نحن والتنوير١
والتنوير هو ما نشعر بأننا تركناه بعد أن بدأنا في القرن الماضي، وبعد أن أردنا أن نستبق الأحداث ونعيش أحلامنا وكأنها واقعنا، فتصورنا أننا جيل الثورة وأن مراحل الإحياء والإصلاح والنهضة قد ولَّت وانتهت، وأننا الجيل الذي سيحقق آمال الأمة العربية من حريةٍ واشتراكية ووحدة، ثم اكتشفنا بعد هزائمنا المتتالية أن التخلف ليس في النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحدها، بل في طريقة تصورنا للعالم وفي قوالبنا الذهنية ومكوناتنا النفسية، وأننا ما زلنا نريد أن نؤسس العالم الجديد بعقلية القديم، في حين أن الثورة لا تحدث إلا في الذهن أولًا. ولما كان التنوير يعني قدرة الإنسان بعقله على التصدي للقديم، وتمسكه بحريته في الفكر وفي السلوك، ومطالبته بنظامٍ ديمقراطي يقوم على الحرية والمساواة، شعر جيلنا بأن تحديد صلته بالتنوير وجعل مهمته منه يكون أقرب إلى وضع السؤال الصحيح: أين نحن من قضية التنوير الآن؟
ولكن أي تنويرٍ نقصد؟ هل هو التنوير المعروف في القرن الثامن عشر في الغرب، والذي بدأ في ألمانيا على أيدي هردر وكانط ولسنج ومندلسون، وفي فرنسا لدى فولتير ومنتسكيو ودالمبير وديدرو وفلاسفة دائرة المعارف الفلسفية بوجهٍ عام، وفي أمريكا عند توماس بين وفي وثيقة إعلان الاستقلال، وفي إيطاليا عند فيكو خاصة وأن مفكرينا في القرن الماضي قد تتلمذوا على أيديهم؛ فقد كان الطهطاوي في نهاية الأمر ابنًا لمبادئ الثورة الفرنسية؟ أم هل التنوير المقصود هو ما بدأه مفكرونا في القرن الماضي وعلى رأسهم الطهطاوي والليبراليون بوجهٍ عام، والأفغاني والمصلحون الدينيون، وشميل والعلمانيون؛ فقد وقف كلُّ فريقٍ موقفًا نقديًّا من القديم، وإن اختلفت البواعث والأهداف، وحاول تأسيس المجتمع الجديد على أساسٍ من العقل والعلم والحرية والديمقراطية؛ وبالتالي تكون مهمتنا هي إكمال ما بدأه الجيلان أو الثلاثة أجيال الماضية؟ أم هل التنوير هو ما بدأه المعتزلة القدماء الذين عُرفوا باسم «المفكرون الأحرار» في الإسلام والذين ظهرت على أيديهم أفكار العقل، والحرية، والغائية، والمصلحة، والشورى، والعمل، والاستحقاق؛ وبالتالي تكون مهمتنا هي إحياء التراث الاعتزالي بعد أن عاش مائتَيْ سنة قضت عليه المحنة إلى أن هدم الغزالي العقل تمامًا لحساب الذوق، ولم تنفع بارقة ابن رشد في رَدْء الصدع، فسادت الأشعرية المنتصرة بعد أن أصبحت العقيدة الرسمية للدولة السنية، وازدوجت بالتصوف فساد الموروث على عقولنا أكثر من ألف عام، حتى بدأ فكرنا الحديث منذ القرن الماضي ينحو نحو الاعتزال من جديد، إن لم يكن في التوحيد بل على الأقل في العدل؛ وبالتالي تكون مهمتنا هي إحياء التراث الاعتزالي من جديد حتى ندخل في معارك التنوير من داخلنا، وكأن التخلف ما هو إلا عارض في حياتنا؟ أم أن التنوير الذي نوده ما هو إلا إحدى متطلبات عصرنا، يفرضه الواقع العربي ثم يشير علينا باستلهام التنوير الغربي؛ نظرًا لتشابه ظروفنا معه أو باستئناف تنويرنا الذي بدأناه في القرن الماضي، أو بإعادة الاختيار بين الأشعرية السائدة والاعتزال المعزول، أو بالتعبير عن متطلبات واقعنا العربي مستلهمين حاجات شعوبنا ومدافعين عن مصالحنا العامة؟
وبصرف النظر عن المصدر التاريخي للتنوير، فإن هذه المحاولة تهدف إلى رصد المفاهيم الأساسية لأية فلسفة تنوير، بصرف النظر عن نشأتها في مرحلةٍ تاريخية معينة في حضارةٍ محددة. ويمكن إيجاز هذه المفاهيم في ستة: العقل، والحرية، والإنسان، والطبيعة، والمجتمع، والتاريخ.
(١) العقل
حدَّدت فلسفة التنوير في الغرب ثلاث وظائف للعقل؛ فهو إما العقل الصوري الخالص الذي يضع المقدمات وينتهي منها إلى النتائج، وهو العقل الرياضي الاستدلالي الذي بدأه ديكارت وسار فيه ليبنتز واسبينوزا، والذي سمَّاه أيضًا المعتزلة الأوائل البديهيات أو البداءات أو الأوليات أو النظر، واعتبروه أول الواجبات على المكلف؛ وإما عقلي حسي يتعامل مع العالم الخارجي من خلال التجارب الحسية، وهو عقل استقرائي يقوم على التحليل الكمي للظواهر، وهو العقل الذي سارت فيه المدرسة الإنجليزية وعلى رأسها لوك وهوبز وهيوم، وهو أيضًا العقل الذي استعمله علماء أصول الدين القدماء، وسموه المجربات أو المشاهدات أو الحسيات، والذي سماه علماء أصول الفقه السبر والتقسيم والبحث عن العلل، وتقسيم العلل إلى مؤثرةٍ ومناسبة وفاعلة يناط بها الحكم؛ وإما عقل حدسي يدرك الحقائق إدراكًا مباشرًا بلا إعمال نظر أو إقامة برهان، وهو العقل الذي بدأه ديكارت أيضًا حتى أصبح مطلب البداهة والوضوح والتميز أقصى ما يميز التنوير، وهو العقل الذي كان يلجأ إليه القرآن في مطالبته المؤمنين بالنظر والتأمل، العقل الطبيعي أو النور الفطري، أو الفطرة التي فُطر الناس عليها، أو صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة، وهو العقل الذي استعمله الفلاسفة والفقهاء، والذي سمَّاه الصوفية البصيرة أو الرؤية أو الكشف أو الذوق.
فأين نحن من هذه الاستعمالات الثلاث للعقل؟ إن العقل الاستدلالي لدينا في حياتنا العامة لا ينتهي من مقدماته إلى نتائج متسقة معها، فإذا كانت المقدمات مثل: إسرائيل اغتصبت أرض العرب، فإن النتيجة تكون «تحرير الأراضي العربية» أو «الاستعداد لاسترداد الأراضي المحتلة» ولكننا نذكر المقدمات ولا ننتهي إلى نتائج مستمدة منها؛ ومن ثم غاب الاستعمال المنطقي للعقل، وقد نستعمله استعمالًا صوريًّا خالصًا بمعنى الاقتصار على الشعارات كمقدمات، والانتهاء منها إلى شعاراتٍ أخرى كنتائج، دون أن نمس الواقع العلمي خشية منه أو عجزًا عن تغييره؛ وبالتالي ظل العقل فينا قائمًا لا مستقر له ولا وطن، أما العقل الحسي فقد غاب أيضًا في وجداننا المعاصر إذ إننا لا نقيم استدلالاتنا على التحليلات الإحصائية الكمية، ونكتفي بمبادئ كيفية عامة تعصى على السيطرة والإحكام، فإذا كان سكان إسرائيل مثلًا ثلاثة ملايين نسمة والعرب أكثر من مائة مليون، فإن المعركة تفرض أن نضع تحت السلاح ثلاثين مرة أكثر مما تضعه إسرائيل. في حين أننا في كل حربٍ مضت كانت إسرائيل تضع أكثر مما نضعه تحت السلاح. وإذا كان الدخل القومي في مصر مثلًا أربعة بلايين جنيه سنويًّا وعدد سكان مصر حوالي أربعين مليونًا، فإن نصيب كل فردٍ من الدخل القومي يكون حوالي مائة جنيه سنويًّا؛ ومن ثم يستحيل وجود طبقة من الأغنياء في مصر، أو يستحيل وجود نظام اجتماعي يسمح بتفاوتٍ طبقي؛ ومن ثم غاب العقل الحسي من حياتنا، وأصبحنا نفكر في جانبٍ والواقع الحسي في جانبٍ آخر، وكأننا لا نفكر بعيوننا، أما العقل الحدسي الذي يدرك الحقائق الواضحة المتميزة، فإنه تحول لدينا إلى عقلٍ إشراقي، وإلى نورٍ يقذفه الله تعالى في القلب، وإلى واردة أو كاشفة أو بارقة أو مدد من السماء، إلى آخر ما سمَّاه الصوفية في مصطلحات العلم اللدني. فالزعيم ملهم، تأتيه الأفكار فجأةً وهو يطل من فوق قمم الجبال، أو بعد صلاة الاستخارة، أو بالتوجه إلى الله في دعاءٍ حار، في جلبابٍ أبيض، وفي يده مسبحة، وعلى شفتيه تمتمات؛ ومن ثم ضاعت في حياتنا المعاصرة وظائف العقل الثلاث التي حددها التنوير، وجعلنا العقل نوعًا من الإلهام الذي أبطله علماء أصول الدين القدماء، كما أبطلوا التقليد والإمام المعصوم كمصدرٍ من مصادر المعرفة.
والحقيقة أننا تركنا ما بدأناه في القرن الماضي من دعوةٍ إلى إعمال العقل والنظر، سواء في حركات الإصلاح الديني حيث ركز محمد عبده خاصة على استقلال العقل وقدرته على إدراك الحقائق، أو في الدعوات العلمانية التي رأت وظيفة العقل الأساسية في نقد الموروث، والتوجه إلى كل ما لا يقوم على برهانٍ بالنقد والتفنيد والكشف عما في حياتنا العامة من أشباحٍ وأساطير وأوهامٍ وخرافات، أو في الدعوات الليبرالية التي كان العقل فيها مناطًا للتحديث ودعوة لمحو الأمية، وتأسيس مناهج التربية الحديثة، كما أننا تركنا مواطن القوة في تراثنا القديم؛ حيث أجمع علماء أصول الدين على البدايات العقلية كمصدرٍ للمعرفة، وحيث أجمع المعتزلة والفقهاء على أن العقل أساس النقل، وأن من يقدح في العقل يقدح في النقل، وحيث جعل الأصوليون العقل أو دليل الاستصحاب مصدرًا من مصادر التشريع، وحيث جعل الفلاسفة العقل مرادفًا للوحي، فوضعوا الفيلسوف بجوار النبي، بل وجعلوا الفلسفة أعلى من النبوة؛ حيث إن العقل أسمى من الخيال، يدرك الحقائق مباشرةً في حين يدركها الخيال بالتشبيه والصورة، ثم أخذنا مواطن الضعف في تراثنا القديم حيث كان النقل ما زال مصدرًا من مصادر المعرفة عند علماء أصول الدين، وحيث كان النقل أساسًا للعقل عند الحشوية والأشعرية، وحيث كان العقل في حاجةٍ إلى وصي أو نبي أو ولي عند الصوفية، وحيث كان العقل في أسمى وظائفه عقلًا إشراقيًّا متصلًا بالعقل الفعال، ترتسم فيه العلوم، وتنقش فيه المعارك، كما هو الحال عند الفلاسفة، تراجع العقل في حياتنا المعاصرة، وظل معدوم الأثر، عاجزًا عن أن يقترب من أي موضوع، خاصة تلك التي وضعها المجتمع أمامنا، وكأنها مقدسات أو محرمات لا يجوز الاقتراب منها أو تناولها: الله، والسلطة، والجنس. واتهمنا كل من يُعمل عقله بالكفر والإلحاد. لن نصل إلى عصر التنوير إلا إذا جعلنا للعقل سلطانه دون سلطة الكتاب، أو سلطة التقاليد الموروثة، أو سلطة الحكام القائمين. فإما العقل الذي يملك كل شيء ويطلب البرهان والدليل، وإما الخوف والعجز والتسليم والخضوع.
(٢) الحرية
ولكننا في تاريخنا الحديث يبدو أننا انشغلنا كثيرًا بمقاومة الاستعمار، وناضلنا من أجل استقلال البلاد ضد الاحتلال والسيطرة الأجنبية، فأصبحت الحرية لدينا تعني التحرر من الاستعمار ومن أذنابه أي من الحكام والأمراء الذين يدينون له بالولاء. ولم نركز كثيرًا على حرية التفكير، وعلى حق كل فردٍ في الاختيار بين البدائل، وضرورة البحث المنظري دون أية أفكار أو عقائد مسبقة. وما زلنا نعتمد على حجة السلطة، سلطة الموروث أو سلطة النظم القائمة، وما زلنا نرى أن الحقائق كلها قد أعطيت لنا سلفًا في كتاب علينا أن نفهمه، ونستخرج منه حلول المشكلات الحاضرة وأسرار العلوم في المستقبل، وأن دورنا لا يخرج عن دور المهمشين الشارحين العارضين المتلقنين، ولا يتجاوزه إلى دور الخالقين المبدعين المكتشفين الواضعين.
أما فيما يتصل بحرية الأفعال، وحرية المواطن في اختيار نظم الحكم، فإننا صرنا جميعًا أشعرية طبقًا لعقيدة الدولة السنية الرسمية، أي إن التوفيق أو الخذلان من الله، وإن الله هو الذي يتحكَّم ليس فقط في أفعال الإنسان الخارجية بل في أفعال الشعور الداخلية من إيمانٍ أو كفر، طاعة أو معصية، هداية أو ضلال! وإن الإنسان ليس لديه قدرةٌ على الفعل حتى يتهيأ له، ولا مع الفعل حتى يؤتيه، ولا بعد الفعل حتى يكون مسئولًا عنه، ولكن الله يخلق له ساعة الفعل قدرة يمكنه بها أن يأتي بالفعل، نهازًا للفرص، وتابعًا للقدرة الإلهية على ما هو معروف في نظرية الكسب الأشعري، فتوقفت حرية الأفعال كلها على خلق الإرادة الإلهية للقدرة فينا ساعة الفعل، وبدونها لا يمكن للإنسان أن يكون صاحب أفعاله! أما الصوفية فقد أسقطوا تدبير الإنسان كلية، فالإنسان لا يكون كاملًا إلا إذا تخلى عن أفعاله حتى يفعل الله فيه ما يشاء. ثم تركنا مظاهر القوة في تراثنا عند المعتزلة في تأكيدهم على حرية الأفعال، وأن للإنسان قدرة قبل الفعل حتى يتهيأ له ويدبر أمره ويخطط له، ومع الفعل حتى يأتيه دون انتظار مدد من الخارج، ويعد الفعل حتى يكون مسئولًا عن أعماله في التاريخ أمام الأجيال القادمة، وللإنسان قدرة على الاختيار بين الممكنات، ما دام له عقل قادر على التمييز بين الحسن والقبيح تمييزًا موضوعيًّا، بناءً على المصلحة والمفسدة، أو النافع والضار.
(٣) الإنسان
ورثت فلسفة التنوير في الغرب كل منجزات العصور الحديثة، فيما يتعلق بالإنسان كبؤرةٍ جديدة ترتكز على الحضارة الغربية، بعد أن كانت مرتكزة على الله في العصر الوسيط؛ ففي القرن الرابع عشر بعد عصر إحياء الآداب القديمة، ومن خلال الأدب تم اكتشاف البعد الإنساني للحياة، ثم جاء الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر ليؤكد حرية المسيحي، وصلته المباشرة بين الإنسان والله دون توسط للكهنوت ورجال الكنيسة، وحقه في التفسير الحر للكتاب دونما سلطة. وحددت الإيمان في قلبه في لحظةٍ زمنية؛ وبالتالي ظهر الإنسان في مقابل الله والسلطة الكهنوتية، ثم جاء القرن السادس عشر عصر النهضة؛ حيث ظهرت النزعة الإنسانية عند أراسموس، وأصبح الإنسان بعقله وإرادته وحياته ووجوده محورًا للكون، ثم أتى القرن السابع عشر ليضع الأنا أفكر كبدايةٍ للمنهج، وكبؤرةٍ للكون يتم من خلاله نسيج كل شيء، ثم تفجر هذا الأنا أفكر في فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر، في ظهور الإنسان كمواطنٍ في دولة، حر الفكر ومستقل الإرادة؛ ومن ثم ظهر الإنسان في فلسفة التنوير بعد نضالٍ دام حوالَي أربعة قرون من الزمان، وما زالت الحضارة الغربية تفخر حتى الآن على غيرها من الحضارات بأنها ذات النزعة الإنسانية، وبأنها الوحيدة التي اكتشفت الإنسان كبعدٍ أنطولوجي.
وهذا هو السبب في أن أنظمتنا المعاصرة كلها قد جانبها التوفيق فيما يتعلق بقضية الإنسان، بالرغم من رصد ملايين من الجنيهات من أجل «إعادة بناء الإنسان المصري» في الجامعات المصرية بتوجيهٍ من السلطات؛ فأنظمة الحكم لدينا لا تعترف بحق الإنسان كفرد في التعبير، أو في الممارسة، كما أن أنظمتنا التعليمية لا تهدف لإنشاء الفرد المتميز المستقل الخالق المبدع، بل تجعله نسخةً من الآخرين، متكررة بالآلاف، يستبدل كلٌّ منهم بالآخر، ومرافقنا العامة لم تقُم على أساس من احترام كيان الفرد بل الزمرة، والحشر، والكتلة المتراصة من اللحم البشري. وطرقنا لم تمهد من أجل الحرص على حياة الإنسان كقيمةٍ مطلقة، بل قد يتعثر في حفرة، أو يقع في بالوعة، أو تسقط عليه حجارة من منزل، أو تدهمه عربة. وسجوننا ومعسكراتنا وجيوشنا وتجمعاتنا كلها لم تقُم على الإنسان باعتباره كائنًا موجودًا، وكان أن يكون الفرد منا إنسانًا، أو الإنسان منا فردًا نوعًا من الرفاهية والترف لا يمكننا دفع ثمنه، فطالما لا ترتكز نظمنا المعاصرة على الإنسان، وطالما لم يصبح الإنسان ثورة في وعينا ومحورًا في الكون ومركز تصورنا للعالم، سنظل قاصرين على بلوغ مرحلة التنوير. وما أسهل أن نصل إليها من خلال الأمانة التي يحملها الإنسان وخلافته في الأرض إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ وأيضًا «يا آدم إنا جعلناك في الأرض خليفة»، ولكننا حتى كتابنا الذي يمد وعينا القومي باتجاهاته تركنا بؤرته وأخذنا هوامشه.
(٤) الطبيعة
وضعت فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر الطبيعة باعتبارها طبيعةً مادية، تدرك بالحس وتحكمها قوانين مطردة يمكن للإنسان معرفتها، والتنبؤ بمسار الظواهر طبقًا لها بعد أن كانت الطبيعة في العصر الوسيط مجرد مقدمة لله، وسلم للوصول إليه، أو مجرد حركة وامتداد يمكن التحكم فيهما بالمعادلات الرياضية في القرن السابع عشر، بل وأصبحت الطبيعة أيضًا مقياسًا لكل شيء، فهناك الدين الطبيعي كأساس لدين الوحي، وهناك العقل الطبيعي كمعيار لعقل السلطة، وهناك القانون الطبيعي كمقياس للقانون الإلهي، أصبحت الطبيعة ملهمة في الشعر والأدب، وكان «العود إلى الطبيعة» حركة تحرر في الفن، وأصبحت غاية الفلاسفة هي توحيد الروح والطبيعة، كما ظهر في المذاهب المثالية الألمانية. إن اكتشاف الطبيعة في فلسفة التنوير ليُعد اكتشافًا للعالم والعودة إلى ملكوت الأرض، بعد أن ظل الإنسان رانيًا لمدةٍ طويلة إلى ملكوت السموات.
وقد استطاع مفكرونا العلمانيون في القرن الماضي، وعلى رأسهم شبلي شميل، الإيعاز بالطبيعة في صورة نظرية النشوء والارتقاء، ثم تصور الحياة كلها على نحوٍ طبيعي، النفس، والبدن، والعمران، والتاريخ، والكون، ولكن ظل أثره محدودًا نظرًا لارتباط هذا الإيعاز بالحضارة الغربية، حضارة المستعمر الأجنبي، وبأسماءٍ إفرنجية مثل هيغل ودارون وسبنسر وبشنر وكومت، والكل ليس مخزونًا نفسيًّا عند الجماهير، فلم يتعدَّ أثره بعض الحلقات المثقفة المسيحية، التي رأت في ثقافة الغرب جزءًا من ثقافتها الخاصة، ثم زاد الأمر تعقيدًا معاداة الفكر الديني الإصلاحي المذهب الطبيعي؛ فقد كتب الأفغاني «الرد على الدهريين» لتفنيد المذهب الطبيعي الذي ظنه منافيًا لنظرية الخلق؛ وبالتالي فهو إلحاد صريح على مستوى الكون، وعدمية على مستوى الفلسفة، وشيوعية على مستوى الاجتماع، وكلها صور مختلفة للدهرية. وبالرغم من محاولات فرح أنطون تأصيل المذهب الطبيعي في تراثنا القديم عن طريق ابن رشد وابن طفيل ومحاولات إسماعيل مظهر فيما بعد تأصيله من خلال ابن عربي وإخوان الصفا وأبي العلاء المعري وابن بشرون، إلا أننا في وعينا القومي لم نكتشف بعدُ عالم الطبيعة.
ويرجع السبب في ذلك إلى أننا في تراثنا القديم كله، قد وأدنا الطبيعة وأخرجناها من بؤرة شعورنا الحضاري؛ ففي علم أصول الدين وضعنا الطبيعة في مقولة الحادث دون القديم، والعَرَض دون الجوهر، والممكن دون الواجب؛ ومن ثَم عشناها وهي خارجة عنا، وهي لا تمثِّل بالنسبة لنا أية أهمية؛ إذ كيف يهتم الإنسان بالحادث والعارض؟ وبالتالي لم نتحوَّل إليها، ولم نعتبرها مصدرًا للعلم، ولم نحاول اكتشاف قوانينها، وأصبحت في وجداننا سلبًا مطلقًا، وفي الفلسفة جعلنا الطبيعة مكوَّنةً من مادةٍ وصورة، من جزئيٍّ وكلي، من معلول وعلة، فقسمناها قسمَين غير متكافئَين؛ فالصورة أعلى من المادة، والكلي أسمى من الجزئي، والعلة أشرف من المعلول، والنفس أبقى من البدن، فذبحنا الطبيعة وقتلناها وفصلنا رأسها عن جسدها، روحها عن بدنها، وأدنا الأقل شرفًا وعشقنا الأكثر كمالًا، وحصرنا أنفسنا بين الأدنى والأعلى، فلا الأدنى عشناه، ولا الأعلى حققناه. وفي التصوف وأدنا العالم، وجعلنا إخراج العالم من دائرة الاهتمام شرط النجاة؛ فالعالم شرٌّ ونسيان، والإنسان فيه مجرد عابر طريق على راحلةٍ تَنْفق قبل الوصول إلى غايتها.
وفي نفس الوقت، تركنا مظاهر القوة في تراثنا حيث ظهر المذهب الطبيعي. فقد كان هناك فريقٌ من المعتزلة الأوائل يسمَّون بأصحاب الطبائع، وعلى رأسهم الجاحظ والنظام ومعمر بن عباد وثمامة بن الأشرس، وبعض مجادلي الشيعة مثل هشام بن الحكم، يقولون ببقاء الجواهر والأعراض، وبالمادة، والذرة، والكمون، والفطرة، والحركة، ويردُّون إلى العالم اعتباره، ولكن المعتزلة كلهم بعد محنتهم في القرن الثالث، وهجوم الغزالي على العقل في القرن الخامس انزوى المذهب الطبيعي، ولم يتأصَّل في شعورنا التاريخي حتى الآن. كما أن الفلاسفة تصوروا الطبيعية حتمية تخضع لقوانين مطردة وثابتة، وعلماء أصول الفقه جعلوا المباح أحد الأحكام الخمسة، ويعني المباح أن يعيش الإنسان وفقًا للطبيعة، فوجود الشيء هو شرعيته، وقد كان إبراهيم أبو الأنبياء مؤسِّسًا للدين الطبيعي وهو الدين الفطري.
إننا لم نصل بعدُ في حياتنا المعاصرة إلى مرحلة التنوير دون أن نقوم بعودٍ إلى الطبيعة وليس بعودٍ إلى النص، فالطبيعة مصدر العلم، وموطن الإنسان، وعالم الممارسة، ومكان البقاء. إننا حتى الآن نتصوَّر الطبيعة لا تخضع لقانونٍ ثابت، ونتوهم وقوع حوادث خارقة للطبيعة يوميًّا في حياتنا بتدخُّل الإرادة الإلهية، فعبور الجنودِ القناةَ تم بمعجزة، وكأن المعجزات لا تأتي إلا في لحظات الانتصار، وتختفي في أوقات الهزيمة! ما زلنا نرى أن إصلاح نظمنا الاقتصادية في حاجةٍ إلى معجزة، وأن أية مشكلةٍ تحدث في حياتنا لا حل لها إلا المعجزة مع أن في التنوير، كما هو الحال عند اسبينوزا، أن المعجزة حادثة طبيعية تحدث وفقًا لقانونٍ طبيعي نجهله. وبتقدُّم العلم واكتشاف قوانين الطبيعة يمكن فهم جميع المعجزات؛ لأن سنن الطبيعة هي صفات الله، إن عدم اكتشاف الطبيعة في حياتنا جعلنا ندين العالم أولًا، ثم نتكالب عليه ثانيًا نظرًا لحرماننا منه. إن غياب الطبيعة في وعينا هو الذي يجعلنا أبعد عن النظافة وأقرب إلى سيادة القبح في حياتنا العامة، وكأن النظافة والجمال لا ينالهما إلا المترفون. إن سقوط الطبيعة من وعينا القومي هو الذي يجعلنا نعيش في عالمٍ من الحرمان العلني والفساد السري، مع أن العيش وفقًا للطبيعة أكثر صراحةً وصدقًا مع النفس دون مواربة أو نفاق. إن اكتشاف الطبيعة هو الذي سيحمي وعينا القومي من الوقوع إما في الروحانية الجوفاء أو في المادية الصماء.
(٥) المجتمع
لقد قامت فلسفة التنوير في الغرب بعد تفجير العقل في المجتمع، فظهر الاتجاه الاجتماعي، ووُضع الإنسان مع الآخر على قدم المساواة. وقد ظهر هذا البعد الاجتماعي للتنوير في المبدأَين الثاني والثالث من مبادئ الثورة الفرنسية: الإخاء والمساواة. وكتب روسو في نشأة اللامساواة بين الناس مدينًا الملكية الخاصة وداعيًا إلى العودة إلى الطبيعة، يعيش الإنسان فيها ولا يمتلك؛ وبالتالي تظهر المساواة. وقد بدأت معظم الاتجاهات الاشتراكية في القرن الثامن عشر، سواء كانت خياليةً أو طوباوية أو خلقية أو دينية أو إنسانية قبل أن تصبح اشتراكية علمية بعد ذلك بقرونٍ من الزمان. وظهرت فلسفات التاريخ أيضًا لتحدِّد قانونًا لحركة الشعوب وتطوُّر المجتمعات.
وقد ظهر في فكرنا الحديث هذا البعد الاجتماعي، سواء من الفكر الديني الإصلاحي عند الأفغاني بتركيزه على هضم الفلاحين حقوقهم، ومطالبته بحقوق العمل وبمحاولاته لتوحيد الأمة، وتنوير الشعوب الإسلامية، وهو الذي قال: «عجبت لك أيها الفلاح تشقُّ الأرض بفأسك ولا تشق قلب ظالمك!» وقد حاول الكواكبي أيضًا في «أم القرى» بحث أسباب الفتور في الأمة الإسلامية، كما حاول في «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» أن يبثَّ دعوته للحرية ورفض صور الاستبداد ومظاهر الاستعباد، أو في الفكر العلماني الغربي عند شبلي شميل وفرح أنطون، ويعقوب صروف ونقولا حداد، وولي الدين يكن وسلامة موسى، وإسماعيل مظهر بالتركيز على قِيَم الشعب والحرية والديمقراطية والاشتراكية، أو في الفكر الليبرالي الحديث خاصة عند الطهطاوي وتركيزه على مفاهيم الأمة، والدستور، والحياة النيابية، والشورى، والقانون. وقد بلورت الثورات العربية هذا التيار، باتجاهها في النهاية اتجاهًا اشتراكيًّا يأخذ في الاعتبار صفوف الفلاحين والعمال.
ولكن ما زال وعينا القومي قاصرًا عن إدراك مفهوم الجماعة أو الشعب أو الأمة أو المساواة بين الجميع. وقد يرجع السبب في ذلك إلى غياب الفكر الاجتماعي في تراثنا القديم، وسيادة الدولة التجارية التي تقوم على النشاط الاقتصادي الحر، والتوحيد بينها وبين الدولة السنية من ناحيةٍ والعقيدة الإسلامية من ناحيةٍ أخرى. ولم تنجح ثورات القرامطة وثورات الزنج في هزِّ أركان الدولة التجارية. كما لم تنجح الفرق الإسلامية المعارضة سواء العلنية مثل الخوارج أو السرية مثل الشيعة في صياغة فكر اجتماعي جماهيري يمكن للمسلمين تبنيه. واقتصرَت على إقامة جماعاتٍ اشتراكيةٍ منعزلةٍ على أطراف المدن وفي الفيافي، لم يكن لها أيُّ أثرٍ على عامة الناس، وكان من السهل على السلطة الدينية والسياسية إدانتها وتصفيتها، بعد اتهامها بالخروج وبمحاربة الله ورسوله! وفي العقائد الأشعرية الموروثة لا نجد عقيدةً اجتماعية، وأقصى ما نجده هو موضوع الإمامة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يركِّز على الجانب السياسي وبوجهٍ خاصٍّ على صفات الحاكم وتنصيبه. وفي الفلسفة لم نرث عقيدةً اجتماعية وأقصى ما لدينا في «الشفاء» هو حديثٌ عن الأسرة والأحوال الشخصية، أو عن المجتمع وضرورة النبوة فيه، ثم التركيز على النبوة وصفات النبي مثل التركيز على صفات الحاكم وترك النظام الاجتماعي كله. كما نجد عند الفارابي حديثًا عن «المدينة الفاضلة» التي تقوم على التفاوت الطبقي طبقًا لمراتب الكون، وطبقًا للقدرات الفردية، يكون المفكرون فيها أعلى من العمال والفلاحين والصيادين؛ وذلك لأن الفضائل النظرية أفضل من الفضائل العملية. فإذا ما ثار العمال والفلاحون أو خرج أيُّ جزءٍ من المدينة على هذا النظام الأبدي، يجب بتره ولفظه خارج المدينة. وفي أصول الفقه ظهر البعد الاجتماعي في العبادات والمعاملات وكأنها علاقاتٌ بين أفرادٍ دون ظهور لمفهوم الجماهير، أو حقوق الأمة. وإن حضرت الأمة فهم أهل الحل والعقد، الخاصة، ومهمتهم معرفية خالصة في الاستدلال على الأحكام، وليست مهمة عملية في قيادة الجماهير. أما التصوُّف فاقتصرت الجماعة فيه على علاقة الشيخ بالمريد، علاقة بين فردَين، أو على الصحبة والسفر والسماع داخل الطريقة التي يترأس فيها الشيخ على جميع المريدين، والتي يدين فيها المريدون للشيخ بالطاعة والولاء المطلق، دون اعتراضٍ أو حتى سؤال.
وقد تركنا مواطن القوة في تراثنا القديم، وفي كتابنا الذي يمد وعينا القومي بقوالبه الذهنية وبمكوناته النفسية؛ فالملكية في الإسلام لله، وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وما بين يدَي الإنسان وديعة عنده، له منها حق التصرف والاستثمار والانتفاع ولكن ليس له حق الاستغلال أو الاكتناز أو الاحتكار. وللدولة الإسلامية حق التأميم والمصادرة طبقًا للصالح العام، ووسائل الإنتاج العامة لا تكون مطلقًا ملكية خاصة مثل الزراعة (الماء والكلأ) والصناعة (النار). ويحرم الإسلام اكتناز المال ودورانه بين يدَي الأغنياء «كي لا يكون المال دُولة بين الأغنياء منكم»، كما جعل للفقراء حقًّا في أموال الأغنياء فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، كما جعل المجتمع الإسلامي مجتمعًا لا طبقيًّا طبقًا للحديثَين «أيما أهل عرصة فيهم إنسانٌ جائع تبرأ ذمة الله منه» أو «وأنا شهيدٌ على أن عباد الله إخوانًا».
ولكننا حتى الآن ما زلنا نرث الدولة السنية التجارية القائمة على النشاط الاقتصادي الحر، وما زلنا نتحرَّج من الملكية العامة، ونؤكد الملكية الخاصة، ونرفع أيدي الدولة عن التوجيه الاقتصادي، ونريد تصفية القطاع العام، ونتهم كل من يحاول إقامة المجتمع اللاطبقي، أو يحاول تذويب الفوارق بين الطبقات بأنه شيوعيٌّ ملحد: ولا عجب أن كان مصير ثوراتنا الاشتراكية الأخيرة أبشع أنواع الردة، فقد ظلَّت الاشتراكية على مدى ربع قرنٍ على هامش وَعْينا القومي، في حين ظل جوهره في النشاط الاقتصادي الحر الذي ازداد قوة ليس فقط بما ورثناه من الدولة السنية التجارية، ولكن بالتوحيد بينه والعقيدة الدينية إثر ما يروجه الغرب، وما زلنا خاضعين لسلطانه، من اتفاق الرأسمالية مع الدين وعداء الاشتراكية له، وطالما ظل وعينا القومي يسقط الجماعة من حسابه لحساب الفرد، فإننا نظل دون مرحلة التنوير.
(٦) التاريخ
وقد حاولنا في فكرنا الحديث إدخال هذا البعد في وعينا المعاصر، فدعا الأفغاني إلى الأخذ بمظاهر الرقي، القوة والعلم، وبيَّن محمد عبده في «الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية» الصلة الوثيقة بين الإسلام والتقدم، والنصرانية والتأخر. كما حاول مفكرونا العلمانيون أيضًا الحديث عن فلسفات التقدم وبيان أسباب التأخر، ودعوا جميعًا إلى الأخذ بمظاهر المدنية الحديثة حتى تتقدم مجتمعاتنا، كما بيَّن مفكرونا الاجتماعيون ابتداءً من الطهطاوي أصول التقدم في المجتمعات الحديثة، ضاربين المثل بدولة محمد علي وكيفية تأسيس الدولة الحديثة، ولكن ظل مفهوم التقدم غائبًا عن وعينا القومي، وظل يقوم على «قانون القهقرى» أي أن التقدم يتم إلى الوراء، بالرجوع إلى عصرٍ مضى يكون فيه عالمنا، وأن السلف خيرٌ من الخلف، وأن الأولين لم يتركوا للآخرين شيئًا، وأن التاريخ يسير في خطٍّ منحدر إلى يوم الدين، طبقًا للحديث المشهور «خير القرون قرني …».
وقد يرجع السبب في ذلك إلى أن تراثنا القديم لم يُعطنا مفهومًا واضحًا عن التاريخ باعتباره تقدمًا، بالرغم من كثرة المؤرخين؛ فقد أخرج علماء أصول الدين التاريخ من حيث هو تقدم من بناء العقائد الإسلامية؛ نظرًا لسلطوية التصور الذي عبَّروا عنه باستثناء موضوع النبوة؛ حيث يتم فيه ارتقاء، ولكن من الماضي إلى الماضي حيث تتوقف النبوة وتكتمل في آخر الأنبياء، وموضوع المعاد حيث يتقدَّم الإنسان من الموت إلى البعث؛ أي إنه تقدُّم من المستقبل إلى المستقبل، من الدنيا إلى الآخرة، ومن الأرض إلى السماء، ولكن الحاضر نفسه لا تقدُّم فيه باستثناء التوبة عن الذنوب، وفي الفلسفة غاب مفهوم التقدم كليةً إلا من ارتقاء في مظاهر الطبيعة، سواء بين العناصر الأربعة أو بين النبات والحيوان والإنسان، أو في مراتب العقل من الهيولاني إلى المستفاد إلى العقل بالفعل، ولكنه ارتقاء ساكن يقوم على المراتب السفلى والعليا، والانتقال الآلي من مرتبةٍ إلى أخرى دون حركة فعلية وارتقاء حيوي. وفي التصوف يرتقي الصوفي من حالٍ إلى حال ومن مقامٍ إلى مقام، ولكنه ارتقاء إلى أعلى وليس إلى الأمام حتى يصل إلى الغاية القصوى وهو الفناء؛ فهو ارتقاء وجداني داخلي متعرِّج وليس ارتقاءً تاريخيًّا اجتماعيًّا مستقيمًا. صحيحٌ أن النبوة ترتقي وأن الله يتجلَّى من الماضي إلى الحاضر، ولكن يحدث ذلك في نفس الصوفي ويفعل خياله، ولا يحدث بالفعل في العالم من الحاضر إلى المستقبل. وفي أصول الفقه ظهر نوعٌ من التقدم في مصادر الشرع الأربعة، من القرآن إلى السنة إلى الإجماع إلى القياس، ولكنه تقدم في التشريع والاجتهاد والاستدلال، وتكيف للنصوص، وإعادة تفسيرها؛ بحيث تتفق مع الواقع وليس تقدمًا بفعل الشعوب وبحركة التاريخ وبتطوُّر المجتمعات. كما ظهر في علم الحديث انتقال الخبر من جيلٍ إلى جيل، ولكن ذلك لا يتجاوز تقدم الرواية في الزمان والحفاظ على المتن واحدًا عبر العصور، دون زيادة أو نقصان؛ فهو تقدم الثابت من خلال الزمان أي تقدم نقلة وليس تقدم حركة وتغير. كما حاول مؤرخونا وصف التاريخ باعتباره طبقاتٍ أو أجيالًا، الواحد تلو الآخر، ولكن ذلك تقدم بمعنى ثورات الخلف من السلف، ومحصور في طبقة الصفوة، علماء كانوا أو فقهاء، وزراء كانوا أم أمراء. بل إن ابن خلدون عندما حاول في وصف تقدم المجتمعات انتهى إلى التصور الدائري، وكأن المجتمعات لا ترقى إلا لكي تنهار، وأعطى لذلك عمر أربعة أجيال، فالتقدم لا يستمر ولا يتراكم بل ينتهي ويبدأ من جديد.
إن وعينا القومي حتى الآن، بالرغم من إمكاناتنا المادية وحديث العالم كله الآن عن مستقبل هذه الأمة بعد انتصار الثورة الإيرانية، وبعد عظم ثرواتنا وإمكانات تأثيرنا على مقدَّرات الشعوب في الشرق والغرب على السواء، حتى الآن لم يجعل التقدم نسيجه، ولم يدرك التاريخ على أنه مراحل، وأنه ليس إلا مرحلة من مراحل تطور سابق وتطور لاحق. لقد استطاع وعينا الحضاري تكوين مرحلة بأكملها، عصرنا الذهبي القديم في حضارتنا القديمة التي بدأت واكتملت وانتهت على مدى سبعة قرون، ثم تلتها سبعة أخرى، منها خمسة نشرح فيها ونلخص، ونبقي على التراث، ونحافظ عليه إن لم نستطع أن نزيد عليه أو نخلق مثله، ثم بدأنا في القرنَين الماضيَين فقط النهضة من جديد، نحاول إيقاف خط الانهيار وبداية خط الارتفاع، وقد تكون أمامنا خمسة قرون أخرى حتى تكتمل لنا دورة حضارية جديدة، طالما أن الشيوخ ما زالوا يرون الشبان أعداءهم، طالما أن القدماء هم الذين لهم الحظوة والسطوة في مجتمعاتنا، وطالما أن المحدثين متهمون مدانون، شيوعيون، ملحدون، خائنون! وطالما أننا نصف الله بأنه قديمٌ وليس جديدًا، وطالما أن أمثالنا العامية وشواهدنا تفضل القديم على الجديد مثل الجبن القديم «اللي فات قديمه تاه»، فإننا نوقف تقدمنا بأيدينا، نرى أن السكون أفضل من الحركة، والثبات أفضل من التغير.
لن نُدرك التقدم أو يصبح نسيجًا في وعينا القومي إلا إذا حولنا بؤرة حضارتنا من الإلهيات إلى الإنسانيات، وإلا إذا غيَّرنا علاقات الأطراف من الأعلى والأسفل إلى الأمام والخلف، أي إلا إذا انتقلنا من الرأسي إلى الأفقي، وإلا إذا تركنا الخلود وعشنا في الزمان؛ فالخلود لا يعطى سلفًا بل يأتي نتيجةً للعمل في الزمان، الخلود أمامنا وليس وراءنا، الخلود إمكانية وليس وجوبًا.
نحن إذن ما زلنا دون التنوير، ولكن التنوير أمامنا، مرحلة يمكن الوصول إليها، وهنا يكمن دور فلاسفة التنوير وإمكانية تحريك الشعوب حتى تندلع الثورة، وتبقى بفعل الأجيال القادمة بعد أن نكون قد مهدنا لها الطريق.