(١) مقدمة: حوار المفكرين
إنه لشرفٌ عظيم أن يتحدث زميلٌ قد يرحل أيضًا في القريب العاجل عن زميلٍ رحل عنا
بالأمس القريب، فالكل راحل، إما الموت غمًّا وكمدًا وعجزًا، موتًا بطيئًا بفعل النفس،
وإما الموت شهادة وإقدامًا وفعلًا، فجأة واغتيالًا، بفعل الغير. وإن أعظم شهادة وتحية
في الذكرى الأولى للزميل الراحل هو الحوار الخلاق بين الموتى والأحياء، ومَن الموتى،
ومَن الأحياء؟ هناك موتى أحياء سماهم تراثنا القديم الشهداء، ومنهم الزميل الراحل،
وهناك أحياء موتى، وهم الذين اغتالوه، قوى الظلم والعدوان، سماها تراثنا القديم
الطاغوت.
إن أشرف تخليد لذكرى الزميل الراحل هو ما يثيره فكره فينا من فكرٍ مقابل، وما تحدثه
رؤياه من رؤًى بديلة. إن ذكر محاسن الموتى صحيح في نطاق أنصاف البشر، أما قراءة أعمال
الزميل الراحل، وإعادة بناء مواقفه الفكرية فإنما هو جديرٌ بأنصاف الآلهة. فالحوار
قراءة، والقراءة إعادة بناء من أجل مزيدٍ من الأحكام للرؤية النظرية، ومن أجل مزيدٍ من
التلاحم مع الواقع الذي يهدف جميع فرقاء النضال إلى تغييره، هي قراءة مني لمهدي عامل
يصعب بعدها التمييز بين القارئ والمقروء. كلانا ربما واجهتان لعملةٍ واحدة؛ هو بؤرة
مضيئة وأنا مجموعة من الظلال متدرجة في الضوء، ربما هو المركز وأنا الأطراف، هو على
صوابٍ وقد يكون على خطأ، وأنا على خطأ، وقد أكون على صواب، كما قال الشافعي
قديمًا.
إن التكرار الباهت للمفكرين لا يفيد، وإن المدح والتقريظ للمناضلين إهانة، والدفاع
عن
المواقف الفكرية حتى من المتعاطفين إنما هو موتٌ للجميع. إنما هو الحوار الخصب،
والتساؤل الخلاق، كما فعل أرسطو مع أفلاطون، والهيجليون الشبان مع هيجل، وماركس مع
الجميع. لعلنا نستطيع تجاوز مرحلة التكرار والعرض لآراء مهدي عامل ونظرياته إلى مرحلة
الحوار الخلاق والنقد المبدع، ووضع الأجزاء في إطارها الكلي الشامل؛ لذلك أرجو من
الإخوة الماركسيين تجاوز مرحلة الدفاع عنه، كما أرجو من الإخوة غير الماركسيين تجاوز
مرحلة الهجوم عليه. إنما الهدف هو الفهم المشترك لمناهجنا العلمية وأوضاعنا الثقافية،
فكلنا في خندقٍ واحد، كلنا معرضون للاغتيال. الهدف إذن هو تطوير فكر مهدي عامل، وليس
الدفاع عنه وتقريظه أو الهجوم عليه وتفنيده. ومن بين وسائل التطوير وضعه في سياقٍ أعم،
وضعًا للجزء في الكل من أجل توسيع قاعدته، وجعله أكثر خصوبة، وأقدر على التطبيق، وأقل
عرضة للنقد، وأكثر قدرة على كسر الطوق والخروج من الدائرة الضيقة إلى الرحاب الأوسع.
هذه إذن إضافة متواضعة إلى فكر الزميل الراحل لإخصابه وتشعيبه وإكماله، قد يكون الغالب
على الحضور الإخوة المتعاطفين فكريًّا مع مهدي عامل، ولكن في إطار أدبيات الحوار سأحاول
إسماع الرأي الآخر بغية الحوار مع فيلسوف «التناقض». هذا البحث هو حوار بين مفكرَين
مناضلَين، لا يفرقان بين العلم والوطن، بين الفلسفة والثورة، بين الفكر والالتزام، لا
يهم الخلاف النظري بقدر ما يهم برنامج العمل الوطني الموحد. وفي نفس الوقت يعطي نموذجًا
لإمكانية التعدد النظري والوحدة العملية، وهو أحد دروس علم أصول الفقه القديم: الحق
النظري متعدد، والحق العملي واحد؛ فبالرغم من اختلاف المنطلقات النظرية إلا أن الأهداف
المشتركة واحدة. قد تختلف «الماركسية» عن «اليسار الإسلامي» في الأسس النظرية، ولكنهما
يتفقان في المواقف العملية، خلافٌ نظري مسموح ونضال عملي مشترك، رفاق في الفكر والبحث
ورفاق في السلاح والدم. وقد يكون الخلاف النظري مجرد إكمال؛ فالحقيقة كلها في الجمع بين
أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم كما فعل الفارابي من قبل، بين هيجل وماركس كما قد
نحاول أن نفعل.
هذا بحثٌ تقديمي شامل، يضع قضية التراث في الإطار الكلي الشامل لفكر مهدي عامل، مهمته
تفتيح الموضوعات، وكشف المحاور وإلقاء التساؤلات، وعرض الإشكاليات، فلا رؤية للجزء إلا
من خلال الكل، والموقف من التراث هو الموقف من الفكر ومن الحرب، الموقف النظري واحد
ونقاط التطبيقات متعددة؛ لذلك أتى العنوان «النظرية أم الواقع، دراسة في الأولويات في
فكر الشهيد مهدي عامل» أقرب إلى الكل منه إلى الجزء. والألفاظ الثلاثة موجودة في فكر
مهدي عامل: النظرية، والواقع، والأولويات، ولو أن تكرار لفظ النظرية أكثر من الواقع
والأولويات. الهدف من البحث هو النموذج ليس الشخص، نموذج الفكر النظري المتكامل، نموذج
المذهب المغلق الذي يصعب الدخول إليه أو الخروج منه، نموذج المذهب الخاص، واللغة
الخاصة، والمصطلحات الخاصة؛ ومن ثم كان التحدِّي هو كيف يمكن الخروج من الدائرة حتى لا
نقع في دوامة المذهب الخاص، واللغة الخاصة، والمصطلحات الخاصة؛ ومن ثم كان التحدي هو
كيف يمكن الخروج من الدائرة حتى لا نقع في دوامة المذهب الذي يدور حول نفسه حتى يغرق
فيه صاحبه وكل من يحوم حوله.
٢ إنما الشخص فله الاحترام الأوفى، يكفيه أنه أستاذ الفلسفة، صاحب الموقف،
المفكر الذي يجتهد رأيه والذي لا ينقل، ولا يكتب كتابًا مقررًا، ولا يبغي ترقية أو
وظيفة. يكفيه أنه مفكرٌ حر، اجتهد رأيه، وعبَّر عنه بشجاعةٍ وإقدام في بيئةٍ لا تعرف
إلا الحوار بطلقات الرصاص لإسكات الخصوم. يكفي جهاده من أجل لبنان، وحدته وشعبه، تقدمه
ونهضته، حاضره ومستقبله، فهذا البحث مُهدًى إليه، وهو الذي طالما أهدى أعماله إلى
أقرانه الشهداء.
٣
(٢) المنهج والمصطلح والأسلوب
ودراسات مهدي عامل على التراث مثل ابن خلدون أو الاستشراق أو الحضارة العربية، فإنها
في الغالب لا تقوم على دراسة الأصول الأولى بل تعتمد أساسًا على قراءات لصفحاتٍ معدودة
من «مقدمة» ابن خلدون أو كتاب «الاستشراق» لإدوار سعيد أو أعمال ندوة الكويت عن «أزمة
الحضارة العربية». والحقيقة أنه يصعب من هذه المادة العلمية المحدودة للغاية إصدار
أحكام على التراث، ابتداءً من صفحات فيه أو مقالات عنه، كما أنها لا تكون دراسة علمية
وافية خاصة، وأن الباحث يتبنَّى المنهج العلمي الرصين، وهو يتعامل مع تراث الموسوعات
الضخمة، تراث «المغني» للقاضي عبد الجبار؛ فالنص التراثي المدروس لا يتجاوز أربع صفحات
في كتاب «الاستشراق» وبضع صفحاتٍ أخرى من أول «المقدمة»،
٤ نَفَس الزميل الراحل في التراث قصير وإن كان باعه في الماركسية طويلًا، هل
تكفي أربعة صفحات للحكم على أي موضوع؟ هل يمكن عزل هذه الصفحات الأربعة عن
سياقها؟
وبالرغم من أهمية منهج النص كوسيلةٍ تعليمية؛ لإشراك القراء في المعارك الفكرية
ولتعويدهم أنه لا فكر إلا بقراءة،
٥ إلا أن النص عند مهدي عامل قصير للغاية لا يكفي لتمثيل حضارة واسعة،
مترامية الأطراف، تضمن آلاف المجلدات، كما أنه مبتسر عن السياق سواء داخل العمل نفسه
مثل «مقدمة» ابن خلدون أو «الاستشراق»، وهو أيضًا مبتسر عن الحضارة الإسلامية ككل؛ ﻓ
«المقدمة» جزءٌ من كلٍّ وهو علم التاريخ، و«الاستشراق» جزءٌ من كلٍّ وهو تحرر الأنا في
نهضتنا الحديثة.
ومعظم أعمال مهدي عامل هي شروح وتعليقات على أعمال معاصريه، يغلب عليها طابع الحجاج
والمراجعة، كلها تفنيد، ونقد، ونقض لأدبيات العصر، نشر معظمها كمقالاتٍ في مجلة
«الطريق»؛ وبالتالي فهي كتابات يغلب عليها المواقف الفكرية،
٦ كان هم مهدي عامل هو الإحكام النظري، والمراجعات النظرية، والتأسيس النظري،
ساعده على ذلك قدرة فائقة على السجال والحجاج والمراجعة. قد يرى البعض في ذلك إن كان
حسن النية المزاج الحاد، وإن كان سيئ النية الصعود على أكتاف الآخرين. والحقيقة أن
الغاية من مراجعة أدبيات معاصريه لم تكن رؤية الواقع بل صدق النظرية. ولا يأتي هذا
الصدق من إحالتها إلى الواقع (مقياس التطابق) بل بإحالتها إلى الفكر (مقياس الاتساق مع
النظرية الماركسية الصادقة صدقًا مسبقًا). قد يرى البعض في ذلك تحصيل حاصل أو دورًا
منطقيًّا أو تسلسلًا إلى ما لا نهاية، فما الدليل على صدق النظرية الماركسية حتى تكون
هي نفسها مقياسًا للصدق؟ وتضم الأدبيات أيضًا ما كتب منها بالفرنسية كرسائل جامعية
مقدمة من الطلبة العرب في الجامعات الفرنسية، والتي يزدهر فيها الإحكام النظري؛ نظرًا
لطبيعة الثقافة الفرنسية المعاصرة والبعد عن الأوطان كحاملٍ للتجارب المباشرة للواقع
العياني. وإذا كانت الأعمال كلها نقاشًا وحوارًا مع أدبيات العصر لنقدها ونقضها
وتقويضها، فقد غلب عليها طابع الهدم حتى «مقدمات نظرية» التي تهدم منطق التماثل لصالح
التناقض، والطبقة المتوسطة لصالح الطبقة العاملة.
لذلك غلب منهج الجدل مع الخصوم بهدف إيقاعهم في التناقض، بعرض النظريات والنظريات
المضادة، والردود على الاعتراضات، والاعتراضات على الردود، مع غياب للواقع ذاته الذي
يمكن أن يكون عامل اختيار بين النظريات المتعارضة، ومقياسًا للحكم على صدقها أو عدم
صدقها. أصبح الإحكام النظري هو الوسيلة الوحيدة للحكم، وكذلك صحة المقدمات النظرية
والمفاهيم الصحيحة سلفًا، تحول الفكر إلى تناطحٍ بين المقولات النظرية المتعارضة، دون
طرفٍ ثالث قادر على إخراج الحوار من الطريق المسدود، مع الاكتفاء بالنقيضين، الموضوع
ونقيضه دون مركب بينهما في جدلٍ كيركجاردي أكثر منه في جدلي هيجلي. كل محاور منعكس على
ذاته، يقوم بحوارٍ مع الذات ظانًّا أنه يحاور الآخر. وكانت النتيجة حصيلة من
«المونولوجات» المتقاطعة أو المتوازية وليست المتداخلة المتحاورة،
٧ وتكشف هذه الرغبة العارمة للحوار والنقاش عن بيان الاختلاف المطلق بين
الأنا والآخر، بين الماركسية وباقي المداخل النظرية، بين مهدي عامل ومعاصريه حتى
الماركسيين منهم «التحريفيين» كما تفعل الحركة السلفية المعاصرة في تكفين الكل إن لم
يكن سلفيًّا.
٨
لذلك تتشخَّص الأفكار وكأن الأشخاص أصحاب مذاهب،
٩ فهناك الفكر «الخلدوني»، والتأويل «السعيدي» نسبةً إلى (إدوار سعيد)،
والفكر «الشيحاوي» (نسبةً إلى ميشال شيحا منظر الطائفية). وقد يكون الفكر مستقلًّا عن
شخص قائله، ولا يمثل المفكر فرقة أو مذهبًا أو طريقة تعرف باسمه، كما كان الحال في
الفرق الكلامية القديمة،
١٠ وغابت المراجع والمصادر والهوامش إلا في أقل الحدود أو تُذكر في صلب النص
في معرض الحوار؛ وبالتالي غاب التوثيق،
١١ وقد تم استحداث مجموعة من الألفاظ والمصطلحات على طريقة المفكرين المغاربة،
وهي كلها ناتجة عن الثقافة الفرنسية المعاصرة، حتى أصبحت في الثقافة العربية المعاصرة
أشبه بالأدوات السحرية التي تجعل صاحبها قادرًا على الكلام، وماسكًا بنواصي الحديث.
تقنع الباحث ومستمعيه أنه قادرٌ على قول كل شيء إذ إنها تصحُّ في كل شيء، وتغلق أسرار
كل موضوع سواء كانت معربة أو منقولة.
١٢
ويمكن تصنيف مؤلفات مهدي عامل في أربع مجموعاتٍ على النحو الآتي:
- (١)
العروض النظرية مثل:
«مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني» ((١)
في التناقض، (٢) في نمط الإنتاج الكولونيالي)، دار الفارابي، بيروت، ١٩٧٢م.
١٣
- (٢)
الطائفية والحرب الأهلية في لبنان مثل:
- (٣)
في التراث، ويضم:
- (أ)
«أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية»، دار
الفارابي، بيروت، ١٩٧٤م.
- (ب)
«في علمية الفكر الخلدوني»، دار الفارابي، بيروت،
١٩٨٥م.
- (جـ)
«ماركس في استشراق إدوار سعيد»، دار الفارابي، بيروت،
١٩٨٥م.
- (٤)
ديوان شعر: فضاء النون، دار الفارابي، بيروت، ١٩٨٤م.
وواضح من هذه المحاور الأربعة أن الزميل الراحل، مفكر ماركسي (المحور
الأول)، لبناني المأساة (المحور الثاني)، في مواجهة البرجوازية العربية
المدافعة عن التراث (المحور الثالث)، وشاعر فنان (المحور الرابع). استولت
الطائفية على معظم كتاباته (ثلاثة من ثمانية) وهو الواقع الذي لم يكن له
الأولوية على النظرية. وأكبرها النظرية في الممارسة السياسية (٦٥٢ ص)، وليس
منها كتبٌ فلسفيةٌ متخصصةٌ باستثناء «المقدمات النظرية» كأيديولوجيةٍ
سياسية أو كإسهاماتٍ نظرية في الماركسية.
(٣) هل يجوز الانتقائية في التراث؟
يبدو أن المفكر العربي، درءًا لتهمة التغريب والتبعية الفكرية للغرب يحاول أن يؤقلم
نفسه محليًّا من أجل أن يكتشف جذور الماركسية في تراثه الخاص. فسرعان ما يكتشف مرة ابن
خلدون، ومرة أخرى ابن رشد،
١٥ وقد فعل المستشرقون الماركسيون ذلك من قبل، وتبعهم الدارسون العرب؛
١٦ وبالتالي تصبح النزعة العلمية التاريخية نزعةً محليةً أصلية، جزءًا لا
يتجزأ من التراث القديم ورواسبه في الفكر القومي،
١٧ ويدل هذا الموقف على عدة أشياء:
- (أ)
تأكيد الإحساس بالاغتراب الثقافي بالرغم من محاولة التكييف المحلي، وذلك
عن طريق درء تهمة التغريب بطريقةٍ غير مباشرة.
- (ب)
ابتسار جزءٍ من التراث القديم خارج الكل؛ فقد كان ما يسمى بالفكر العلمي
المادي التاريخي هو الفكر الطبيعي الإنساني (ابن رشد، ابن خلدون) الذي يقوم
على الاعتراف بالطبيعة، وباستقلال قوانينها في مقابل الفكر الأشعري الإلهي
الذي ينكر السببية دفاعًا عن الله ضد اطِّراد قوانين الطبيعة وحرية
الإنسان؛ وبالتالي الوقوع في الانتقائية.
- (جـ)
إعطاء شرعية لكل ابتسارٍ آخر، فيخرج التراث مرة روحيًّا مثاليًّا بابتسار
الأشاعرة، ومرة صوفيًّا باطنيًّا بإبراز التصوف، ومرة إشراقيًّا بابتسار
ابن سينا وإخوان الصفا. وفي السياسة، مرة يخرج الإسلام اشتراكيًّا، ومرة
رأسماليًّا؛ وبالتالي يدخل التراث في معارك الاختيارات الفكرية والسياسية،
وتصبح معارك التفسير أحد مظاهر الصراع الاجتماعي.
- (د)
غياب مقياسٍ للتحقق النظري من صدق إحداها دون الأخرى، ولا يستعمل أحد
المقياس العملي أي القدرة على تحقيق الأهداف الوطنية التي قد لا يكون هناك
خلافٌ عليها.
وعلى هذا النحو، يتم اقتطاع ابن خلدون من بيئته الخاصة التي كان يؤدي فيها وظيفته،
من
أجل تقريبه إلى وظيفةٍ مشابهة في بيئةٍ أخرى كان يقوم بها ماركس. ويبدو أحيانًا هذا
الموقف توفيقيًّا جزئيًّا، أخذ المتشابهات، وترك المختلفات، بناءً على اختيار الباحث
الفكري الذي تحدد ابتداءً من ثقافات الآخر باحثًا عن تكييفٍ لها مع ثقافات
الأنا.
والغريب في مثل هذا الموقف هو الوقوع في جدل المركز والأطراف؛ فالأطراف تنتسب إلى
المركز، ولا ينتسب المركز إلى الأطراف. ابن خلدون ماركسي وليس ماركس خلدونيًّا. وإذا
كان هناك تشابهٌ فلا يكون إلا بين ثقافتَين متساويتَين تاريخيًّا ومتبادلتَين كنقاط
إحالة مزدوجة. ولماذا لا يدل ذلك على «العقل في التاريخ»، تلك الهيجلية التي يرفضها ماركس.
١٨
وقد يقوم هذا الانتقاء على تأويلٍ وقراءة عصرية لنصوصٍ قديمة، فيها من الإسقاط
والتخريج أكثر مما فيها من العلم والموضوعية، يعلن مهدي عامل صراحةً أنه يفكر ابن خلدون
بماركس، وإذا كان ابن خلدون علميًّا ماديًّا تاريخيًّا بالفعل، فهل هو في حاجةٍ إلى
تأويلٍ ماركسي؟ هل ابن خلدون كذلك حقيقة أم أنه إسقاطٌ بلغة علم النفس أو تأويل وقراءة
بلغة الهرمنيطيقا؟ وفي كلتا الحالتَين لا يمنع ذلك من إسقاطاتٍ وتأويلاتٍ مضادة؛
وبالتالي يضيع ابن خلدون التاريخي نفسه إذا ما أمكن العثور عليه.
صحيحٌ أن ابن خلدون انتقل من التاريخ كتتابعٍ زماني
Diachronique أو حوليات إلى علم العمران أي بنية
التاريخ Synchronique مستعملًا التحليل الاجتماعي
التاريخ لاكتشاف بنية التاريخ، ولكن ذلك لا يأتي بالضرورة من علم اللسانيات الحديث، ولا
من الماركسية البنيوية عند التوسر، بل هو طبيعي عند أي باحثٍ يحاول اكتشاف البنية بعد
رصد التطور، فكلما ازداد التطور وتراكم كمًّا كشف عن بنيته كيفًا.
إن نقد ابن خلدون بغياب العامل الاقتصادي لهو إسقاطٌ من ماركس عليه وليس نقدًا، قراءة
لابن خلدون من منظور ماركس وفي إطاره، وخارج ظروف ابن خلدون،
١٩ قد يتشابه الطرفان مثل تمثيل ابن خلدون الفكر العلمي في حضاراته مع
المعتزلة، وابن رشد في مقابل الأشعرية والتصوف والفلسفة الإشراقية، وتمثيل ماركس للفكر
العلمي في حضارته مع دارون في مقابل الفكر الطوباوي الأخلاقي الديني. ومع ذلك، تظل
دلالة ابن خلدون ووظيفته في الحضارة الإسلامية، ودلالة ماركس ووظيفته في الحضارة
الغربية. والقراءة الماركسية للتراث في النهاية لا جديد فيها، ومعرفة عند كثيرين من
المفكرين المعاصرين، إبداعها في القدرة على التكيف مع التراث القديم والانتقاء
منه.
والحقيقة أن ابن خلدون ليس ماركسيًّا، بل هو يعبِّر بلغة علم العمران وعلم التاريخ
عن
روح الحضارة الإسلامية، وطابعها التجريبي المادي، كما ظهر في علم أصول الفقه القائم على
البحث عن العلل المادية المؤثرة في السلوك البشري. وقد كان ابن خلدون فقيهًا أصوليًّا،
لخص «المحصل» في أصول الدين للرازي، ولكن عدم وعينا نحن بعلمية الأصول وماديته، وعلمنا
بعلمية ماركس وماديته، جعلنا نكتشف الماركسية في ابن خلدون. وذلك يدل على اغتراب الفكر
العربي المعاصر، وكيف أن يده في التراث الغربي أطول مما هي في تراثه القديم.
ولقد كان نقد الرواية كمصدرٍ للمعرفة شائعًا قبل ابن خلدون من علم الحديث، ومن باب
الأخبار في علم أصول الفقه، مثل قسمة الخبر إلى متواترٍ يعطي المعرفة اليقينية وآحاد
يعطي المعرفة الظنية،
٢٠ وإن شروط التواتر الأربعة: العدد الكافي من الرواة، استقلال الرواة، تجانس
انتشار الرواية في الزمان، واتفاق الرواية مع الحس ومجرى العادات؛ لهو تفكير علمي
تاريخي في مصادر المعرفة التاريخية،
٢١ كما أن مقاييس النقد التاريخي، كما يحدِّدها مهدي عامل، ليست فقط عند ابن
خلدون بل هي شائعة وعامة في علومٍ متعددة في الحضارة الإسلامية مثل علم أصول الفقه،
وعلم مصطلح الحديث، والعلوم الطبيعية. ﻓ «أصول العادة» سمَّاها ابن حزم مجرى العادات
وهي إحدى مقاييس الصدق في البرهان، وإحدى شروط التواتر. و«طبيعة العمران» هي قوانين
التاريخ وسنن الكون، التي طالما تحدث عنها الحكماء والمتكلمون والمصلحون المحدثون. أما
«قياس الغائب على الشاهد» فإنه أحد المقاييس المنطقية في البرهان عند الأصوليين عامة،
وابن رشد خاصة. أما «قواعد السياسة» فإنها صياغة حديثة لتاريخ الفرق وعلم تدبير الملك
وقوانين الوزارة ونصائح الملوك.
ويبدو أن فَهْم مهدي عامل للفقه فهمٌ تقليديٌّ صرف دون تحقيق وتدقيق؛ إذ يوحد بينه
وبين الفكر الديني الكلامي،
٢٢ مع أن الفكر الفقهي الأصولي على الضد من الفكر الديني الإشراقي؛ الفكر
الفقهي ليس تعقيلًا للنظر من موقع هذا النظر، بل هو تعقيل للواقع وسبر لعوامله
وتقسيمها؛ وبالتالي يكون فكر ابن خلدون العلمي أقرب إلى الفكر الفقهي الأصولي بهذا
المعنى من الفكر الديني الإشراقي. يستعمل مهدي عامل صفة العقل الفقهي كصفةٍ قدحية، مع
أنها بالنسبة للتراث القديم صفة مدح؛ فالتراث الأصولي الفقهي أكثر نماذج التراث تقدمًا
من ناحية الإحكام العلمي والتحليل المادي.
ويتحدث مهدي عامل عن «القفزة العلمية للفكر الخلدوني في حقل الفكر التاريخي»، وهو
المفهوم السائد والأكثر شيوعًا في فهمه لابن خلدون،
٢٣ ويعني شيئين؛ الأول: ظهور ابن خلدون ممثلًا للفكر العلمي المادي في الفكر
الديني القديم، والثاني: وقوع ابن خلدون نفسه ضحية هذه القفزة، ببقاء بعض عناصر الفكر
الديني القديم في ثنايا فكره العلمي المادي. والحقيقة أن فكر ابن خلدون «العلمي» لم
يقفز فجأة، وأن الفكر الإسلامي قبله لم يكن خطابيًّا دينيًّا غيبيًّا. إن فكر ابن خلدون
هو تراكمٌ معرفي طويل، ابتداءً من الفكر الأصولي القديم حتى الفكر العلمي التجريبي
ومناهج الرواية عند المسلمين خاصة في علم مصطلح الحديث. كما أن ابن خلدون لم يتخلَّ عن
المنهج العلمي التاريخي، بل لدى كل مفكرٍ وفقيه إسلامي توتر دائم بين النزعة العلمية،
كما مثلها علم أصول الفقه وأصحاب الطبائع من المعتزلة والطبيعيات عند الحكماء، وبين
الفكر الديني التقليدي، كما مثله الأشاعرة والصوفية والفلاسفة الإشراقيون. وهو الصراع
القديم بين الطبيعيات والإلهيات في كل حضارةٍ خرج فكرها العلمي من ثنايا فكرها الديني.
وقد يكون مهدي عامل نفسه قد وقع في هذه «القفزة» في تفسير ظهور ابن خلدون تاريخيًّا
متخليًا عن مفهوم التراكم التاريخي المعرفي، وكأنه مال إلى مفهوم «القطيعة المعرفية»
في
الفكر الفرنسي المعاصر عند باشلار وفوكو، أكثر من التزامه بمفهوم التراكم التاريخي في
الماركسية.
ويستعمل الباحث منهج الدفاع والتقريظ، سواء لمنطلقه النظري أو لكل منطلقٍ نظري آخر
مشابه؛ فهو يدافع عن الفكر العلمي عند ابن خلدون لأنه فكرٌ مادي تاريخي، يفرق بين تاريخ
الأحداث وبنية التاريخ، ولكنه لا يطور ابن خلدون وكأن ابن خلدون هو نهاية المطاف، كما
أن ماركس أيضًا هو البداية والنهاية. مع أنه يمكن نقد تحليلات ابن خلدون وتمييزه بين
البدو والحضر، ونقد تصوره لقيم البداوة والحضارة، ولمفهوم العصبية، وللصفات الدائمة
للشعوب مثل العرب والبربر، ولقانون تطور المجتمعات، نشأةً وسقوطًا. وكان يمكن بيان
المسافة بين فكر ابن خلدون العلمي القديم وفكرنا الاجتماعي الحالي لمعرفة لماذا تحول
فكرنا من جديد، من مرحلة العلم إلى مرحلة الإشراق والغيب. كان يمكن الاستفادة من ابن
خلدون حاليًّا لفهم المجتمع العربي المعاصر، وبيان إلى أي حدٍّ يمكن تطبيق مفاهيمه
وتصوراته وقوانينه على تطور المجتمع العربي الحالي.
وتغيب في رؤية مهدي عامل الحضارة الإسلامية ككلٍّ، والتمييز بين علومها العقلية
والنقلية، ودون وضع معالم واضحة بين العلوم العقلية النقلية الأربعة. فكل علمٍ منها له
موضوع ومنهج وغاية، ولا يمكن إصدار حكم عام على الحضارة الإسلامية؛ لأنها مجموعة من
العلوم المتمايزة بل والمتباينة إلى أقصى حد التباين، وعندما يقارن مهدي عامل بين
الحضارات، الإسلامية واليونانية مثلًا، فإنه يغفل خصوصية كلٍّ منها، وكأنه أمام حضاراتٍ
متماثلة، يجمعها قاسمٌ مشترك وهو الفكر العلمي المادي الذي جسدته الماركسية كنظريةٍ
ومذهب، كما يأخذ الحضارة الغربية كإطارٍ مرجعي أوحد تحال إليه كل الحضارات الأخرى، وكأن
الأولى تضع الحقائق والمقاييس، والثانية تعطي المواد الخام، وذلك مثل التمييز بين العلم
Science والمعرفة
Savoire.
٢٤
(٤) الاستشراق: تناقضٌ رئيسي أم تناقض ثانوي؟
تظهر روح الاستشراق في ثلاثية مهدي عامل التراثية،
٢٥ وقد ظهرت من قبل في «علمية الفكر الخلدوني»؛ إذ يبدو مهدي عامل أحيانًا
غربي الثقافة، مسيحي المنطلق في تصوره للتعارض بين الدين والعلم، بين الله والإنسان،
بين الإلهيات والطبيعيات، كما وضح ذلك في التراث الغربي. مع أن المسافة بينهما في
التراث القديم ليست بهذا البون الشاسع. ويستعمل الثنائيات المتعارضة في الفكر الغربي
مثل الإلهي والإنساني، التأويل والتفسير والفهم
Understand والشرح
Explain، ويرى أن هناك مفهومَين للتاريخ؛ الأول:
ظاهرٌ تجريبي أخلاقي سكوني يقوم على القصص والأخبار، وهو تاريخ الحوليات؛ والثاني:
باطني واقعي يحدد العلاقات، عملية فكرية، وهو التاريخ كما فهمه ابن خلدون وماركس،
٢٦ مهدي عامل هنا يهتم بماركس أكثر من اهتمامه بابن خلدون أي بأدوات الثقافة
الغربية أكثر من اهتمامه بالموضوع المحلي المدروس، إنه يفصل بين العامل الديني والعامل
السياسي، ويتهم جميع الباحثين والممارسين السياسيين بالخلط بينهما، وهو فصلٌ لا وجود
له
لا في الفكر الإسلامي ولا في التاريخ الإسلامي. إنما هو موجودٌ فقط في أدوات الاستشراق
البحثية وفي بيئة الاستشراق الدينية والاجتماعية وظروفه التاريخية،
٢٧ ويعتمد مهدي عامل على المستشرقين حتى إنه ليبدو أحيانًا أحد المستشرقين العرب،
٢٨ مع أن الباحث العربي أقدر على الدراسة المباشرة «للمقدمة» والانتهاء إلى
نتائج أكثر دقة، وإصدار أحكامٍ أكثر أصالة من نتائج المستشرقين وأحكامهم، هناك فرق بين
الباحث من الخارج والباحث من الداخل، بين الغريب وصاحب الدار، بين المتفرج خارج الحلبة،
حتى ولو كان شاهدًا عدلًا وحكمًا وبين اللاعب أحد أطراف الصراع. يبدو مهدي عامل وكأنه
أحد «الخواجات» في دراسة التراث،
٢٩ هو واحدٌ من المستشرقين أكثر منه أحد الباحثين الوطنيين القادر على تجاوز
الاستشراق.
ويبدو نفس الموقف في «ماركس في استشراق إدوار سعيد»، إن ما يهم مهدي عامل هو ماركس
وليس الاستشراق، أي أدوات البحث وليس موضوع البحث، وكان السؤال: إلى أي حدٍّ فهم إدوار
سعيد ماركس واستعمله استعمالًا صحيحًا بصرف النظر عن موقفه من الاستشراق. ضحَّى مهدي
عامل بالموضوع من أجل المنهج، وبالاستشراق من أجل ماركس. لم يهتم بالكتاب إلا بوضع
ماركس فيه، وكما يتضح ذلك من العنوان. أصبحت الماركسية هي القالب الذي يضع فيه كل شيء.
فما اتفق معها كان صحيحًا وما خالفها كان خاطئًا. أصبحت الماركسية مقياسًا لكل شيء:
الحضارة الإسلامية، والنهضة العربية، وعلم العمران عند ابن خلدون، والاستشراق عند إدوار
سعيد، والحرب الأهلية في لبنان، والقضية الفلسطينية … إلخ.
دخل مهدي عامل مناقشةً نظرية مع إدوار سعيد ليست هي المقصود من كتاب «الاستشراق»،
مناقشة جدلية منهجية تتم فيها التضحية بالموضوع ذاته من أجل أدوات معرفته، وباستعمال
أسلوب الحجاج وليس برؤية الواقع ذاته. هل المقصود إيقاع إدوار سعيد في التناقض؟ وهل
الاتساق هو المقياس الوحيد للصدق؟ ألا يجوز للباحث استعمال أدواتٍ معرفيةٍ متعددة
ومتباينة، بل متناقضة من أجل كشف الموضوع؟ أليست المعرفة هي الوسيلة والموضوع هو
الغاية؟ ألا تتعدد الوسائل للوصول إلى نفس الغاية؟ ولماذا لا ندرأ عن بعضنا البعض مرض
«الطفولة اليسارية» والمزايدة، وإلزام كلٍّ منا بحرفية مذهبه، هو الوحيد الناجي،
والآخرون هلكى، هو وحده في الجنة، والآخرون في النار؟
والغريب أن يهاجم مهدي عامل إدوار سعيد في كتابه «الاستشراق»، كما يهاجمه المستشرقون
أنفسهم وكل الدوائر الاستعمارية الغربية، بعد أن كشف إدوار سعيد طرق الهيمنة الغربية
من
خلال البحث العلمي، وبدعوى الموضوعية والحياد، على بلاد الشرق، شعوبًا، وثروات،
وثقافات، وأن الاستشراق من هذه الناحية ما هو إلا أحد أشكال سيطرة الغرب على الشرق؛
وبالتالي فإن نقد الاستشراق ما هو إلا أحد أشكال تحرر الأنا من سيطرة الآخر، وتحرر
الشرق من الغرب. فما العيب في هذه الأطروحة العلمية والأيديولوجية التي يكاد يجمع عليها
كل الباحثين العرب؟ وما العيب في ثنائية الشرق والغرب، تلك التي تعبِّر عن تقابلٍ
تاريخي وحضاري وسياسي؟ ألم ينشأ الاستشراق إبان صحوة الغرب وغفوة الشرق؟ ألَا يعني
الاستشراق دراسة الشرق من منظور الغرب؟ وإذا كان الغرب هو الدارس والشرق هو المدروس،
وكان الدارس هو الذات، والمدروس هو الموضوع، فإن تحول جدل الذات والموضوع وتبادل
الأدوار لهو أحد أشكال الصراع والتحرر، أن يتحول الموضوع المدروس بالأمس إلى ذات دارس
اليوم (وهو الأنا)، وأن يتحول الذات الدارس بالأمس إلى موضوع مدروس اليوم (وهو الآخر).
إن «الاستشراق» لإدوار سعيد هو إحدى بدايات «علم الاستغراب» الذي يتم فيه تحول هذا
الجدل القديم، ويتم فيه دراسة الغرب من منظور الشرق، ورد الغرب إلى حدوده الطبيعية،
وتحويله إلى موضوع دراسة بعد أن كان ذاتًا دارسًا،
٣٠ فهل ثنائية الشرق والغرب، وجدل الأنا والآخر بعد هذا كله يُعدان وهمًا؟
٣١
ولماذا لا يتضامن مهدي عامل مع إدوار سعيد على كشف أشكال الهيمنة الاستعمارية؟ ولماذا
لا تتعدد الأطر النظرية ومناهج التحليل لتحقيق هذا الهدف؟ إن هجوم مهدي عامل على إدوار
سعيد بسبب كارل ماركس ليضعه في خندق خصومه، مع أن الغرب هو العدو المشترك لهما وكأن
الطرفَين يلتقيان! وكيف لا يفكر مهدي عامل بأسلوب الجبهة المتحدة ضد العدو المشترك؟
وكيف لا يفرق بين التناقض الثانوي، وهو اختلاف مناهج تحليل الاستشراق بين مهدي عامل
وإدوار سعيد، وبين التناقض الرئيسي، وهو بين مهدي عامل وإدوار سعيد من ناحيةٍ والهيمنة
الثقافية الغربية في صورة الاستشراق من ناحيةٍ أخرى؟ لما كان مهدي عامل وإدوار سعيد في
خندقٍ واحد في مواجهة الغرب الاستعماري، فالأولى تكوين جبهة وطنية ثقافية علمية واحدة
ضد العدو المشترك. إن هجوم مهدي عامل على إدوار سعيد ليدل على أولوية المذهب على
الموقف، والتضحية بالواقع في سبيل النظرية، وهي الطائفية المعكوسة. فكل فكرٍ مذهبي مغلق
هو فكر طائفي. إن من أصول الماركسية الوحدة الوطنية، والجبهة الوطنية المتحدة التي يكون
فيها الماركسيون عصبها ومركزها، هكذا تم تحرير الصين، وفيتنام، وكوبا. قد يكون
الماركسيون أقلية ومع ذلك يكونون جزءًا من حلفٍ وطني عام، كما هو الحال في العراق
وسوريا وأثناء حرب التحرير الوطني في الجزائر. ونفس الشيء يحدث في الفكر؛ فالماركسية
إحدى نظريات الثورة، وليست النظرية الثورية الوحيدة، وهي إحدى المناهج العلمية للتحليل
وليست المنهج العلمي الوحيد.
(٥) هل الفكر العربي أو الحضارة العربية وَهْم من صنع البرجوازية؟
ويقدم مهدي عامل قراءةً نقدية لندوة الكويت، عن أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي
في تساؤلٍ واضحٍ أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية؟
٣٢ فالحكم على الندوة ليس من موضوعها أو مادتها، بل من نوع المعرفة أي بمراجعة
أدوات بحثها، مما يعني من جديدٍ التضحية بالموضوع من أجل المنهج، وبالغاية من أجل
الوسيلة. ويرى مهدي عامل أن موضوع الندوة حكمٌ مسبق، مع أننا في هذا الهم منذ أربعة
أجيالٍ خلت، منذ فجر النهضة العربية، منذ محاولات الرواد الأوائل على مختلف تياراتهم
سواء الأفغاني والحركة الإصلاحية، أو شبلي شميل والحركة العلمية، أو الطهطاوي وبناء
الدولة الحديثة على أسس الليبرالية. هل كل ذلك أحكام مسبقة؟ هل الندوة تضليل وإيهام؟
ولصالح مَن؟ هل يسهل اتهام كل المفكرين العرب والحكم على ولائهم وانتماءاتهم؟ ألَا
يعاني من ذلك الماركسيون أنفسهم من جراء اتهامات خصومهم لهم بنفس الاتهامات؟ هل تعني
الندوة أن العرب قبل الحضارة وأنهم في سبيل الحضارة؛ وبالتالي هناك فترتان تاريخيتان،
ما قبل الحضارة وما بعدها؟ أليس الإشكال هو السؤال الذي طرحناه من قبل وما زلنا نطرحه،
وستطرحه الأجيال القادمة وهو: لماذا تخلَّف المسلمون وتقدم غيرهم؟ ألا يعبر هذان
الدوران التاريخيان عن رؤيةٍ مانوية، ثنائية متعارضة من ذهن المؤلف؟
٣٣
ويرفض مهدي عامل ما يسمى بالفكر العربي مع أنه مصطلحٌ شائع يشير إلى نتائج الفكر
في
وطننا العربي،
٣٤ صحيحٌ أن كثيرًا من الباحثين يستبدلون به الفكر الإسلامي؛ فهو أدق وأشمل
وأوسع وأصح ولكن مهدي عامل يرفض الأول، ولا يستبدل به الثاني وكأن الفكر واحدٌ لا وطن
ولا مقر، وكأن هناك فكرًا عالميًّا واحدًا هو بطبيعة الحال الفكر العلمي كما جسدته
الماركسية، كما يرفض الحديث عن العقل العربي و«الإنسان العربي»، باعتبار أن «العقل
العربي» مفهومٌ أفرزته أيديولوجية البرجوازية الكولونيالية لتأكيد سلطتها.
٣٥ وقد يكون الرفض صحيحًا للعقل العربي لسببٍ آخر وهو أن العقل لا جنس له. أما
التراث أو الحضارة أو الإنتاج فله وطن وأرض ومنبع ومستقر. «العقل العربي» أحد التعبيرات
الباقية من العنصرية الغربية التي مايزت بين الشعوب بناءً على تكوين عقلياتها؛ فهناك
العقل الألماني، والعقل الفرنسي … إلخ، وهو خلافٌ بين الإخوة الأعداء، وهناك العقل
السامي والعقل الآري، والعقل الشرقي والعقل الغربي، والعقل المتحضر والعقل البدائي، وهو
خلاف بين الأعداء. أما الإنسان العربي بلحمه وعظمه، وفقره وتخلفه، وخوفه وضياعه فهو
موجود بالفعل، وليس له طابع الشمول والعموم الذي للفكر. وفي ضوء المنطق العلمي يوحد
مهدي عامل بين الفكر العربي وحركة التحرر العربي؛ فالفكر حركة، والعقل ثورة؛ وبالتالي
يمكن معرفة الفكر العربي عن طريق تحديد الشروط التاريخية لحركة التحرر العربي، فحركة
التحرر الوطني هي الحقل التاريخي لحركة الفكر العربي، ومشكلة الفكر العربي هي مشكلة
تحرره الوطني. ويتم إصلاح الفكر العربي بالانتقال من موقع السيطرة إلى موقع التبعية،
كما هو الحال في البرجوازية العربية،
٣٦ وعلى هذا النحو، يوحد مهدي عامل بين الفكر التاريخي والتاريخ، بين الماهية
المستقلة وحركة الواقع في علمٍ واحد. ولا يفرق بين البرجوازية الوطنية المستقلة
والبرجوازية التابعة، الأولى في عصر الثورة والثانية في عصر الثورة المضادة،
٣٧ صحيحٌ أن الأزمة ليست أزمة الحضارة العربية ولكنها أزمتنا نحن؛ فالأزمة
ليست في الموضوع بل في الذات لأن الموضوع ليس موضوعًا تاريخيًّا صرفًا بل هو تراكم
تاريخي، موروثٌ قديم ما زال حيًّا في قلوب الناس، يفعل فيها، يمدها بتصوراتها للعالم،
ويعطيها موجهات السلوك،
٣٨ وهذا ينفي دراسة الحضارة دراسة موضوعية صرفة لبيان نشأتها وتطورها
ومكوناتها، وكشف البنية الاجتماعية التي أفرزتها. وهل يكفي المطالبة بالحركة التاريخية
للبنيات الاجتماعية العربية، دون بيان أثر هذه البنيات في اختيارنا للماضي، ولتفضيلنا
أحد مكوناته؟
ومع ذلك، يراجع مهدي عامل أعمال ندوة الكويت في أربعة محاور رئيسية؛ أولًا: تحديد
الصلة بين الماضي والحاضر وهل هي علاقة انقطاع أم استمرار؟ ثانيًا: قضية التخلف والتقدم
وهل التخلف فكري أم سياسي؟ ثالثًا: مفاهيم الحداثة والنهضة وإلى أي حدٍّ تعبر عن وهمٍ
أو عن واقع؟ رابعًا: مفهوم التراث وهل هو أداة للبرجوازية لتدافع عن نفسها، ومن صنع
الطبقة أم أنه يمكن أيضًا أن يكون أحد عوامل التحديث ومقومات النهضة؟ ويكون السؤال في
النهاية في صورة إجابة قاطعة لا مراجعة فيها. إن كل هذه المحاور الأربعة إنما هي وهم
من
صنع البرجوازية المفلسة العاجزة عن قيادة حركة التحرر الوطني! وبالرغم من تداخل هذه
المحاور الأربعة مع بعضها ومع الحكم النهائي إلا أنه يمكن عرضها والتمييز بينها.
(٥-١) الماضي والحاضر، انقطاعٌ أم استمرار؟
ويطرح مهدي عامل هذه القضية في نقض التخلف التاريخي بإصدار حكم قاطع على النحو
الآتي: ليس الماضي في بقائه في الحاضر سبب التخلف، بل الحاضر هو سبب بقاء الماضي فيه،
٣٩ والحقيقة أنها ليست قضية أولوية وسبق، بل علاقة جدلية متبادلة بين
الماضي والحاضر؛ فالماضي مخزون نفسي عند الجماهير؛ وبالتالي فهو حاضر، والحاضر ما
هو إلا تراكم للماضي في إحدى مكوناته الثقافية الحية، والتي ما زالت أحد عناصر
البقاء في التكوينات الاجتماعية الحالية. إنما ينشأ الخلط بافتراض القطيعة
النهائية، وفي افتراض التواصل الكامل، فإذا كان افتراض الانقطاع عن الماضي هو
الصحيح، فكيف يمكن قراءة ابن خلدون وابن رشد، وتحويل الماركسية إلى فكرٍ محلي له
جذوره في التراث القديم؟ ولماذا حاول المصلحون المحدثون نقد الموروث الثقافي
القديم، تأييد السلطان بالله، والقضاء والقدر، والطرق الصوفية، والفقه الافتراضي إن
كان بيننا وبينه هذا الانقطاع وتلك القطيعة؟ وكيف تتم المناداة بالقطيعة
وبالتاريخانية في نفس الوقت وهما نقيضان؟ إن الانقطاع عن الماضي مفهومٌ غير ماركسي.
فما الحاضر إلا تراكم للماضي، ولا توجد قفزات في التاريخ. إنما نشأ مفهوم القطيعة
من البنيوية المعاصرة، وهو منهج لا تاريخاني وبالتالي لا ماركسي، بالرغم من محاولات
التوسر صياغة ماركسية بنيوية، وقبل أن يكتب ماركس «رأس المال» فإنه نقد
«الأيديولوجية الألمانية»، وتحول عن الهيجليين الشبان، وانتقل من «كارل» إلى
«ماركس». لا يوجد تناقض فعلي بين تفسير الحاضر بالماضي أو تفسير الماضي بالحاضر من
منظور التواصل والتاريخانية.
وإذا كان الحاضر ما هو إلا تراكم للماضي، فكيف يفسر الحاضر نفسه بنفسه؟
٤٠ هناك علاقة جدلية بين الماضي والحاضر، وإلا وقعنا في منطق البيضة
والدجاجة أيهما أسبق؟ وإذا كان لا بد من الاختيار، ومن منظورٍ ماركسي جديد،
وتعبيرًا عن الواقع المعاش فإن الحاضر ما هو إلا تراكم للماضي كموروثٍ ثقافي ومكون
رئيسي لثقافة الجماهير في غياب الأيديولوجية السياسية،
٤١ وإن أحد الأسباب الرئيسية للمجتمعات الطبقية هو الموروث الثقافي وراء
تصوراتها للعالم، مثل «آراء أهل المدينة الفاضلة»، ونظرية الفيض في الإلهيات،
وانعكاساتها في الإنسانيات؟ في الأخلاقيات وفي الاجتماعيات. وإن الأشعرية
كأيديولوجيةٍ للسلطة هي التي تمدُّ الحاكم بشرعيته، كما أن التصوف، وهي أيديولوجية
الاستسلام، هي التي تحثُّ المحكومين على الطاعة،
٤٢ يمكن تفسير الحاضر بالماضي تاريخيًّا كما يمكن تفسير الحاضر بنفسه
بنيويًّا باكتشاف الماضي كأحد مكوناته.
صحيحٌ أنه في الماركسية التقليدية كل ظاهرة هي نتاج تاريخها؛ لذلك عرف المنهج
بأنه مادي تاريخي، ولكن أن تتحول التاريخانية إلى لفظٍ سحري يفك أسرار الكون، أو
يتحول في أيدي الباحث إلى معولٍ يهدم به كل شيء، ويقضي به على المعاني المستقلة شيء
آخر، قد تبقى التاريخانية ولكن تتحول إلى مرحلةٍ تاريخية خاصة يمر بها المجتمع،
وتتكيف الماركسية طبقًا لها لتصبح ماركسية تاريخية،
٤٣ وفي هذه الحالة، تعني التاريخانية مجرد المرحلة التاريخية التي يمر بها
المجتمع، وليس التاريخ كعقيدةٍ أو مذهب مسبق. وفي نفس الوقت الذي يتم فيه الدفاع عن
سيرورة المعرفة يتم أيضًا الدفاع عن بنية العقل من أجل اكتشاف الماضي فيه، فإذا كان
المنهج التاريخي قادرًا على تتبع نشأة الظواهر وتطورها، فإن المنهج البنيوي قادرٌ
أيضًا على اكتشاف بنية الفكر وبناء العقل. فلماذا أحادية الطرف، إما تاريخانية وإما
لا شيء، وهو جدل الكل أو لا شيء؟ وفيمَ كان جهد التوسر من أجل صياغةٍ ماركسية
بنيوية؟
ويرفض مهدي عامل الاستمرارية التاريخية وما يتعلق بها من خصوصية المجتمع القومي،
حتى ولو كانت في صيغةٍ ماركسية وطنية؛ إذ يتحدد النقض بتكرار المنقوض،
٤٤ ويرفض ديمومة عودة الذات في اختلاف مظاهر الثابت، الثابت الإسلام
والمتحرك هو الجيش. الثابت هو المجتمع القومي والمتحرك هو الماركسية الوطنية،
الثابت هو الأستاذ (جاك بيرك)، والمتحرك هو التلميذ (أنور عبد الملك). وهو التصور
الذي قامت على أساسه الأبنية القومية في مصر وإيطاليا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا.
يضع الدولة فوق الطبقات، ويجعل الجيش أداة تثبيت.
٤٥ وهنا يبدو مهدي عامل أقرب إلى مفهوم الانقطاع منه إلى مفهوم التواصل؛
وبالتالي يضحي بالتكوين التاريخي في سبيل البنية السياسية.
(٥-٢) التخلف والتقدم
ويرى مهدي عامل أن مفهومَي التخلف والتقدم مرتبطان بتطور القوى المنتجة في
علاقاتها مع بنية الإنتاج،
٤٦ وينقد مفاهيم التخلف العلمي ومنطق الوضعية، والتخلف السياسي، والتخلف
الفكري الذي يقف عنده طويلًا. ويحاول مهدي عامل تلخيص النوع الأول من التخلف في شكل
قياسٍ يسمِّيه «القياس والنموذج»، فإذا كان التخلف عن باقي الحضارات وإذا كان
التقدم في أوروبا وأمريكا، فيكون التقدم هو اتباع النموذج الغربي. ويرى مهدي عامل
أن المنطق الوضعي على هذا النحو قد عجز عن تحديد مفهوم الحضارة؛ لأنه اعتبر التخلف
صفة ملازمة للمجتمع، مع أنه تعبيرٌ عن المجتمع الطبقي كما يرى أنجلز. ويرفض نقد
الطيب تيزيني لزكي نجيب محمود بأنه وقع أسير الهيجلية وليس الماركسية، مما يكشف عن
الخلاف بين الأجنحة المختلفة للفرقة الواحدة. وينقد مهدي عامل العقل الوضعي بأن
العقلانية التي يدعو إليها إنما هي الرأسمالية والفردية باسم الإنسانية، فالمنطق
الوضعي هو تضليل أيديولوجي برجوازي، مجرد مظهر عقلاني متحضر كبديلٍ عن الثورة، وكأن
ماركوز لم يربط بين العقل والثورة، وكأن الدعوة إلى العقل والعلم في نهضتنا الحديثة
لم تحقق تقدمًا ولا ثورة. أما تقليد الغرب فهو تغريب وجعل الغرب هو الإطار المرجعي
الوحيد لكل تقدمٍ ونهضة، هو المركز وغيره الأطراف. وفي ذلك يتساوى المنطق الوضعي
والمنهج الجدلي،
٤٧ والسؤال الآن: لماذا يكون إشكال التخلف والتقدم هو منطق الوضعية في
خدمة البرجوازية؟ هل نقع جميعًا منذ فجر النهضة العربية بقياداتها الثلاث: الإصلاحي
عند الأفغاني، والعلمي عند شبلي شميل، والليبرالي عند الطهطاوي، في هذا المنطق
ولخدمة هذه الطبقة؟ وماذا عن الماركسيين الأوائل والأواخر الذين كان يحكمهم أيضًا
منطقٌ وضعي وكانوا في خدمة البرجوازية؟ ومَن منا خرج عن هذا الطوق وكسر الحصار؟ وهل
تحدثت الوضعية وحدها عن إشكال التخلف والتقدم؟
أما التخلف السياسي، فيراه مهدي عامل في كل محاولةٍ لإبقاء المجتمعات الطبقية
الحالية مع التقليل من حدة الصراع الطبقي فيها؛ إما عن طريق تذويب الفوارق بين
الطبقات، أو عن طريق التحالف والانسجام بين قوى الشعب العامل،
٤٨ وهي بعض المفاهيم الناصرية وإن لم يُشر مهدي عامل إلى ذلك صراحة؛
فالتخلف السياسي على هذا النحو هو تمزُّق للمنطق الوضعي السابق في منطق البرجوازية
الصغيرة. وقد أثبتت تجربة مصر فشل ذلك بتكوين الطبقات الجديدة، التي سرعان ما
تحوَّلت إلى البنية الاجتماعية والاقتصادية للانفتاح، بعد اختفاء القيادة الثورية
وتحول الثورة إلى ثورةٍ مضادة. التخلف السياسي على هذا النحو هو سقوط للفكر في بؤس
التبرير الأيديولوجي لسيطرة البرجوازية الكولونيالية! وكيف يكون الانسجام بين
الجماعات، وليس الصراع الطبقي، هو المحرك الأساسي للنهضة؟ إن التخلف السياسي بهذا
المعنى إنما يقوم على منطق التماثل في حين يقوم الصراع الطبقي على منطق
الاختلاف.
ويتوقف مهدي عامل كثيرًا لنقض مفهوم التخلف الفكري،
٤٩ فالفكر ليس جوهرًا، والمنطق الغيبي وحده هو الذي يتوهم أن الفكر علاقة
مستقلة مع نفسه. ليست علاقة الذات بالموضوع علاقة بسيطة، بل علاقة معقدة مثل علاقات
الإنتاج، لا بد إذن أولًا من تحديد بنية علاقات الإنتاج! يعتمد التخلف الفكري أيضًا
على فكرة النموذج، فلديه نماذج للتخلف ونماذج للتقدم، والنموذج جوهر غيبي لا وجود
له. كما يقوم التخلف الفكري على منطق الهوية والتماثل وليس على منطق الخلاف
والتناقض، يقوم منطق التماثل على أن الماضي هو الحاضر في منطق الفكر الغيبي، وأن
الفكر العربي له نموذج هو الغزالي، وأن الفكر السائد في الماضي هو السائد في
الحاضر، وأن البنية الأيديولوجية السائدة في الماضي هي السائدة في الحاضر، وأن
علاقات الإنتاج الموروثة هي القائمة في الحاضر،
٥٠ كما يظن منطق التخلف الفكري أن نقد الدين هو البداية، وليس الصراع
الطبقي ضد الأيديولوجية البرجوازية المسيطرة، وهي الأيديولوجية الكولونيالية،
أيديولوجية الطبقات المسيطرة. وعلى هذا النحو يرفض مهدي عامل أن يكون هناك شيء يسمى
التخلف الفكري المستقل عن البنية الاجتماعية، والتركيب الطبقي للمجتمع، مع أن
الموروث الثقافي، كما هو الحال في «آراء أهل المدينة الفاضلة» ونظرية الفيض، هو أحد
العوامل المؤسسة للبنية الاجتماعية الطبقية الحالية. يقع مهدي عامل في خطأ الرد أو
إرجاع الشيء إلى ما هو أقل منه
Reductionism، أو
الخلط بين المستويات أو أحادية الطرف، وتفسير الظواهر المركبة بعاملٍ واحد بسيط
تفسيرًا آليًّا. هذه كلها مشكلة أصولية فقهية، علاقة الفكر بالواقع، الأصل بالفرع،
النص بالفعل، ونظرًا «لأسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ» فإن الأولوية للواقع على
الفكر، ولكن الأصل أيضًا أصول وقواعد ثابتة، أنماطٌ مثالية للسلوك البشري، تراكم
التجارب البشرية في رصيدٍ ضخم متواتر. أما نقد الدين فهو المقدمة لنقد المثالية؛ إذ
إن المثالية تعقيل للدين لمزيدٍ من التنظير والترشيد. ولا يمكن الانتقال إلى نقد
المجتمع إلا بعد نقد الدين ونقد المثالية؛ أي التطهر في «قناة النار». أما اعتبار
البرجوازية الكولونيالية الوحيدة المسئولة عن كل مآسينا، فإنها تكون كبش الفداء،
المشجب الذي نعلق عليه كل الأخطاء، سبب واحد مثل الله عند المتدينين، تحويل الموضوع
وتبخيره من خصوصيةٍ إلى عمومية، ومن محليةٍ بدعوى العالمية.
ويستمر مهدي عامل في نقض مظاهر التخلف الفكري في جوانبه السياسية والاجتماعية،
فيرفض الوراثة في علاقات الإنتاج، فعلاقات الإنتاج السابقة على الرأسمالية ليست
موروثةً وليست هي العلاقات السائدة، وينقض مفهوم السيادة في منطلق الفكر الغيبي أي
السيادة باعتبارها الجوهر في ذاته، كما يرفض الانطلاق على الذات، وجعل الذات جوهرًا
مستقلًّا له بنيته الخاصة. وأخيرًا يرفض التناقض بين الفرد والجماعة على أساس أنه
تناقضٌ وهمي من منطق البرجوازية المسيطرة، والحقيقة أن الأبنية الاقتصادية الموروثة
قائمةٌ في الحاضر، ليس لأنها موروثة فقط بل لأن لها ركيزتها الاجتماعية التي تسمح
ببقائها. كما أن مفهوم السيادة في البنيات التراثية مرتبط بمركز الكون، بالله وبالسلطان،
٥١ ويبدو أن مهدي عامل لا يريد إدخال أي تأويلٍ جديد للماركسية مثل ماركوز
الذي يُعيد الثورة إلى العقل، ويحيل ماركس إلى هيجل من جديد. كما يظل التعارض بين
مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة واقعًا اجتماعيًّا، بصرف النظر عن نوع المجتمعات
وأنظمتها السياسية.
ويستمر مهدي عامل في رفض أي مفهومٍ للتخلف الفكري يقوم على إقامة علاقةٍ بين
القديم والجديد، مع أن ليس كل جديد قديمًا وليس كل قديم جديدًا. كما يرفض العلاقة
الخطية بين الماضي والحاضر مع أنها علاقة تبادلية، تأثير الماضي في الحاضر، وقراءة
الحاضر نفسه في الماضي، وينقض المفهوم كله بنقض المنطق المثالي الذي يسانده، والذي
يساعد على تغييب الأسباب المادية وراء التخلف، ولا يعترف بتاريخانية الظواهر؛
فالمنطق المثالي لا تاريخاني. ويكشف تناقضات المنطق المثالي المزدوج الذي تصير فيه
النظرة اللاتاريخية إلى الماضي نظرة تاريخية، والنظرة التاريخية إلى التراث نظرة لا
تاريخية. كما يحاول أن يفسر الإحساس بالاغتراب، عند هؤلاء المفكرين الذين ينتسبون
للبرجوازية بأنه يعبر عن مأساة التمزُّق للذي ينتمي بجسمه إلى وطنه، وبعقله إلى
أوطانٍ أخرى. وإن الإعلان عن الغربة عن العصر لهو جزءٌ من آلية التضليل في الفهم
الهيجلي لحركة التاريخ، بعيدًا عن طرق الإنتاج المادي وتكوين نظام السلطة وطبيعة
العلاقات الاجتماعية. والحقيقة أن تحليل الاغتراب في أعمال هيجل الشاب، ونقد
الاغتراب الديني عند فيورباخ، إنما كان التمهيد الضروري لنقد المجتمع عند ماركس
الشاب، ونقد الاقتصاد السياسي عند ماركس المتأخر. وينتهي مهدي عامل بإصدار الحكم
النهائي علنًا «إن تكون علاقات الإنتاج الرأسمالية في العالم العربي، وتكون
برجوازياته قد تم في ظل علاقة التبعية البنيوية للإمبريالية وبفضل التغلغل الإمبريالي.»
٥٢ مفتاحًا سحريًّا يحل كل شيء.
(٥-٣) الحداثة والنهضة
وينقد مهدي عامل مفهومَي الحداثة والنهضة على أساس أنهما أيضًا من صنع
البرجوازية، حتى ولو كانت مغلفة بالماركسية الوطنية؛ لأن الماركسية الوطنية هي نقيض
الماركسية الأممية، كما أن الماركسية الخصوصية هي نقيض الماركسية العلمية،
٥٣ والمفهومان مرتبطان ببعضهما البعض، فلا حداثة بلا نهضة ولا نهضة بلا
حداثة، ولكن النهضة أكثر تعبيرًا عن المضمون نظرًا لرومانسياتها. ومن منا لا يودُّ
النهوض؟ وينقض مهدي عامل مفهوم النهضة بأنه الشكل الكولونيالي المميز لسيطرة
الأيديولوجية البرجوازية، هو اختراع من البرجوازية الكولونيالية بدعوى فكر عربي
جديد! ولا سبيل إلى المقارنة عند مهدي عامل بين هذه النهضة والنهضة الأوروبية التي
قامت أساسًا على القطيعة المعرفية. إنما قامت النهضة لدينا من أجل التمثل
بالبرجوازية الإمبريالية على أساس العجز عن التماثل معها. أما مشكلة الحداثة فإنها
تعبيرٌ عن جدل السيد والعبد، فبالآخر يتم تحديث الذات، وبالسيد ينهض العبد، فإذا ما
يئست البرجوازية من تجدد فشل نهضتها اكتفت بالحداثة، وتظل قاصرة عن الوصول من
الراديكالية إلى الاشتراكية (عبد الله النديم) ولا تتجاوز الاشتراكية غير العلمية
(فرح أنطون، نقولا حداد).
(٥-٤) التراث
يرى مهدي عامل أن هذه المشكلة فكريةٌ خالصة. وقد كانت معروضة قبل النهضة في مرحلة
التغلغل الإمبريالي،
٥٤ فالتراث مفهوم وليد من الفكر المعاصر، ولا حل له إلا بوضع الشروط
التاريخية لطرح المشكلة، وهي العلاقات الجديدة للإنتاج في ظل البرجوازية الجديدة
الناهضة، والتي استعملته كأداةٍ لها كما حدث في مصر في ثورة ١٩١٩م. ومع ذلك يمكن
دراسة التراث دراسة علمية من حيث أدوات معرفته، ومن حيث وجوده كأداةٍ في أيدي
البرجوازية الكولونيالية. التراث من صنع الطبقة، ويعبر عن موقفٍ طبقي، والحقيقة أن
التراث القديم إنما نشأ في مرحلة الانتصار، عندما كانت الأمة قائمة وأرادت أن تواكب
فتوحاتها بالعلوم المساندة، خاصة صناعة السلاح وعلم الطب كمستلزمات للجيوش، كما أنه
ليس وليد الفكر المعاصر، فالذات لا تخلق موضوعها إلا وهمًا، وله بنيته الخاصة في
علومه بصرف النظر عن علاقات الإنتاج. قد يكون أداة قمع كما هو الحال في الأنظمة
الرجعية، وقد يكون أداة ثورة كما هو الحال في ثوراتنا المعاصرة في الجزائر والسودان
وليبيا والمغرب. قد يكون الدين «أفيون الشعب»، وقد يكون «صرخة المضطهدين»، صنعته
طبقات عدة وليس طبقة واحدة. فهناك تراث السلطة وهناك تراث المعارضة. يوجد تراث
الأشاعرة، ويوجد تراث المعتزلة والخوارج والشيعة، لدينا تراث طاعة أولي الأمر،
ولدينا ثورة القرامطة والزنج، قراءته هي أدوات معرفته — وتوظيفه هي طريقة
تحقيقه.
وفي نهاية هذا المحور يعلن مهدي عامل أن كل هذه المشكلات: تراكم الماضي في
الحاضر، التخلف والتقدم، الحداثة والنهضة، التراث … إلخ، إنما هي أدوات البرجوازية
المدانة المفلسة، عملية خائنة كما تصفها الماركسية. ألا يحتاج ذلك كله إلى مراجعةٍ
من داخل الفكر الماركسي وخارجه؟ هل مفهوم البرجوازية ووظيفتها على هذا النحو مفهومٌ
عام وشامل ينطبق على كل المجتمعات، أم أنه مفهومٌ خاص ينطبق على تحليلات ماركس
لأوضاع الطبقة المتوسطة، سكان المدن في ألمانيا الصناعية في القرن الماضي؟ هل
الطبقة المتوسطة في المجتمعات النامية تشارك في هذه الأوصاف، وتؤدي هذه الوظائف،
وتستعمل هذه الأدوات؟ هل هي خائنة عميلة انتهازية أنانية، أم أنها منبع القيادات
الوطنية والتي يناط بها عملية التحديث (عبد الله العروي) أيضًا باسم الماركسية
العربية، أو الماركسية التاريخية، أو الماركسية الليبرالية، أو ماركسيات القرن
العشرين؟ ألا يمكن تكييف الماركسية طبقًا لظروف كل عصر وتكوين كل مجتمع؟ وإذا كنا
جميعًا برجوازيين، مهدي عامل، إدوار سعيد، عبد الله العروي، الطيب تيزيني، حسين
مروة … إلخ، فما العمل؟ هل أزمة البرجوازيات العربية هي سيطرة قياداتها على حركة
التحرر الوطني؟ وأين لنا بقيادات الطبقة العاملة؟
٥٥ أين قيادات الفلاحين والعمال؟ هل البرجوازية وضعية أم مثالية؟
٥٦ إن الوضعية كما وصفها أوجست كومت حسية تجريبية؛ وبالتالي تمثل موقعًا
متقدمًا في تاريخ العلم على المرحلتَين السابقتَين؛ الدينية والميتافيزيقية، قرأها
ماركوز رجعية سلفية محافظة، تدافع عن الوضع القائم، وتعتمد على الدين والتراث.
٥٧
وهكذا بعد مراجعة مهدي عامل لندوة الكويت عن «أزمة التطور الحضاري في الوطن
العربي» ينتهي إلى ثنائيةٍ حادة بين البرجوازية والماركسية، بين الباطل والحق، بين
الخطأ والصواب، بين الفرق الهالكة والفرق الناجية، بين من هم في النار ومن هم في
الجنة. وهي ثنائيات مانوية تقليدية روجتها المثالية والرجعية بما فيها البرجوازية؛
وبالتالي لا يسلم مهدي عامل من نقده للخصوم، ويعيب على الندوة دعوة كل التيارات
باستثناء التيار العلمي والذي لم يمثله إلا مفكران تقاتلا ثم تخاصما باسم الماركسية،
٥٨ هل كل المفكرين الذين شاركوا في الندوة برجوازيون واهمون غير علميين؛
فالماركسية هي العلم الوحيد؟ هل الجميع في مواجهة فرد أو الفرد في مواجهة الجميع
دون كيشوتية؟ وينتهي مهدي عامل كالعادة، شأنه في ذلك شأن كثير من المفكرين العرب
الماركسيين بإعلانٍ رسمي مثل: «فعلى الفكر كي يصير ثوريًّا أن يقفز إلى هذا العلم
بالذات، وعلى الفكر الثوري فيه أن ينطلق في ممارساته من هذا العلم أي من الماركسية اللينينية»،
٥٩ ويعلن أيضًا «معنى هذا أن درب تحرر الفكر العربي يمر بالضرورة
بالماركسية اللينينية ويبدأ منها»، والسؤال لنا: هل يوجد مدخل واحد لدراسة أوضاعنا
الحالية سواء سميناها أزمة أم كبوة أم مأساة؟
٦٠ وإذا كان هناك كوب نصفها ماء فهل نصفها ممتلئ أم نصفها فارغ؟ هل يكون
مجموع الخطأين صوابًا؟ هل نمط الإنتاج هو المدخل الوحيد لدراسة أزمة الحضارة
العربية إن صحت هذه التسمية؟ ولماذا لا يكون هناك مدخلان أو أكثر: منهج فكري خالص،
يصف الماهيات المستقلة، ومنهج تاريخي يدرس تكوين البنية الاجتماعية، الأول علم
للماهيات، والثاني علم للوقائع؟ هل المدخل الفكري والمدخل اللافكري متعارضان؟
٦١
(٦) ما العيب في: الدولة الوطنية، الوحدة الوطنية، الجبهة الوطنية، الثقافة الوطنية،
الجيش الوطني، القومية، التعددية كحلٍّ للمشكلة الطائفية؟
بالرغم من أن الطائفية هي أحد المحاور الثلاثة الرئيسية في فكر مهدي عامل (باستثناء
الشعر)، وأكثرها استيعابًا لمؤلفاته إلا أنها أوضح من محور الحضارة العربية، وأكثر
صراحة وإعلانًا، فبعد مراجعة كل الأدبيات التي كتبت حول الطائفية من شتى التيارات إلا
أنها انتهت جميعًا إلى نفس النتائج، وهي ضرورة الدولة الوطنية القوية، والدولة المركزية
التي تبتلع المليشيات، والوحدة الوطنية الممثلة في الجبهة الوطنية التي تبدع مفاهيم
جديدة مثل المواطن، والمجتمع المدني، والمساواة أمام القانون، والعدالة الاجتماعية،
والجيش الوطني عماد الدولة، والذي يكون ولاء الأفراد فيه لمجموع الأمة، والقومية التي
تنصهر فيها كل الطوائف، أو التعددية التي تسمح بالتمايز في العادات والمعتقدات، إلا أن
مهدي عامل يرفض كل ذلك ويتهمه بالطوباوية والتوسطية والمثالية والبرجوازية، التي تبغي
البقاء في موضع السلطة. وبالرغم من أن الهم الرئيسي له هو حركات التحرر الوطني، والتي
يحاول تنظيرها إلا أن مفاهيم الدولة الوطنية، والجيش الوطني، والوحدة الوطنية … إلخ تم
استبعادها تمامًا من دراسته للطائفية وتحليله لأسباب الحرب الأهلية في لبنان، مع أنها
أثبتت نجاحها في الصين، وفيتنام، وكوبا باسم الماركسية اللينينية، وباسم التحرر الوطني
في الجزائر، وباسم الإسلام في إيران، وباسم الجبهة الوطنية المتحدة في الفلبين والسودان
وفي فلسطين. لا يفرق مهدي عامل، وكما حدث في هجومه على «الاستشراق» لإدوار سعيد، بين
التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي، وكأنه لا يعرف المثل الشعبي: «أنا وأخويا على ابن
عمي، وأنا وابن عمي على الغريب.» وما العيب في الطوباوية وقد يكون المجتمع المتدين الذي
ينتقل من الدين إلى العقل مثالي الفكر؟ فالطوباوية ليست شرًّا، إنما تصبح كذلك عندما
ينتقل المجتمع من المثالية إلى الواقعية، ومن الميتافيزيقا إلى العلم.
وما العيب في الدولة الوطنية، الدولة القوية كحلٍّ لمشكلة الطائفية؟ هل هناك بديل
آخر
عن ولاء المواطن لوطن بدلًا من انتساب الطائفي لطائفة؟ ما عيب تدعيم الدولة، وتقوية
الجيش، وإنهاء معاهدة السلام مع إسرائيل كبديلٍ عن تفتيت الدولة وحرب المليشيات، والصلح
مع إسرائيل؟ أليس برنامج الحركة الوطنية اللبنانية هو الطريق إلى الدولة الوطنية؟ وإذا
ما انقسمت الحركة الوطنية على نفسها (أمل وحزب الله، فتح وأبو موسى، الدروز والشيعة،
أمل والفلسطينيون … إلخ)، فإنما يكون ذلك نتيجة للتخلف؛ أي لمعالجة قضايا الوطن بعقليةٍ
طائفية، ومعالجة قضايا التقدم بعقليةٍ متخلفة.
٦٢
ولمَ الهجوم على التوافقية والوسطية كمحاولةٍ لجمع الشمل من أجل وحدة وطنية مرتقبة؟
هل هناك أيديولوجية سياسية لبنانية بديلة قادرة على القيام بذلك؟ هناك معنيان للتوافقية
Eclecticism؛ الأول أَخْذ جزءٍ من كلٍّ بلا منطق،
تركيب مفتعل بين الأجزاء بلا رابط أو هدف، سرعان ما يتفتت أمام كل جارف؛ والثاني أعمق،
وهو إيجاد قلب لكل الأطراف يجمع شملها، ويحقق التآزر في حركاتها، إيجاد كلٍّ يجمع كل
الأجزاء من أجل التكامل وتعدد الوجوه للشيء الواحد، تقريب وجهات النظر من أجل صياغة
برنامج عمل وطني موحد، الحوار بين الأطراف لإيجاد عنصر مشترك بين الجميع، كما فعل
الفارابي «في الجمع بين رأيي الحكيمين».
٦٣
وما العيب في القومية ذات الطابع التقدمي مثل القومية العربية؟ القومية ضمن المفاهيم
الشريرة عند مهدي عامل؛ فإدوار سعيد مفكر قومي يفكر بمنطق التماثل القومي وليس بمنطق
التناقض الماركسي. وعلى هذا النحو يظل مهدي عامل أسير الماركسية الحرفية التي ظلت، وإلى
الآن، عاجزة عن حل مشكلة القوميات في الاتحاد السوفييتي، وعن فهم المضمون التقدمي
للقومية العربية. يبدو أن مهدي عامل قد ضحَّى بالقومية في سبيل الماركسية كمقدمةٍ
للتضحية بالواقع في سبيل النظرية. وما عيب أن يكون إدوار سعيد قوميًّا في مواجهة الغرب،
والاستشراق نفسه تعبير نظري عن القوميات الغربية، فالاستشراق الألماني ألماني،
والاستشراق الفرنسي فرنسي، والاستشراق الهولندي هولندي. وما العيب في قوميةٍ عربية في
مقابل قومية غربية، كمرحلةٍ من مراحل التحرر الوطني تتلوها مراحل أخرى قد تكون
الماركسية كما يبغي مهدي عامل إحداها؟
٦٤ لقد قامت معظم حركات التحرر في العالم الثالث على أساسٍ قومي ذي مضمون
اشتراكي تقدمي، ولكن الأممية الاشتراكية ظلت عاجزة عن التسليم بهذا المعطى التجريبي الجديد،
٦٥ لقد ظلَّت الحركة الوطنية في فلسطين ببعدَيها الوطني والقومي قادرةً على
تثوير الجماهير في الانتفاضة الشعبية الأخيرة، كما قامت إسرائيل كدولةٍ باسم القومية
اليهودية، وتظل الوطنية اللبنانية قائمةً على تصورٍ طبيعي للبنان، بناءً على الوجدان
القومي أكثر من قيامها على المذهب السياسي.
إنما الحل عند مهدي عامل للمشكلة الطائفية والحرب الأهلية في لبنان؛ هو الصراع الطبقي
من أجل إرساء قواعد حكم الطبقة العاملة! وأي الحلول إذن أكثر طوباوية: الدولة المركزية،
والجيش الوطني، والتعددية أم حكم الطبقة العاملة؟ أيهما أكثر نيلًا في القريب العاجل
وفي المرحلة الراهنة؟ يظهر أن الصراع الطبقي دائمًا عند مهدي عامل، وكأنه مفتاحٌ سحري
يمكن به حل جميع أسرار أزمة الوطن العربي ككلٍّ ومأساة لبنان كجزء، وهو الخيط الدائم
وشعاع الضوء الذي يتخلَّل جميع مؤلفاته، بل إن الاستشراق لديه إنما هو تعبير عن سيادة
الطبقة المستغِلَّة على الطبقات الكادحة في المجتمعات الغربية! وماذا عن الاستشراق في
البلاد الاشتراكية التي بها حكم الطبقة العاملة؟ وماذا عن الاستشراق، ودافعه، ومناهجه
ونتائجه وأحكامه، وهل يحكم عليه بهذه السهولة ومن خلال هذا الشعار؟ لقد استمر الاستشراق
منذ نشأته في القرن السابع عشر حتى الآن، وبلوغه الذروة في القرن الماضي، وما ورثه من
العلوم الاجتماعية الحديثة خاصة الأنثروبولوجيا الحضارية، إبان تغير المجتمعات
الأوروبية ذاتها من الإقطاع إلى الرأسمالية، ومن الرأسمالية إلى الاشتراكية. هناك إذن
عنصر دائم في الاستشراق لا يمكن رده إلى البنيات الاجتماعية. ولا يفرِّق مهدي عامل بين
الطبقة والوعي الطبقي؛ بحيث يستطيع الباحث الثوري مثل مهدي عامل أو إدوار سعيد أن يكون
في طبقة، ويكون وعيه الطبقي في طبقةٍ أخرى، ودون الدخول في معارك نظرية صرفة عن محددات
الوعي، هل الطبقة أم الوعي الذاتي، أصبحت هذه التفرقة أيضًا وعلى ما هو معروف وشائع من
مكتسبات ماركسيات القرن العشرين.
٦٦
(٧) هل الأولوية للمذهب النظري العام على الواقع الحي الخاص؟
كان الطابع الغالب على فكر مهدي عامل هو إعطاء الأولوية للمذهب على الواقع، وللمنهج
على الموضوع، وللنظرية على التجربة، وللعام على الخاص. فالماركسية لديه حقيقة عامة
ومطلقة وشاملة بصرف النظر عن أي واقعٍ خاص تتم رؤيته من خلالها. والمنهج العلمي المادي
التاريخي هو المنهج الأوحد الذي يمكن تطبيقه في أي موضوع. والماركسية النظرية هي الإطار
النظري الأوحد، من خلاله تتم رؤية كل الموضوعات الأخرى: ابن خلدون، والاستشراق،
والطائفية، والحرب الأهلية اللبنانية، والقضية الفلسطينية، ويتضح ذلك حتى في عناوين
مؤلفاته التي يغلب عليها تعبيرات مثل «مقدمات نظرية»، «النظرية في الممارسة السياسية»،
٦٧ كما يؤكد مهدي عامل في معظم مقدماته لمؤلفاته على هذا الطابع النظري
لقراءاته للنصوص،
٦٨ حتى البحث في قضية فلسطين كنموذجٍ للواقع الحي في وجداننا المعاصر، فإن
مدخلها هو «النظرية في الممارسة السياسية»، ولا تظهر قضية فلسطين إلا لمامًا. والفقرة
عن فلسطين وهي «القضية الفلسطينية كحلٍّ للصراع بين الخط البرجوازي القومي والخط الوطني
الثوري»، إنما تستخدم فيها فلسطين كوسيلةٍ والتحقُّق من الصدق النظري كغاية،
٦٩ وحدث نفس الشيء في المؤلف المخصص للقضية الفلسطينية، وهو «مدخل إلى نقض
الفكر الطائفي، القضية الفلسطينية في أيديولوجية البرجوازية اللبنانية» إذ تمَّت
التضحية بالقضية الفلسطينية من أجل الجدل النظري، فتحول الموضوع الحي إلى جدلٍ سياسي،
وضاع الواقع الحي في خصوماتٍ أيديولوجية، كما تحول النضال اليومي إلى خلافات النظرية،
٧٠ ولم تذكر القضية الفلسطينية إلا لمامًا، وإحساس المؤلف نفسه بذلك بدليل
قوله «عود على بدء في القضية الفلسطينية»،
٧١ كما يتضح ذلك أكثر في الكتاب النظري الأول «مقدمات نظرية» بحيث تصعب
الإجابة على سؤال: هل هذه ماركسية أم تصوير للوطن العربي والواقع الراهن؟ هل هذا عموم
أم خصوص؟ ما هو الواقع الذي تنشأ منه هذه النظرية؟ ما هي التجارب الثورية وراءها؟ ما
مقياس صدقها؟ هل هي تجارب شخصية للحزب الشيوعي اللبناني، خاصة وأن بداياته كانت جزءًا
من أدبيات الحزب؟ بل لا توجد إحالات إلى نظرياتٍ من تاريخ الفلسفة أو إلى واقعٍ ثوري
تاريخي إلا نادرًا،
٧٢ بل إن الهوامش أيضًا ذات طابع أيديولوجي أو تشير إلى تاريخٍ عام،
٧٣ بل إن القسم الثالث عن «تمرحل التاريخ» لم يتم،
٧٤ وعيب النظرية أنه قد يتم التعامل معها بأسلوبٍ صوريٍّ خالص، يغلب عليه طابع
الحجاج مع الخصوم، فيتحول الأمر كله إلى جدلٍ ومراء. ولا غرو أن يأتي ذلك من أستاذٍ
متخصص في الفلسفة، لديه القدرة على العروض النظرية والبحث النظري، ولماذا ترك الشيء
ذاته والحديث عن النظرية، وكأن قدر الفيلسوف أن يكون طفلًا يلعب بظلال الأشياء بدلًا
من
الأشياء ذاتها، كما يقول برجسون. والغريب أن المعروف عن الماركسية لجوؤها إلى الواقع
الحي وتغيير العالم، وكيف تعطي الأولوية للنظرية على الواقع، والنظرية نفسها عليها
خلاف، في حين أن الواقع قد لا يكون هناك خلافٌ عليه؟
بل إن النظرية نفسها تدفع إلى حد الإطلاق، فتصبح الماركسية قادرةً على تفسير كل شيء:
ابن خلدون من خلال ماركس، وإدوار سعيد من منظور ماركس، والنهضة العربية في رؤية ماركس،
والحرب الأهلية اللبنانية بعيون ماركس، والطائفية من خلال ماركس، حتى تصبح الوسيلة غاية
والغاية وسيلة، والمعرفة موضوعًا والموضوع معرفة. ويصعب الأمر ويزداد تعقيدًا عندما
تصبح النظرية الواحدة حرفية دون أية تعديلات حدثت فيها بالفعل على مدى مائة عام. يأخذ
مهدي عامل موقف الدفاع المطلق عن الماركسية، ويقع في القطعية المذهبية، ويدفعها إلى حد
الإطلاق، يغيب لديه أي نقد لها أو أي تأويل لأحد جوانبها، أو أي تكييف لها طبقًا لظروف
العصر ولاختلاف البيئة، أو طبقًا لمكونات الوطن العربي والمرحلة التاريخية التي يمر
بها؛ فهو حرفي وليس تحريفيًّا، وكثيرًا ما كان التحريف شرط الإبداع وأحد مظاهره، في حين
كانت الحرفية عبوديةً للحرف وإزهاقًا للروح.
لذلك وقع مهدي عامل أيضًا في ثنائية الخير والشر، الحق والباطل، الصواب والخطأ، الهدى
والضلال، الملاك والشيطان، الجنة والنار. الحق مثل الصراع الطبقي، ونمط الإنتاج
الكولونيالي، والشر مثل البرجوازية، والقومية، والدولة الوطنية، والتعددية، وإشكاليات
التخلف والتقدم، والحداثة والنهضة، والتراث والتجديد … إلخ، فالناس صنفان: مؤمنٌ وكافر،
ماركسي وبرجوازي؛ لذلك يخاطر مهدي عامل بالوقوع في نوعٍ من الطائفية الفكرية، والحرب
الأهلية النظرية بتفكير كل النظريات، وتخوين كل المداخل النظرية إلا واحدًا؛ وبالتالي
يعيش فيه حديث الفرقة الناجية الذي يجعل فرق الأمة هالكة في النار إلا واحدة.
لذلك يبدو مهدي عامل ماركسيًّا سلفيًّا لا فرق بينه وبين الإسلام السلفي. لا فرق بين
مَن قال: قال ماركس، ومن قال: قال ابن تيمية. كلاهما أحادي الطرف، الحق في جانبه
والباطل عند الآخرين، يرفض الحوار والتعدد، ويعطي الأولوية للنص على الواقع. يرد مهدي
عامل على السلفية بسلفيةٍ مضادة، وعلى أحادية الطرف بأحاديةٍ مضادة، وتغيب التعددية،
درس أصول الفقه القديم، الحق النظري متعدد، والممارسة العملية؛ ومن ثم يكون مهدي عامل
معاصرًا لنا. قد يغري مهدي عامل الواقع العربي المعاصر في فقره النظري، ولكنه يمده
بشعاراتٍ وكليشيهات ومفاتيح سحرية تفسر مغاليق الكون، مثل التناقض، والصراع الطبقي،
ونمط الإنتاج الكولونيالي، كما تمد الحركة السلفية واقعنا أيضًا بشعاراتٍ أخرى، مثل
الإيمان، والشريعة، والحاكمية. كلاهما لا يرى إلا حلًّا واحدًا: الماركسية هي البديل،
والإسلام هو الحل. كلاهما كلام في أي موضوع وينطبق على كل شيء ولا شيء، المجتمع
البرجوازي هو الجاهلية ومجتمع الكفر هو نمط الإنتاج الكولونيالي.
لطالما فنَّد مهدي عامل منطق التماثل مدافعًا عن منطق التناقض، ولكن يبدو أنه وقع
أيضًا في منطق التماثل، تماثل الفكر مع نفسه، تماثل المذهب مع نفسه، ولطالما نقد مهدي
عامل الهيجلية، والجوهر الروحي، والذات، ولكن يبدو أيضًا أنه وقع فيما كان يفنده؛
فالماركسية لديه هي هذا الجوهر الروحي الثابت، هذا الذات المستقل، هذا الإله المتعالي
الذي ليس كمثله شيء.