرةً على الاحتواء؟ … وليس المقصود بالاحتواء هو الضم والقهر … في رأيي أن الغلبة ستكون للتيار الديني المستنير، كما حدث في التجربة الإيرانية؛ حيث استطاع الاتجاه الديني الثوري أن يكون بمثابة الجبهة التي جمعت بداخلها كل القوى ضد التغريب، وضد المعسكرات، وضد الاستغلال، ومن أجل الحفاظ على الهوية القومية؛ وبالتالي يجب أن ينشأ حوارٌ بين هذه التيارات لبحث أي التيارات أكثر قدرةً على الشمول، ولا أقول الشمول بمعنى الاحتواء أو ضياع الهوية.
(٧-١١) ما تقديرك لحركة التنوير الباريسية؟
في الواقع لقد عُرض عليَّ الانضمام لمجموعة التنوير الباريسية، ولكنني وحتى الآن لديَّ ملاحظات تمنع ذلك، وإليك ملاحظاتي: على سبيل المزاح، أطلق البعض اسم جماعة التنوير والهجرة … يعني ببساطةٍ ما جدوى جماعةٍ تناضل خارج مصر؟ … التنوير يجب أن يتم هنا، وصحيحٌ أن الأفغاني أقام في باريس، ولكن العروة الوثقى كانت تصل لمصر، تنسخ وتوزع، فأين التنوير من ذلك؟ … التنوير سيتمُّ في خضم الشارع العربي لا في باريس ولندن، وهناك ملاحظات أخرى لعل أهمَّها هو مسألة التمويل … فالواقع أنا أتشكَّك دائمًا من هذه الجماعات التي تُنفق على شقةٍ في باريس، أو تنفق على ركوب الطائرات، والأجدى أن يحاول الناس القيام بنشاطهم بقروشهم القليلة معتمدين على أنفسهم … وأخيرًا تبقى ملاحظة تتعلق بالمشاركين في التنوير، فالملاحظ أنهم جميعًا من الماركسيين المصريين القدامى، ترى هل هي يافطة جديدة؟
(٨) التعددية على المستوى النظري والوحدانية على المستوى العملي١٢
(٨-١) مبادرة الأحرار العرب الفردية يجب أن تلتحم مع قانونٍ تاريخي
الحقيقة أنه بعد غزو لبنان، ووجود هذه القدرة من العجز، أو عدم القدرة على فعل أي شيء، جعل المثقف العربي والأمة العربية بوجهٍ عام تطرح هذا السؤال:
ما الذي يمكن عمله على الأقل للحفاظ على الكرامة العربية في هذا الوقت، ثم التفكير في تحرير الأرض والتفكير في تحقيق أهداف المشروع القومي العربي فيما بعد؛ لأنه حتى الآن عندما تضيع الكرامة وتضيع الروح ويضيع الإحساس بالذات أو القدرة على عمل أي شيء، فإن هذا أخطر ما يهدِّد الأمة العربية، كي لا نتحوَّل إلى ألمانيا أخرى لا تستطيع أن تفعل شيئًا لإقامة وحدتها، سيما بعد أن تبخرت القضية الألمانية بين الشرق والغرب، فإذا سألت ألمانيًّا الآن عن إعادة توحيد ألمانيا ضحك، وقال هذه مشكلة الأجداد أما مشكلة الأحفاد أو الأبناء فلم تعُد قضية! ونراه يقبل تقسيم ألمانيا ويقبل معها كل شيء …
أقول، لا قدر الله أن يحدث مثل هذا، يمكن أن يحدث الآن في نقاطٍ ثلاث محددة:
النقطة الأولى: هي قضية الحريات … لقد آن الأوان أن ينتقل المجتمع العربي من مرحلة القهر، ومن مرحلة أن واحدًا هو الذي على حق وأن الكل على خطأ، إلى مرحلة الاعتراف بأنه مهما كان الإنسان على وعيٍ بأنه على صواب، إلا أن الآخر قد يكون على صواب … وبالتالي عدم تخوين الآخر، والدخول في حوارٍ مع الآخر، فيفهم الآخر.
إننا ونحن أمة، فإن كل التيارات السياسية والقوى الاجتماعية فيها يجب أن تكون ممثلة، فلدينا تراث ليبرالي في المنطقة خاصة في مصر، أكثر من مائة سنة من الحريات العامة والدستورية والبرلمانية، بالإضافة إلى حرية الصحافة، صحافتنا في القرن الماضي وأوائل هذا القرن كانت من أزهر ما يكون … وهي التي حملت لواء التحرر العربي … إلخ، أقول إن الليبرالية تراث أصيل فينا، ثم الثورة العربية لها إنجازات ضخمة ولها رصيد بين الشباب والعمال والفلاحين، أي ما يسمى بالقومية العربية والناصرية، كذلك، الجناحان الرئيسيان في الأمة، أي التيار الإسلامي (الإخوان المسلمون) أو الجماعات الإسلامية، ثم التيار الماركسي والأحزاب الشيوعية العربية. هذه أربعة تيارات رئيسية كلها لها وجود في الشارع السياسي العربي، ولسوء الحظ كلها غير ممثلةٍ لأعلى صعيد الإعلام ولأعلى صعيد المؤسسات، وكلها مخونة …
أقول إذن … إن الحد الأدنى هو عدم تخوين أحد … وجعل كل تيار وكل قوًى سياسية واجتماعية تطرح وجهة نظرها في تحليلها للواقع، وفي تحليلها للأمور، ومن خلال هذا التحليل المتعدد الاتجاهات ربما ينشأ حل … لكنه لا يمكن أن ينشأ حلٌّ والعقل العربي لا يفكر … والعقل العربي مقهور وإن هناك آخر يفكر له هو النظام السياسي، وطالما كانت النظم السياسية العربية تدافع عن كراسي الحكم، والعدو الرئيسي لها، إما المعارضة في الداخل أو النظام السياسي الآخر المعارض لها في الخارج، فإن العقل العربي يصبح مشلولًا تمامًا؛ لأنه لا يوجد عقلٌ يفكر في موضوع، إنما يوجد نظام سياسي فقط يدافع عن نفسه، وتوجد قوًى معارضة مصابة بالإحباط، هذه هي النقطة الأولى، إنها الحريات، وأكبر قدر من الحريات … فلا يعقل أن تقام مظاهرة في تل أبيب تعدادها نصف مليون إسرائيلي، بينما مظاهرة تعدادها مائتا شخص في أي عاصمةٍ عربية لا تخرج من صحن الدار، وتُضرب وتُقمع وكأنها خائنة.
النقطة الثانية، وهي في معنى النقطة الأولى نفسها، وهي السماح بحُرية المداخل النظرية في التحليلات، وبحُرية الأطر النظرية، وتعدد الأطر النظرية ما دام هناك اتفاقٌ على حدٍّ أدنى من المبادئ، وعلى برنامجٍ عربي موحد، من يريد أن يحرِّر فلسطين باسم الجهاد والجهاد المقدس والدفاع عن أراضي المسلمين والشهادة، فليتفضل … والذي يريد أن يحرر فلسطين باسم القومية العربية والدفاع عن الوحدة العربية، فليتفضل … والذي يريد أن يحرِّر فلسطين باسم القومية العربية والدفاع عن الوحدة العربية، فليتفضل … والذي يريد أن يحرِّر فلسطين باسم الأممية والبروليتاريا العالمية وحق الشعوب المضطهدة، فليتفضل … والذي يريد أن يحرِّر فلسطين لأن هناك شعبًا مقهورًا عليه أن ينال حرياته ومن أجل حقوق الإنسان، فليتفضل.
أقول إذن ليس ثمة تعارضٌ في تحرير فلسطين كبرنامج عمل موحد، بصرف النظر عن الدافع والإطار النظري.
ولكن لا يخون فريقٌ الفريق الآخر، أطالب بالتعددية على المستوى النظري وبالوحدانية على المستوى العلمي … لكننا أقمنا نوعًا من الوحدانية على المستوى النظري، فأصبح من أجل المبدأ ومن أجل الفكر ومن أجل الانتساب والفكر النظري، يقوم كل فريقٍ بتخوين الفريق الآخر.
النقطة الثالثة والأخيرة التي يمكن وضعها في إطار الحد الأدنى الذي يمكن مآله هي الآتي: معرفة ما هي التناقضات الثانوية وما هي التناقضات الرئيسية، ووضع هذا التمييز بين نوعَين من التناقض في رؤيةٍ تاريخية.
مثلًا: الصراع بين تيارَين رئيسيَّين في الوطن العربي: تيار تقدمي وتيار محافظ … هذا صراع وارد وموجود وتاريخي وله أصوله، وهو صراع شرعي؛ لأن هناك قوًى محافظةً تحاول الإبقاء على الوضع القائم فكريًّا وثقافيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، وهناك قوًى تقدمية تحاول النهوض وتغيير الأمر الواقع وتحقيق أهم أهداف الأمة العربية في العدالة والحرية والوحدة والتحرُّر إلخ.
أقول ينبغي التمييز بين التناقض الثانوي والتناقض الرئيسي، مثلًا في القضية الفلسطينية، هناك حتمًا خلاف وجهات نظر بين فلان وفلان وفلان وفلان … إلخ، لكن هناك الآن نوع من الصراع في الجوهري بين: هل «تصفَّى المقاومة» أم «تبقى المقاومة»؟ هذه هي القضية الرئيسية … الإبقاء على الهوية الفلسطينية وممثِّل الشعب الفلسطيني، أم الخلاف داخل الأسرة الواحدة، بين كيف يمكن التحرير؟ هل نقبل مشروع ريجان أم لا نقبل … أي التمييز والتفرقة الرئيسية بين التناقض الثانوي، والتناقض الرئيسي.
وكذلك هناك الكثير من التناقضات الثانوية في الأمة العربية لا قيمة لها … وبدلًا من استنزاف الأمة العربية في أطرافها، أو في قلبها، هناك أمامنا المعركة الرئيسية: معركة الحياة أو الموت … معركة فلسطين وتحرير فلسطين … أي الصراع بين القومية العربية والصهيونية.
أقول إذن … ينبغي التمييز بين التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي مع كل خطةٍ تاريخية، ما هي المعركة الآتية وما هي المعركة المستقبلية، إن أي وعيٍ سياسي بلا وعي تاريخي يكون وعيًا فارغًا … لأن خطوة العلم السياسي تكمن في أن يقوم جيلٌ ما بلعب دور ليس دوره، فإما أن نلعب دورًا ماضيًا هو دور الآباء، أو دورًا مستقبلًا هو دور الأبناء، أما دورنا الحالي فلا نلعبه.
مثلًا: هل المطلوب من هذا الجيل هو توحيد المنطقة كلها؟ هذا صعب نظرًا للظروف الحالية … ونظرًا للإقليميات وحرص كل نظام، وكل فئة وكل طائفةٍ على الحكم.
هل الدور هو تحويل المجتمع كله حاليًّا إلى مجتمعٍ علميٍّ اشتراكي، يسوده نوعٌ من الرؤية العلمية الواحدة، والتحليل العلمي الواحد، وخلق مجتمع لا طبقي، اقتصاد موجه؟ هذا حلم.
هل دورنا هو إقامة حكم إسلامي، الحاكمية فيه لله وترفض فيه حاكمية البشر كلية؛ وبالتالي الخروج على كل الأنظمة القائمة؟ هذا نوع من رد الفعل نظرًا لأنه لا توجد أيديولوجية علمانية واحدة … ولا يوجد نظامٌ علماني واحد نجح في شيء، بل هناك مزيد من الأراضي احتلَّت … ومزيد من القهر، وهناك مزيد من التجزئة … هناك طائفية … وهناك انحلال وفساد وارتماء إما في أحضان الغرب أو الشرق؛ وبالتالي التيار الإسلامي وجد في الحاكمية لله نوعًا من رد الفعل، والخلاص من أزمات العصر؛ نظرًا لأنه لا توجد أيديولوجية علمانية واحدة.
أقول إذن … من رؤيةٍ تاريخية محددة، ما هو البرنامج العملي الذي يمكن تنفيذه الآن، دون طرح نظرات طوباوية نتمسك بها، لكن هناك فرق بين ما يمكن عمله وهو الحد الأدنى، والحلم وهو الحد الأعلى.
الذي يمكن عمله في الحد الأدنى، هو تحليل الجيل، إن الشعور السياسي والوعي السياسي لجيلٍ قائم على تحليل مرحلةٍ تاريخيةٍ واحدة هو: أكبر قدر من الحريات … هو أكبر قدر من تعبير القوى الشرعية الموجودة عن واقعها … أكبر قدر ممكن من النقد الاجتماعي، ومحاولة للبحث عن جذور المشكلة وليس مظاهرها … كلنا يعرف القهر ويعرف الفساد ويعرف التجزئة، لكن ما هي الجذور التي تجعل هذه المظاهر ظاهرة باستمرارٍ وطافحة، ليس في القوانين والأشكال الخارجية المؤقتة، ولكن ربما يكون فيما أسميه التحليل في العمق، أو التحليل التاريخي للمشكلة بعدما تظهر وبعدما تتأكَّد.
ربما يكون أحد الأسباب الرئيسية هو أن المحافظة في وجداننا القومي التاريخي السياسي أكثر حضورًا من التحرر؛ لأن لها رصيدًا من المحافظة عمره ألف عام، بينما رصيد التحرر لا يتجاوز ٢٠٠–٣٠٠ سنة.
وإذن فمهما حاولنا التحرر، فإن الثقل التاريخي هو الذي سينتصر في النهاية، إذن فالوعي بهذه القضية، والدخول في معارك التخلف والتقدم، مع معرفة أن الوعي التحرري العقلاني العلمي الإنساني له رصيده من التاريخ المحدود؛ وبالتالي ينقل المجتمع من مرحلةٍ إلى مرحلة، من مرحلة التخلف إلى مرحلة التقدم، من القهر إلى الحرية، من الرؤية الواحدة إلى التعددية، من وجهة نظر تسلطية إلى وجهة نظر فيها قيمة للإنسان والجماهير وللشعب والمؤسسات والرقابة على قمة الهرم، وهي السلطة … كل ذلك هو نقطة البداية، إن الوعي بذلك يجعل الإنسان قادرًا على تحقيق أهدافه القومية في خطةٍ مرحلية يحققها شيئًا فشيئًا، حتى يحدث نوعٌ من التراكم التاريخي ولا تحدث كبوات؛ ذلك لأن تاريخ نهضتنا العربية كله كبوات، نقوم ونكبو ونقوم ونقع … يقوم محمد علي ثم تنتهي الدولة، يقوم عبد الناصر ثم تنتهي الثورة، نكون في قرن نهضة ماضٍ مزدهر فإذا بنا نعود إلى التقسيم والقهر … إلخ. بالرغم من أن هناك على الطرف الآخر تراكمًا واضحًا في الوعي الإسرائيلي، انتقل من فكرة الصهيونية الروحية الفكرية الحضارية التراثية إلى الصهيونية السياسية، إلى تأسيس الدولة في خطٍّ معين، إلى مرحلة التوسع، إلى عصر هيمنة إسرائيلية قادم … إلخ، أي إن هناك تراكمًا في الوعي السياسي والوعي التاريخي، بينما نحن نصحو ونكبو، نصحو ونكبو …
- العامل الأول: حتمي قانوني صرف؛ لأن التاريخ له قوانينه الخاصة كما أن للطبيعة قوانينها الخاصة.
- العامل الثاني: هو عامل إرادي إنساني حر …
ولا أرى وجودًا حتى الآن إلا لمبادراتٍ فردية تتلخص مثلًا في الدوافع الوطنية للمفكرين، التي تدعوهم إلى ترك العالم الجديد المهاجرين إليه في أوروبا وكندا وغيرها، والعودة للعمل في البلاد.
كذلك تتلخص في وجود كاتب حر، أو صحافي حر، أو أستاذ حر كمبادراتٍ فردية.
إنني أرى أن التحام هذه المبادرات الفردية مع قانونٍ تاريخي قد يجعل الجماهير تصحو، وقد يجعل هناك ضباطًا أحرارًا جددًا مفكرين يصحون، ويقلبون الموازين من جديد.
لكن … حتى الآن فإنه من الصعب إعطاء وصفة طبية لمعالجة جسم المريض … لأن الأمر في إطار التاريخ يصعب التنبؤ به.
وبالنسبة لمؤتمرات المثقفين، فقد حاولنا ذلك مرارًا، ولكننا كنا نجد أن الأنظمة السياسية الحاكمة تظهر باستمرارٍ في مؤتمرات المثقفين، ويتحول صراع الأفكار إلى صراعٍ للأنظمة السياسية فيما بينها … ويبدو المثقف البائس الذي يحضر للحديث عن الثقافة، متحدثًا في حقيقة الأمر عن النظام؛ لأن الثقافة السياسية ملحقة حتى الآن بالأنظمة السياسية.
وحتى نخرج ونتجاوز هذا الوضع الثقافي، يجب أن تنشأ ثقافة حرة وطنية مستقلة عن الأنظمة السياسية وهذا ما لم يتم بعد.
وبالتالي، فإن مؤتمرات المثقفين هي منتديات لصراع الأنظمة العربية، واستغلال الثقافة وتكوين ثقافة مستقلة، بصرف النظر عن الأنظمة، هو الشرط الأساسي لإعطاء صورةٍ للواقع السياسي العربي.
(٩) التراث والفلسفة١٣
-
موقفنا من التراث القديم هو موقف البديل والإبداع.
-
أنا لست التلميذ الأبدي ولا الغرب المعلم الأبدي …
-
أنا شديد الإعجاب بما كُتب عن الإسلام في الميثاق الجزائري.
-
موقفي من التراث هو تفجير هذه الطاقات المختزنة لصالح المسلمين.
-
أنا في ذهن الحركة الإسلامية شيوعي، وفي ذهن الشيوعي حركة إسلامية، وفي ملفات أجهزة الأمن شيوعي إخواني!
-
لا أستطيع أن أستغنيَ عن التراث الإسلامي … ولا عن الثورة والتقدم.
-
المفكر العربي المعاصر هو مفترق طرق تظهر فيه الجبهات الثلاث.
-
لا يمكن أن تفهم الفلسفة وأنت بلا قضية.
ففي الجبهة الثانية يأتي الخال، أي نعتبر أنفسنا ممثلين ووكلاء حضاريين لمذاهب غربية؛ نظرًا لخللٍ عام يوجد في علاقة هذه الجبهات الثلاث، فمثلًا في الجبهة الأولى، نحن ننقل، ونفس العيب يظهر في موقفنا من التراث الغربي فنحن ننقل أيضًا، وعيب آخر في موقفنا من التراث من الواقع؛ فالواقع يغيب عنا تمامًا أو نخطب فيه حماسًا ووجدانًا، فموقفنا من الغرب أصبح الآن هو موقف ناقل، ولا فرق بين شابٍّ مفكر حالي يقول: قال ابن تيمية، وقال السيوطي، وقال ماركس، وقال جون استيوارت ميل. فكلاهما موقف ناقل لأن الإبداع لم نصل إليه بعد، ومهمتنا أن ننقل وننقل بصرف النظر عن مصدر النقل، وتتراكم فوق الواقع طبقات عديدة من النقل، مرة من هنا ومرة من هناك، وينشأ التعارض والتنافس بين مصدرَي النقل، هذا من الأزهر وهذا من الجامعة، هذا من الدين وهذا من الدنيا، هذا من القديم وهذا من المعاصر … والواقع يئنُّ تحت هذَين النقلَين.
ولكن في حقيقة الأمر إن موقفنا من التراث القديم ليس موقفًا ناقلًا؛ فهم رجال ونحن رجال، نتعلم منهم ولا نقتدي بهم. فنقف موقف المطور والناقد والمغربل والفاحص والمدقق، فإذا اختاروا شيئًا فقد نختار شيئًا آخر لأن الظروف تغيرت، فقد كانوا فاتحين ونحن مهزومون، وكانوا يعطون الأولوية للنقل ونحن نعطيها للعقل، ويعطون الأولوية للإيمان ونحن نعطيها للعمل، ويعطون الأولوية للإلهيات ونحن نعطيها للإنسانيات، وفي الفقه يعطون الأولوية للعبادات لأن الدين ما زال جديدًا، ونحن قد نعطي الأولوية للعمل نظرًا لتشابك الأحوال الاقتصادية والسياسية.
أقول إذن موقفنا من التراث هو الموقف المبدع والمبدل، ونفس الشيء بالنسبة لعلاقاتنا بالغرب، لم نستطع أن نؤسِّس علمًا جديدًا، أحاول أنا أن أرسي قواعده يسمَّى الاستغراب … أي إن موقفي كما أنشأ الغربيون «الاستشراق» واستفاد مني وكون المجلدات الضخمة في ذلك؛ هو أن أحول نفسي ذاتًا اليوم، وهذا الغرب، الذي كان ذاتًا، أعمل على تحويله إلى موضوع؛ وبالتالي لا أنقل المذاهب الغربية، ولكني أضع التراث الغربي في إطار ظروفه التي نشأ فيها، وأن أعطيه مكانه الطبيعي في التاريخ، بدل أن يأخذ الغرب ثلاثة أرباع تاريخ البشرية.
أقول إذن نظرًا لأني لم أحدد بعدُ جدلية الأنا والآخر، وما زلت أشعر بأنني الهامش والآخر المركز، فسأظل أنقل باستمرار، لكن في الوقت الذي أستطيع أن أقلب فيه المعادلة؛ بحيث يصبح الآخر بالنسبة لي هو الموضوع والأنا هو الذات، وأجعل المركز والأطراف على نفس المستوى من التداخل والعلاقات، فأنا لست التلميذ الأبدي، وإن الغرب ليس هو المعلم الأبدي، ولكنها مراحل تاريخ كنت أستاذًا في القديم وكان تلميذًا، وأصبح الغرب الآن المعلم وأنا التلميذ، لكن من يدري في مرحلةٍ لاحقة قد يصبح فيه أستاذان أو تلميذان، أو تتعادل فيه المراكز أو نقضي على المركز والمحيط.
إذن كل ما لدينا من فكرٍ غربي حتى الآن ما هو إلا نقل لمدارس غربية، ونزع فكرٍ عن بيئةٍ ووضعه في بيئةٍ أخرى، وشتان ما بين البيئتَين متصورين أن ذلك هو الإبداع والتغير، وفي حقيقة الأمر يُفهم الغرب برد مذاهبه إلى الظروف الطبيعية التي نشأ فيها. ونستطيع نحن أن نبدع بوعينا بالموقف الحضاري الذي نكون فيه موقفنا التجديدي من التراث القديم، نحجم الغرب ونرجعه إلى حدوده الطبيعية، ونحاول أن نكشف مكونات الواقع.
وفي حقيقة الأمر التراث نوعان: نوعٌ أنشأته السلطة والطبقات الأقلية ونوعٌ أنشأته المعارضة والأغلبية، وربما الذي دون وانتشر في الكتب هو تراث السلطة أي الأشعرية، وتراث المعارضة يتمثل في الشيعة والخوارج والمعتزلة، وإن الذي كونها الآن هو من تراث السلطة، كما نسميه بالأشعرية التي تدافع عن التصور الكامل للعالم، والهرمي والتي أعطت للدولة أساسها للحكم.
وفي نفس الوقت ربما التصوف أعطى للشعوب أيديولوجية الاستسلام، وبعض القيم السلبية والصبر والقناعة والزهد … فاجتمعت أيديولوجية السلطة وأيديولوجية الاستسلام، واحدة للحاكم وواحدة للمحكوم، وتلك أزمتنا الحالية، فالحاكم يعتمد على أيديولوجية السلطة أي الأشعرية، والمحكوم يجد التعويض والعزاء في أيديولوجية الشعب. والرقابة الشعبية والجماهير ذلك موجودٌ أيضًا في التراث: «لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق» المصالح العامة، جمهور المسلمين، الدين النصيحة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعطى الشعب، بدل أيديولوجية التصوف والاستسلام، أناشيد الثورة والتمرد والغضب وأن يقول «لا» خاصة أن شعار المسلمين يبدأ بالنفي «أشهد أن لا إله إلا الله» أي أن أنفي الآلهة المتعددة المزيفة من أذهان الناس، حتى أحرر الوجدان البشري من هذه الآلهة المزيفة، ثم بعد ذلك أثبت الله الواحد القهار بعد أن أشهد أي أرى وأتكلم وأسمع، وأرى واقعي تمامًا، ولست كالحكمة الصينية القديمة التي تقول: لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم؛ فهذا ضد العقيدة الإسلامية، إن فعلت، فأنا أسمع وأبصر وأتكلم لأن من صفات الله السمع والبصر والكلام.
أقول إذن موقفي من التراث القديم هو تفجير هذه الطاقات المختزنة، وأن تكون في صالح المسلمين وليس ضدهم، فأنا مسئول عن التراث أطوِّره بعد أن توقف في القرن السابع الهجري منذ عصر ابن رشد والثامن الهجري ولم يطوره أحد، وقد يكون أحد أسباب الهزائم المعاصرة، والثورات المضادة التي أتت في السبعينيات في عالمنا العربي والإسلام، أننا حاولنا أن ننهض بالبدن ونسينا الروح، فأنا أعيد بناء الروح من جديد، حتى أضمن أن تكون الثورة دائمةً ومستمرة، ولا تُجهض ولا تتحول إلى ثورةٍ مضادة.
في حقيقة الأمر، أنا كثيرًا ما أدعو إلى الحوار، ليس فقط بين الحضارات، ولكن أيضًا بين الاتجاهات السياسية المختلفة، بين الشبان والشيوخ، بين الشباب أنفسهم … لأن هذه هي روح الإسلام، روح الإسلام كما بدت في علم أصول الفقه، أن الحوار النظري متعدد والأطر النظرية مختلفة، أما الحق العملي، أي المصلحة العامة، فواحد، نستطيع أن نتفق على برنامجٍ عملي وطني واحد. يستطيع أن يكون لكلٍّ منا أساس نظري مختلف؛ لذلك فأهل الكتاب جزء من الأمة مع أن لهم أسسًا نظرية مختلفة في طبيعة المسيح وفي الله وفي الكون … لكن لنا منهم العمل والعمل الواحد، أقول هذا درس تعلمته من القدماء، أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم، لا تجتمع أمتي على ضلالة، درس من الإجماع، كلكم راد وكلكم مردود عليه …
لكن الحوار بين الحضارات يتطلَّب شرطًا واحدًا، وهو أن تتكافأ جميع الحضارات أولًا؛ فالحوار بين الحضارة الأوروبية واللاأوروبية لا يمكن أن يقوم؛ فالحضارة الأوروبية هي حضارة المركز والحضارة اللاأوروبية هي حضارة المحيط، وعليه فالحوار هنا يكون ذا طرف واحد، من المركز إلى المحيط. وأنا جرَّبت ذلك في كثيرٍ من الحوارات، فإنهم ينظرون إليك على أنك تلميذ يتعلم ولست مكافئًا.
ثانيًا: يمكن أن يكون على مستوى تحقيق المصالح العامة، فلنتعاون على تنمية البلاد والتقدم، وعلى إقرار الحقوق الشرعية لشعب فلسطين وكل الشعوب الأخرى المضطهدة، فالغرب باستمرارٍ يريد أن يتحاور في مسائل نظرية اقتصادية تهمه، ويرفض أن يتحاور في السياسة، ونحن نريد أن نتحاور في مسائل تهمنا، ولا فرق بين ثقافة واقتصاد وسياسة واجتماع. ويكون الحوار كذلك بين الديانات وبين المذاهب والآراء المختلفة، كما يكون أيضًا بيننا وبين الشرق، فجناحنا الغربي في العالم الإسلامي أقوى من جناحنا الشرقي، مع أن الإسلام أول ما انتشر انتشر شرقًا، وذهب المسلمون إلى أواسط آسيا وخراسان حتى حدود الصين، لكن نحن الآن ربما لقربنا من حوض البحر المتوسط، ودخول الاستعمار الحديث في آخر مائتَيْ سنة، تصوَّرنا أن الحوار يكون مع فرنسا وإنجلترا وإسبانيا وإيطاليا، ونسينا الهند والصين وإندونيسيا الذي يمثل الجناح الشرقي.
الحوار، أقول إذن، يكون بتعبيرٍ دقيق عن الموقف الحضاري، دون تغليب جناح على جناح، أو حضارة على حضارة، أو مذهب على مذهب، ويكون بشرط تحقيق التكافؤ التام بين المتحاورين، وبقصد تحقيق غاية عملية عاجلة.
في حقيقة الأمر ليس فقط ما كُتب، ولكن ذلك أيضًا صورتي في أذهان الناس، فأنا في ذهن الحركة الإسلامية شيوعي، وفي ذهن الشيوعيين حركة إسلامية وإخوان مسلمين، وفي ذهن الحكومة إخواني شيوعي، وأنا لا هذا ولا ذاك ولا ذاك؛ فالفارابي — وأنت دارس الفلسفة ومتخصص فيها — في كتابه: «الجمع بين رأيي الحكيمَين أفلاطون الإلهي وأرسطو طاليس الحكيم»، فكر الفارابي ووجد الناس مختلفين حول أفلاطون المثالي الذي يدعو إلى الله، ويعطي أولوية النفس على البدن إلى آخره، وأرسطو الذي يدعو إلى الطبيعة، فقال وهل هناك تعارض بين الدين والدنيا، بين العقل والواقع، بين ما يجب أن يكون وما هو كائن … فحاول أن يجمع بين الاثنين، فقيل عنه إنه موفِّق ملفِّق، مع أنه كان يعبِّر عن تصورٍ إسلامي متكامل، أنا نفس الشيء لأني لا أستطيع أن أستغنيَ عن التراث الإسلامي، ذلك تكويني وثقافتي وتاريخي … كما أني لا أستطيع أن أتخلَّى عن الثورة والتقدم والنهضة؛ فذاك تحدٍّ أساسي وتلك مهمة عصري، فأنا مخلوق برئتَين ولا يمكنني أن أعيش برئةٍ واحدة وأترك الأخرى، ولكن نظرًا لأنَّا متخلفون فكل واحدٍ يريد أن يستأثر بنفسه، كل واحدٍ يظن أنه الحق والآخر ليس على صواب، طبقًا لحديث الفرقة الناجية «ستفترق أمتي على بضعٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» وكلٌّ منا يعتبر نفسه هو الفرقة الناجية والفرقة الأخرى هي الضالة، فكلٌّ منا يجعل نفسه على حق ويجعل الآخرين على باطل. أنا لا أفعل ذلك، الإسلاميون لهم حق، الحق الشرعي، والعلمانيون لهم حق، حق الثورة، وأنا أعطي الشرعيتَين حقهما حتى أستطيع أن أحقق وحدة الشخصية في الأمة، أنا مع الإسلاميين ومع الحاكمية، الحاكمية لله وحكم الشرع، ولكن الإشكال لصالح من؟ هل لصالح الحكام الذين ينفقون الملايين في ليلةٍ حمراء واحدة، أم لصالح مَن يموتون بالملايين جوعًا وقحطًا وعريًا؟ فبطبيعة الحال، وأنا عندي إحساس بالتعددية فلا أنضم إلى فريقٍ دون فريق، ولما كنت أخاطب الجماهير العريضة وأشعر أن كلامي يجد في قلبها نوعًا من الصدى، والحكومات تحاول الإبقاء على الوضع القائم، فصرت مصدر قلقٍ للحكومات، وصرت تحديًا للحركة الإسلامية ببرنامجي الاجتماعي، وصرت تحديًا للحركة العلمانية ببرنامجي الثقافي؛ وبالتالي تجد باستمرارٍ هذه الأحكام المتناقضة، لكن في حقيقة الأمر كل حكمٍ يعبِّر عن الحاكم وليس عن المحكوم، فأنا مجرد مرآة، فالإسلامي يعتبرني شيوعيًّا لأني لست معه تمامًا وأختلف معه فكريًّا في بعض الأشياء، والعلماني لست معه تمامًا وأختلف معه فكريًّا فيعتبرني إسلاميًّا، والحكومة تعتبرني ضدها لأني على خلافٍ معها.
وفي حقيقة الأمر فإني أحاول تحقيق الوحدة الوطنية، وتحقيق برنامج علمي وطني موحد، يا ليته يمكن أن يساهم بجبهةٍ وطنية واحدة، جبهة خلاص وطني.
الفكر العربي المعاصر يعبِّر عن الوضع الحضاري الذي نعيش فيه بجبهاته الثلاث، فتجد فيه محاولاتٍ للنظر في التراث القديم، والذي يبدأ بذلك أساسًا جمال الدين الأفغاني ومدرسته الإصلاحية محمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا والجماعات الإسلامية التي تبدأ من التراث القديم، وهناك تيار آخر يبدأ بالجبهات الثلاث التي قلتها، ولكن يركز على التراث الغربي، والتراث الغربي نوعان: نوعٌ سياسي اجتماعي وهو الذي ركَّز عليه الطهطاوي ولطفي السيد وطه حسين والعقاد … ويمثلون التفكير الليبرالي. أما النوع الثاني فهو علمي وقد ركز عليه شبلي شميل ويعقوب صروف وفرح أنطون وإسماعيل مظهر وزكي نجيب محمود …
فالفكر العربي المعاصر إما أن يبدأ من التراث القديم تركيزًا، وإما أن يبدأ من التراث الغربي تركيزًا، وإما أن يعبِّر عن الواقع المباشر، ويبدأ من محاولات نشأة الدولة وبناء المواطن وإصلاح الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية … وبالتالي فالفكر العربي المعاصر هو مفترق الطرق؛ حيث تظهر فيه هذه الجبهات الثلاث، لكن التحدي هو تجاوز مواقف الدفاع والهجوم، فأنصار الغرب يهاجمون أنصار التراث، وأنصار التراث يهاجمون أنصار الغرب، وأنصار الواقع المباشر يهاجمون الاثنين، وعليه يجب أن نتجاوز مرحلة الهجوم والدفاع إلى مرحلة النقد والتحليل والوصف؛ لأن الهجوم والدفاع موقفهما خطابي، موقف محامٍ وليس موقف عالم؛ فالأشياء تتمُّ بالوصف والتحليل وليس بالهجوم والدفاع.
لا يوجد شيء اسمه فكر عربي معاصر؛ لذلك فإني أقول فكرنا المعاصر وأترك كل من يريد أن يحددنا على مشيئته؛ لأنه لا يوجد فكرٌ عربي، هناك تراث إسلامي، هذا التراث الإسلامي الذي ازدهر في فترةٍ وانطفأ في الفترات الأخيرة؛ فقد أرَّخ له الكثير حتى أيام ابن خلدون، ثم بعد ذلك نهض لم يؤرِّخ له أحد، فالسؤال الذي يُطرح الآن منذ أديب إسحق: كيف ننهض من جديد؟
فهذا هو السؤال الذي طرحته عدة مرات وفي كل مناسبات، فنحن وراءنا سبعمائة سنة من الحضارة الزاهرة ثم أعقبتها خمسمائة سنة من عصر الشروح والملخصات، ثم آخر مائتَيْ سنة من عصر النهضة الحديثة. فنحن إذن على مشارف فترةٍ ثالثةٍ أي السبعمائة سنة الثالثة من القرن الخامس عشر إلى القرن الواحد والعشرين، أو نقول فترة ثانية لو قلنا إن عصر الشروح والملخصات هو فترة استكانة وتجميع، فالمعاصر معاصر بالنسبة لمن؟ للأسف فقد أخذنا الفكر العربي، وهما مفهومان غربيان؛ فالمعاصر هو المعاصر للفلسفة الغربية، لكن في حقيقة الأمر، نحن في فترةٍ تاريخية ثالثة من تطور الفكر والتراث الإسلامي، من ما قبل ابن خلدون إلى ما بعد ابن خلدون في عصر الشروح والملخصات إلى الفترة التي نشهدها، والتي يُطلَق عليها بداية الصحوة الإسلامية.
فهذه الكتب لها ظروفها الخاصة؛ فقد كتبت كتبي الثلاث، والتي أسميها ثلاثية الشباب عن: مناهج التفسير في علم الأصول، تفسير الظاهريات عن الحالة الراهنة للدراسات الفينومينولوجية، ثم ظاهريات التفسير عن محاولةٍ للتفسير الوجودي، وبناء على وصف تطور العقيدة المسيحية في عصر آباء الكنيسة ونشأة النص فيها، فهذه كانت أطروحتي للدكتوراه في فرنسا سنة ١٩٦٦م، وبطبيعة الحال فقد كتبت بالفرنسية نظرًا لظروف الدراسة، وفي نفس الوقت فإني أُدعى للمؤتمرات الدولية والتي أضطر فيها للكتابة باللغات الأجنبية، فأجمع هذه الدراسات في كتاب، فمثلًا عندما كنت أستاذًا زائرًا بالولايات المتحدة الأمريكية (١٩٧١–١٩٧٥م) جمعت كل دراساتي التي ألقيت في المؤتمرات الدولية في كتابٍ بعنوان: «الحوار الديني والثورة» بالإنجليزية، وحاليًّا أجمع كل دراساتي التي قمت بها وأنا في اليابان في كتابٍ بعنوان: «الدين والأيديولوجية والتنمية»، كما أني أجمع أيضًا دراساتي التي كتبت باللغة الفرنسية في العشر سنوات الأخيرة.
فأنا أكتب كثيرًا باللغات الأجنبية لأني أحضر مؤتمرات دولية، فأضطر للكتابة بذلك لأني أتكلم في مجتمعاتٍ غير عربية، وأصبحت آرائي معروفةً هناك، وكثير من الرسائل كُتبت عني في هولندا، كندا، فرنسا، اليابان؛ وبالتالي فأنا أعتزُّ بأن لي نوعَين من الجمهور، جمهور عربي وجمهور أوروبي، لكن في حقيقة الأمر عندما أكتب باللغات الأوروبية فأنا في ذهني الجمهور الأوروبي، وعندما أكتب باللغة العربية فأنا في ذهني الجمهور العربي، وأحيانًا أراعي اختلاف النوعَين؛ وبالتالي فإن الكتب التي كتبت باللغات الأوروبية لا أعيد ترجمتها، بل أتركها للقارئ يترجمها، ولكني في رسالتي عن علم أصول الفقه سأعيد كتابتها من جديد — إن شاء الله — ربما بعد ثلاث أو أربع سنوات عندما يأتي دور إعادة بناء علم أصول الفقه.
أما دراساتي عن الإسلام والثورة المكتوبة بالفرنسية والإنجليزية، فالأفكار نفسها تجدها في كتاب «الدين والثورة في مصر» (٨ أجزاء)، الذي يصدر هذا الصيف؛ فالأفكار واحدة أما ما يتغير فهو الأسلوب، ومنه فإنني أقول إن لهذه جمهورًا ولتلك جمهورًا، أما لو أتى واحدٌ وترجم هذه المؤلفات فذاك أفضل.
- الشيء الأول: أن تكون له قضية، حيث لا يمكن أن تقرأ الفلسفة وتفهمها دون أن تكون لك قضية، الفلسفة هي مجموعة من القضايا، فلو قرأتها وأنت لست صاحب قضية فإنك تقرأ قضايا لا تدرك أهميتها ومعانيها، تدخل من أذن وتخرج من الأخرى؛ وبالتالي فلا بد أن يكون لك موقف إما أن تتضامن معه أو تنقده؛ لأن القضية هي الموقف وبدون هذا الموقف فإنك لا تستطيع التفلسف.
- الشيء الثاني: آن الأوان لكي ننتقل من مرحلة النقل إلى مرحلة الإبداع، أي أن ليس الغاية هو التعلم والحفظ بل التفكر والتدبر، فمهمة الفلسفة إبداع علم وأنت تقرأ ليس من أجل الحفظ، بل تستدل بشيءٍ من خلال ما تقرأ على شيءٍ رئيسي هو الفلسفة.
- الشيء الثالث: إن الممارسة العملية جزءٌ من الثقافة، فلا تستطيع أن تكون فيلسوفًا،
دون أن تمارس الحياة العملية الثقافية في النقد الأدبي والسياسي
والاجتماعي والثقافي؛ بحيث تكون جزءًا لا يتجزأ من الحياة الثقافية في
البلاد؛ فالإنسان يستطيع أن يتعلم من خلال الممارسة ربما أكثر مما يقرأ
في الموسوعات الثقافية الكبرى.
لو اجتمع لدارس الفلسفة هذه الشروط الثلاث، فإنه بطبيعة الحال يمكن أن يوفَّق فيما بعدُ، ولا يُثار السؤال التقليدي: هل لدينا فلسفة؟
(١٠) العلم الإسلامي والغرب١٥
كتابٌ صغير الحجم ولكنه عظيم المنفعة، يتميَّز بالبساطة والوضوح وسهولة الفهم والاستيعاب، وهو مكتوبٌ للجمهور العريض من أجل تخليص الثقافة العامة من الفكرة الشائعة عن سبق الغرب لنا، في ميدان العلم الطبيعي والتقدم العمراني بناء على دعايةٍ للحاضر وصمت عن الماضي. وهو كتاب علمي دونما ادعاء أو تعالم بكثرة المراجع ووفرة التحليلات والاستشهادات، والإكثار من المعلومات. يحتوي على عديدٍ من الرسوم التوضيحية والخرائط التوثيقية ورسم الشخصيات وتخيلها من إبداعاتها العلمية. ويقوم على كثيرٍ من الحجج التاريخية والتحليلات اللغوية توخيًا للدقة، وتجنبًا لإطلاق الأحكام العامة، والوقوع في الخطابة، تقريظًا للنفس، ودفاعًا عن الذات.
ويحتوي الكتاب على رؤيةٍ شاملة لإبداع المسلمين في شتى ميادين العلم والمعرفة، ومع ذلك لم يتخلَّ الكتاب عن العمق المطلوب والدقة العلمية المرجوة. لقد قام المؤلف بتجميع أكبر قدرٍ ممكنٍ من المعلومات حول الموضوع، وانتقى منها ما يسهل على جمهور المثقفين استيعابه وفهمه، مجنبًا إياهم صعوبة الحصول على المراجع الأصلية التي لا يفهمها إلا المتخصصون، وهي في مجملها بالنسبة إلى القراء غير المتخصصين معلومات جديدة بالنسبة للثقافة الشعبية، التي ساد فيها أن علوم القدماء هي علوم الدين فحسب، وليست علوم الدنيا؛ وبالتالي يكون للكتاب أثرٌ ضخم في توجيه الثقافة العامة وتصحيح الأفكار الشائعة، ويثبت الكتاب بوضوحٍ وجلاء أن القدماء لم يؤسسوا علوم الدين فحسب، بل أبدعوا أيضًا في علوم الدنيا في مجال الرياضيات، والفلك، والجغرافيا، والملاحة البحرية، والكيمياء، والطب، والنبات، والصيدلة، والزراعة، والحيوان، والعقاقير، والجيولوجيا، والتعدين، والعمارة، والزخرفة، والموسيقى، والصناعات الفنية.
وقد بيَّن الكتاب أن الفضل الأول في هذا الإبداع الشامل يرجع إلى الإسلام، الذي دفع العرب إلى التوجه إلى العلم بناء على توجيه الوحي. لقد دفع «التوحيد» العرب المسلمين إلى الاعتماد على العقل، والتوجه نحو الطبيعة، فالوحي والعقل والطبيعة ثلاثة أوجه لشيءٍ واحد وهو الحقيقة، الحقيقة يعطيها الوحي، ويفهمها العقل، وتتحقق في الطبيعة؛ لذلك يتوجه الكتاب إلى الشباب المسلم وإلى علماء المسلمين، الذين ما زالوا ينقلون عن الغرب؛ ليبين لهم كيف نشأ العلم الرياضي والطبيعي عند المسلمين القدماء بدافع «التوحيد» وبتوجيهٍ من الوحي، فخرجت العلوم الرياضية والطبيعية من ثنايا العلوم الدينية لحساب مواقيت الصلاة (الحساب)، ولصناعة السلاح (الكيمياء)، ولرعاية جرحى الفتوحات (الطب والصيدلة)، ولبناء الحصون والقلاع (الهندسة) … إلخ.
ولم تكن علوم المسلمين مجرد بحثٍ عن الحقائق النظرية حبًّا للمعرفة لذاتها، بل لتوجيه المجتمع الإسلامي كله توجيهًا علميًّا، فبنيت المدن العربية بناء على فن العمران وتخطيط المدن، وشيدت المنازل بفنون العمارة والزخرفة، وأقيمت «البيمارستانات» بناء على متطلبات علوم الطب والصيدلة، وأقيمت الحمامات والحدائق العامة بناء على تحليل تيارات الهواء واتجاهات الريح حماية للبيئة من التلوث، وشيدت المراصد لرصد الأفلاك وحسن التوجه في الصحارى والبحار، كان العلم استقرائيًّا يقوم على البحث والاستقصاء، وجمع المعلومات، واستقراء الجزئيات للوصول إلى الكليات، وقام العلماء برحلاتٍ علمية لجمع المواد الأولية، دون الاعتماد على القيل والقال، وتم تحويل العلم إلى صناعة، فتم اختراع الآلات في الزراعة والصناعة والتجارة والموازين والطب والجراحة والتشريح.
إن الهدف الرئيسي من الكتاب هو بيان أثر المسلمين في النهضة العلمية الحديثة في الغرب، لقد عرف المسلمون العلم القديم ونقلوه من الهند وفارس واليونان إلى اللغة العربية، تمثلوه وصححوه وزادوا عليه، وأبدعوا في شتى المجالات، وبلغوا الذروة. كانوا معلمين للبشرية، بينما كانت أوروبا في ذلك الوقت غارقةً في الفلسفة المدرسية، والجدل البيزنطي، وتعاني من سلطة الكنيسة ورجال الدين، تتبع أرسطو وتقلد العلوم القديمة، وبعد اتصال أوروبا بالمسلمين إبان الحروب الصليبية، ومن خلال الترجمات من العربية إلى اللاتينية مباشرة، أو عبر العبرية من الأندلس وصقلية وجنوب إيطاليا وعبر البرتغال وآسيا الصغرى، بدأت النهضة العلمية الحديثة في الغرب. العلم الأوروبي الحديث تراكم تاريخي طويل من الشرق القديم، من الهند والصين وفارس وحضارات ما بين النهرين ومصر القديمة واليونان والمسلمين، وصبَّ كله في الغرب الحديث، ولكن الغرب صمت عن مصادره كي يوحي بأن العلم الحديث إنتاجٌ غربي فريد صرف، خلق عبقري أصيل على غير منوال، وحتى يغمط الشعوب القديمة حقها وينكر دورها في التاريخ، ومن لا تاريخ له لا حاضر ولا مستقبل له، وهو في نفس الوقت يغزو أراضيها من البحر الأبيض إبان الحروب الصليبية، فلما فشل وارتدَّ على أعقابه بفضل صلاح الدين في حطين، التفَّ حولها من المحيطات فيما يسمى بالكشوف الجغرافية، ثم عادوا من البر من جديدٍ إبان المد الاستعماري الحديث.
لقد نقل المسلمون عن القدماء، واعترفوا بقدرهم، ثم تحولوا من النقل إلى الإبداع، وعندما نقل الأوروبيون عن المسلمين غمطوهم حقهم، وصمتوا حول مصادرهم حتى يغزو العلم الغربي الحديث كل شعوب العالم إحكامًا للسيطرة، ونشرًا للهيمنة، وترسيخها للتبعية.
يبيِّن هذا الكتاب الصغير الحجم العظيم الفائدة أنه إذا كان المسلمون تلاميذ اليوم، فإنهم كانوا أساتذة بالأمس، وإذا كان الأوروبيون معلمين اليوم فإنهم كانوا طلابًا بالأمس، إنه حوار الحضارات وتبادل الأدوار بين الشعوب، فهل يستطيع المسلمون الآن الانتقال من دور المتعلم إلى دور المعلم، من دور التلميذ الناقل إلى دور الأستاذ المبدع؟ ولهم في تاريخهم خير شاهد على أنهم قادرون.
(١١) جاءت جائزة نوبل عندما أصبحت مصر دولة غربية١٦
وبالرغم مما يحيط بجائزة نوبل من الشبهات، وتحيزها في قراراتها، مما دفع البعض لرفض جوائزها مثل جان بول سارتر، وعلى الرغم من تحيزها المستمر للكتاب الأوروبيين والعلماء، وبالرغم من وجود بعض الضغوط الصهيونية على قراراتها، إلا أن تكريم الروائي الكبير «نجيب محفوظ» بالجائزة هذا العام؛ يعتبر اعترافًا بمكانة الروائي الكبير على الصعيد العالمي.
فالدافع على إعطاء الجائزة كما روت أجهزة الإعلام أن نجيب محفوظ «استطاع أن يخرج من المستوى الأدب المحلي إلى الأدب العالمي.» وأنا في رأيي أن هذا دافع يكشف عن المركزية الأوروبية، التي تظن أن الأدب المحلي لا ينال ولا يمكن أن يرتفع إلى أي مستوًى رفيع، إلا إذا لحق بالمستوى العالمي، أو المستوى الأوروبي، وهذا جهل بحقيقة الإبداع الفني؛ فالأدب لا يكون إلا محليًّا يعبر عن واقعٍ اجتماعي بعينه، ولا يبدع الأديب إلا إذا استطاع تصوير هذا الواقع المحلي مبرزًا جوانبه الإنسانية، سواء اتفق ذلك مع الآداب العالمية أم لا. بل يمكن القول إنه لا يوجد شيء اسمه أدبٌ عالمي، فهناك أدبٌ روسي، وآخر أمريكي، وثالث ياباني، ورابع صيني … إلخ، وكل أدبٍ يصور الواقع الاجتماعي الوطني الخالص؛ فالأدب وطني بالضرورة، والوطنية تنفي العالمية بالضرورة.
يا ليت الدافع كان تأسيس «نجيب محفوظ» للرواية العربية المعاصرة، وخلق أجيال جديدة من الروائيين العرب بفضل هذا الرائد الأول، ومكانته في الأدب العربي الذي هو أدب عربي أولًا وأخيرًا، له مقاييسه الخاصة ولا يضيره أن يكون عالميًّا أي أوروبيًّا أو لا يكون.
لقد كانت مكانة «نجيب محفوظ» معروفةً منذ عدة عقود، والثلاثية — أعظم أعماله — كتبت في الحقبة الناصرية، عندما كانت الثورة المصرية في ذروتها، فلماذا لم يُعطَ نجيب محفوظ جائزة نوبل في هذه الفترة؟ ربما لأن مصر كانت قائدةً لحركة التحرر الوطني في مواجهة الاستعمار الغربي، فلما انقلبت مصر على عقبيها، وتحولت الثورة إلى ثورةٍ مضادة من داخلها، وأصبحت حليفةً للغرب، اكتشفت — فجأة — نجيب محفوظ في هذه الفترة — بالذات — عندما أصبحت مصر في سياستها الخارجية، وفي اختياراتها السياسية دولة غربية أكثر أو أقل.
القاهرة: من خالد النجار.
وقد صدَّر الصحفي حديثه بالنشرة الآتية: حسن حنفي مكروه في أمريكا والغرب الأوروبي، ومغمور في منطقتنا العربية، نشر دراسات باللغتين الفرنسية والإنجليزية حول تحديث الفكر والمجتمع الإسلاميَّين، كما كتب في العربية وترجم إليها بعض كلاسيكيات الفلسفة الغربية، من خلال منظور واحد هو نقد التراث العربي واكتشاف هوية الشخصية العربية في تفاعلها مع «الآخر»، التقت المستقبل بحسن حنفي وكان معه هذا الحوار.
الدكتور حسن حنفي، مفكر إسلامي كبير، يعتبر من أبرز مفكري اليسار الإسلامي، وهو أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة، وقد تحدث عن هذا الأمل فقال:
فكرة «التضامن العربي» إثارة وما زالت تثير في الوجدان القومي مجموعةً من الأسئلة، بعضها يخشى أن يكون التضامن بديلًا عن الوحدة القومية وبعضها يراه سبيلًا إليها … وفي ضوء الترجيح الآخر وفي مصر، بالذات، تبرز مجموعة من الأسئلة الجديدة، مثل: التضامن العربي متى؟ … ومن يحقِّقه؟ … وكيف؟
وقد لاحظت «الشراع» من مجموعة الآراء التي أدلى بها سياسيون ومفكرون في مصر، أنه على تعددها تتكامل ولا تتناقض، وأنها ترسم قوائم مشتركة؛ ولذلك حرصت أن تقدم هذه الآراء عبر «مجلة مصر» وعلى حلقاتٍ متتالية، توخيًا لاستكمال رسم صورةٍ واضحةٍ لكل ما يدور في الفكر السياسي والقومي حول هذا الاتجاه، سيما وأن الدعوة تتصاعد من جديدٍ في هذا الصدد، ومن أرض الكنانة نفسها، وأهمية ذلك أن مصر ذاتها تتحدث حاليًّا عن ضرورة العودة إلى التضامن العربي.
في هذه الحلقة الأولى من الملف، اخترنا أن نعرض آراء أربعة من المفكرين والسياسيين في مصر، وسوف يلاحظ القارئ أن كل رأيٍ يتفرَّد بمنحًى ويقترح حلًّا إنما لا تناقض حتى ضمن العينة الواحدة.
فعضو مجلس قيادة الثورة كمال الدين حسين يجزم أنه بدون مشاركة الشعب العربي في اتخاذ القرار لن نصل إلى نتيجة، وأنه لا بد في البداية من حوارٍ بين شخصيات تتمتَّع بثقة الجماهير، فيكون ذلك منطلقًا لبدء العمل الشعبي.
والكاتب الصحافي المعروف محمد سيد أحمد يشترط لتحقيق التضامن وضوحًا حول التناقضات التي تحكم المنطقة، ويرى أن الدور الحاسم يجب أن يكون للمثقفين العرب، وللثوريين العرب.
وعضو مجلس الشعب المصري الفنان حمدي أحمد يرى أن على الاتحادات العربية مسئولية بناء التضامن، ويتمنى على الحكام العرب أن يشجعوها.
والمفكر الإسلامي الكبير د. حسن حنفي يدعو إلى التمييز بين التناقضات الرئيسية والأخرى الثانوية داخل التيارات السياسية في الأمة، ويشدد على التحام مبادرات الأحرار العرب مع قانونٍ تاريخي.
ويبقى أن نعرض هذه الآراء بكل تفاصيلها.