الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر١
لقد آن الأوان أن نعيد حساب النفس، لا من أجل تأنيبها وزجرها كما يفعل الصوفية، بل من أجل سَبْر أغوارها، وأن نحلل شعورنا المعاصر بمكوناته؛ كي نعي أزمتنا في لحظتنا التاريخية الراهنة، فماذا تعني الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر؟ إننا لا نقيم حسابًا للماضي، فما زلنا في خضم التاريخ، وجزءًا من حركته، ولكن هذا التساؤل محاولة لوصف واقعنا وهو يتحرك حيًّا في شعورنا، وهو ينظم واقعنا حتى نستطيع أن نتحكم في مسار التاريخ من خلال أبنية الشعور.
تعني «الجذور» الرواسب الحضارية في شعورنا، والتراكمات القيمية، والأبنية النفسية التي ورثناها من القدماء، وفي مراحل التاريخ السابقة والتي يسمِّيها علماء الاجتماع «أنساق القيم»، والتي يسميها الماركسيون التقليديون «البناء الفوقي» والتي هي أيضًا موضوع دراسة علم الأنثروبولوجيا الحضارية. هي جذور لأنها متغلغلة في أعماقنا وموجهات لسلوك الجماهير، يستخدمها القادة من أجل السيطرة عليها وتوجيهها إيجابًا أم سلبًا، إما لتجنيد الجماهير كما هو الحال عند الأفغاني، أو لتغييب وعيها كما حدث فيما بعد النصف الثاني من هذا القرن. إن الحاضر ما هو إلا تراكم للماضي، وإن ما يحدث في واقعنا اليوم من خلال سلوكنا اليومي إن هو إلا تراكم تاريخي لماضٍ عشناه، بل إننا لا نعيش حاضرنا إلا بقدر تدخُّل ماضينا فيه؛ وبالتالي فإن أزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر ليست بنت اليوم، بل هي امتداد لوضعٍ حضاري واستمرار له منذ ما يقرب من ألف عام، منذ نهاية عصرنا الذهبي القديم في القرن الخامس الهجري. كما أنها ليست وليدة القوانين والدساتير، والنظم والأحكام العرفية، والإجراءات الاستثنائية، والاستفتاءات الشعبية؛ فالقانون نفسه تعبير عن وضعٍ حضاري، وتقنين لحالة ذهنية سائدة، ولحظة من لحظات تطوير الروح. روح الحضارة التي هي روح الشعب، روح الله في التاريخ. أعني بالجذور ضرورة نقد البناء الفوقي لمجتمعاتنا الراهنة، والذي أغفلناه في ثوراتنا الأخيرة، فاكتفينا بترديد الشعارات خاصة أو عامة، محلية أو عالمية، واقتصرنا على إعلان النوايا مثل التجديد، التحديث، التراب، الأرض، الأصالة، الاستقلال، الدين … إلخ، وكثيرًا ما يتم ذلك عن رفض كل ما هو عقلاني علمي واقعي بحجة رفض المستورد والدفاع عن الدين، وهو في الحقيقة عجز عن صياغة ثقافة وطنية خاصة على مستوى النظر، ودفاع عن الوضع القائم على مستوى العمل.
ويعني «التاريخ» هنا مجموعة التراكمات الحضارية التي ورثناها من المصادر الكتابية أو الشفاهية، والتي نتناقلها جيلًا عن جيل، والتي تعيشها أجيالنا الحاضرة، فيضم الأصول الأولى مثل القرآن والسنة كما يتضح في العلوم الدينية، كالتفسير والحديث والفقه والعلوم العقلية مثل الكلام والفلسفة، والعلوم الطبيعية مثل الطب والكيمياء، والعلوم الرياضية مثل الجبر والحساب والهندسة والفلك، والعلوم الإنسانية مثل الجغرافيا والتاريخ. أما علوم اللغة وما يتصل بها من شعرٍ ونثر وخطابة وبيان وبلاغة ومأثورات شعبية، كالحكم والأمثال، فإنها قد انصبَّت في العلوم الدينية الشرعية أو العقلية، وكما قال عمر: «عليكم بشعر جاهليتكم ففيه تفسير كتابكم.» يعني التاريخ هنا التراث القديم كله الذي ما زال يوجه شعورنا والذي ما زال يعيش فينا ونعيش فيه كله في لحظةٍ واحدة، فتشرق علينا المعارف على طريقة ابن سينا، ونستلهم العلوم مثل الغزالي، وننتظر الفضل الإلهي كالأشعري، ولا مانع من تكفير ابن رشد والمعتزلة وإدانة الخوارج! أعني بالتاريخ أيضًا التصورات الموروثة من هذه العلوم كلها، والتي ما زالت تسري في أذهاننا وتعمل في نفوسنا، نتلقَّاها في المدارس والجامعات وتنتشر في أجهزة الإعلام، تحرك رجل الشارع دون أن يدري مثل القضاء والقدر، والطاعة لأولي الأمر، والصبر، والتوكل، والرضا. أعني بالتاريخ كل ما يلقن لجماهيرنا، خاصة وعامة، من أبنيةٍ فوقية ورثناها منذ ألف عام، وأصبحت أحادية الطرف لا يلقن سواها بالرغم من محاولات الاجتهاد المستمرة، والتجديد المتواصل. التاريخ هنا هو التاريخ الثقافي أو الحضاري، وبوجهٍ خاص التصورات والقوالب الذهنية التي تحدِّد معالم تصورات العالم للجماهير، شعوبًا وقادة. التاريخ هو كل عملٍ للروح، ونشاط للذهن، وإفراز للشعور، يتراكم جيلًا بعد جيل، حتى يصبح بديلًا عن الواقع إن لم يكن هو الواقع الأوحد، الذات والموضوع، المعرفة والوجود.
أما «الأزمة» التي نعيشها فنراها كل يوم؛ وهي غياب الحوار في حياتنا المعاصرة نتيجة لأننا لسنا أحرارًا في تفكيرنا؛ ولأننا لا نسلم بحق الآخر في الحرية والتفكير والاعتراف بحقه في إبداء الرأي. نواجه الفكرة بالسيف، والرأي بالاعتقال، والعقل بالعضلات، أو برفع سلاح التكفير على كل مخالفٍ في الرأي، أو يُتهم بالخيانة والعمالة أو العته والجنون! أصبح بطل الأمس خائنًا اليوم، ويصبح بطل اليوم خائنًا في الغد، فلم نستطع أن نميز في قادتنا الخونة من الأبطال، وجعلنا أبطالنا خونةً وخونتنا أبطالًا، نهدم اليوم ما بنيناه بالأمس، وقد نهدم في الغد ما نبنيه اليوم. لم يعُد لنا تاريخ متصل، وأصبحت حياتنا مجموعةً من الحلقات المنفصلة، كل حلقة تلغي ما قبلها، وندعي البداية من جديد، في الثورة أو الحركة أو اليقظة أو الانتفاضة أو التصحيح، ونقرأ كل يوم ونتذوق عبارة المسيح «ما جئت لأنقض الناموس بل لأكمله.» كثرت في حياتنا التواريخ القومية، والأعياد الوطنية، فأصبحت أيامنا وشهورنا كلها أعيادًا لا نذكرها، وظهرت مصطلحات العهد البائد، والنظام السابق، والزمن البغيض. هي أزمة يشعر بها كل مواطن في قوله وعمله، تشعر بها الجماعات والهيئات، وتعاني منها التيارات السياسية والأحزاب، ونلمس آثارها في الملل من الرأي الواحد، ومن تكرار الخطاب الواحد، ونتحسَّر على الرقابة على المطبوعات، وفي نفس الوقت ننقد النظم الشمولية وكبت الرأي فيها، ونحزن للمنشقين، ونتغنى بالحرية والديمقراطية في النظم الليبرالية، ونقرأ تحليل ماركيوز لدور أجهزة الإعلام في توجيه الرأي العام في المجتمعات الصناعية المتقدمة في «الإنسان ذو البعد الواحد». أصبحنا أفرادًا متراصين لا رابط بينهم إلا الصراخ، أو قطعًا متجاورة لا رابط بينها إلا القطيعة. كلٌّ منا يغني ليلاه، ولا أحد يسمع غناء الآخر.
وقد آثرنا تعبير «وجداننا المعاصر» تحاشيًا لسؤال: من نحن؟ مصريون أو سوريون، مشارقة أم مغاربة … إلخ، كلنا في الهم سواء، نشترك في تراثٍ حضاري واحد، ونرث نفس القوالب الذهنية؛ فأساس وحدتنا هو الثقافة المشتركة، والتصور للعالم الواحد، والسلوك الاجتماعي المتشابه في مواجهة تخلف حضاري يتحدانا جميعًا، وتتعثر محاولاتنا في النهوض والتقدم أمامه. وآثرنا «الوجدان» على «الشعور» لتغليب التحليل الفينومينولوجي على التحليل النفسي، ولأن الوجدان يحمل روح العصر في حين أن الشعور مجموعةٌ من الوظائف النفسية، كما آثرنا «الوجدان» على «الواقع» لأن الواقع لا ينكشف إلا من خلال الوجدان، ولأننا كشعبٍ نامٍ يكون وجداننا هو واقعنا الأوحد.
ولا يعني هذا التحليل أي انتسابٍ لمذهبٍ فكري مثالي أو غيره، أو تَنكُّر لمعطيات العلوم الاجتماعية الحديثة والنظرية الماركسية، بل هو وصف لواقعنا المعاصر في لحظتنا التاريخية الراهنة، ورصد لسلوك جماهيرنا وقادتنا. فما زلنا مجتمعًا تحركه الأفكار، وتوجهه أنساق القيم، وتؤثر فيه التقاليد، ويستشهد بالمأثورات الشعبية، بالحكم والأمثال العامية، ويستمع إلى الأقاصيص والروايات، ويتغنَّى بسير الأبطال. ما زلنا مجتمعًا وجدانيًّا لا يستعمل العقل للتحليل أو الواقع للإحصاء؛ لذلك وصفنا بأننا مجتمع الكلمة، وجماهير الشعر، وحضارة اللفظ، ولكن لما كانت هذه الجذور لا شعورية في معظمها، وإلا كانت أيديولوجية واضحة المعالم؛ إذ لا نشعر بها جميعًا مع أنها هي الوجه الأول لسلوكنا، فقد فرض المنهج الفينومينولوجي نفسه من أجل وصف مكونات شعورنا، وإخراج مضمونه من اللاشعور إلى الشعور ورؤية ماهياته، فالفكر والواقع كلاهما يَحيَيان في الشعور، والشعور بؤرتهما.
كما لا تخرج هذه الدراسة عن الإطار الماركسي؛ لأن حقيقة ماركس وجذوره في فيورباخ، وأن الإنسان لا يمكنه أن يكون ماركسيًّا قبل أن يكون فيورباخيًّا، قبل أن يتطهَّر في «قناة النار»؛ وبالتالي فإن نقد التراث الديني هو الشرط الضروري لنقد المجتمع، وإن نقد الدين هو المقدمة الضرورية لتحريك الواقع وثورته. وقد كان ماركس الشاب فيورباخيًّا، محللًا الأيديولوجية الألمانية، وواصفًا اغتراب الإنسان في المجتمع في «المخطوطات الاقتصادية الفلسفية»، ومحاورًا فلاسفة عصره في «شقاء الفلسفة»، لم يغفل ماركس الأبنية الفوقية وتحليلها قبل أن يبدأ رأس المال، أي دراسة الواقع الإحصائي. وقد أكدت ماركسيات القرن العشرين على أهمية الأبنية الفوقية، سواء في المجتمعات المتقدمة أو في المجتمعات النامية، حتى إنه ليصعب التمييز في العالم الثالث بين «لاهوت الثورة» والماركسية، أي بين تثوير الأبنية الفوقية وفي مقدمتها الأبنية الدينية في المجتمعات التقليدية، وكما هو الحال في أمريكا اللاتينية وفيتنام والجزائر وجنوب أفريقيا، وبين الثورة العلمية كما تصفها الماركسية.
وشاهدنا هو البداهة، وموضوعنا هو التجارب المشتركة، ولا يهدف هذا المقال إلى دراسةٍ علمية تاريخية للمشكلة بل إلى إثارتها والإيحاء بها، ثم تركها بين يدَيْ علماء الاجتماع والتاريخ والحضارة.
هناك نوعان من الجذور؛ الأول: جذور تراثية خالصة، ورثناها من الأصول الأولى في القرآن والحديث والعلوم الدينية النقلية والعقلية، وهي العلوم التي تمدنا بأبنيتنا الثقافية وقوالبنا الذهنية والتي تكوِّن معظم بنائنا الفوقي؛ والثاني: أبنية واقعية ساعدت على تغلغل هذه الجذور وتشعُّبها، وكانت أرضها الخصبة التي ساعدت على نمائها، وهو طابع النظم الاجتماعية التي عشناها والتي ابتعدت فيها جماهيرنا عن الساحة منذ القضاء على الفرق الإسلامية الأولى وتصفيتها، وظهور الطبقات الاجتماعية وتمايزها، واتساع البون بين من يملك ومن لا يملك، ثم ظهور الطبقات المتوسطة التي تحكم السلطة من خلالها، والتي تمدُّ السلطة بأجهزة إدارتها، وهو باختصار ما يسميه الماركسيون «البناء التحتي»، والنوعان متصلان، متداخلان، متفاعلان، ولا يفسر أحدهما الآخر تفسيرًا آليًّا؛ فلا فرق بين الفكر والواقع، الفكر واقع يتحرك، والواقع فكر يحيا.
ويمكن رصد هذه الجذور في خمس مجموعات أساسية هي:
(١) حَرْفية التفسير
وهي ما يسمَّى في علوم القانون باسم الصورية، وما يُعرف عادةً باسم الجمود وضيق الأفق، تُضحِّي الحرفية بالمعنى في سبيل اللفظ، وبالواقع في سبيل النص، تُنكر المجاز، وترفض التأويل، وتستبعد المتشابه مع أن اللغة بها حقيقة ومجاز، ظاهر ومؤوَّل، مُحكَم ومتشابه، مقيَّد ومُطلق. هذه الحرفية تمنع الحوار حول المعنى والتوجه إلى مضمون النص، فيتحوَّل الحوار الفكري إلى مماحكاتٍ لفظية. كما تغيب نقطة التلاقي في الواقع. ولما كان اللفظ يعتمد على الشواهد النقلية فقد اعتمد هذا النوع من التفسير على الحجج النقلية، وهي حجج السلطة الدينية، وتقبل الموروث الذي لا يستطيع الإنسان رفضه أو حتى تأويله. ظهر ذلك في التفسير بالمأثور كما ظهر في الفقه السلفي (الحنبلي) والاعتماد على الأحاديث حتى الحركة السلفية الأخيرة. واتُّهم التأويل بأنه شيعي إلحادي، يهدف إلى هدم الإسلام، وضياع شَوْكة المسلمين. غاب الآخر في الحوار، وأصبح الآخر هو الآخر المطلق، أي الله الذي يرسل العلم المدوَّن ولا يستطيع الإنسان إلا الاستشهاد به، ولا يتم الحوار في ذهنٍ يرى أنه قد حصل على الحقيقة الأبدية المطلقة، وأنه يعلم معناها الكلي الشامل، وأن ما سواها زيفٌ وبطلان؛ فالحوار يتطلَّب إمكانية خطأ الذات واحتمال صواب الآخر، وهذا لا يتأتَّى في مثل هذه المعطيات المطلقة، لا يمكن الحوار إلا باحتمال انتقال اللفظة من الحقيقة إلى المجاز، ومن الظاهر إلى المؤول، ومن المُحكَم إلى المتشابه، ومن المقيَّد إلى المطلق، أي احتمال أحد أوجه الحقيقة. لا يحدث الحوار إلا في منطق الاحتمال وفي تعدُّد الحقائق، ويبدو أننا ألغينا الحرية منذ البداية بالالتزام بالحقيقة المطلقة المسبقة المكتوبة بصياغةٍ واحدة أبدية، والتي تنطبق على واقعٍ محدد بعينه بصرف النظر عن منطق التشابه في الألفاظ، ومنطق الازدواج في المعاني، ومنطق الاشتباه في الأحكام.
ويا ليت هذه الحرفية والدقة والخوف من الرأي والظن قد يحكمها منطقٌ محكم، باستثناء بعض فقهاء الحنابلة، ولكنها في الغالب تنقلب إلى الضد، وتصبح صراخًا أجوف، وتشدقًا بالعلم، ودفاعًا عن الحق، وهجومًا على الهوى، فأصبح العالم ليس هو صاحب المنطق المحكم بل صاحب الحنجرة العالية؛ وبالتالي تحولت الحرفية إلى عاطفةٍ هوجاء، وانقلبت الصورية إلى حيوية الصبيان. وبالرغم من أننا شرقيون، مشهورون بالتأويل والتخريج، وبأننا جميعًا باطنيون، ندرك ما وراء الألفاظ، ونقرأ ما بين السطور إلا أننا تركنا هذه الميزة، وأبقيناها كوسيلةٍ للنجاح الاجتماعي، ولبلوغ المقاصد الدستورية بالإيحاء إلى الرؤساء، والتعامل مع مختلف الاتجاهات المتعارضة بنجاحٍ ولباقة، فإذا ما أتينا للفكر العلني التزمنا بالحرفية في القانون وفي الإيمان، في الشريعة والدين، وكأن الحرفية ما هي إلا مظهر يخفي الجوهر وهي الباطنية، ولما كان الحوار لا يحدث إلا علنًا، فقد امتنع في الحرفية وتحول إلى حوارٍ سري وهمس في الآذان.
وقد ساعد ذلك على إنشاء وظيفة العالِم، ثم إنشاء طبقةٍ من العلماء بيدها حقائق العلم، فأرادت، حفاظًا على هذه الميزة، احتكار العلم، فقامت بتكفير كل من خالفها، وباستئصال كل من عارضها إما مباشرة أو باستعداء الحكام. تقرب إليهم الحكام للاعتماد عليهم في السيطرة على الشعوب؛ نظرًا لمكانتهم في النفوس، وأصبحت الطاعة العمياء للسلطة السياسية مرادفةً لحرفية النصوص للسلطة الدينية، ثم نشأت مزايدات بين العلماء، كلٌّ منهم يريد إظهار سلطويته الدينية أو تبرير سلطويته السياسية؛ كي يصبح كبير العلماء ورئيس هيئتهم، وأمام شعبٍ أمي، نجحت المزايدة في الإيمان على احترام المزايد وتعظيمه، ولو أن الشعب في لحظات فورة وعيه يشعر بتبعيته ونفاقه وتبريره للسلطة السياسية؛ ومن ثم اتحدت عقلية السلطة السياسية مع السلطة الدينية، إذ اعتمد كلاهما على «التنزيل»: تنزيل الأمر من السلطة إلى الشعب، وتنزيل الوحي من الله إلى العالم دون حق الشعب في مراجعة قرارات السلطة، ودون حق العالم في مناقشة العلم اللدني.
وقد وصل الحال بنا إلى قفل باب الاجتهاد، واقتصار الأمر على التبعية والتقليد، وظهرت الحرفية في حياتنا العامة وفي سلوكنا اليومي في إعطاء الأولوية للمظهر على الجوهر، وللخارج على الداخل، وللصورة على المضمون، وتحولنا إلى عصبياتٍ وقبائل تشترك في المظهر، وتركنا وحدة المضمون. ضاعت الأرض ونُهبت الثروات، وقُضي على الاستقلال، لغياب وحدة وطنية نتيجة لغياب الحوار بين الاتجاهات والمداخل المتعددة في البلاد.
إن علم التفسير الآن هو إعادة بناء الموقف الماضي على أساس الموقف الحاضر، حتى يمكن فهمه؛ وبالتالي إرجاع النصوص إلى مضامينها الحية في شعور الجماعة، وإن علم المعاني قادرٌ على تجاوز الألفاظ إلى مدلولاتها الأولى، حيث تكمن وحدة اللغة والتصور، وإن علم العلل لقادرٌ على توجيهنا نحو عالم الأشياء، وإن أزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا لتنشأ من اضطراب الصلة في شعورنا بين اللفظ والمعنى والشيء، فضحينا بالمعنى والشيء من أجل اللفظ؛ وبالتالي استحال الحوار.
(٢) تكفير المعارضة
لم يحدث ذلك في القرآن، إذ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، وأيضًا: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، وأيضًا: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، وأيضًا: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا، وعشرات أخرى من الآيات القرآنية، ولكن حدث أن انتشر فيما بيننا عديد من الأحاديث الموجهة لسلوكنا وذهننا، ونكثر من الاستشهاد بها في ماضينا وحاضرنا، ونكتب على آثارها التاريخ، ونصنِّف اتجاهاتنا ونحكم بينها سواء كانت صحيحة أم موضوعة، ضعيفة أو مشهورة. وقد نبَّه الأفغاني من قبل على خطورة أمثال هذه الأحاديث الموضوعة، وأثرها في حياتنا، وعلى سوء فهم بعض الأحاديث الصحيحة، ويكفي أن نضرب المثل بحديث الفرقة الناجية، وأثره على أزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا القومي، وهو الحديث القائل: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة …»، والحديث يُفيد في بدايته افتراق اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، والمسلمين على ثلاث وسبعين فرقة، ولكن المهم هو نهاية الحديث التي تتراوح بين العموم والخصوص في ثلاث صِيَغ؛ الأولى: «وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة»، وهي أقلُّها خطورةً لأنها تقرر فقط الخلاف بين وجهات النظر كواقعة دون تخصيص أو إدانة، أي دون إصدار حكم عليها بالصواب أو الخطأ؛ والثانية: «وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة تزيد عليهم ملة، كلها في النار إلا واحدة.» وهي أكثر خطورةً من الأولى لأنها بالإضافة إلى تقرير الواقع تصدر حكم قيمة على التاريخ، وتحكم على الفرق بالصواب أو الخطأ، وتعين هلاك الفرق كلها وضلالها، ولا تُستثنى إلا واحدة دون تعيين، فتوجه الأذهان إلى تعدُّد الأخطاء ووحدة الصواب، وتدين كل الاجتهادات في الرأي باستثناء واحد فحسب؛ والثالثة: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار، إلا واحدة، هي ما عليه أنا وأصحابي.» وفي رواية أخرى: «هي الجماعة.» وهي أكثر الصيغ خطورة على الإطلاق؛ لأنها تقرر واقعنا وتصدر حكمًا ثم تخصص الحكم وتعين الفرقة الناجية وهي فرقة بعينها. وقد شك العلماء في صحة هذا الحديث، وجواز الاستدلال به وعلى رأسهم ابن حزم، واكتفى البعض الآخر بتعدد طرق روايته دون الشهود بصحته، ولكن على افتراض صحته فإنه لا يعني أن كل محاولات الاجتهاد في الرأي خاطئة مدانة؛ فالاجتهاد أصل من أصول التشريع، والخلاف في الرأي أحد نعم الله علينا. «اختلاف الأئمة رحمة بينهم»، بل إنه أصبح موضوعًا لعلمٍ مستقلٍّ هو علم الخلاف، إنما يعني أن هناك مقياسًا للصواب والخطأ، وأن هناك معيارًا للحق والباطل، حتى لا يقع الناس فريسة التعدد بين الآراء واختلاف وجهات النظر، دون القدرة على الحكم عليها والاختيار بينها، كما يعني أن المهم هو الاجتهاد في الرأي وليس الوصول إلى الصواب، فللمخطئ أجر وللمصيب أجران. كما يعني ثالثًا أن تغير الواقع وتطوره واختلاف الظروف والأحوال من مجتمعٍ إلى مجتمع، ومن عصرٍ إلى عصر يتطلَّب وجهات نظر متعددة، تحتم ظروف العصر إحداها. وهو ما أكده علم أصول الفقه بجواز احتمال تعدد الصواب من الناحية العملية؛ لأنه لا يوجد صواب من الناحية النظرية في ميدان السلوك العلمي.
ولكن الذي حدث أن استغل هذا الحديث وغيره من الناحية السياسية، وأصبحت الفرق الضالة هي كل أنواع المعارضة السياسية للسلطة القائمة، كما أصبحت الفرقة الناجية هي حزب الحكومة! وقد سرى هذا التفسير منذ الدولة الأموية وطلب البيعة ليزيد، وتكفير الاتجاهات المعارضة له، واستمر ذلك حتى الآن، كل من يجتهد الرأي فقد ضل، وإن الحكومة دائمًا على صواب، وإن كل مفكري الأمة مغرضون، وإن الحكومة وحدها تسير على الطريق المستقيم. أصبحت المعارضة موضع شبهة؛ فالمعارض هو الشيطان، العميل، الكافر، الزنديق، الخائن، الخارج على إجماع الأمة.
فكيف يحدث خلافٌ في الرأي في هذا التاريخ الموجه الذي يدين ماضي الأمة وحاضرها ومستقبلها؟ كيف يمارس المفكرون حرية الفكر وهم ملعونون من قبل، ومدانون في التاريخ، وهم يعلمون جزاء الخروج على إجماع الأمة، وما ينتظر الكفار والمارقين؟ ليست علاقة الخطأ بالصواب بهذا التوجيه التاريخي علاقة حوار أو تناصح أو إرشاد، بل علاقة قوة وقهر، فليس بين الخطأ والصواب إلا حد السيف، ومن الذي يحدد الفرق الضالة والفرقة الناجية إلا الفرقة الناجية، أي من بيدها السلطة؟ وهل حدث أن خطَّأت السلطة نفسها، وهي الأقلية، في مقابل معارضة الأمة لها وهي الأغلبية؟
وبالإضافة إلى حديث الفرقة الناجية، هناك أحاديث أخرى كثيرة موجهة إلى فرقةٍ بعينها، وما أكثر الأحاديث التي وجهت إلى المعتزلة والخوارج، أي إلى العقل والثورة مثل «القدرية مجوس هذه الأمة» الموجه ضد المعتزلة. ومهما حاولوا تفسير الحديث وتضعيفه، كما فعل القاضي عبد الجبار في «المغني» و«المحيط» إلا أنه ما زال يوجه القادة والحكام والعلماء وأصحاب الهوى. ومثل إدانة الخوارج وتشبيههم بالخروج عن الأمة كما يخرج السهم من الرمية. هذا بالإضافة إلى كثيرٍ من الأقوال المأثورة التي تقوي الأحاديث الموجهة، مثل القول المنسوب إلى عثمان «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.» من أجل إعطاء الأولوية للسلطة السياسية على السلطة الدينية، فتكون الطاعة لأولي الأمر أولى من الطاعة لله، كيف يتم الحوار إذن والسيف مرفوع على رقاب أصحاب الرأي والاجتهاد؟
(٣) سلطوية التصور
لقد حددت الأشعرية، بعد انتصارها منذ القرن الخامس الهجري وتحولها إلى فكرٍ رسمي للدولة السنية، تصورنا للعالم بعد أن كانت حركة تحريفية للمعتزلة ومراجعة لها ونكوصًا عنها. ولم تنجح محاولات ابن رشد في الهجوم على علم الأشعرية مباشرة في «مناهج الأدلة» أو على نحوٍ غير مباشر في شروحه على أرسطو في إزاحة الأشعرية، بل لقد ضحى ابن رشد بنفسه في سبيل محاولته، وماذا تجدي مجهودات فرد أمام سلطان الدولة؟ ويمكن تلخيص التصور الأشعري للعالم على أنه تصور سلطوي مركزي إطلاقي، أصبح تصورنا للعالم وأساس نظمنا السياسية؛ فالله مركز الكون وخالقه، يسيطر على كل شيء، له صفات فعالة في الكون، قادر على ما لا يكون، وعالم بما يستحيل، لا يقف أمامه قانون طبيعي، ولا ترده حرية إنسانية، لا يستطيع الإنسان أن يفعل إلا إذا تدخلت الإرادة الإلهية لحظة فعله، وجعلته ممكنًا، وإلا استحال الفعل، فليس للإنسان إلا أن يكسب ما يهيئه الله له؛ الهداية والضلال، والتوفيق والخذلان، والتأييد والخسران، كله من الله. والإنسان يعيش في عالمٍ لا يحكمه قانون، ولا يرعى الأصلح، وليست به غاية، عالم خاضع لسلطةٍ مطلقة لا يستطيع الإنسان لها دفعًا، يتلقَّى الإنسان العلم الإلهي، ويظل عقله قاصرًا على أن يستقل بنفسه؛ ومن ثم فهو في حاجةٍ مستمرة إلى عطاءٍ من الوحي، وبالرغم من أن الإسلام آخر الأديان، والعقل فيه وريث الوحي، والإرادة الإنسانية فيه وريثة المعجزات، إلا أن الإنسان في تصور الأشعرية يظل قاصرًا، عقلًا وإرادة، عن أن يستقل في فَهْمه وفعله. يظل العقل تابعًا للنقل، وتظل الإرادة الإنسانية تابعةً للإرادة الإلهية. ثم يتوارى العمل كليةً عندما يتحدد جوهر الإنسان بالإيمان، ويتحدد الإيمان باللفظ أي بالنطق بالشهادتين؛ وبالتالي أصبحت الأمة أمة الألفاظ حتى بلا تصديقٍ باطني، حتى ولو أضمرت الكفر، وأصبح فكرنا لعبة الألفاظ، وبتواري العمل الذي يعبر عن جوهر الإيمان، تُرك الميدان خاليًا للفعل الخارجي من الله أو من الحاكم؛ فإخراج الفعل من مكونات الإيمان عند الناس يقابله إدخال العمل بلا حدود من الحاكم المتمثل لله، ومن سلطة الحاكم المستمدة من سلطة الله، فإذا ما غادر الإنسان هذا العالم، وانتقل إلى العالم الآخر، فإن مصيره أيضًا لا يحكمه قانون الاستحقاق، الثواب للمحسن، والعقاب للمسيء، بل الأمر متروك للمشيئة الإلهية، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
ومن هذا التصور المركزي للعالم جاءت فكرة الزعيم الأوحد، والمنقذ الأعظم، والرئيس المخلص، ومبعوث العناية الإلهية، والمعلم والملهم، يأمر فيطاع، يعبِّر عن مصلحة الناس، يضم كل شيء، واستعار صفات الله المطلقة في العلم والقدرة والحياة، يسمع كل شيء ويبصر كل شيء، ويتكلم في كل مناسبةٍ سواء بنفسه أو من خلال أجهزة الرقابة أو الإعلام؛ وبالتالي لم يعُد هناك فرق بين الفكر السني الذي يركز على المؤسسات، والفكر الشيعي الذي يركز على الإمام المعصوم، الذي سيملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جورًا. ضاعت المؤسسات وهي من أهم إنجاز تراثنا الفقهي القديم مثل الولاية والإمارة والوزارة والحسبة والقضاء وبيت المال والخراج. ونشأت بيننا الزعامة التي تجبُّ المؤسسات وتتجاوز الرقابة والمراجعة.
وقد تحولت سلطوية التصور إلى تسلطية النظم والإعلاء من شأن القمة على القاعدة؛ فأهم شخصٍ في الدولة هو الرئيس، وأهم فرد في الجيش هو القائد، وفي الوزارة الوزير، وفي الإدارة المدير، وفي الجامعة الرئيس، وفي الكلية العميد، وفي الشارع الشرطي، وفي الأسرة الرجل، حتى أصبحت الرئاسة مطلب الجميع، والرئيس لا يحاور بل يأمر، والمرءوسون لا يتحاورون بل يطيعون أو يتنافسون على الرئاسة. تتغير الأنظمة السياسية والاجتماعية بتغير الرؤساء، وتقام الأحزاب من القمة إلى القاعدة، وتُحل بمراسيم، وتُعقد بقرارات. وفي ذلك يقول الفارابي: سواء قلت الملك أو الرئيس أو الإمام أو الله، فإنني أقول شيئًا واحدًا.
هذا التصور المركزي للعالم الذي يعطي القمة كل شيء، ويسلب عن القاعدة كل شيء؛ كيف يتم فيه الحوار؟ لا يمكن الحوار إلا عندما تتساوى الأطراف أو على الأقل بين طرفَين متساويَين، وليس بين الأعلى والأدنى، بين الآمر والمأمور، بين الرئيس والمرءوس. لا يوجد حوار بين القمة والقاعدة، بل يوجد أمر وتنفيذ، سمع وطاعة، رضوخ واستسلام أو شكوى وأنين، نكتة وسخرية، وهي حيلة الضعيف والخائف المسكين. إن الخوف من السلطة بطول قهرها جعلت الناس يرضون بلقمة العيش، والسعي في سبيلها وترك الحوار والمطالبة بالحق. فالمهم هو الخبز وتوفير الطعام للأسرة، وكسب العيش، حتى لقد أصبح الشعار «دعنا نأكل عيشًا» أو «دعه يرتزق» وكأن الدفاع عن الحرية والديمقراطية يضر بلقمة العيش، ويؤدي إلى الجوع والهلاك، فاستحال الحوار إلا من يدٍ ممدودة تأخذ ويد أخرى ممدودة تعطي.
ولكن كل المجتمعات قد مرت بهذه الفترة في تاريخها، عندما كان تصورها للعالم سلطويًّا مركزيًّا إطلاقيًّا، ثم بدأ التحديث في الأبنية الفوقية أولًا. وتحوَّل التصور الرأسي إلى تصورٍ أفقي، وتحولت العلاقة بين الأعلى والأدنى إلى العلاقة بين الأمام والخلف، وتحوَّلت الحضارة الممركزة حول الله إلى حضارةٍ ممركزة حول الإنسان، وتحوَّل الآخر المطلق إلى الآخر النسبي وهو الإنسان؛ وبالتالي نشأت الديمقراطية بعد استواء الطرفين، حدث ذلك في عصر النهضة الأوروبي في القرن السادس عشر، فظهرت الليبرالية في القرن السابع عشر، وبدأ التنوير في القرن الثامن عشر حتى الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، والثورة الصناعية الثانية (التكنولوجية) في القرن العشرين. إنه لا أمل في حلِّ أزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا، إلا إذا حدث هذا الانقلاب الثقافي في حياتنا العقلية، وبدأت حضارتنا تأخذ مسارًا جديدًا ما زالت تتلمسه منذ حركات الإصلاح الديني الأخير، وبدايات الفكر القومي المعاصر، والاتجاه نحو الليبرالية في الفكر والحياة التي سرعان ما خبت باجترار القوالب الذهنية القديمة، في نهاية الثورات العربية المعاصرة، إنه ليبدو غريبًا ألَّا يتغير شيء في الواقع إن لم يتغير في الذهن أولًا، ولكن هذا هو حال المجتمعات التقليدية في مرحلة التحديث، وإلا فما معنى الشكوى من عدم بناء الإنسان العربي المعاصر؟
(٤) تبرير المعطيات
كان عمل العقل في تراثنا الفلسفي القديم عملًا تبريريًّا خالصًا، أي إنه يأخذ المعطيات وينظرها ويحيلها إلى معطياتٍ مفهومة يمكن البرهنة عليها، لم يقف العقل أمام المعطيات محايدًا أو ناقدًا إياها أو معارضًا لها، أو متسائلًا عن صحتها، كان عقلًا ملتهمًا لكل شيء، لا يقف أمامه شيء؛ لذلك اختفى التناقض، وضاعت الحركة بين الأضداد، كانت مهمة العقل على أقصى تقدير التوفيق بين الأطراف، وليس الحوار بينها، وإيجاد التآلف والانسجام في الكون وحل الصراع والتنافر بمقولاتٍ عقلية متوسطة؛ ومن ثَم لا حاجة إلى الحوار، فالمصلحة قانون الكون. كانت وظيفة العقل كوظيفة العنكبوت يدخل كل شيء في نسيجه ليلتهمه. لم يكن ثائرًا بل متبنيًا، لم يكن رافضًا بل قابلًا ومتمثلًا، لم يكن ناقدًا بل مثبتًا ومؤكدًا. وفي الوقت الذي يظهر فيه العقل الرافض سرعان ما يتم احتواؤه أو لفظه واستبعاده، كما حدث لابن الراوندي والرازي الطبيب. لم يقف العقل أمام المعطيات محللًا إياها إلى عناصرها الأولية ومركبًا إياها من جديد، بل تمثلها وحولها إلى معقولات، مبينًا اتفاق هذه المعطيات مع العقل، كان المهم هو الاختلاف أو الاتفاق، أي عملية خارجية محضة لا يتساوى فيها الطرفان، ولا يستقلان أحدهما عن الآخر بل يحتوي أحدهما الآخر. ولما كانت المعطيات معقولةً فقد احتواها العقل احتواء الصورة للمضمون، في هذه الوظيفة للعقل يستحيل الحوار لأن المعطيات مقبولة سلفًا ولا توضع موضع النقد، والعقل يقبل سلفًا ولا يرفض، فالموقفان محددان من قبل؛ ومن ثم ضاعت من العقل إمكانية التساؤل عن شرعية المعطيات وعن وظيفة العقل. يظن الإنسان أنه حر التفكير في حين أنه لا يملك إلا قبول المعطيات وتبريرها عقلًا، ويظن الإنسان أنه يحاور ويتبادل الرأي، وهو في حقيقة الأمر يدور في نفس الحلقة، حلقة الاتفاق والاختلاف، وفي الاختلاف يأتي التأويل لإظهار الاتفاق.
(٥) هدم العقل
كان هجوم الغزالي على العلوم العقلية في القرن الخامس الهجري، وقضاؤه على الفلسفة، وعداؤه لكل اتجاهٍ حضاري عقلاني، وتنكُّره لكل العلوم الإسلامية بما في ذلك علوم الكلام والفقه والحكمة، وباستثناء علوم التصوف، وهدمه لمنهج النظر ودعوته لمنهج الذوق، وتركه الحقيقة وسلوكه الطريقة، ونقده للعلم الإنساني وانتظاره للعلم اللدني — كان ذلك كله بداية هدم العقل وهو أداة الحوار. أصبح العلم لا يأتي بتحليل العقل أو الطبيعة بل يأتي بالكشف والإلهام، وأصبح إحياء علوم الدين، هو المفسر الوحيد للقرآن الكريم والسبيل إلى نهضة الإسلام والمسلمين! ثم تزاوج التصوف والأشعرية، والتحما معًا منذ القرن الخامس حتى الآن، نعلم بالكشف والإلهام ونطيع مطلق الإرادة الإلهية أو السياسية، أصبحنا في المعرفة صوفيةً وفي الأخلاق أشعرية.
وما دام العقل لا يعمل، وتحولت الحقائق إلى أسرار، فقد ظهرت في وجداننا في الألف عام الأخيرة مقدسات لا يمكن تناولها بالتحليل أو الفهم أو العرض أو النقد: الله، والسلطة، والجنس. وأصبحت هذه المقدسات الثلاثة مصادر للتحريم، أو كما يقول علماء الاجتماع «تابو». فالله يحرِّم أكثر مما يحلِّل، والسلطة تعاقب أكثر مما تثيب، والجنس للحرمان أكثر منه للإشباع، توقف الحوار بتوقف العقل وتبادل وجهات النظر وتحليل الموضوعات تحليلًا طبيعيًّا علميًّا مستقلًّا عن الأهواء، وتحول إلى مونولوج داخلي بين الإنسان ونفسه. تحول حديث الآخر إلى حديث النفس، وتحولت معاني الطبيعة إلى أسرار النفس، وتحول الصوت العالي إلى مواجع للنفس، أصبح العقل جنونًا، وانقلبت الصحة إلى مرض. وقد غذت السلطة السياسية كل التيارات اللاعقلانية في حياتنا؛ لأن العقل يناهض السلطة، ويكشف اللاشرعية، ويطالب بالحقوق، وينادي بالحرية، وبأنه لا سلطان على الإنسان إلا سلطان العقل، ولا حجة عليه إلا البرهان والدليل؛ فالإنسان لا يقبل شيئًا على أنه حق إن لم يثبت أمام العقل أنه كذلك. إن سيادة العقل كشف للأوضاع الزائفة واستعادة للحقوق، وكشف للعودة، وتزعزع للأنظمة؛ فالعقل ثورة، وقد قُضي على الإقطاع بفضل ترشيد العقل في النظم الليبرالية وريثته. إن سيادة العقل تجعل الحوار ممكنًا بين القاهر والمقهور، وتعيد إلى الطرفَين علاقة التساوي، وتقضي على علاقة التسلط من طرفٍ وتبعية الطرف الآخر.
لقد سادت اللاعقلانية في حياتنا، وظهرت في سلوكنا اليومي، وهي تؤدي وظيفتها خير أداء في الإبقاء على أحادية الطرف في حياتنا الثقافية، وفي نظمنا السياسية، فلا يتم النصر العسكري إلا بمددٍ من السماء، ولا تتم الاتفاقات السياسية إلا بوقوع معجزة، ولا ينقذنا إلا الرجوع إلى الإيمان، وأصبح مجرد إيجاد البدائل والحلول المغايرة خروجًا ومروقًا، بل أصبحت كل نظرةٍ نقديةٍ انقلابًا دمويًّا، وصراعًا طبقيًّا. كيف يتم الحوار إذن والناس تنتظر المعجزات؟ وكيف تطالب الناس بحريتها وهي لا تؤمن بفعلها وبإنجازاتها وبدورها في حركة التاريخ؟
إن حركاتنا الإصلاحية الأخيرة لم تفلح في تغيير الكثير، والتخفيف من حدة اللاعقلانية في حياتنا؛ فقد ظل الإصلاح الديني أشعريًّا في التوحيد أي سلطوية التصور، ولو أنه حاول أن يكون معتزليًّا في العدل بدعوته إلى إعمال العقل، وإلى الحسن والقبح العقليَّين، وإلى تأكيد حرية الإرادة النسبية، ولكن خطوة إلى الأمام وخطوتَين إلى الخلف، فلم تعارض حركاتنا الإصلاحية التصوف بل أيدته، وجعلته علمًا يقينيًّا وطريقًا شرعيًّا للخاصة وهم الأولياء. كما لم تنجح دعواتنا الليبرالية الأخيرة في الإعلاء من شأن العقل، وتحويله إلى ثورةٍ عامة تطالب بحقوق الناس في الحرية والديمقراطية؛ فقد ظل العقل محصورًا في طبقةٍ مستنيرة شاءت لها الظروف التعلم في الغرب، وأن تتلمذ على ليبراليته وتنهل من تنويره. ظل عمل العقل خارج النقد الاجتماعي وترشيد حياة الناس وتوجيه سلوكهم، فإذا ما تم استعمال العقل، فإنه غالبًا ما يكون تبريرًا للسلطة التي تعبِّر عن طريقة المستنيرين الذين بيدهم ثروات البلاد وليس نقدًا له، بل إن هذا القدر الضئيل من إعمال العقل في الثقافة والأدب قد تراجعنا عنه الآن، فقطعنا أنوفنا بأيدينا، وعدنا إلى تكفير طه حسين من جديد.
إن حياة العقل يصاحبها بالضرورة اكتشاف الطبيعة، والتأكيد على الحرية والديمقراطية، وهو ما حدث في التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر، وإن غياب العقل ليصاحبه أيضًا إثبات سيادة ما يخرج عن نطاق الطبيعة، والتأكيد على التبعية والطاعة لقُوًى من فوق الطبيعة، لقد بدأ الشك القديم عند مَن يسمون بأصحاب الطبائع، وهم الصف الأول من المعتزلة: معمر بن عباد، ثمامة بن الأشرس، الجاحظ، النظام، أبو الهذيل العلاف، بإثبات العقل وتأكيد الطبيعة وبالدفاع عن الحرية، ولكن ما بدأناه أنهيناه بعد جيلٍ واحد.
إن أزمة الحرية والديمقراطية هي أزمة تاريخنا في الألف سنة الأخيرة. ومهمتنا اليوم في إيجاد البدائل لكل ما هو مطروح، ولكل ما هو أحادي الطرف، وفي الدخول في معارك التصورات وصراع القوالب الذهنية، وإذا كنا نحاور الأعداء، فالأولى أن نتحاور فيما بيننا، وأن يكون لكلٍّ منا الحق في التعبير عن نفسه، وفي أن يستمع إلى رأي الآخر ليس مجرد وهم أو خداع، فإن كنت موجودًا فالآخر موجود، وكلا الطرفين متساويان. علينا فقط أن ننفذ إلى جذور الأزمة في قوالبنا الذهنية، وأن نعيد بناءها بحيث تتساوى الأطراف.