الضباط الأحرار أم المفكرون الأحرار١

ليست هذه محاولة لفتح ملفاتٍ قديمة، وإثارة أضغان أو بث أحقاد، فكلنا في الهم سواء، وكلنا مسئولون عما حدث لنا، كلنا متهمون وليس فينا الأبرياء. وليست تكرارًا لموضوعات ألفناها كلما مرت بنا أوقات النقد الذاتي، في حالات الصفاء ومراجعة النفس والحساب، والتي كانت تنتابنا إثر الهزائم المتلاحقة كنوعٍ من تطهير النفس، وتخليصها من الذنوب وكأنها جالسة على كرسي الاعتراف، ولكنها محاولة لإعطاء كشف حساب صغير لثوراتنا العربية الأخيرة على مدى ربع قرن من الزمان، بعد أن بدت لنا، بعجزها عن تناول القضايا الوطنية والاجتماعية وتجاوز الثورة الإيرانية العظمى لها، وكأنها في نزعها الأخير، بل إن البعض منها قد تحوَّل إلى ردةٍ ونكوص، فقبلت الصهيونية، وتراجعت عن الاشتراكية، وفتتت الوحدة. لقد تحول معظمها إلى عكس ما قامت لأجله، أعني الحرية والديمقراطية، حرية الفرد وديمقراطية الحكم. إن حساب النفس لأولى خطوات عقد العزم وتجديد النية. نرى البناء ينهار، ونعيش لحظةً وكأن مشروعنا القومي لمعاداة الاستعمار والرأسمالية، ومناهضة الرجعية والصهيونية، وإقامة أمة واحدة على أساسٍ من الحرية والاشتراكية والوحدة؛ كان وهمًا، وكأن نضال جيلنا وأجيال سبقتنا قد ضاع هباءً، وكأننا لم نترك للأجيال القادمة إلا الاستسلام. ولمَ لا، وقد فقدنا الحُسنيَين: الأرض والثورة! هي محاولة من أجل بعث الحياة في ثوراتنا العربية الراهنة، وتجديد شبابها، وتأصيل مسارها؛ فالثورات بين مدٍّ وجزر، وقد كانت ثوراتنا العربية حتى هزيمة حزيران في مد، ومنذ ذلك الوقت وهي في جزر، ولكن بوارق الأمل لم تنقطع؛ فقد انتصرت ثورة إيران، وأصبحت حافزًا لثوراتنا العربية لتجديد شبابها وإعادة صياغة مشروعها متلافية أخطاءها. وظهر الخميني كناصر جديد، إمام حر وضابط حر يُعيد صياغة مشروع الثورة العربية في معاداة الاستعمار والصهيونية والرأسمالية، وتأييد حركات التحرُّر في العالم الثالث، ومناهضة العنصرية، وإقامة عدالة اجتماعية ونظام ديمقراطي يقوم على جبهةٍ وطنية عريضة، متجاوزة التجربة الناصرية، فالتحمت بالشارع الإيراني والمثقفين، وأمَّها رجال الدين، وسقط الخالدون، وتهاوت الصناديد، وفر عملاء البوليس السياسي، وانضم الضباط الأحرار إلى الأئمة والمثقفين الأحرار.

وإننا نتساءل الآن بعد أن قام الضباط الأحرار بالثورات الوطنية الأولى، وبعد استقرار بعض النظريات في أذهاننا عن دور الجيوش الوطنية في البلاد النامية، وعن الجيش كأداةٍ للتحديث فيها: هل يمكن للضباط الأحرار إحداث ثورة جذرية في نفوس الناس، وأن تتحوَّل هذه الثورة إلى حركةٍ في التاريخ، وأن تصبح مرحلة فيه: إصلاحًا أو نهضة أو تغييرًا اجتماعيًّا أو ثورة، أم أنه لا يقوم بهذه المهمة إلا المفكرون الأحرار؟ لقد آن الأوان لطرح السؤال بعد أن أدى الضباط الأحرار دورهم في إشعال الثورات العربية، ثم خمود نيرانها على أيدينا وعلى أيدي بعض مَن قاموا بها. هل يمكن للمفكرين الأحرار أن يعيدوا للثورة لهيبها، وللنار جذوتها حتى تتأصَّل الثورة العربية المعاصرة، فتسري نارها في هشيم النظم التقليدية وبقايا التخلف؟

كان الضباط الأحرار، مثل غيرهم من طلائع الثوار، يمثِّلون قيادة الحركة الوطنية؛ فقد كانوا على اتصالٍ دائم بكافة القوى الوطنية من أجل إحداث تغيير شامل في البلاد، وقد أُتيحَ للضباط الأحرار وحدهم القيام بالثورة؛ نظرًا لأن الجيش كان هو القوة الوحيدة المنظمة والمسلحة بالفعل أكثر من أية قُوًى وطنية أخرى. كان الضباط الأحرار في الطليعة من حيث التنظيم، وربما ليس من حيث البرنامج الوطني الذي كان يتشابه في كثيرٍ من جوانبه مع برامج القوى الوطنية الأخرى. وقد بدءوا بتحقيق المبادئ العامة: القضاء على الملكية، تصفية الإقطاع، مقاومة الاستعمار، مناهضة الأحلاف، اكتشاف دور للثورة العربية في باندونج ثم مع دول عدم الانحياز، ثم القيام بالتأميم وتأسيس صناعات وطنية … إلخ، وكلها إنجازات ثورية رائعة، وهي أفضل ما نزهو به في تاريخنا الحديث.

ومع ذلك فقد كان الضباط الأحرار أولًا أهل عمل وليسوا أصحاب نظر؛ فقد عُرف عن الضابط أنه ينفذ أكثر مما يفكر، ويطيع أكثر مما يخطط، ويحقق أكثر مما ينظر. ولقد حدثت بالفعل إنجازات في كل المصالح في أول الثورة، وتم القضاء على البيروقراطية، واختصر الوقت، وأصبح في كل مصلحةٍ ضابط اتصال من شأنه الإنجاز السريع، وإحقاق الحق، فزاد دور رجال الثورة، والطليعة الثورية، والقيادة الوطنية. القانون في إجازة، والمؤسسات بلا عمل، والثورة تقضي على كل المعوقات. أصبح في كل مصلحةٍ أيضًا مكتب للشكاوى يتم تجميعها، وتحوَّلت الشكاوى إلى منفذٍ للغضب، ومطهر للمتاعب، ومخفف للهموم. ولما كان الدافع الحيوي بطبيعته يخف، والثورة بطبيعتها تتحول إلى دولة، والحرارة الأولى مسارها إلى البرودة؛ فقد عادت البيروقراطية القديمة، وتحول الضابط الحر إلى وزيرٍ أو مدير أو رئيس مصلحة، ولعب الدور القديم بمرور الأيام نظرًا لثبات البناء البيروقراطي في التصورات والنفوس.

ثم اصطدم الضباط الأحرار بالمثقفين ابتداءً من أزمة مارس/آذار ١٩٥٤م وحتى الآن، فأصبح الضباط الأحرار أهل عمل وتنفيذ، والمثقفون أهل نظر وكلام، ثم ظهر التعارض بين أهل الثقة وأهل الخبرة، وأُسندت معظم المناصب القيادية داخل البلاد وخارجها إلى أهل الثقة دون أهل الخبرة. وقد جعل ذلك أهل الخبرة ينزوون وينعزلون ثم يخافون أو يهاجرون، باستثناء البعض الذي جعل نفسه مُنظرًا للثورة، ومبررًا لقراراتها، محجمًا عن نقدها أو الوقوف أمام عثراتها، حتى طُبع الفكر الثوري في غالبيته بطابعٍ إعلامي يتغيَّر بين يومٍ وليلة طبقًا لقرارات السلطة السياسية وتبعًا لهواها. فنشأت فئةٌ من المحترفين من منظري الثورة ومبرِّري قراراتها، وُكِّلت إليهم أجهزة الثقافة والإعلام، وأصبح هؤلاء أقرب إلى مُضحكي الملك ومهرجي الأمير، يقدمون خدماتهم لكل الأنظمة، يتكاثرون ويتنافسون على المناصب القيادية، والتي يكون أجرها في الغالب أكثرَ مما يستحق عليها، إعمالًا في شراء الذمم، وهدمًا للضمائر، وكسرًا للعين، وأصبح عدم تناسب الأجر مع العمل على مستوى القيادات، أجرًا بلا عمل هو نفس الشيء على مستوى الطبقات الكادحة، عملًا بلا أجر، أصبح التطلُّع الطبقي سلوكًا عند الجميع واتجاهًا نفسيًّا عند جميع الطبقات.

كانت خريطة الفكر السائد إبان الثورات العربية كالآتي:
  • أولًا: الفكر التبريري الإعلامي الذي يتغيَّر بتغيُّر المواقف السياسية للسلطة، ولا يختلف في ذلك اليمين واليسار، العلماني والديني؛ فالكل قابعٌ في الدولة، يعرف ما يطلب منه سواء في أجهزة الإعلام أو في المؤسسات الدينية.
  • ثانيًا: الفكر اليساري المناهض للسلطة، والذي يتسم أيضًا بطابعٍ خطابي لاتصاله بالجماهير ومناداته لها، يحتوي على شعاراتٍ عامة تتشابه مع شعارات السلطة، إلا في بعض الألفاظ والمصطلحات، ويغيب عنه التأصيل التاريخي، فأصبح مجتذ الجذور يعبِّر عن الحاضر أكثر مما يعبر عن أصوله في التاريخ، ولا تفهمه إلا القلة المثقفة؛ وبالتالي أمكن بسهولة عزلهم وتحجيم أثرهم.
  • ثالثًا: الفكر الديني التقليدي الذي أدَّى غياب الممارسة فيه إلى تحجُّره وتصلُّبه، كما اتسم بطابع المجتمعات المتخلفة من حَرْفية التفسير، وتسلطية التصور، وتعصب المزاج. وقد استخدمته السلطة أحيانًا لضرب اليسار، ثم تنقلب السلطة عليه إذا ما مثَّل خطرًا عليها، وقد انعزل عن باقي القيادات ورفض الحوار معها حتى أصبحت شموليته فارغة من كل مضمونٍ وطني.

وهنا يبرز دور المفكرين الأحرار في خلق ثقافة وطنية واحدة، تقوم على نقد الواقع دون تبريره، وعلى نقد الموروث الديني دون تحجره، وعلى اكتشاف الواقع ذاته وتنظيره دونما حاجة إلى إسقاط نظريات ثورية جاهزة عليه. إن مهمة المفكرين الأحرار هي خلق وحدة الثقافة الوطنية وصياغة الحد الأدنى من الاتفاق الذي ترضى به كل القيادات الوطنية في البلاد؛ ومن ثَم يصبح العمل تعبيرًا عن النظر، والممارسة الثورية نتيجة للثقافة الثورية، فتتأصل الثورة في التاريخ وفي الوعي القومي.

ولم ينجح الضباط الأحرار في صياغة نظرية ثورية تتجاوز الشعارات العامة، التي أصبحت فيما بعد موضوعًا للتندر والسخرية لمدى تعارضها مع الواقع العربي. صحيحٌ أن هناك مواثيق الثورة التي تغلب عليها الخطابة السياسية، والمبادئ العامة التي تحتاج إلى تخصيصٍ كي يتم تطبيقها في الواقع العربي، وقد ظلَّت الخطابة السياسية سطحيةً دون أن تنفذ إلى شعور الجماهير، بالرغم من محاولات التوعية السياسية من خلال منظمات الشباب ومعسكرات العمل والمعاهد الاشتراكية، وأمانات الدعوة والفكر، والتي زادت في ترديد الشعارات، باستثناء القلة التي حولت أيديولوجيات الثورة العربية إلى رؤيةٍ ثورية لحاضر الوطن العربي ومستقبله، ظلَّت الخطابة السياسية على مستوى الأذن ولم تدخل في قلوب الناس، إلا على نحوٍ حماسي وقتي لبطولة القائد والزعيم الذي تتمثَّل فيه قيم الفتوة. لم تتغيَّر المعتقدات الموروثة، ولم تتحوَّل إلى أيديولوجياتٍ سياسية، ولم يحدث تطوير في ثقافات الشعب، ظلت مقدساته ومحرماته الثلاث: الله والسلطة والجنس لا يمكن الاقتراب منها أو مساسها، وظلَّت بمثابة «تابو» تنفذ منه كل محاولات الخداع والإيهام. بل إن الموروث، نظرًا لعدم تطوره الطبيعي، تقوقع على ذاته وتحول إلى تصوفٍ أو تطرف أو عدوانية، كما ظهر أخيرًا في الجماعات الدينية المتطرفة. ظل النقص النظري في ثوراتنا العربية حجر عثرةٍ أمام تطورها، بل إن غياب النظرية الثورية اعتبرَتْه ثوراتنا العربية أحد محامدها، وكأن التجربة الثورية وحدها كفيلةٌ بسد النقص النظري الثوري.

وهنا يبرز دور المفكرين الأحرار من جديدٍ في إقامة نظرية للثورة، وسد هذا النقص النظري الذي طالما عانت منه ثوراتنا العربية؛ فالمفكرون الأحرار علماء اجتماع وتاريخ وسياسة واقتصاد، وهم في نفس الوقت طليعة الثوار في مجتمعاتهم؛ ومن ثم فهم المؤهلون وحدهم لصياغة النظرية الثورية حتى تستمر الثورات العربية وتتجاوز مرحلة التجارب، وأسلوب المحاولة والخطأ. والنظرة الشمولية للثورة هي القادرة على حل المشاكل الجزئية، وليس تناول هذه الجزئيات كلًّا على حدة، كلما تم حل إحداها حلًّا وقتيًّا ظاهريًّا أطلقنا صيحات الانتصار!

ولم ينجح الضباط الأحرار في إقامة تنظيمٍ سياسي شعبي يساند الثورة ويقوِّي دعائمها، ويحميها من مؤامرات الرجعية والاستعمار، فغابت الشعوب عن المعركة، ولم تشارك في صنع القرار، بل إنها أخذت بعض حقوقها بقرارٍ من السلطة السياسية دون انتزاعها منها. ظل الفراغ ماثلًا بين الزعامة والشعب، فملأتها الشللية والطبقات الجديدة التي قامت بعزل القمة عن القاعدة، والتي أثرت على حسابهما معًا، فإذا ما ضاعت الزعامة الأولى تولَّت هي السلطة السياسية بعد أن أصبحت لها السيطرة الفعلية على وسائل الإنتاج، وسائر مظاهر النشاط الاقتصادي. أصبحت قمة السلطة السياسية حكرًا على الضباط الأحرار وراثةً أو خلافة، نضالًا أو كفاءة، ومَن خرج عن الزمرة انتقل إلى النشاط الاقتصادي الحر، أو انزوى في ركنٍ من التاريخ. صحيحٌ أنه يصعب بناء الحزب والثورة في السلطة، فعادةً ما تنشأ الأحزاب من الشعب، تمثِّل اتجاهات فكرية لديه، أو تعبِّر عن مصالح طبقية فيه، أو تمثِّل تياراتٍ وطنية على مدى تاريخه، وعادة ما تنشأ في مرحلة نضال وطني، في حركةٍ سرية؛ وبالتالي تنشأ كوادر الحزب عن طريق الممارسة والاتصال بالجماهير، إلى أن تنتصر الثورة فتتحول كوادر الحزب إلى منفذي برامج الثورة، ومحققي خططها.

ولكن الذي حدث في حركات الضباط الأحرار أن تم إنشاء هيئات شعبية بعد انتصار الثورة من أجل تدعيمها، وتنظيم مسيراتها، وإرسال برقيات التأييد ورسائل التهاني خاصة في وقتٍ كانت للأحزاب السياسية السابقة مثل الوفد والإخوان والشيوعيين ركائز شعبية على مختلف المستويات خاصة الوفد والإخوان، على حين كان الشيوعيون على اختلاف فصائلهم مجموعات من المثقفين، أدباء وفنانين ومفكرين، مؤثرين في الحياة الفنية والثقافية العامة، ولكن ظل أثرهم محدودًا لم يمسَّ الجماهير الأمية جماهير سعد وثورة ١٩، أو جماهير محمد بن عبد الله وجماعات الصحابة الأوائل. وقد جاء حل الأحزاب لإفساح المجال للجمعيات والهيئات الجديدة لتأييد الثورة، فأسرع إليها الوسطاء والمغرضون والمنافقون والوصوليون وطلاب المناصب، وتحوَّل إلى جهازٍ حكومي، وأصبح معروفًا في أذهان الناس على أنه حزب الحكومة. كما تحول إلى تنظيمٍ بيروقراطي تغيب عنه الحرارة وتنقصه المبادرات الفردية أو الجماعية من داخل الحزب، كما تحوَّل أيضًا إلى بناءٍ تسلطي مثل النظام السياسي يكون فيه الولاء للنظام وليس للثورة، لم تكن له جذور شعبية ولم يكن قادرًا على قيادة الجماهير، يمكن حلُّه بقرارٍ وعقده بقرار. لم يكن له فكرٌ سياسيٌّ يقود الناس بل كانت مهمته تأييد قرارات الحكومة، حتى التنظيم الطليعي الذي تم تكوينه أخيرًا كعصب الحزب تم بناؤه بعقلية التآمر والحركات السرية. لم تنجح الثورة في بناء الكوادر السياسية، وإعادة بناء الإنسان وتفجير طاقاته، وإشراكه في صنع القرار على نحوٍ حزبي منظم. فأدرنا القطاع العام بعقلية القطاع الخاص، وطبقنا الاشتراكية بلا اشتراكيين. وكان من السهل تغييرُ مسار الثورة دون ظهور أية مقاومة تُذكر، ثم نبكي على ضياع القيم، وانهيار الأخلاق، وانتشار قيم الاستهلاك، والإثراء السريع، والكسب غير المشروع أو الهجرة، ومغادرة البلاد لعدم الإحساس بالولاء لقضايا البلاد، أو نعاني من مظاهر الردة في حياتنا والتعصب وسيادة الجماعات الدينية المتطرفة.

وهنا يبرز دور المفكرين الأحرار في تعبيرهم عن الوعي القومي الذي يتَّحد فيه الفكر بالشعب؛ وبالتالي تتحرَّك الجماهير بفضل فكرها الذي هو إعادة صياغةٍ عصريةٍ لموروثها القديم، فيتحول الشعب كله إلى تنظيمٍ سياسي يقوده المفكرون الأحرار، والأئمة في مجتمعاتنا لو استناروا لكانوا في طليعة المفكرين الأحرار.

والشاهد على الكثير من الثورات التي غيرت مجرى التاريخ، والتي قدِّر لها الاستمرار مثل الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية والثورة الروسية وأخيرًا الإيرانية، أنها نشأت أولًا في الفكر أو الأدب، ثم أصبحت فيما بعد ثورات في النظم السياسية والاقتصادية، فقد تمت الثورة الفرنسية التي مهد لها فلاسفة التنوير مثل فولتير ومونتسكيو ودالمبير وديدرو بعد أن تحوَّل الوحي إلى تقدم، والناس إلى تاريخ، والعناية الإلهية إلى رقيٍّ للشعوب. وقد تراكم في التنوير كل التراث العقلاني الحديث من رفضٍ لكل سلطةٍ خارجيةٍ دينية أو سياسية إلا سلطة العقل، ثم كانت الثورة الفرنسية الثمرة الأخيرة لفلسفة التنوير. إن انتشار الأفكار هو الممهد لانتشار الثورات؛ فالأفكار هي التي تزيد من حرارة المجتمع حتى يسهل على الثورة فيما بعد إعادة بنائه، والثورة الأمريكية وحرب الاستقلال قد قامت على أفكار الثورة الفرنسية من اعتزازٍ بالعقل، وتأكيدٍ على الحرية والديمقراطية والمساواة، وحق المواطن الحر في الجمهورية الحرة، كما وضح ذلك في وثيقة إعلان الاستقلال. ولولا هذه الأفكار لظلَّ العالم الجديد أسير العنصرية والهمجية والتعصب الديني، ومرتعًا لقُطَّاع الطرق وراغبي الثروة والباحثين عن الذهب.

وقد تمَّت الثورة الاشتراكية في روسيا أولًا في القرن التاسع عشر، لدى أدبائها ومفكريها وفي خلاياها المستنيرة المناهضة لنظام الحكم القيصري، حتى إنه يمكن القول بأن عصر التنوير الفعلي في روسيا كان في القرن الماضي. حدثت الثورة أولًا في الوعي، وعي بعض المفكرين والأدباء ثم تكوينهم بؤرًا مستنيرة يتجمَّع حولها العمال والفلاحون. إنه لا يحدث في الواقع إلا ما يحدث في الفكر أولًا، ولا يحدث في المجتمع إلا ما يحدث في الوعي أولًا.

ولقد حدث نفس الشيء في الثورة الصينية، عندما بدأ ماو تسي تونج في تفسير التراث الديني الشعبي الصيني تفسيرًا ثوريًّا يحرك به الفلاحين، ويدافع به عن مصالحهم، فتفسير ماو تسي تونج لكونفوشيوس هو تحرير وإطلاق للقُوى الحبيسة في وجدان الشعب؛ فقد تنشأ الثورة الثقافية فيما بعد لمزيدٍ من التحديث، ولمزيدٍ من ربط الأفكار الثورية بالواقع الاجتماعي بعد أن تم تأصيلها في التراث. وقد كان هوشي منه شاعرًا يلهب خيال المناضلين، يفرق بين الثقافة الوطنية وثقافة المستعمر الأجنبي، ويميز بين الدين الوطني والدين في خدمة الاستعمار، وتحولت البوذية، وهي ثقافة الشعب، إلى تيارٍ وطني في مواجهة الاستعمار الأجنبي.

وفي تاريخنا الحديث، برز الطهطاوي على أنه مؤسس حركات التحرر الوطني في وجداننا القومي ببزوع أفكار الوطنية والقومية والأمة والدستور، وقد كان الأفغاني أيضًا أبًا لثوراتنا الحديثة ببثِّه أفكار الشورى والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومنه خرجت أحزابنا الوطنية. لقد تكون وعينا القومي الحديث من خلال العصر الليبرالي الذي مررنا به في القرن الماضي، وكانت ثوراتنا العربية الأخيرة ثمرة له.

وإن ثورة إيران الأخيرة أيضًا تبين أن الفكر في صورة تراث ديني يكون أقوى من كل النظم التسلطية والبوليسية، وأنه لا يمكن مقاومة الفكر بالسيف؛ إذ يتحطم السيف في النهاية وتتحقق الفكرة؛ فالعقيدة فكر مركز وتصور مضغوط ينفجر في لحظات الظلم والطغيان، وكأن الإنسان يعيش في العالم صاحب رأي قبل أن يكون ذا وضع اجتماعي معين. وإن التاريخ الأوروبي الحديث ليثبت أيضًا خطورة سلاح الأفكار؛ فقد استطاع فيشته بنداءاته إلى الأمة الألمانية مقاومة نابليون، والمساهمة الفعَّالة في تحرير ألمانيا حتى قال نابليون: «لقد هزم القلم السيف.» كما نشأت دعوات الوحدة الألمانية أولًا في الفكر والأدب في جامعات ألمانيا قبل أن يحققها بسمارك قائد بروسيا، الشقيقة الكبرى للدويلات الألمانية. كما نشأت الوحدة الإيطالية أولًا عند دُعاتها مثل مازيني قبل أن يحققها القائد العسكري غاريبالدي، وقد حاول ماركس الشاب نفس الشيء عندما أراد تحرير ألمانيا عن طريق «الأيديولوجية الألمانية» التي تدور حول أفكار الوعي والأنا والذات والشعور والحرية والاستقلال والإرادة … إلخ، أي خلق ألمانيا أولًا في الفكر قبل تحقيقها في الواقع، وإن ماركسيات القرن العشرين لترتبط في معظمها بماركس الشاب من جديد بعد أن ساد ماركس رأس المال القرن الماضي، تحت أثر دارون وسبنسر، ولماذا نبعد كثيرًا؟ ألم تكن ثورة الإسلام في العقائد أولًا عقيدة التوحيد قبل أن تكون ثورة من أجل توحيد القبائل وتكوين الدولة الحديثة؟

إن من يستطيع إقالة ثوراتنا العربية اليوم من عثراتها ليسوا هم الضباط الأحرار وحدهم، بل بمعاونة وإسهامات المفكرين الأحرار الذين تنتظرهم الجماهير العربية، والذين يعبِّرون بصدقٍ عن حاجتها لحرية التعبير والحياة الديمقراطية، وحق الجميع في المشاركة في بناء الحياة السياسية، وكما استطاع الضباط الأحرار القيام بالثورات العربية منذ ربع قرن، يستطيع المفكرون الأحرار في ربع قرن قادم تأصيلها وصياغة أبنيتها الفكرية، وضمان استمراريتها في التاريخ. ولا يعني «المفكرون الأحرار» مجرد لقب أو أي أعمالٍ للنظر، بل هو مصطلح دقيق يدل على ضرورة إنجاز مهام محددة في كل حضارة، ما يخص ثوراتنا العربية اليوم هو أننا نريد إنجازها في لحظةٍ تاريخية معينة هي النهضة، وفي مجتمعٍ يتسم بطابعٍ معين هو التخلف؛ ومن ثم يكون السؤال: كيف يمكن إقامة ثورة سياسية واجتماعية في مجتمعٍ متخلف؟ فلا يمكن إقامة بناء سياسي نظري أو ممارسة سياسية عملية دون قضاء مسبق على مظاهر التخلف في قوالب الذهن وأنماط السلوك؛ فالثورة السياسية ليست مجرد تغيير في النظم الاقتصادية والاجتماعية، بل هو نقل لحضارة أمة من مرحلةٍ تاريخية إلى مرحلةٍ تاريخية أخرى، أي للقيام بدورٍ تاريخي مرحلي محدد. وإذا ما قُدر للثورة أن تفشل سياسيًّا، فإنها تبقى على الأقل تيارًا ثقافيًّا واتجاهًا حضاريًّا كما حدث في البلاد، ومرحلة تاريخية في وعي الأمة. إن مهمة المفكرين الأحرار هو التمهيد لإقامة أيديولوجية سياسية وذلك عن طريق بداية حركة تنوير تكون قادرةً على التصدي لمظاهر التخلف الفكري، وتمثل انتقال الحضارة كلها من مرحلةٍ إلى أخرى.

وعلى سبيل المثال، قيل:
  • أولًا: إن الثورات العربية، وإن كانت قد نجحت في تغيير الأنظمة التقليدية، وما كانت تمثِّله من إقطاعٍ ورأسمال واستعمار وحزبية، إلا أنها لم تنجح في بناء الإنسان الثوري العربي المعاصر. بل إن ثوراتنا الحديثة قد سارت في خطَّين؛ تغيير في الهياكل القديمة وتهرؤ للإنسان العربي المعاصر. فبالرغم من أن الجماهير العربية قد أعطَت الثورات التي قام بها الضباط الأحرار كل ثقتها في البداية، وربما حتى النهاية إلا أنها لم تَحُز بثقتهم؛ لأن قوة الضباط الأحرار تأتي من الجيش، وتقتصر مهمة الشعب على التأييد، بل ظهرت نوعيات عديدة من الإنسان العربي المعاصر؛ فهو إما مقهور لا يمكن التعبير عن رأيه، مشكوك في ولائه الوطني، ينعى حظه وينطوي على نفسه، أو يصبح عضوًا في تنظيمٍ سري يفرغ فيه نشاطه أو يهاجر ليستأنف حرية التعبير عن رأيه في الخارج، أو يجرفه تيار الحياة فينسى الوطن في سبيل رغد الحياة وهناء البال، وإما متسلق، ينافق الحكام، ويبرر قراراتهم، فيصل إلى أعلى المناصب القيادية، ويتغير بتغير الحكام، لديه فكر جاهز لكل قرار، وهنا تظهر القدرات الفردية المتفاوتة بين الذكاء والغباء، وإما متعايش يرى في السياسة مخاطرةً على حياته ورزقه وأسرته وأولاده، فيحرص على لقمة العيش، ويصبح مثل الألماني بعد الهزيمة لا يفكر إلا في مصنعه وعربته وبيته، ويصبح له وطنه الصغير، لا يرى أبعد من طرف أنفه مع أن الثورات كلها قد قامت من أجل المواطن، وأصبح لقب المواطن Le Citoyen يهزُّ مشاعر الإنسان أو أيضًا لقب الرفيق Le Camarade، ولكن ثوراتنا العربية لم تخلق مفهومًا للإنسان؛ وبالتالي لم تحرص على كرامته وحريته واستقلاله، والمفكرون الأحرار وحدهم هم القادرون على إظهار مبحث الإنسان كمقولةٍ مستقلة في وجداننا القومي بعد أن غابت كبناءٍ نفسي أو كتصورٍ أنطولوجي.٢ مهمة المفكرين الأحرار هي إظهار الإنسان الكامل القابع خلف إلهياتنا وطبيعياتنا القديمة والمغترب في الفناء الصوفي أو في التشريع الفقهي أو الإنسان المقلوب عند علماء أصول الدين،٣ لقد قامت الثورة الفرنسية بعد نضالٍ طويل من أجل الإنسان، منذ الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، والنزعة الإنسانية في السادس عشر، والأنا أفكر في السابع عشر حتى ظهور المواطن في الثامن عشر، ولكننا أردنا أن نثور ببناءٍ ذهني موروث لم تحدث فيه ثورات مسبقة من أجل الإنسان.
  • ثانيًا: قيل إن ثوراتنا العربية كما أخفقت في قضية الإنسان أخفقت أيضًا في قضية الأرض، فإن الثورات العربية حتى وهي في أوج انتصاراتها لم تقرِّر بأن الأرض لمن يفلحها، وما زالت تنظر إلى الفلاح على أنه من يملك الأرض، وليس مَن يعمل في الأرض. صحيح أن معظم أصحاب القرارات السياسية كانوا من ملاك الأرض، وكان يستحيل عليهم قطع أنوفهم بأيديهم. فثوراتنا العربية في النهاية هي ثورات الطبقات المتوسطة، إلا أن الجذر التاريخي لذلك هو أن الأرض ظلت خارجةً عن وعينا القومي منذ أكثر من ألف عام، في حين ظل الله حاضرًا فيه بلا أرض. أصبح وعينا القومي واحديَّ الطرف، إلهيًّا وليس أرضيًّا في حين أن القرآن وهو المصدر الرئيسي في وعينا القومي قد جعل الله والأرض واجهتَين لعملةٍ واحدة في الآيات المشهورة «إله السموات والأرض»، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ، وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ. لن تكون الأرض لمن يفلحها، والمصنع لمن يعمل فيه، والجامعة لمن يتعلَّم فيها إلا بعمل المفكرين الأحرار، وإبرازهم الأرض كقيمةٍ في وعينا القومي كواجهةٍ أخرى لله، وإلا ظلت ثوراتنا طائرة في الهواء لا مستقر لها ولا حين.
  • ثالثًا: قيل إن ثوراتنا العربية لم تستطع حلَّ قضية الحرية والديمقراطية، بدأت بمنع الحرية عن أعداء الشعب، وبعزلهم عن الاشتراك في البناء الديمقراطي والحياة السياسية، ثم أصبح أعداء الشعب قبل الثورة هم كل معارضي الثورة. وبعد عدة اصطدامات مع قُوى المعارضة، تحوَّلت الثورات الوليدة إلى أنظمةٍ تقوم على التسلط والرأي الواحد والحزب الواحد، فإذا نشأت معارضة فإنها تنشأ من داخل السلطة وليس من خارجها، وبتشجيعٍ وتأييدٍ منها وليست مناهضة ومعارضة لها، وقد نشأت أزمة الحرية والديمقراطية في نظمنا الثورية؛ لأنها موجودة في وجداننا المعاصر، وترجع جذورها إلى أبنيتنا العقلية ومكوناتنا النفسية التي ورثناها من تراثنا القديم مثل حرفية التفسير، وسلطوية التصور، وتكفير المعارضة، وتبرير المعطيات، وهدم العقل.٤ إن مهمة المفكرين الأحرار هو انتزاع هذه الجذور التاريخية، وتأصيل الحرية والديمقراطية في حياتنا المعاصرة، عن طريق غَرْز جذورٍ عقليةٍ جديدةٍ تقوم على إمكانية التأويل طبقًا لصالح الجماهير، وعلى تصورٍ للعالم تتساوى فيه الأطراف، وعلى إمكانية الخلاف في الرأي، وعلى تحليل العقل لمظاهر الطبيعة، وعلى إعمال العقل والنظر وعدم قبول شيءٍ على أنه حق، إن لم يثبت بالدليل أنه كذلك.
  • رابعًا: قيل إن في ثوراتنا العربية الأخيرة فرقًا شاسعًا بين الشعار والتطبيق؛ فالحرية والاشتراكية والوحدة، هذه الشعارات الثلاثة التي تكاد تجمع عليها ثوراتنا العربية في جيلنا، والتي تعبر بالفعل عن أهدافنا القومية هي في جانب والواقع العربي في جانبٍ آخر؛ فالحرية كشعارٍ تقابل التسلط كواقع، والاشتراكية كشعارٍ تقابل الطبقات الجديدة، والرأسمالية الوطنية، والكسب غير المشروع، والدخول الطفيلية، والحسابات الخارجية، واتساع الهوَّة بين الأغنياء والفقراء كل ذلك كواقع، والوحدة كشعارٍ تقابل تمزُّق الوطن العربي وتفتيته، وإغلاق حدوده، وقطع علاقاته، وحروب حدوده، وتهديد أنظمته كواقعٍ عملي. وقد يرجع ذلك كله إلى جذورٍ تاريخية في وعينا القومي مستمدة من تراثنا القديم الذي ما زال يمدُّنا بأبنيتنا الفوقية، وهو تحديدنا للأمة على أنها أمة قول، فكل من قال «لا إله إلا الله» يصبح عضوًا في الأمة الإسلامية له حقوقها وعليه واجباتها. ويأتي العمل في الدرجة الثانية بعد القول أو لا يأتي، أو يُرجأ العمل إلى يوم الدين يحاسبنا الله عليه أو لا يحاسب. هذا بالإضافة إلى أن القول في تراثنا الشعبي كان هو الواقع، فتكسب المعارك بالقول على ما هو معروف في شعر الحماسة وفن الخطابة، وقد دخل الإيمان إلى قلوب الناس بالقول وحسن الخطاب. وما زلنا نحل المشاكل بالقول تهدئة للخواطر، وتفريجًا للكروب. إن مهمة المفكرين الأحرار هي إعادة صياغة تجديدنا للأمة، ليس عن طريق القول بل عن طريق العمل وتحقيق الأهداف القومية، وعن طريق المضمون السياسي للتوحيد الذي يعني وحدة الأمة لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ.
  • خامسًا: عُرفت ثوراتنا العربية الأخيرة بأنها انتهت إلى سكونٍ إداري، ولم تستطع القضاء على البيروقراطية في أجهزة الدولة والروتين في نظم الحكم؛ فقد قامت الثورات لتغير في قمة السلطة دون أن يصاحبه تغيير مماثل في أجهزة الدولة، فتسربت قوى الثورة وضاعت طاقاتها ولم تنجح محاولات الحكم المحلي واللامركزية والقرارات الثورية والإجراءات الاستثنائية في التخفيف من تغلغل البيروقراطية في الحياة العامة، والحقيقة أن البيروقراطية ترجع إلى جذورٍ تاريخية في وعينا القومي في تصورنا للعالم على أنه مراتب متفاوتة بين الأعلى والأدنى، كل مرتبةٍ عليا لها السلطة على المرتبة الدنيا، من القمة للقاعدة. كلما صعدنا إلى أعلى زادَت السلطات حتى نصل إلى القمة صاحبة السلطة المطلقة على من دونها، وكلما نزلنا إلى أسفل قلَّت السلطة حتى نصل إلى القاعدة التي لا سلطة لها على أحد. هذا التصور الهرمي للعالم الذي عرف في فلسفاتنا القديمة بنظرية الصدور أو نظرية الفيض؛ هو الذي يسمح بقيام البيروقراطية والمجتمع الطبقي في حياتنا المعاصرة؛ لأن نظمنا الاجتماعية هي في الحقيقة تعبيرٌ عن مكوناتنا النفسية وقوالبنا الذهنية، والأمثلة كثيرة.

إن مجتمعاتنا النامية ما زالت ترتبط بتراثها الذي يُمدُّها بقيمها التي توجه سلوكها؛ ومن ثم كان البناء الفوقي لديها هو حياتها ووجودها، فكرها وواقعها، ماضيها وحاضرها، مهمة المفكرين الأحرار إذن هو تحويل هذا البناء الفوقي الموروث، وهو ثقافة الجماهير، إلى أيديولوجيةٍ سياسية تحمل أهدافنا القومية؛ وبالتالي تنشأ حركة جماهيرية متحدة مع فكرٍ قومي طليعي، فمهما أعطي للجماهير من شعاراتٍ تعبِّر عن أهدافنا القومية دون رَبْطها بثقافتها الوطنية والتي يكون تراثها القديم رافدها الأساسي، فإن هذه الشعارات تظل فارغةً من كل مضمون، وما دام البناء الفوقي ظل متروكًا بلا وظيفة تحديثية، فإن القُوى الرجعية في مجتمعاتنا والتي تدافع عن مصالح الأقليات الحاكمة والمسيطرة على أدوات الإنتاج تقوم باستغلاله لصالحها، ويكون خير سلاح في يدها لتدعيم الوضع القائم ضد قوى التغير والثورة. إن مهمة المفكرين الأحرار هو القيام بإعادة صياغة الموروث الشعبي وتفسيره لصالح الجماهير؛ دفاعًا عن مصالح الأغلبية التي تشارك في الحكم أو في السيطرة على وسائل الإنتاج حتى يمكنها فيما بعد الدفاع عن مصالحها، بالدفاع عن ذاتيتها الخاصة؛ ومن ثم يصبح تراثها مساويًا لمقاومة الاستعمار، وللعداء للرأسمالية، ولمناهضة الصهيونية والوقوف ضد الرجعية. يستطيع المفكرون الأحرار إذن إكمال النقص النظري الذي تركه الضباط الأحرار في ثوراتنا العربية الأخيرة. كما يمكنهم سد النقص العملي عن طريق تجنيد الجماهير، وجَعْلها خط الدفاع الأول عن أهدافنا القومية، حتى إذا ما اختفى الزعيم لم تختفِ الأهداف أو تحولت إلى نقيضها، والجماهير تصفق لكليهما.

إن ثورة إيران الأخيرة أثبتت أن جماهيرنا تتحرك بالعقائد، فالتوحيد الذي يعبر عنه شعار «الله أكبر» يعني رفض كل تكبرٍ وتسلط بشري على رقاب الخلق، الله أكبر يعني قاصم الجبارين، والإسلام يعني أصالة الشعوب ورفضها لمظاهر التقليد للحضارة الغربية، والقرآن يعني الأيديولوجية المستقلة عن الأيديولوجية العلمانية. إن جماهيرنا عاطفية وحماسية، وعلى الأقل في مرحلتها التاريخية الراهنة؛ ومن ثم كانت العقيدة هي نبع هذا الحماس، وقديمًا قال ابن خلدون إن العرب لا يفلحون إلا بنبوةٍ أو رسالة تجنِّدهم. والجماهير أيضًا تؤلِّه وتطيع. إن دور المفكرين الأحرار هو استغلال هذه الطاقات الكامنة في وعي الجماهير وتفجيرها حتى تتحرك، ويتحول تراثها من تراث ميت إلى تراث حي، وتصبح حركاتها أقرب إلى الدوام والاستمرار.

وقد تعطي الدوائر المحافظة لدور المفكرين الأحرار تفسيرًا رجعيًّا، ما دام الأمر لا يتعلق بالأبنية التحتية التي يودون الإبقاء عليها، بل بالأبنية الفوقية التي يصولون فيها ويجولون كما يشاءون، ولا يباريهم فيها أحد؛ فهم دعاة الإيمان، وخطباء الأصالة، والمدافعون عن التراث، والمرتبطون بجذوره التاريخية.

فقد تقول هذه الدوائر المحافظة، أولًا، إن المفكرين الأحرار يعطون الأولوية للداخل على الخارج، ويحدثون الثورة في النفوس قبل إحداثها في الواقع طبقًا للآية الكريمة إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ؛ ومن ثم كان التركيز على البناء الخلقي للفرد قبل البناء السياسي والاجتماعي، وقد أعدَّ الرسول الرجال ثلاثة عشر عامًا، وبنى الدولة في عشرة أعوام. والحقيقة أن هناك فرقًا شاسعًا بين التفسير الرجعي لدور المفكرين الأحرار والتفسير الثوري لهذا الدور؛ فالأول يجعل الفكر صوريًّا بلا مضمون ويفصل الواقع عنه، في حين يجعل الثاني الفكر هو الواقع الذي يتحرك؛ فثورة الفكر التي يمثلها المفكرون الأحرار هي ثورة الواقع من خلال الوعي لتنويره وكشف عري الثورة، وفي مجتمعاتنا الناهضة تكون الأولوية لوعي الثورة الذي يتحد فيه الفكر بالواقع.

وقد تقول هذه الدوائر، ثانيًا، إن دور المفكرين الأحرار يعني أن تبدأ الثورة بالفرد قبل أن تبدأ بالجماعة، وهو ما تركز عليه هذه الدوائر ومطالبتها بإعادة بناء الفرد أولًا، حتى يمكن إبعاد الوعي القومي عن الأبنية الاجتماعية، فيرى كل فرد مشاكله في داخله وحلها بمفرده؛ إما بالأخلاق والدعوة إلى الطهارة ونَبْذ الطمع والجشع، أو بما قد يخفف غضبه وذلك بتهيئة وسائل الكسب له، مشروعًا أو غير مشروع، فبدل أن يكون من طليعة الثوار القادمين يصبح من المدافعين عن النظام القائم؛ حرصًا على مكاسبه الشخصية، والحقيقة أن المفكرين الأحرار لا يبدءون بالفرد بل بثقافة الجماهير، ولا يتعاملون مع الأفراد بل مع الأبنية النفسية التي تحرك الناس؛ فالمفكرون الأحرار فلاسفة تاريخ، وهم الذين وضعوا في الغرب فلسفات التاريخ. مهمتهم إيقاظ الوعي الحضاري الذي يتحد فيه الفرد بالجماعة، والإنسان بالتاريخ.

وقد تقول هذه الدوائر، ثالثًا، إن دور المفكرين الأحرار يجعل الثورة أقرب إلى التربية والإصلاح والتهذيب والإرشاد منها إلى الثورة الفعلية؛ ومن ثم فهو تغير نسبي تدريجي طويل الأمد، يستبعد العنف والصراع، وطبيعي أن تحتاج المجتمعات إلى حركاتٍ إصلاحية يقوم بها كل جيل؛ وبالتالي تأمن المجتمعات التغيرات العنيفة والانقلابات الثورية والصراعات الدموية. والحقيقة أن المفكرين الأحرار يؤصلون الثورة، ويحولون الإصلاح إلى ثورةٍ جذرية عن طريق تأسيسها في الوعي، واستبعاد معوقاتها، والكشف عن الوعي الجماهيري الثوري؛ فهم يقصرون بذلك فترات الانتقال، ويبكرون بقدوم الثورة، وما أشد من عنف الأفكار وثورة العقائد، وانقلاب التصورات؛ لذلك كان المفكرون الأحرار هم أكثر الناس اضطهادًا من النظم القائمة. وغالبًا ما تم حرقهم علنًا، بعد مصادرة كتبهم، ومنع أفكارهم، ولكن التاريخ أقام لهم نصبًا تذكارية للشهداء، وأصبحت أفكارهم هي حركة التاريخ.

وقد يقال في الدوائر التقدمية الخالصة المتسرعة، التي تود أن ترى الثورة وقد تحققت بين يومٍ وليلة، إن للمفكرين الأحرار حدودهم ونقصهم التي لا تقل خطورة عن نواقص الضباط الأحرار وحدودهم؛ فقد يقال، أولًا، إن المفكرين الأحرار في نهاية الأمر مثقفون وبهم مخاطر المثقفين، وأولها تصور العالم على أنه مجرد أفكار ونظريات، وأن الواقع ما هو إلا نظرية أو يمكن التحكم فيه والسيطرة عليه بنظرية، خاصة إذا كانت صياغاتها معقدةً تدل على تعالم أكثر مما تدل على علم، وإن منع طفل من أن يموت جوعًا خير من آلاف النظريات عن الجوع! والحقيقة أن هذا المزلق يتحرز عنه المفكرون الأحرار؛ لأنهم ثوار أولًا يريدون تغيير الواقع وليس فهمه فحسب، والأفكار لديهم قوة، والنظريات حركة، والتصورات تغير. إن تهيئة الشروط للحركة والإعداد لها لهو بداية لها قبل ظهورها في العالم، وإن شحذ القوى، وإبراز المتناقضات شرط للحركة والتغير.

وقد يقال، ثانيًا، في هذه الدوائر الجذرية، إن المفكرين الأحرار مهما كان لهم من أثرٍ على العقول، فإنه لا يتعدَّى نطاق بعض الدوائر المثقفة المحدودة النطاق، فهم يمثلون حركة فكرية ولا يمثلون حركة شعبية، وأقصى ما يمكن أن يقوموا به هو خلق تيارات جديدة في الفكر والأدب والسياسة والاجتماع والقانون … إلخ، وفي مجتمعاتنا حيث الأمية ما زالت هي الغالبة فإنه يستحيل إحداث ثورة جماهيرية عن طريق المفكرين الأحرار الذين لن يقرأ كتاباتهم غالبية الشعب. والحقيقة أن الأمية لا تعني جهل القراءة والكتابة، فكثير ممن يجهلونها قد يكون لديهم من الوعي القدر الكبير، وقد يكون كثيرٌ ممن يقرءون ويكتبون مغيبي الوعي، فنحن شعوب سمعية استطاعت أن تقيم حضارة بالسمع والرواية والنقل الشفاهي، وتضرب فيها الأمثال العامية وسير الأبطال، فتحدث الأثر في النفوس. وقد تحرك الشعب الإيراني أخيرًا بالتسجيلات الصوتية لنداءات الخميني. وإن أئمة المساجد، ورواة القرية، وأجهزة الإعلام الصوتية كلها يمكن أن تكون قنوات للمفكرين الأحرار يعبِّرون من خلالها عن الثقافة الثورية التي تعبر عن وجدان الناس.

وقد يقال، ثالثًا، في هذه الدوائر الثورية، إن المفكرين الأحرار هم في نهاية الأمر مفكرو الطبقة المتوسطة التي ما زالت تبحث لها عن دورٍ في اللحظات الثورية في تاريخ كل أمة، حتى تستعيد ثقة الأغلبية التي تركتها، وتجد لها منفذًا مع القيادة الثورية الجديدة؛ فهم انتهازيون لا يعملون إلا لصالح طبقتهم، يرشدون حياتها، ويستعملون العقل لحسابها، ويعبرون عن القوى الاجتماعية الجديدة التي تحاول أن ترث القوى القديمة، وقد حدث ذلك في كثيرٍ من المجتمعات، عندما دخل كثيرٌ من الرومان الوثنيين في المسيحية؛ حتى يكون لهم دورٌ في الإمبراطورية بعد أن تحول الإمبراطور قسطنطين إلى الدين الجديد. وكما حدث في ثوراتنا العربية الأخيرة عندما تحول معظم مفكرينا إلى اشتراكيين ثوريين، وقد حدث نفس الشيء في الحضارة الغربية عندما أصبحت الليبرالية، وهي التعبير السياسي عن الفكر الحر الأساس النظري للنظم الرأسمالية. والحقيقة أن المفكرين الأحرار الملتزمين بقضايا الشعوب، والمعبرين عن مصالح الجماهير، أبناء الثورات الوطنية الأخيرة، فبالرغم من انتساب البعض منهم إلى الطبقات المتوسطة من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، إلا أنهم يمثِّلون بفكرهم الطبقات العاملة؛ فالطبقة شيء والوعي الطبقي شيء آخر. هذا بالإضافة إلى أن مفكري الطبقة المتوسطة في مجتمعاتنا هم المنوطون بالقيام بدور التحديث، وهم المؤهلون لذلك بالرغم من حدودهم وذاتيتهم وفرديتهم وتحيزاتهم. ولا يمكن تجاوز الطبقة المتوسطة إلى الطبقة العاملة، أي الانتقال من الليبرالية إلى الاشتراكية قبل أن تحقق الطبقة المتوسطة دورها، وقبل أن نتمثل قيم الليبرالية.٥

وفي النهاية، إن كل عثرات الثورات العربية ونكساتها إنما نتجت من أن أهداف الضباط الأحرار لم يتم تحقيقها بوسائل المفكرين الأحرار، وكثيرًا ما ننعى تراثنا العقلاني الليبرالي قبل الثورة ونقول: أين نحن من أيام الطهطاوي ولطفي السيد وطه حسين؟ لو كان مفكرونا الأحرار في بداية تنويرنا قد استمروا خلال ربع القرن الأخير، لكانت الثورة قد تأصَّلت في نفوسنا ولكنا أكثر حرصًا على العقل والديمقراطية مما نحن فيه الآن. لقد آن الأوان للمفكرين الأحرار، وهم طليعة الثوار الآن، الاستمرار في عصر النهضة، والتأكيد على سلطة العقل، والدفاع عن الحرية والديمقراطية، وتحمُّل تبعات المرحلة التاريخية التي نمرُّ بها من نقدٍ للموروث، وتخلُّص من سلطة القديم، وتحرُّر من التقليد، وتوجُّه نحو الطبيعة، واعتزاز بقدرة الإنسان على تفسير العالم وعلى إمكان السيطرة عليه.

إن دور المفكرين الأحرار هو إدخال الثورة في تاريخنا الحديث، وتحويل إصلاحنا الديني في القرن الماضي إلى نهضةٍ فكرية عامة، تقوم على روح النقد وعدم التسليم بالموروث، كما أن مهمتهم هو تأصيل فلسفة التنوير التي راجت لدينا على أيدي مفكرينا في القرن الماضي، سواء في الفكر الليبرالي عند الطهطاوي أو الفكر العلمي عند شميل، ومهمتهم أيضًا هي إعادة بناء ثوراتنا السياسية والاجتماعية الأخيرة، حتى نقيلها من عثراتها بالرجوع إلى جذورها التاريخية. وقد يكون المفكرون الأحرار هذه المرة أسعد حظًّا من الضباط الأحرار، وقد يكون ربع القرن القادم أفضل من ربع القرن الماضي، وقد تحتاج حركة التاريخ إلى مدًى أطول لبلوغ مراحله، ولكن المهم هو الإحساس بالمرحلة وبداية الكشف عنها، وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا.

لقد قام الضباط الأحرار بقلب النظم الاجتماعية دون إحداث قلب موازٍ في القوالب الذهنية، ومهمة المفكرين الأحرار هي إعادة بناء وعي الجماهير، وتحويل تراث الشعب إلى أيديولوجيةٍ سياسية، وتحويل ثقافته الوطنية إلى أداةٍ للتحديث وطريق للتنوير، إن جيلنا لن يكون جيل الثورة بل هو الجيل الممهد لها، ولن يكون جيل النظرة العلمية بل هو جيل النقد للموروث، ولن يكون جيل البناء للنظم الاجتماعية الجديدة، بل هو جيل الهدم للأبنية الذهنية القديمة، ولن يكون جيل النصر بل جيل تلاشي الهزائم المحتملة وإيقاف الانهيار.

ولقد أخطأنا الحساب عندما وضعنا العربة أمام الحصان!

١  قضايا عربية، عدد سبتمبر/أيلول ١٩٧٩م، بيروت.
٢  انظر مقالنا: لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم، قضايا عربية، أكتوبر ١٩٧٨م، بيروت، وأيضًا: دراسات إسلامية، ص٣٩٣–٤١٥، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨١م.
٣  انظر مقالنا: الاغتراب الديني عند فيورباخ، عالم الفكر، يونيو ١٩٧٩م، الكويت، وأيضًا: دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٨م، وأيضًا: «من العقيدة إلى الثورة»، المجلد الثاني، التوحيد، رابعًا: إلهيات أم إنسانيات؟ مدبولي، القاهرة، ١٩٨٨م.
٤  انظر مقالنا: الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر، المستقبل العربي، يناير ١٩٧٩م، بيروت، وهي في هذا الجزء الثاني، وأيضًا: مخاطر في فكرنا القومي، الجزء الأول: الدين والثقافة الوطنية.
٥  انظر: عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، دار الحقيقة، بيروت، ١٩٧٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤