من التراث إلى التحرُّر١
نظمت الجمعية الفلسفية المغربية بالاشتراك مع الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية؛ مائدةً مستديرة في الفترة ما بين ٢–٨ إبريل الماضي بمدينتَي الرباط وفاس بالمغرب حول موضوعَين؛ الأول «النقد الذاتي للفلاسفة» حيث يقوم بعض الفلاسفة بعرض فكرهم عرضًا نقديًّا أمام عددٍ آخر من الفلاسفة لتحديد مسارهم الفكري وتطورهم العقلي، كنوعٍ من الاعتراف أمام النفس بحضور الآخرين لتحديد قدر الفيلسوف، والثاني «التراث والتحرر» لتحديد الصلة بين القديم والجديد أو بين الماضي والحاضر، أو بالتعبير الشائع بين الأصالة والمعاصرة.
والحقيقة أنه لا رابط بين الموضوعَين؛ فقد اختار الاتحاد الدولي الموضوع الأول لأنه يُصدر كل عام مجلدًا على عديدٍ من الفلاسفة، وقد صدر حتى الآن أربعة مجلداتٍ لم يحتوِ أيٌّ منها على مفكرٍ عربي واحد من بين سبعة مفكرين أوروبيين على الأقل في كل مجلد. في حين اختارت الجمعية الفلسفية المغربية الموضوع الثاني بالاشتراك مع الاتحاد الدولي، وهو موضوع يهم العالم العربي والعالم الثالث بوجهٍ عام. تبدو النزعة الفردية على الموضوع الأول، وتغلب النزعة الاجتماعية والحضارية والتاريخية على الموضوع الثاني، وهو ما يميز بالفعل المجتمعات المتقدمة عن المجتمعات النامية، وسوف نركِّز على الموضوع الثاني، الذي يشكِّل إحدى القضايا الحيوية التي تهمُّ العقل العربي.
لم يقدم منذ البداية تحديد دقيق لمعنى «التراث»، فبينما ظنه البعض هو التقاليد والعادات والسلوك لمجتمعٍ معين أي المعنى الاجتماعي الخالص، ظنه البعض الآخر، ومنهم كاتب هذا المقال، التراث المكتوب أي الأعمال الأدبية (بالمعنى الواسع) التي تركها السلف في الفلسفة والتصوف وأصول الدين والفقه، وهي العلوم العقلية النقلية، أو في علوم القرآن والحديث والفقه والتفسير وهي العلوم النقلية الخالصة، أو في علوم الرياضة والطبيعة والفلك والجغرافيا والتاريخ وهي العلوم العقلية الخالصة، وقد ظنه فريقٌ ثالث التراث الشفاهي غير المكتوب والمجهول المصدر؛ مثل الأمثال العامية والقصص والأساطير والملاحم الشعبية التي ما زلنا نرددها، والتي ما زلنا نستشهد بها، والتي تمدُّنا بالقيم وأنماط السلوك، وظل هذا اللبس قائمًا طيلة المؤتمر حتى استحال أحيانًا الحوار بين المفكرين، بالرغم من وجود بحثٍ أوليٍّ عن معنى التراث (التقاليد).
وقد ظهرت في الندوة عدة اتجاهات في معالجة هذا الموضوع نلخصها في أربعة؛ الأول: الاتجاه النظري الخالص الذي يتناول الموضوع من الناحية النظرية خاصة في العلوم الإنسانية. الثاني: الاتجاه التراثي سواء عند المفكرين الأوروبيين أو العرب المسلمين الذي يغلب جوانب الإيمان. الثالث: الاتجاه الماركسي سواء كان إنسانيًّا أم عقلانيًّا عند بعض المفكرين من المجموعتَين الأوروبية والعربية. والرابع: الاتجاه التحرري الذي يمثله كاتب هذا المقال مع بعض المفكرين العرب.
(١) الاتجاه النظري
وقد حاول الأستاذ موتسوبولوس في بحثه عن «الجهل والأحكام المسبقة» بيان عدم معرفة الناس بمعنى التراث أو التقاليد، وتحيزهم ضدها أو معها، ولكن ظل الحديث نظريًّا خالصًا دون ضرب أمثلة من مجتمعاتٍ بعينها.
(٢) الاتجاه التراثي
وهو الاتجاه التقليدي الذي دعا إلى التراث القديم والمحافظة على التقاليد الإيمانية للمجتمعات في المراحل الأولى من تطوُّرها. وقد مثَّل هذا الاتجاه الأستاذ مرسييه رئيس الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية وأستاذ الطبيعة والميتافيزيقا في آنٍ واحد، وذلك في بحثه «هل يؤدي التحرر إلى فَقْد الإحساس بالمقدس؟» وكانت إجابته بالنفي، وأن التحرُّر لا يؤدي إلى ضياع الشعور بالمقدس. وقد اعتمد في تحليلاته على الطبيعة والوجود مستعملًا ثقافته العلمية؛ من أجل تحقيق أهدافه الميتافيزيقية وعلى رأسها الدفاع عن الدين وإبراز مقولة المقدس في شعور الإنسان؛ فالإنسان يتحدد بالتعالي أو المفارقة على ما يقول المثاليون في تحديدهم مسار الوعي من الخارج إلى الداخل، ثم من الداخل إلى المتعالي.
وقد هاجمه العديد من المفكرين العرب من أن هذه النظرة قد يحتاجها الغرب بعد أن سئم من عقلانيته وعلميته وعلمانيته وتقدمه، ولكن بالنسبة لنا في المجتمعات الناهضة، فإن التحرُّر لا بد وأن يقضي على كل المحرمات التي تكمن في وعينا باعتبارها مقدساتٍ و«تابوه» لا يجوز لمسه أو تناوله أو الاقتراب منه، مع أننا نفكر فيها ليل نهار، بل ولا نفكر إلا فيها وهي ثلاث: الله والسلطة والجنس. وكلما زدناها تحريمًا وتقديسًا، زاد إحساسنا بها وتركيز وعينا عليها، وقد نشأت هذه المقدسات في وعينا لأننا حرمنا منها، حرمنا من التفكير الحر في الدين، وحرمنا من ممارسة السلطة وممارسة الديمقراطية، وحرمنا من الجنس والحب كسلوكٍ طبيعي للإنسان، ولم نتصوَّره إلا في زوجةٍ أو في مومس، وأنكرناه كحقٍّ طبيعي؛ فالمقدس لا يعني فقط المحرم أو التابوه في مقابل الدنيوي بل قد يعني العالم كله؛ فالأرض المحتلة مقدسة، والفقراء الجياع مقدسون، وثروات المسلمين التي تنهبها القلة المقدسة، فالمقدس لا يعني الآخرة بل قد يعني الدنيا أيضًا. فإذا كان الغرب قد شبع من الدنيا واتجه إلى الآخرة عن صدقٍ أو نفاق، فإن مجتمعاتنا النامية ما زالت تتحسَّس طريقها إلى الدنيا، وتحاول التحرُّر من تجميد المقدس في صورة كتاب أو مكان أو زمان أو شيء، حتى نثق في العالم وننشط فيه.
وقد سار في هذا الاتجاه كل الفلاسفة الأوروبيين بلا استثناء، ليبراليين أو ماركسيين، مما يدل على أن البناء الحضاري للوعي يجب الانتماء المذهبي له؛ فقد قدمت الأستاذة باران فيال بحثًا عن «حقوق المستنيرين وواجباتهم» مبينة أن نمط المستنير هو المؤمن الذي يحب الآخرين، وليس المفكر الحر الذي قامت على أكتافه الثورة الفرنسية، والذي غالى في العقل فأنكر الإيمان، وتطرف في إثبات الطبيعة، ونسي ما بعد الطبيعة، وآمَنَ بالحرية والفردية والمسئولية والمواطنة، ورفض الإرادة الإلهية المطلقة ومدنية السماء، وقد أفاضت في الشرح والتطويل والاقتباس والاستشهاد، حتى ملَّ الجميع فكانت في وادٍ والوعي العربي كله في وادٍ آخر.
وقد شارك في هذا الاتجاه الأستاذ محجوب بن ميلاد من جامعة تونس على نحوٍ نسبي في بحثه «الإسلامي وحرية الفكر»، فبالرغم من أنه أشاد بإعلاء الإسلام من شأن حرية الفكر وطلب النظر العقلي والبحث عن البرهان، إلا أنه اعتبر الغزالي نموذج هذا الفكر الحر الذي يكون فيه العقل مدركًا لحدوده؛ ليفسح المجال لملكةٍ أخرى غير العقل وهي البصيرة أو الإيمان. وقد اقتبس كثيرًا من نصوص الغزالي من «المنقذ من الضلال» ليبين حدود العقل لإثبات قيمة حرية الفكر في الإسلام!
(٣) الاتجاه الماركسي
وقد مثَّل هذا الاتجاه الأستاذ مركوفتش أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة بلجراد بيوغوسلافيا على نحوٍ ليبرالي، والدكتور مراد وهبة أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس على نحوٍ عقلاني؛ فقد قدَّم الأستاذ مركوفتش بحثًا بعنوان «أنماط التحرُّر المعاصر ونظرياته» عارضًا نوعًا من ماركسيات القرن العشرين، وهو الماركسية الليبرالية التي تجعل من الماركسية هدفًا ومن الليبرالية وسيلةً، كما هو الحال عند سدني هوك في أمريكا، أو عبد الله العروي في المغرب، ومثل باقي ماركسيات القرن العشرين مثل الماركسية الوجودية عند سارتر، والماركسية البنائية عند التوسر، والماركسية البرجسونية عند جارودي، والماركسية الهيجلية عند كوجيف. وقد بدت الماركسية الليبرالية عند مركوفتش وكأنها نموذج مطلق للتحرر لكل المجتمعات الاشتراكية والرأسمالية ومجتمعات العالم الثالث؛ فالمجتمعات الاشتراكية تنقصها النزعة الإنسانية التحررية الفردية، فتضحي بالحرية الفردية من أجل العدالة الاجتماعية، والمجتمعات الرأسمالية تنقصها النزعة الاشتراكية؛ لأنها تضحي بالعدالة الاجتماعية في سبيل الحرية الفردية، وأنظمة العالم الثالث ضحَّت بالاشتراكية والحرية معًا، فلا هي أقامت عدالة اجتماعية فوزعت الدخل القومي على الطبقات الكادحة، ولا هي حرصت على حرية الفرد وحقه في التعبير. ولم يحاول الأستاذ مركوفتش مواجهة الاعتراضات ضده بأن هذا النوع من الماركسية الليبرالية هو ماركسية الطبقة المتوسطة أو تحريفية للماركسية العلمية؛ وذلك لأن مطلب الحرية ليس مطلب طبقة بعينها، وإن كان المثقفون في كل مجتمعٍ هم الحريصين على التمسك به. والغريب أن تأتي هذه المحاولة من خلال التجربة اليوغسلافية التي تقوم على استقلال الإرادة الوطنية والتمسك بحرية القرار الوطني بالنسبة للمعسكر الاشتراكي. أراد الأستاذ مركوفتش مضاعفة الحرية، حتى أصبحت الماركسية لديه مجرد نزعة إنسانية تحررية اشتراكية، يكاد يتفق على أهميتها كل المفكرين.
أما الدكتور مراد وهبة فإنه قدَّم بحثًا بعنوان «العقل والثورة»، جاعلًا العقل أساسًا للثورة والنظرة العقلانية شرط التحرر؛ فالعقل وحده هو القادر على إدراك العلاقات ليس فقط بين الوقائع المادية بل أيضًا بين الظواهر الاجتماعية. فإذا ما حدث هذا الإدراك وقعت الثورة، وقد وجهت إليه عدة اعتراضات منها أنه وقع أسير النظرة الهيجلية التي يبتلع فيها العقل كل شيء؛ وبالتالي فهو يدعو إلى ماركسيةٍ هيجلية تقوم على إحداث الثورة عن طريق العقل. والحقيقة أن العقل بمفرده لا يُحدث ثورة بل يتحول العقل إلى وعيٍ ثوري، وهو وعي بالطبقة حتى يكون العقل إدراكًا اجتماعيًّا وحركة في التاريخ. هذا بالإضافة إلى أن النظم الليبرالية قد قامت على أسسٍ عقلية في تنظيم العمل وتعقيل الواقع، على ما وصف ماكس فيبر، صحيحٌ أن ماركوز تحدَّث عن العقل، باعتباره ثورةً في مقابل ما تطالب به الوضعية التي تعني مجرد التسليم بالأمر الواقع، ولكن هذا العقل هو وعي الطبقة أو الوعي الاجتماعي المهدد بالاغتراب والتشيؤ. وقد يكون المقصود من الربط بين العقل والثورة هو تكييف الثورة طبقًا للمجتمعات النامية، التي ما زالت تُدرك بالحدس والإلهام، حتى يكون هناك ضمانٌ لاستمرارية الثورة وعدم نكوصها.
(٤) الاتجاه التحرري
وهو الاتجاه الذي حاول الربط بين التراث والتحرر، مبينًا كيفية انتقال مجتمع معين، خاصة المجتمع العربي، من التراث إلى التحرُّر بالمقارنة مع مجتمعاتٍ أخرى مرَّت بلحظاتٍ مشابهة؛ فالاتجاه التراثي سكون وتضحية بالتحرر في سبيل التراث، والاتجاه الماركسي رغبة في التقدم دون تحقيق شرطه وهو الاستمرارية والتواصل في التاريخ. وقد مثَّل هذا الاتجاهَ كاتبُ هذا المقال في بحثه «نحن والتنوير»؛ فالتنوير هو هذا الانتقال من التراث إلى التحرر، أو من الماضي إلى الحاضر، أو من القديم إلى الجديد. حدث ذلك في نهضتنا الفكرية في القرن الماضي والذي أطلق عليه بعض الباحثين وصف العصر الليبرالي أو عصر الإحياء، والذي يشمل الحركات الإصلاحية، والتيارات العقلانية العلمية الغربية، والفكر الاجتماعي السياسي حول الأمة والقومية والوطنية والدستور والحرية والديمقراطية. وقد حدث ذلك أيضًا في بدايات النهضة الإسلامية، عندما حمل المعتزلة الأوائل لواء الفكر الحر، وكانوا أول المدافعين عن الأصالة والمتمثلين للمعاصرة، حتى أتَت المحنة في القرن الثالث الهجري، كما حدث ذلك في الوعي الأوروبي في القرن الثامن عشر في فلسفة التنوير، التي ورثت الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، والنهضة في السادس عشر، والعقلانية في السابع عشر، خاصة وأن مفكرينا في القرن الماضي مثل رفاعة الطهطاوي قد تتلمذوا على مفكري الثورة الفرنسية وهم الفلاسفة الأحرار، وتمثَّلوا أفكار الحرية والديمقراطية والدستور والوطن؛ فالوعي العربي الآن بالرغم من انتكاساته الحالية وكبواته وعثراته ينتقل من التراث إلى التحرر.
ويقوم التنوير على عدة مفاهيم هي في الحقيقة أبنية نظرية، أو قوالب ذهنية تحدد تصوراتنا للعالم وتوجه سلوكنا، سواء كنا خاصة أم عامة، ويمكن تلخيص هذه المفاهيم في ستة: العقل، والحرية، والطبيعة، والإنسان، والمجتمع، والتاريخ.
فإذا كان العقل قد ظهر في كل فلسفة تنوير عقلًا مرتبطًا بالحس وبالتجارب والمشاهدات، كما هو الحال عند لوك وهوبز وهيوم، أو عند علماء أصول الدين الأوائل، وإذا كان العقل أيضًا عقلًا بديهيًّا استدلاليًّا قادرًا على استنباط النتائج من المقدمات، كما هو الحال عند ديكارت وعند المعتزلة الأوائل، عندما جعلوا النظر أول الواجبات وعندما جعل أبو الهذيل الشك سابقًا على النظر، فإن العقل في وعينا المعاصر لم يرتبط بالحس بل غاب عنه الواقع المباشر، كما أنه لم يقُم بوظيفة الاستدلال حيث تتسق المقدمات مع النتائج، ولكنه ظل عقلًا صوريًّا يعمل في لا مادة تعبيرًا عن عجزه عن تناول الواقع تخوفًا وإيثارًا للسلامة، أو عقلًا وجدانيًّا ينقلب فيه العقل إلى ضده، فيعتمد على الإلهام الباطني والعلم اللدني.
وإذا كانت الحرية قد ظهرت في التنوير الغربي على أنها مطلب أساسي، وتعني أساسًا حرية الفكر قبل حرية العمل، وإذا كان مفكرونا من المعتزلة الأوائل قد مارسوا حرية الفكر، وجعلوها شرطًا للمسئولية، فإننا في هذا الجيل انشغلنا في نيل استقلالنا الوطني والدفاع عن حرياتنا السياسية ضد المستعمر الأجنبي، ونسينا حرية الفكر باعتبارها شرط التحديث وضمان استمرار التقدم، فقام «الضبَّاط الأحرار» في جيلنا بمهمة المفكرين الأحرار، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من إنكار حق التفكير على الآخرين، ومن غياب للحوار والآراء المعارضة، ومن سيادة الرأي الواحد والحل الواحد. وفي الممارسة سادت النظرية الأشعرية التي جعلت فعل الإنسان مشروطًا بتدخل الإرادة الإلهية ينتظر منها العون والتوفيق، أو الضلال والخذلان.
ولما كان الإنسان في كل تنويرٍ هو نقطة البداية؛ فالعقل عقل الإنسان، والحرية حرية الإنسان، فإن الإنسان في وعينا المعاصر لم يتضح بعدُ كمقولةٍ مستقلة؛ ولذلك لم تقم أنظمتنا المعاصرة على احترام الإنسان عقلًا وإرادة. وقد ورثنا من تراثنا القديم هذا الغياب، فوصفنا الله في علم أصول الدين على أنه إنسانٌ كامل، فإلهنا صورة مكبرة لأنفسنا، وجعلنا الإنسان طريقًا إلى الفناء في الله في علوم التصوف، وأنكرنا الذاتية الإنسانية التي حاول إقبال إعادة إثباتها، وجعلنا الإنسان في علوم الحكمة محاصرًا بين الطبيعيات والإلهيات، فهو إما بدن أو نفس ولكنه ليس عالمًا مستقلًّا بذاته يعيش في العالم، وتصورنا الإنسان على أنه منفذ للأحكام في الفقه، وكأن الإنسان قد خُلق من أجل الشريعة وليست الشريعة من أجل الإنسان.
وإذا كان التنوير في كل مجتمعٍ يضع الإنسان في علاقةٍ مع الآخرين، ويؤسس نظامًا اجتماعيًّا يقوم على العدل والمساواة، بل ويفجر الثورات من أجل ذلك كما حدث في الثورة الفرنسية، فإن نظمنا الاجتماعية، بالرغم من الثورات العربية الأخيرة، ما زالت تقوم على رعاية مصالح الأقلية على حساب مصالح الأغلبية، لدينا مشكلة الغنى والفقر، والفيضان والقحط، فائض الأموال ونقص الأموال. ولم تنجح ثوراتنا الاجتماعية القديمة مثل ثورات القرامطة والزنج في هز المجتمعات التقليدية، التي قامت على النشاط التجاري والاقتصادي الحر، كما لم تنجح الفرق الثورية، مثل الخوارج، في تأصيل فكرٍ اجتماعي يؤثِّر في وعي الأمة، ويكون رصيدًا لثوراتها الاجتماعية الأخيرة.
ولما كان كل تنويرٍ هو تنظير للتقدم وتحويل العناية الإلهية إلى قانونٍ لتقدم المجتمعات وحركة التاريخ، كما حدث عند هردر وكانط ولسنج في ألمانيا، فإن وعينا المعاصر لم يكتشف البعد التاريخي بعد، ولم ندرك حتى الآن في أي مرحلةٍ من التاريخ نحن نعيش. لقد كانت حضارتنا القديمة تعيش في الخلود، وتعتبر الزمان وهمًا ونقصًا وعرَضًا زائلًا، كما هو الحال في علوم العقائد والحكمة والتصوف. لقد كان التاريخ لدينا روايةً ونقلًا على ما هو معروفٌ في علم الحديث، أو طبقات وأجيال ومشاهير الرجال في الحياة العامة، أو في فروع العلوم المختلفة، أو تاريخ بنوة منذ خلق آدم عليه السلام حتى آخر الأنبياء. بل إن ابن خلدون فيلسوفنا للتاريخ تصور التقدم على أنه انهيار، وأن المجتمع لا ينهض إلا لكي يكبو ويعود على بدء، وأن التاريخ يمر بحركةٍ دائرية تتمُّ في أربعة أجيال. وما زال يغلب على أتقيائنا تصور التاريخ على أنه انحطاط مستمر؛ وبالتالي فلا يحدث تقدم إلى الأمام إلا بالرجوع إلى الخلف؛ ومن ثَم غاب إحساسنا بالمستقبل ورأينا عصرنا الذهبي وراءنا، وأصبح السلف خيرًا من الخلف، وقد حدثت اعتراضات عدة من المفكرين والباحثين العرب، تتركَّز كلها حول بيان حدود التنوير القديم، أو رفض التنوير بأكمله لإفساح المجال للأشعرية المستمرة، أو ضرورة بيان كيفية تحقيق التنوير، وتحويله إلى ثورةٍ اجتماعية، وعلى يد مَن يحدث هذا التحول.
ولقد انتهت الدائرة المستديرة في آخر يومٍ لها بحوارٍ عامٍّ بين جميع المشتركين؛ أوروبيين وعرب عن «التراث والتقدم»، وقد ظهر أن المجموعتَين تعيشان في عالمَين مختلفَين، وهذا طبيعي، فبالرغم من أننا متزامنان إلا أننا لا نعيش نفس العصر؛ فقد ورثت الحضارة الأوروبية حوالي ستة قرون من التطور ابتداءً من الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر حتى أزمة القرن العشرين، أما نحن فإننا ما زلنا في نهاية عصرٍ وسيط وبداية عصورٍ حديثة، بدأنا في القرن الماضي بالإصلاح الديني وعصر الإحياء، وببدايات التفتح على الحضارة الغربية وبدايات التفكير في الأمة والقومية والوطنية؛ فالمسافة بيننا تقارب خمسة قرون تقل أو تزيد.
لذلك لا يوجد نمط واحد للتحديث، وطريق واحد للانتقال من التراث أو التقاليد إلى التحرر، ولكن الأمر يتوقَّف على اللحظة التاريخية التي يمرُّ بها أي مجتمعٍ أو كل حضارة، بل يمكن أن يقال إن هناك بناءً للتحديث يوصف على النحو الآتي: إذا كان التراث في حضارةٍ ما مركزًا حول الله، فإن تحديثه يكون بالانتقال إلى مركزٍ آخر هو الإنسان؛ أما إذا كان مركزًا حول الإنسان فإن التحرُّر منه يكون بالعودة إلى المركز الأول وهو الله، وإذا كان التراث مركزًا حول الخلود فإن تحديثه يكون بنقل المركز إلى الزمان، أما إذا كان مركزًا حول الزمان فإن تحديثه يكون بالانتقال إلى الخلود، وإذا كان الزمان في تراثٍ ما دائريًّا فإن تحديثه يكون بتحويله إلى الزمان كتقدم، أما إذا كان التراث يحتوي على تصور الزمان الخطي، فإن تحديثه يكون بالعودة إلى التصور الدائري. وإذا كان تراث ما يركز على الديني، فإن تحديثه يكون بتحويل بؤرة اهتمامه إلى الدنيوي، أما إذا كان هناك تراثٌ آخر يركز على الدنيوي، فإن تحديثه يكون بتحويل اهتمامه إلى الديني. وهكذا يستمر البناء من الإلهام إلى العقل في تراث، أو من العقل إلى الإلهام في تراثٍ آخر، من الإرادة الإلهية إلى الحرية الإنسانية، أو من الحرية الإنسانية إلى الإرادة الإلهية، من الإيمان إلى العمل أو من العمل إلى الإيمان.
وقد يكون النمط الأول هو طريق تحديث مجتمعاتنا الإسلامية، وقد يكون النمط الثاني هو طريق تحديث المجتمعات الأوروبية. فبالرغم من أنهما متزامنان إلا أنهما ليسا متعاصرَين، ويبدو أن هذه الخاتمة هي التي أرضت جميع المؤتمرين في المجموعتَين العربية والأوروبية، فلم تعُد الأمور تصاغ بمفاهيم الصواب والخطأ أو الحسن أو القبيح أو الخير والشر، بل بمقياس اللحظة التاريخية التي يمر بها كل مجتمع، وكيفية انتقاله إلى لحظةٍ تاريخية أخرى.
وقد بذلَت الجمعية الفلسفية بالمغرب برئاسة المفكر العربي محمد عزيز الاحبابي كل جهودها لإنجاح المؤتمر، بالاشتراك مع جمعية «عنان» التي قامَت بكل التسهيلات والسهر على راحة المؤتمرين، وقدمت جامعتا الرباط وفاس كل إمكاناتهما للمؤتمر، كما ساهم في ذلك معظم الأساتذة في الجامعتَين وخاصة الشبان الجدد الذين يبشرون بخيرٍ كثيرٍ للأمة العربية، كما شارك الطلاب بأعدادٍ غفيرةٍ في الحضور. وقد تفضل المسئولون المغاربة بتقديم كل مظاهر الترحيب والكرم العربي والدعوات في القصور العربية، على أنغام الموشحات الأندلسية، وتخلَّل المؤتمر زيارات لمعالم المغرب ولمدنها الرئيسية، حتى ازداد يقيننا جميعًا بأن المغرب هي بحقٍّ بلد العروبة والإسلام، وبلد الطبيعة الخلابة والتاريخ العريق.