الأصالة والمعاصرة١
(١) ماذا تعني الأصالة؟
لا تعني الأصالة العودة إلى القديم واجترار الماضي، والفخر بالآثار، والاعتزاز بها، وكأن الماضي يحتوي على قيمة في ذاته، وكأن العودة إليه تكون غاية في ذاتها وليست وسيلة لتعميق الجذور، واكتشاف معوقات الحاضر أو الدوافع على تقدمه، وكثيرًا ما يعبر هذا الموقف عن قصورٍ في فهم الحاضر، وانعزال عنه كلية، وتعويض عن ذلك بجعل الماضي بديلًا عنه، فيتم الغرق فيه إلى الأذقان، كما يكشف عن إسقاطٍ تام للمستقبل، ولا يشير إلى أية رؤية له تجعل الحاضر إحدى مراحله.
ولا تعني الأصالة الحرص على التمايز والخصوصية بأي ثمنٍ وعلى أي نحوٍ وبأي شكل، حتى ولو كان عن طريق الإعلان التجاري عن النفس، والتمايز المصطنع عن الغير في الأشكال والرسوم وفي المظاهر الخارجية وأحيانًا في العنصر والجنس. فالأصالة بهذا المعنى وقوع في العنصرية والنرجسية والأنانية وحب الذات، وإيثار الانعزال على المشاركة، والانفصال على الاتصال خاصة إذا كانت هذه الأصالة ليست فقط في الإبداع الفكري والفني، بل أيضًا في اللحم والعظم والدم والسلالة.
ولا تعني الأصالة أيضًا التقوقع على الذات، ورفض الغير، والنفور من الغريب باعتباره مزيفًا واردًا دخيلًا عميلًا، تفقد الذات هويتها فيه، فالأصالة بهذا المعنى عزلة وفراغ وتجمد وتقلص ثم ضمور واضمحلال وفناء؛ فالذات لا تقوى إلا بالغير، وفي صراعها معه أو تمثلها له، الذات قدرة على الخصوبة والنماء، وطاقة على الحركة والحياة، تضمر باختفاء المعارض، وتموت بانتهاء الباعث، وتذبل إذا ما غاب التحدي، إنما تعني الأصالة البحث عن الجذور، والتأسيس في الأعماق، وقد كان البحث عن الأصل والجذر والأساس أحد مطالب الحكماء قدماء ومحدثين، سواء في تراثنا القديم عند علماء الأصول، أصول الفقه أم أصول الدين، وفي كتب «تأسيس النظر» (الدبوسي)، أو في التراث الغربي في حركات العودة إلى الأصول، والرجوع إلى الأرحام، والبحث عن الأساس (روسو، هوسرل، هيدجر). فكل تغييرٍ بلا أساس يكون حدثًا أهوج في التاريخ، لا يبقى ولا يستمر، قشرة خارجية سرعان ما تتكسر إذا ما تحركت الأعماق ونبتت الجذور، الأصالة بهذا المعنى شرط المعاصرة، وسبب استمرارها والمحافظ عليها، والضامن لها.
تعني الأصالة أيضًا التجانس في الزمان والتواصل في حياة الشعوب، وأن يكون حاضرها استمرارًا لماضيها، ومستقبلها استمرارًا لحاضرها، فلا يقع الانفصام في شخصيتها، ولا تحدث الازدواجية في ثقافتها بين أنصار الأصالة وأنصار المعاصرة، بين دعاة القديم ودعاة الجديد، بين التعليم الديني والتعليم العلماني، فيحدث تعارض مصطنع بين الأصالة والمعاصرة، وكثيرًا ما يتحول إلى تيارَين متصارعَين على مستوى الممارسة والسلوك، وينتهي الأمر إلى ضياع الوحدة الوطنية ممثلة أولًا في وحدة الثقافة، ووحدة الرؤية، ووحدة المنهج، ووحدة الهدف والغاية، فإذا ما انتصرت المعاصرة فإنها لا تبقى إلا لمدةٍ محدودة سرعان ما تتكشف وتنحسر. حينئذٍ، تظهر الأصالة في صورةٍ محافظة تقليدية تاريخية بعد أن تم كبتها وإيقاف مسارها أثناء وجود المعاصرة فوقها كغطاءٍ ضاغط عليها، كما يحدث الآن في تركيا وبولندا، وإذا ما انتصرت الأصالة فإنها تتحول إلى نظمٍ إقطاعية متخلفة وكأن الأصالة لا تعني في الواقع إلا حكم العشيرة أو القبيلة، فلا تعامل إلا بالسيف، ولا إيمان إلا بعادات القبيلة وقيمها.
كما تعني الأصالة القضاء على معوقات التقدم في الحاضر، والقضاء عليها من الأساس وذلك باستئصال الجذور التاريخية للتخلف المتراكمة من الماضي في وجدان الشعوب، حتى يمكن أن تتحقق المعاصرة بسهولةٍ ويسر في زمانٍ أقل وبرسوخٍ أكثر، وبرؤيةٍ تاريخية واعية، وبتدبيرٍ وتدبرٍ بعيدًا عن التخبط والعشوائية، ودون وقوع في مناهج المحاولة والخطأ، وتحويل الشعوب إلى حقل تجارب مستمرة وإلى ما لا نهاية، كما تعني أيضًا دفع مسار التقدم وذلك باكتشاف دوافعه المتراكمة أيضًا من الماضي في وجدان الشعوب، حتى تتحرك الجماهير دونما حاجة إلى دعايةٍ سياسية أو توجيهات حزبية أو منظمات شبابية أو أجهزة إعلامية؛ إذ تكون حركة الجماهير حينئذٍ حركةً تلقائيةً تساهم في التقدم، ولا تعتبره غريبًا عليها، ولا تعتبر نفسها مقحومة فيه.
(٢) ماذا تعني المعاصرة؟
لا تعني المعاصرة العيش على مستوى العصر سواء في الفكر، أو في أسلوب الحياة، فلا تعني نقل أحدث الأفكار، والحديث عن آخر النظريات، ولوي اللسان بأعقد المصطلحات، فالنظريات نفسها لا تنشأ في فراغٍ بل هي ردود أفعال على نظريات سابقة، وهذه بدورها ردود أفعال أخرى على نظرياتٍ أسبق، وهكذا؛ فالنظريات لها جذورها التاريخية، وبيئاتها الطبيعية. المعاصرة بهذا المعنى تقتلع الجذور، وتسقط البيئة من الحساب، وتجعل النظريات تنشأ في فراغ، وتنقلها في فراغ، فتصبح هامشية، طائرة في الهواء، تذروها الرياح.
لا تعني المعاصرة أيضًا نقل أحدث وسائل العلم والتكنولوجيا إلى المجتمعات؛ فالعلم ليس هو نتيجة العلم أو تطبيقات العلم بل هو التصور العلمي للعالم، والرؤية العلمية للواقع، والموقف العلمي من الحياة، والمنهج العلمي في حل المشاكل، فلا يمكن أن ينقل نتاج العلم والتكنولوجيا في مجتمعات تحركها الخرافة، ويسودها السحر، تنتظر المعجزات، ولا تأخذ بالأسباب، ولا تربط بين العلل والمعلولات. صحيحٌ أن التكنولوجيا تحضر قيمها معها، ولكنها في الغالب لا تكون قيم العلم والسيطرة على قوانين الطبيعة والتنبؤ بمسارها، بل قيم الاستهلاك والترف والراحة والتخمة والمتعة والبطانة.
ولا تعني المعاصرة نقل آخر صيحات العصر في أساليب الحياة، في الفن والعمارة والزينة والعطور، في الغذاء والكساء، والتنقل والمعلومات، والتمتع بما يقدمه العصر من وسائل لرفاهية العيش والراحة والزخرف. المعاصرة بهذا المعنى لباس لقشرة الحضارة والروح جاهلية، ونقل لأسلوب حياة مجتمع الوفرة والرفاهية إلى مجتمع الندرة وشظف العيش، وهي مجتمعات النهضة والتنمية، بل وإغفال حتى لما تعتز به من تراثٍ حضاري، وأن قيم البداوة والصحراء أكثر دفعًا للتقدم والنهضة من قيم الحضارة والمدنية (ابن خلدون).
كما تعني المعاصرة عدم إغفال شيء من مكونات الواقع، أو ابتسار جزء منه، بل قبول كل شيء فيه، والاعتراف بجميع مكوناته؛ فالتراث مثلًا جزء من الواقع، يفعل فيه، ويؤثر عليه من خلال سلوك الناس ورؤية الجماهير له. والضنك والبؤس والفقر والجوع والحرمان واقعٌ اجتماعي عريض للأغلبية الصامتة في مجتمعاتنا، كما أن التسيب والهزؤ والخلل والفوضى وغياب القانون والعلاقات الواضحة بين الأفراد جانب أيضًا في واقعنا الاجتماعي، وضياع الولاء، وانحسار القضية، وعدم الانتساب إلى أي شيء، واختفاء الصالح العام، كل ذلك أيضًا أحد مكونات مشاعر الجيل وإحساسات العصر.
تعني المعاصرة أيضًا القدرة على الإعلان عن الواقع، والشهادة عليه، والتعبير عنه، ولا تعني الكتمان والتخفي وإيثار السلامة ورغبة في العيش، وكما يقول المثل الشعبي «الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح»، ثم ينتج عن المعاصرة بهذا المعنى العكوف عن الذات، أو هروب الذات وفرارها، الهجرة إلى الداخل أو الهجرة إلى الخارج. إنما تعني المعاصرة البحث عن الواقع في أساسه وليس في فروعه، والبحث عن الحلول الجذرية لقضاياه الأساسية وليس عن الحلول المؤقتة التي سرعان ما تتبدد وتبقى القضايا معلقة ودائمة، بعد أن ينقضي أثر التخدير الوقتي. بهذا المعنى لا تكون المعاصرة استسلامًا للأمر الواقع، بل بحثًا في جذوره التاريخية وأبنيته الحاضرة ومتغيراته المستقبلية، وبهذا المعنى أيضًا لا تعني المعاصرة السير وفقًا لمنطق الأحداث الواقعة تمشيًا مع التيار السائد؛ فالعصري بهذا المعنى اشتراكي مع الاشتراكيين، ورأسمالي مع الرأسماليين، وضاحك مع الضاحكين، وباكٍ مع الباكين، ومُهنِّئ مع المهنئين، وناعٍ مع الناعين، بل تعني المعاصرة أَخْذ موقف جذري ودائم من الواقع مهما تغيرت نظم الحكم، تعني المعاصرة إيثار الصالح العام على الصالح الخاص، وإعلان الولاء للأمة وليس للأفراد، وتعني أيضًا المساهمة الفعلية في عمليات التغير الاجتماعي في الجماعات العلمية، والأندية الثقافية، والمجلات الفكرية، والأحزاب السياسية، تعني المعاصرة بَذْل الجهد، وممارسة النشاط، فلا توجد معاصرة من المنازل، ولا توجد زعامة تاريخية تبقى إلى الأبد، تعيش على رصيدها الماضي وبعد أن تتحوَّل إلى مجموعةٍ من رجال الأعمال.
(٣) ماذا تعني الأصالة والمعاصرة؟
لا تعني الأصالة والمعاصرة وجمعهما معًا أن يتحول الأفراد أو المجتمعات إلى شقَّين؛ شق أصيل وشق معاصر، أو أن يعيش الأفراد وتحيا المجتمعات على مستويَين؛ مستوًى أصيل ومستوًى معاصر، فيؤمن الفرد ببركة آل البيت كتراثٍ أصيل، ويكون عالمًا طبيعيًّا حائزًا على جائزة نوبل في الفيزياء، أو يؤمن بالقضاء والقدر ويكون هندسيًّا يعهد إليه بالسيطرة على الفيضانات ومياه الأمطار بإقامة السدود وتشييد الخزانات، أو يكون قائمًا على التخطيط ويعهد إليه بتدبير غذاء الأمة، وإعداد موفور لها يحميها من المجاعة وسوء المحاصيل، أو يؤمن بالإرادة الإلهية التي ترعى كل شيء، ويكون طبيبًا مداويًا يقدِّم وسائل العلاج لمرضاه، فيسلك بشخصيتَين، ويعيش بمنهجَين.
وبهذا المعنى يكون شعار «العلم والإيمان» كأساسٍ تقوم عليه المجتمعات تعبيرًا عن هذه الازدواجية بين الأصالة والمعاصرة، فالفرد مؤمنٌ وعالم، والمجتمع مؤمنٌ وعالم، والحياة تقوم على العلم والإيمان، ولكن الإيمان له ميدان والعلم له ميدان آخر، لا يتحدان بل يتجاوران، دون نظر للإيمان من خلال العلم أو للعلم من خلال الإيمان، وهو الموقف الذي أدانه تراثنا القديم الذي تقوم فيه صلب علومه على الوحدة العضوية بين العلم والدين، بين الدين والفلسفة، بين العقل والنقل، بين علوم الوسائل وعلوم الغايات، وعادة ما يتم التضحية في هذه المجتمعات بالعلم والدين معًا، عندما يستخدم العلم لتأويل الدين أو الدين لتأويل العلم في محاولات الربط بينهما من العلماء المتدينين أو من المتدينين العلماء.
وغالبًا ما ينتهي هذا النوع من الجمع المزدوج بين الأصالة والمعاصرة في الأفراد والمجتمعات إلى نوعٍ من النفاق؛ إذ يعيش الفرد أو المجتمع أحد المستويين في الأعماق، والمستوى الآخر في السطح، ولما كانت الدنيا أكثر واقعية من الآخرة، فإنها تفرض نفسها ثم تأتي الآخرة كغطاءٍ خارجي لها، فتصبح المعاصرة هي الأساس، والأصالة هي الفرع، المعاصرة هي الحياة في العمق، والأصالة هي الحياة على السطح، فتنقلب الآية، ويعيش الإنسان في الدنيا مقلوبًا.
إنما تعني الأصالة والمعاصرة وحدة باطنية عضوية بينهما؛ بحيث تتحقق وحدة الشخصية في حياة الأفراد والمجتمعات؛ فالإنسان لا يكون إلا واحدًا في حياته وغايته ومنهجه، والمجتمع أيضًا لا يكون إلا واحدًا في هدفه ونظامه ورؤيته، الحقيقة واحدة سواء كانت دينية أم علمية، والحياة واحدة سواء كانت دنيوية أم أخروية، والعالم واحد سواء كان في معمله أو في دارٍ للعبادة، والعلم واحد سواء كان إلهيًّا أم إنسانيًّا؛ ومن ثم لا ينشأ خطر الازدواجية وما يصاحبها من مظاهر للنفاق، بل تكون الحياة الصريحة المتمثلة في وحدة الداخل والخارج.
ولا تحدث هذه الوحدة العضوية بين الطرفَين، الأصالة والمعاصرة، إلا بوجود طرف متوسط ثالث تتحقق فيه هذه الوحدة، ويكون أشبه بمركب الموضوع بعد الموضوع ونقيضه، هذا الطرف الثالث هو الواقع، حياة الإنسان، العصر الحاضر، روح العصر، دور الأجيال، لا تتحقق هذه الوحدة إذن نظريًّا منطقيًّا بل عمليًّا في الزمان والمكان، في عصرٍ معين، وفي مكانٍ معين، ولجيلٍ معين، فالواقع الاجتماعي هو الذي يفرض نفسه على الأصالة والمعاصرة، للتوحيد بينهما من خلاله وتحقيقًا لمتطلباته، ومستقبل البشر هو الذي يحدد مدى ارتباطه بالأصالة ومدى حاجته إلى المعاصرة.
كما تعني الأصالة والمعاصرة الصدق مع النفس لتحقيق وحدة الشخصية، والصدق مع الواقع لتحقيق الوحدة الوطنية، فكل قُوى النفس العلمية والوجدانية العقلية والقلبية تجد معبرًا عنها، ومفجرًا لطاقاتها، ومحققًا لها. كما أن قُوى التغير الاجتماعي ومناهج تحديث المجتمعات على اختلافها تجد حدًّا أدنى من الحوار والتعاون فيما بينها؛ فأنصار الأصالة لا يرفضون وحدةً عضوية بينها وبين المعاصرة؛ بحيث تكون المعاصرة امتدادًا لها، وأنصار المعاصرة لا يرفضون وحدةً عضوية بينها وبين الأصالة؛ بحيث تكون الأصالة تعميقًا وتثبيتًا لها.
(٤) كيف تتحقق الأصالة والمعاصرة؟
لا تتحقق الأصالة والمعاصرة عن طريق التوفيق الخارجي بين الاثنين؛ من أجل تحقيق هدف يبغيه الجميع ويسعى إليه الكل للجمع بين الحسنيين، الدين والدنيا، الماضي والحاضر، الأنا والغير؛ وبالتالي عمل باقة من الزهور ويُنتقى فيها من الاثنين أفضل ما فيهما، ولما كان احتمال الحكم الخاطئ قائمًا فقد يؤخذ من الأصالة معوقات التقدم وتترك دوافعه، وقد تؤخذ المعاصرة بمعنى الحداثة والعصرية كأسلوبٍ في الحياة؛ وبالتالي يتحوَّل الأفراد كما تتحول المجتمعات إلى كائناتٍ ممسوخة مشوهة لا قوام لها، عجوز ملطخة بالمساحيق والألوان.
وكثيرًا ما يتم التوفيق على نحوٍ انتقائي صرف، وطبقًا لأهدافٍ شخصية خالصة أو مصالح فئوية، فيدعي المحدث أو المصلح أو المجدد بأنه وحده الذي جاء بمربط الفرس، وأنه وحده هو القادر على حل العقدة، فيأخذ نصيبه من الشهرة، ويعتلي منصات الخطابة وتتصدر أخباره وصوره أجهزة الإعلام، خاصة إذا ما راجت السوق، وإذا كانت المجتمعات بطبيعتها ترفض الاختيار بين الطرفَين المتعارضين، الأصالة والمعاصرة، وتريد الجمع بينهما، فإذا ما حقق لها أحد ذلك فإنها ترفعه إلى مستوى الأبطال، وتجعله المتحدث الرسمي باسمها.
وغالبًا ما تكون الانتقائية من الخارج أي من المعاصرة، وعلى الأصالة أن تكيف نفسها طبقًا لها، فيؤخذ مذهب غربي على أن به خلاص الأمة من غفلتها وسكونها وتخلفها مثل الوضعية أو الشخصانية أو الوجودية أو الماركسية أو الليبرالية، وذلك من أجل القضاء على معوقات التقدم مثل الخرافة أو غياب الإنسان أو الصورية أو الاستغلال أو القهر والتسلط، كما قد يحدث انتقاء لبعض المناهج الغربية لتجديد التراث وإعادة فهمه، مثل الديكارتية وإعمال الشك في الموروث، أو البنائية، أو الفينومينولوجيا، وغالبًا ما يكون الانتقاء بناءً على الهوى والمزاج الشخصي.
وفي أقل الأحيان، يكون الانتقاء من الداخل أي من الأصالة، فتؤخذ نماذج مضيئة، شخصيات أو مذاهب أو حركات اجتماعية، من القديم كنبراسٍ للمعاصرة مثل أبي ذر الغفاري رائدًا للاشتراكية، أو نظرية الاستخلاف كحلٍّ لموضوع الملكية، أو ثورة القرامطة أو الزنج كنماذج لثورات المضطهدين، كما قد تؤخذ اتجاهات وفرق كنموذجٍ لإصلاح الأمة مثل عقلانية المعتزلة وابن رشد، كما قد تؤخذ بعض المناهج كنموذجٍ لما يمكن أن يكون عليه منهج الأمة، مثل المنهج الأصولي القائم على استقراء العلل، وغالبًا ما يتمُّ هذا الانتقاء لصالح الطبقات الاجتماعية، فتنتقي الطبقات العليا القيم الصوفية من صبرٍ ورضًا وتوكل وزهد وفقر، كما تنتقي الطبقات المتوسطة قيم القانون والنظام، ونادرًا ما تجد الطبقات الدنيا من ينتقي لها قيم الثورة والتمرد لندرة المنظرين لمصالحها.
إنما تتحقق الأصالة والمعاصرة عن طريق الطرف الثالث، وهو واقع الأمة واحتياجاتها الراهنة؛ فهو القادر على خلق الوحدة العضوية بين الطرفَين المتعارضَين؛ ولذلك لزم أولًا رصد حاجات العصر، والتعرف على متطلباته، وتشخيص المرحلة التاريخية التي تمر بها المجتمعات الحالية، فتلبية هذه المتطلبات، وسد هذه الحاجات هي الغاية من تحقيق الأصالة والمعاصرة، وبعد الرصد والتشخيص يبدأ البحث في الأصالة التي غالبًا ما تكون موجودة في تراث الأمة وتاريخها، لمعرفة كيفية دفع الواقع خطوة إلى الأمام أو منع معوقات التقدم من أجل تلبية هذه المطالب، فالقديم بطبيعته متشابه، يحتوي على النقيضَين، تسلط وحرية، رأسمالية واشتراكية، طبقية ولا طبقية، إشراقية وعقلانية … إلخ، وعادة ما يكون أحد أسباب التخلف هو سيادة طرف على طرف، وفَقْد التوازن في وجدان الأمة بين عنصرَي الشد والتوتر في الحياة الإنسانية.
لذلك كان من الضروري الوعي التام بالمرحلة التاريخية التي تمر بها المجتمعات حتى يمكن أولًا تشخيص المرحلة الراهنة، ومعرفة مظاهر فقدان التوازن في وعيها القومي، كما أنه من الضروري ثانيًا الوعي التام بتاريخ الأمة وتراثها الماضي؛ حتى يمكن رصد البدائل ومعرفة كيفية نشأتها وفي أي ظروفٍ اجتماعية، ولتحقيق أية أهداف سياسية حتى يمكن إعادة الاختيار بينها طبقًا لحاجات العصر وتلبيةً لمطالب الأغلبية الصامتة. وضروري ثالثًا تحديد المشروع القومي للأمة كلها، حتى يمكن تحديد المرحلة المستقبلية في تاريخ الأمة بعد تقسيم مشروعها القومي على مراحل؛ بحيث يتم تحقيقها في عدة أجيال؛ ومن ثم لا يلعب الجيل الحاضر دور جيلٍ مضى، فتنشأ الحركات السلفية أو دور جيل آتٍ فتنشأ الحركات الجذرية العلمية العلمانية؛ فالمجتمعات التراثية عادة ما تكون مرحلتها الراهنة هي المرحلة الليبرالية التي تقوم على نقد الموروث، والاعتماد على العقل دون السلطة، وإثبات الإنسان كقيمةٍ مطلقة وبؤرة للكون، واستمداد العلم من الطبيعة وهو ما يسمى بعصر النهضة في كل أمة، والحقيقة أن الأصالة والمعاصرة في جوهرها هي قضية التاريخ ومرحل التاريخ والمساهمة في دفع مسار التقدم في التاريخ، أو بلغة هيجل «العقل في التاريخ».
(٥) نماذج للمحاور الأساسية للأصالة والمعاصرة في مجتمعاتنا
- أولًا: تحرير الأرض من الاحتلال العسكري الأجنبي، أي تحرير الأراضي المحتلة في سيناء والضفة الغربية والقدس وغزة وفلسطين، والقضاء على كل مظاهر الوجود العسكري الأجنبي في صورة غزو أو قواعد أو حاميات أو تسهيلات، والقضاء على كل مظاهر النفوذ الأجنبي في مجتمعاتنا، سواء كان ذلك في صورة أحلافٍ عسكرية أو معاهدات صداقة، وبالرغم من الإنجازات الهائلة لحركات التحرر الوطني، وتحقيقها للاستقلال الوطني، إلا أن قضية تحرير الأرض ما زالت قائمة، وقضية السيادة الوطنية الفعلية على الأرض ما زالت مطروحة.
- ثانيًا: تحقيق التنمية الشاملة ضد جميع مظاهر التخلف، والعمل على تقديم المجتمعات ونهضتها، فمن مظاهر التخلف مثلًا الأمية، وسوء الخدمات، وعدم استغلال الثروات الطبيعية، ووجود مجتمع طبقي تتفاوت فيه الدخول من واحدٍ إلى ألف، في مجتمعٍ لا تسمح موارده القومية الحالية إلا بنظامٍ لا طبقيٍّ تذوب فيه الفوارق بين الطبقات، يكون فيه متوسط الدخل الفردي سنويًّا حوالَي مائتين وخمسين جنيهًا؛ وبالتالي تكون الأنظمة الإقطاعية أو الرأسمالية أحد مظاهر التخلف، كما أن نظم القهر والتسلُّط التي تقضي على حرية الأفراد، وحقهم في التعبير عن الرأي والمعارضة، مظهر آخر من مظاهر التخلف، كما أن غياب الإنسان كقيمةٍ تتم التنمية لها، ووجود إنسان واحد هو الزعيم أو الحاكم أو الأمير أو القائد، لأجله تنظَّف الطرقات وتنثر الزهور، ويتم الرفق بالمعوقين، والعناية بالأطفال؛ هو أيضًا أحد مظاهر التخلف بالرغم مما قد يحدث من تنميةٍ خارجية.
- ثالثًا: سلبية الجماهير، ولا مبالاة الناس، وفتور الشعب وسكونه ورضاه وعجزه إلا في فورات الغضب، ولحظات التمرد، وساعات الثورة وأيام الهبات الوقتية والانتفاضات الشعبية، إذا ما تراكم الفقر، وعمَّ الفتك، واستشرى البؤس، وساد الجوع أمام مظاهر البذخ والترف والبطنة ورغد العيش ونعم الحياة. لم يتحوَّل بعد هذا الكم الهائل إلى كيف، وما زالت الملايين بعددها وليست بإمكانياتها وطاقاتها، وهو ما لاحظه المصلحون من قبل مثل الأفغاني والكواكبي، فأصبحت الأغلبية لا وزن لها، وضاعت قيمة الكثرة في مقابل الأقلية النشطة، سواء في الداخل تسيطر على الحكم ومصادر الثروة، أو في الخارج تحتل الأرض، وتبغي التوسع، وتمارس العدوان اليومي.
- رابعًا: قضية التجزئة والتشتت والتضارب، كل حزب بما لديهم فَرِحون، حتى عمَّت الفتنة، وتحوَّلت الأمة إلى طوائف يقتل بعضها بعضًا، وكأننا ما زلنا في الفتنة الأولى بين عليٍّ ومعاوية، بين الحسين ويزيد، وإن اختلفت الأسماء، وتباعدت العصور. ضعفت شوكة الأمة، وقويت شوكة الأعداء. وفي نفس الوقت، يتعلَّم أطفالنا وصية الشيخ العجوز لأبنائه قبل أن يموت، وحزمة العِصيِّ التي لا تنكسر مجتمعةً وتنكسر متفردة، كل عصًا على حدة، ونستحسن المثل والقول، ونحثُّ على وحدة الأمة هدفًا ومصيرًا،٩ بعد ذلك تبدأ مواجهة هذه القضايا الأساسية لعصرنا عن طريق الأصالة، أي البحث في الجذور التاريخية لوجدان الأمة عن أسباب وجود هذه الظواهر، وكيفية القضاء عليها عن طريق الاختيار بين البدائل.
ومظاهر التخلُّف في مجتمعاتنا يمكن مواجهتها أيضًا بأصالة الأمة وتاريخها، وإعادة الاختيار بين البدائل حتى يعود التوازن أيضًا إلى وجداننا القومي، فإذا كانت الأمية قد استشرت اعتمادًا على العلم اللدني، وعَمَّ سوء الخدمات بسبب الإعداد للآخرة وترك الدنيا، ولم تستغل الموارد الطبيعية لأنه ما من دابةٍ إلا وعلى الله رزقها، ووُجد مجتمعٌ طبقي لأن الله جعلنا فوق بعض درجات، وعشنا في نظم التسلط والقهر وغياب الرأي المعارض؛ لأن الله دعانا لطاعته ولطاعة الرسول وأولي الأمر منا، وغاب الإنسان من وعينا لأن كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، أمكن بعد ذلك إعادة الاختيار بين البدائل في التراث؛ فالأمية تتعارض مع احترام العلم، وتبجيل العلماء ورثة الأنبياء، وقد نزلت أدلة سورة في القرآن الكريم «اقرأ» تدعو إلى القراءة والتعلم. ونقص الخدمات وسوء استغلال الموارد الطبيعية يتعارض مع رسالة الإنسان في الأرض، والتمتُّع بنعم الله، وتسخير الطبيعة له. ووجود مجتمعٍ طبقيٍّ يتعارض مع الأخوة في الله، ومالكية الله لكل شيء، واستخلاف الإنسان، وتحريم الربا واعتبار العمل وحده مصدر القيمة. والنظم التسلطية تتعارض مع خلق الله الناس أحرارًا، والحكم لصالح الأغلبية، والشورى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، وإعلان الشهادة على الحق، غيابًا أو حضورًا، نفيًا أو إثباتًا كما يقضي بذلك فعلًا الشهادة، النفي في «لا إله» والإثبات في «إلا الله» حتى ولو أصبح الإنسان شهيدًا جزاءً له على شهادته، فالشهادة في كلتا الحالتَين واحدة، شهادة على الحق، وشهادة بالدم. وغياب الإنسان كقيمةٍ من وجداننا القومي يتعارض مع كون الإنسان خليفة الله في الأرض، كرَّمه الله في البر والبحر، وجعله في أحسن تقويم، وخلقه فأحسن خلقه، بل إن تراث الأمة ووحيها الذي نعتز به جوهره التقدم، فالوحي يتقدم من مرحلةٍ إلى مرحلة، والشريعة تتقدم، ففيها الناسخ والمنسوخ، والأمة تتقدم بتجديد دينها على رأس كل مائة سنة، وإلا فما الحكمة من الإجماع، إجماع كل عصر، ومن الاجتهاد، اجتهاد كل فرد؟
أما لا مبالاة الناس وفتورهم، فهي ترجع إلى فقدان الوعي بالقدرة على الفعل، وإلى أنه لا فاعل حق إلا الله وأن ما دونه هو فاعل بالمجاز، كما يرجع إلى الإيمان السلبي بالقضاء والقدر وإلى انتظار الفرج؛ وبالتالي يمكن إعادة الاختيار بين البدائل، وتغليب خلق الأفعال، وحرية الإنسان، وقدرته على الفعل والاختيار، وأن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن كل نفس بما كسبت رهينة، وأن كل إنسان قد ألزم طائره في عنقه، وأن الإنسان خليفة الله في الأرض، وأن الأمانة قد عُرضت على السموات والأرض والجبال، فأبَيْنَ أن يحملْنَها وأشفقْنَ منها، وحملها الإنسان، وأن الأرض يرثها العباد المتقون، وأننا خير أمة أُخرجَت للناس، لها مكان الصدارة، ومؤهلة بخصائصها للقيادة.
وعلى هذا النحو تتحقق الوحدة العضوية بين الأصالة والمعاصرة، وتلبي احتياجات الأمة في لحظتها الراهنة، وهي مهمة جيلنا دون دعاية أو إعلان أو انتهازية أو ذرائعية، بل كتصورٍ علمي للواقع، وكموقفٍ شريف تجاه مصير الأمة، وعلى هذا النحو تستمر النهضة، وتتأصل جذورها، وتحقق أهدافها. وقد بدأناها منذ القرن الماضي، ويبدو أنها لم تكتمل بعد بالرغم من جهودٍ مضنية لعدة أجيال.