معارك التحرر الثقافي١
(١) حتى لا نقع في أخطاء الماضي!
طالما حذَّر كثيرٌ من المثقفين الوطنيين في بداية الثورة المصرية في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م من أن التاريخ لا يولد في يومٍ وليلة، وأن التيارات الوطنية في مصر، وعلى رأسها حزب الوفد والإخوان المسلمون والشيوعيون كانت تعبِّر عن أماني مصر القومية في الاستقلال ووَحْدة وادي النيل، وكان القضاء على الملكية والاستعمار من الأماني المشتركة لمجموع الوطنيين المصريين، ولكننا في مجموعنا نسقط التاريخ من الحساب ونفسره كأنه يموت دائمًا ثم يولد من جديد، في طفرةٍ أو طفراتٍ تلغي ما قبلها، ويكون الجديد هو الخير، والقديم هو الشر. وقد عبَّر الحس الشعبي المصري عن هذا في بدايات الثورة بما قيل من نكاتٍ عن «الحركة المباركة»، وعن مجموع الخطب التي كان يلقيها الضباط الأحرار في ذلك الوقت بادئين بقولهم «في ليلة ٢٣ يوليو»، ثم حدث الاصطدام الفعلي بين الثورة ومجموع القوى الوطنية، وبلغت قمتها في مارس ١٩٥٤م، نظرًا لأن الثورة التي بلورت الأماني الوطنية بقوة السلاح وحققت منها الكثير؛ لم تستطع احتواء القوى الوطنية الموجودة في حوارٍ وطني، من أجل جبهة أو تحالف تكون الثورة هي العضو الأول فيه.
ثم حدث نفس الشيء في يوليو ١٩٥٦م بعد تأميم القناة، عندما انطلقت القوى الوطنية من جديد، وانصهرت في الثورة التي عادت كما بدأت ثورة شعبية، ولكن لم يتناول أحدٌ ما حدث قبل ١٩٥٦م بالتحليل، وكأن نسيان الماضي هو ما يعذر شعبنا الطيب الذي يعفو ويصفح، حتى ولو لم يعتذر إليه المسيء! لم يسأل — والسؤال هو أول درجات الجواب — لماذا اصطدمت الثورة بالقوى الوطنية؟ كيف يمكن التوحيد بين الاثنين في تحالفٍ جديد؟ ولكن حدث أيضًا أننا ولدنا في يومٍ وليلة وهي ليلة ٢٣ يوليو ١٩٥٦م.
ثم بلغت قمة المد الثوري في الوحدة مع سوريا ١٩٥٨م، ووصل الانفعال الثوري العربي مداه، وبعدها بقليلٍ حدث صدام آخر بين الثورة والقوى الوطنية ١٩٥٩م، ثم حدث الانفصال، وصدرت القوانين الاشتراكية ١٩٦١م، وولدنا من جديد، وأرَّخنا لحياتنا في فترتَين؛ الأولى ماضية بغيضة سيطر عليها رأس المال، والثانية حاضرة مشرقة امتلك فيها الشعب وسائل الإنتاج. وهكذا وُلدنا أيضًا في يومٍ وليلة، واسترحنا جميعًا، وعمَّ السلام!
ثم حدثت هزيمة يونيو ١٩٦٧م، فأفقنا من جديد، وبدأت مرحلة النقد الذاتي، ورجعنا نؤرخ لحياتنا من جديد إلى فترتَين: ما قبل يونيو حيث سيطرة مراكز القوى الارتجالية، العشوائية، الانفعالية، الاستهتار، الطبقات المتميزة … إلخ، وما بعد يونيو حيث سيادة القانون، تقنين الثورة، إلى آخر ما هو معروف في بيان ٣٠ مارس، وتنفسنا الصُّعَداء. وهكذا وُلدنا من جديد في يومٍ وليلة، وأدنا الماضي، وباركنا الحاضر، ورضي الحاكم والمحكوم بحُسن السيرة والختام.
ثم حدثت ثورة التصحيح في ١٥ مايو ١٩٧٠م، ورجعنا نؤرِّخ لحياتنا في فترتَين: ما قبل التصحيح وما بعد التصحيح، الأولى بغيضة، كريهة، فردية تسلطية، انغلاقية؛ والثانية مشرقة، مفتوحة تحمي القانون، وترعى المؤسسات، فوُلدنا من جديدٍ في يومٍ وليلة، وتنفَّس الناس من جديد، ووصلوا إلى بر الأمان!
هذه هي أخطاء الماضي! يؤرخ الشعب لحياته طبقًا لتحركات السلطة فيه، فيدين النظام السابق على أنه شرٌّ ويبارك النظام الحالي على أنه خير، والحكم في الحالتَين مبنيٌّ على الجبن والخوف، وصادر عن الزلفى والنفاق، فلو كان الماضي شرًّا في مرحلة ما قبل الولادة الجديدة، فلماذا لم يعلن عن ذلك والسلطة قائمة حينذاك بل باركناها ومدحناها؟ وماذا يحدث لو تغيرت السلطة الحاضرة وأتت سلطةٌ أخرى يولد فيها الشعب من جديد في يومٍ وليلة، ويجعل حاضرنا المشرق ماضيًا بغيضًا؟ ماذا نفعل بمدحنا إيانا دولة المؤسسات، والشرعية الدستورية وسيادة القانون، والنظام الديمقراطي، ثم تأتي سلطةٌ أخرى فينقلب المدح إلى ذمٍّ وحيثيات الحكم لم تتغير؟
إن التاريخ لا يتغير بتغيُّر السلطة، وحياة الشعوب لا تؤرخ بتعاقب السلطات عليها، إنما يحدث ذلك بالتغير الجوهري في حياة الشعوب ونظمها السياسية، وهو ما لا يحدث في يومٍ وليلة بل يتراكم خلال الزمان، وعلى مسار التاريخ بفعل الجماهير وطلائعها الثورية الواعية عن طريق ممارسة النقد المستمر للماضي والحاضر معًا، بل وأولوية نقد الحاضر على الماضي، فالماضي لا يعطي إلا نتيجة التجربة، في حين أن الحاضر هو التجربة التي لم تتحقق بعد، والتي بإمكاننا تشكيلها كيفما نشاء.
وحتى لا نقع في أخطاء الماضي، تكون مهمة القوى الوطنية والمثقفين الثوريين وجماهير الشعب قياس الفارق بين قرارات السلطة عن سيادة القانون والشرعية الدستورية ودولة المؤسسات، وبين ما هو واقع بالفعل، ثم التقليل من هذا الفارق بين ما هو معلن وما هو واقع، بين ما يقال ويسمع وبين ما يرى ويشاهد.
ومهمتنا هي تحقيق الشعارات المطروحة دائمًا على طول الثورة المصرية، وإعطاؤها كلَّ مضامينها بلا استثناء؛ تحقيقًا لاستقلال المؤسسات: الصحافة والجامعة والقضاء، وتأكيدًا لسيادة القانون والحصانة الثورية لكل القوى الوطنية وجماهير الشعب، وتأسيسًا للنظم الديمقراطية في مجالسنا الشعبية.
إن التاريخ لا يولد في يومٍ وليلة بقرارٍ من السلطة، ولكنه يُصنع بإرادة الشعوب وقدرتها على قياس الفارق بين قرار السلطة وواقع الجماهير.
(٢) تزييف التاريخ … مسئولية مَن؟٢
ليست ظاهرة «التزييف» في كتابة التاريخ القومي وليدةً لسوء النية أو للقوى الخارجية، كما نتهم كثيرًا ونلقي المسئولية على الغير، بل هي نتيجة عدم وعي كافٍ بالمرحلة التي يمر بها جيلنا. وهذا الوعي ضروريٌّ حتى نعرف ماذا نبحث طبقًا لاحتياجاتنا المرحلية، فعلى سبيل المثال لو كنا في حاجةٍ إلى تأكيد الحرية والديمقراطية، فإن هذه الرؤية للحاضر لا بد أن نسقطها على الماضي، فنبحث عن بدايات الحرية في تاريخنا الحديث، وعن صراعنا من أجل تكوين المجالس النيابية. وإذا كنا في حاجةٍ إلى مزيدٍ من العقلانية، فإننا نكتب تاريخنا للفكر الفلسفي لنبين بدايات العقل ونضالنا من أجل ذلك، ولعل ذلك يجعلنا نتوقف على الوسيلة التي تصل بنا إلى هذه الغاية. وهنا لا نجد غير أن نقرر أن اختيار المناهج، سواء كانت «ليبرالية» أو «اشتراكية» هامٌّ وضروري؛ إذ لا يوجد تاريخ موضوعي محايد. ونحن في حاجةٍ إلى تعدُّد مناهج كتابة التاريخ حتى ينشأ حوار بين المناهج ومقارنة بين النتائج، ولكن المهم هو ما وراء هذه المناهج من نظرةٍ حضارية؛ فالتاريخ الاشتراكي أو الرأسمالي لمصر الحديثة تنكر لنهضة مصر وبحثها عن العقل والحرية والأمة والدستور والعدالة الاجتماعية. المنهج المطلوب هو المنهج الحر الذي يبدأ من حصر احتياجات العصر ومطالبه، ثم يسقطها على الماضي لتأصيلها والبحث عن جذورها؛ فالبحث عن الجذور التاريخية هو ميزانية حل الأزمة.
فإذا جاوزنا المنهج، فسنجد أنفسنا نتساءل: فمن الذي يكتب التاريخ أصلًا؟
ليسَت الحكومة مؤرخًا، ولكنها تسيطر على الباحثين، غير أن المهم هو توجيه الحكومة للباحثين، فلو كانت الحكومة تريد أن تفرض مذهبًا أو رأيًا، وتحاول تدعيمه تاريخيًّا بفضل مؤرخي الحكومة، فذلك ليس بحثًا بل ديماجوجية سياسية عبرت عن نفسها ليس في التاريخ فقط، بل في الدين والسياسة والاجتماع والقانون، ولكن إذا كان للحكومة مشروع قومي يعبر عن أهداف الأمة، ومصالح الناس هنا يكون اشتراكُ الباحثين في تحديد الجذور التاريخية لأهداف الأمة واجبًا وطنيًّا بصرف النظر عن توجيهات الحكومة. لا يمكن أن يكون المؤرخون في جانبٍ والأمة في جانب؛ فالمؤرخون هم الذين يحدِّدون للأمة طريقها، ويحافظون على حقوقها في التاريخ؛ فالمؤرخ الوطني لا يحتاج إلى توجيهٍ من الحكومة، والحكومة الوطنية لا تحتاج إلى توجيه المؤرخين.
وإذا شئنا بعد ذلك أن نحدِّد جانب البحث التاريخي أهو الجانب السياسي أم الجانب الحضاري من فكري وسياسي واجتماعي … إلخ، فالحقيقة أننا لا نفصل بين السياسي والفكري؛ فالتاريخ سياسي وفكري واجتماعي وديني في آنٍ واحد؛ لأن الظاهرة الإنسانية ظاهرة متكاملة لا يمكن فصل عناصرها، ولكن الذي يحدِّد مستوى التحليل والرؤية هي المصلحة القومية التي هي العناصر الثابتة في الأمة، ولا تتغير بتغير الحكومات والنظم. وإنه يستحيل تحليل التاريخ دون رؤية، بل إن كثيرًا من المؤرخين كانوا مفتاح رؤيةٍ للماضي والمستقبل، كما هو الحال مع المؤرخين الألمان، ليس التاريخ هو تتابع الماضي في الحاضر، بل هو رؤية الحاضر في الماضي؛ وبالتالي إعادة بناء المواقف والاستفادة من التراكم التاريخي الذي يصبُّ في النهاية في وعي الأمة، ويكون إثراءً لتجربتها.
(٣) القاموس السياسي والثقة المفقودة!٣
إنه لأشد ما يحزن الإنسان أن يجد الناس وقد فتروا عند سماعهم ألفاظ السياسة، فما من متحدثٍ يذكر الاشتراكية أو تحالف قُوى الشعب العامل، أو «الاتحاد الاشتراكي العربي» أو «المنابر» أو «التنظيمات»، إلا ونظر إليه المستمعون وعلى أفواههم ابتسامة باهتة، تعلن عن سداد آذانهم عما يسمعون، وفتور وجدانهم عما يرون، حتى إنه ليشق على المتحدث «الصادق» أن يجد آذان الناس صاغية لما يقول، لقد أصبحت لديها مناعةٌ تاريخية ضد كل ما يلقى إليها من قاموس السياسة ومصطلحاتها، أو أن يستعمل المتحدث هذه الألفاظ للدلالة بها عما يريد؛ فقد أصبحت ألفاظًا مسطحة، تكون موضوعًا للتندر وللحوار الساخر. وقد كثرت الرسوم الكاريكاتيرية عن الشباب الذين يصرخون بألفاظٍ لا يفهمون معناها، والذين يتشدقون بمصطلحاتٍ محفوظة لا مدلول لها، وأيضًا عن تجربتنا الأخيرة في المنابر والتنظيمات.
وبلغة الناس نقول: لقد «حرقت هذه الألفاظ» ولم يعُد بالإمكان استعمالها، بالرغم من صدق مضمونها، وإذا استعملها أستاذ في محاضرة ضحك عليه الطلاب، وإذا استعملها خطيب في محفلٍ نام الناس أو هزُّوا أكتافهم! أصبحت هناك مشكلة «تصديق» بما يلقى في آذانهم من مصطلحات، حتى ولو كان المتحدث هذه المرة صادقًا، نظرًا لطول كذبه، ولا يزال المرء يكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا. وكالمتظاهر بالغرق عندما يصبح بالنجدة! ويكتشف الناس كذبه، إذا ما غرق بالفعل وصاح، فلن يخفَّ إليه أحد لنجدته. في كل مرةٍ يستمع فيها الشعب إلى مصطلحات السياسة، يقول في سريرته إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ.
وقد حدث ذلك لتاريخ طويل لهذا الشعب مع قاموس السياسة، فإذا كانت تجربة الشعب قبل الثورة هي في الوعود التي لم تُنجز، والتي سخر منها الناس في العبارة المشهورة التي كانت ترد في خطبة العرش «وستعمل حكومتي على …» فإن تجربة الشعب بعد الثورة هي في فتوره التدريجي من قاموس السياسة، بعد أن آمن بمبادئ الثورة الستة، وبعد أن أثارت فيه شعاراتها، وعلى رأسها الشعار الأول «الاتحاد والنظام والعمل» أشواقه ومواجيده، وبعد أن ألهبت مشاعره ألفاظ النضال ضد الاستعمار، العالم الثالث، عدم الانحياز، باندونج، آسيا وأفريقيا، القارات الثلاث أو العدالة الاجتماعية، أو ارفع رأسك يا أخي … إلخ، ولكن لما رأى الشعب تدريجيًّا الفصم بين الشعار والمضمون، وأن الاشتراكية أصبحت «للناس اللي فوق»، وأن العدالة الاجتماعية هي إعادة توزيعٍ للدخل، وأن الحرية للسلطان وحده يفعل ما يشاء، بدأت الشعارات تفقد مدلولاتها، وبدأت في التحول تدريجيًّا إلى جعبةٍ من الألفاظ أصبحت هي فيما بعدُ قاموس السياسة التي يُواجهها الشعب الآن بفتوره، ولا أقول بنفورٍ لأن النفور شعورٌ إيجابي يوحي بالبديل، وليس لدى الشعب بديلٌ إلا حِكَمه وأمثاله وآياته.
فنظرًا لتاريخٍ طويل من الاحتراف السياسي الذي قضى على الصدق في القول، ونظرًا لما يراه الناس من فصلٍ بين القول والعمل، ونظرًا لما تشعر به الجماهير من مسافةٍ شاسعة بين الحقيقة والواقع؛ فقد قاموس السياسة فاعليته، وأصبح من العبث الرجوع إليه أو استعمال ألفاظه ومصطلحاته، وإلا هز الناس أكتافهم من جديد.
ولكن عندما تم العبور في صمت، مع أن لفظ العبور ذاته قد دخل من قبل في قاموس السياسة، وكثر الحديث عن العبور الاقتصادي، والعبور السياسي، والعبور الأخلاقي، اهتزَّ وجدان الشعب من جديد، وصدق ما لم يكن يصدق. وعندما يتم الإفراج عن مواطنةٍ بحكم قضائي ضد اتهام السلطة لها يصدِّق الشعب استقلال القضاء وحرية المواطن. إن الذي سيزيل فتور الشعب من قاموس السياسة هو سلسلة من الأعمال الوطنية الكبيرة التي يرى فيها الشعب الواقع وهو يتغير، ويشعر بأن الألفاظ لها مدلولات حقيقية، وتعني ما تشير إليه. لن يصدِّق الشعب إلا عندما يرى بعينَيه ما يسمع بأذنَيه، وعندما يشعر بأن الكلمة لها ثمن يدفعه قائلها من حياته، أو يراها الشعب وقد تحققت بالفعل لأن الشعب بفطرته صادق في حسه، وما زال يصدِّق يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ. وعندما يشارك في مسئولية التنفيذ ويأخذ زمام المبادرة، ويعمل بالحلول الذاتية حينئذٍ يصبح للإحصاء مدلول الكلمات، ويكون الشعب هو الوريث الوحيد لقاموس السياسة.
(٤) ولماذا تكون مصر استثناءً؟٤
إنها حجةٌ شائعة، نسمعها كل يوم، بل وفي كل لحظة، إذا ما أراد أحدٌ منا تغيير الوضع القائم في أية ناحيةٍ من نواحي حياتنا، إلى وضعٍ أفضل أن يقال له: يا أخي نحن في مصر! وكأن مصر استثناء بين الدول، وبدعة بين الشعوب، لا تسري عليها قوانين التاريخ، ولا أمل في تغييرها لأن لها قانونها الخاص الذي لا يعلمه أحد، ولكن كل شيء فيها يسير ببركة الله وتحت رعايته وحفظه!
فإذا حاول أحدٌ منا في الجامعة أن يرفع مستواها العلمي، وأن يغير مناهج التلقين والإملاء إلى مناهج التفكير والحوار، وأن يتحمَّل مسئولياته الجامعية ورافضًا أن يتحول إلى موظفٍ حكومي يسمع ويطيع، كانت الإجابة: يا أستاذ نحن في الجامعة المصرية، وهل تقارنها بجامعات الدول الأخرى، وتريد أن تجعلها على مستواها؟ نحن لسنا في فرنسا، ولا في إنجلترا، ولا في أمريكا، نحن في مصر! وكأن مصر حالةٌ خاصة، وكأننا سقط بين الشعوب.
وإذا حاول أحدٌ منا في الطريق العام مراعاة قواعد المرور، أو الحرص على نظافة الطريق وعدم البصق فيه، أو إعطاء الأولوية للمارَّة، أو احترام المال العام، كانت الإجابة، يا مواطن نحن في مصر! وهل تظن أننا في بلدٍ أجنبي يحترم قواعد المرور، ويحرص على نظافة الأماكن العامة، ويحترم كل فردٍ فيه الفرد الآخر؟ نحن في مصر بمشاكلها العويصة وبضيق أماكنها، وبزحمة سكانها، وفقر شعبها، وإهمال مواطنيها، وتسيُّب مسئوليها، وغضب ربها!
[وإذا حاول أحدٌ منا في مصالح الحكومة، وفي مكاتب الدولة أن يراعيَ عمله، وأن يحرص على إنجازه، وأن يحكم ضميره، وأن يخدم الناس، قيل له: يا أخي نحن في مصر! المشاكل كثيرة، والموظفون بشرٌ لهم مشاكلهم القاتلة، والناس لا ترحم، والباعث لا وجود له، والجو حار. نحن لسنا كغيرنا من الشعوب حيث لا مشاكل، وحيث يوجد باعث الربح أو باعث الوطن أو باعث الأمة، وحيث تكثر الإمكانيات، وحيث يسود القانون].
وإذا أنتجت مصانعنا سلعةً لم تلقَ القبول؛ نظرًا لعدم جودتها أو لسوء خاماتها حتى أصبح للمستورد — أيًّا كان — الأولوية المطلقة على الوطني، قيل: يا عم! نحن في مصر! وهذه هي الصناعة المصرية، نحن لسنا أوروبا ولا أمريكا، هذه قدرة العامل المصري، وإمكانيات المصنع المصري، وحدود الإدارة المصرية، وكأننا — لأننا في مصر — لا نستطيع أن نقيم صناعة جيدة تحرس وجداننا من استهواء المستورد.
وعلى هذا النحو، نظل بدعةً بين الأمم، واستثناءً بين الشعوب، ونجعل لمصر قانونها الخاص الذي لا أمل في تغييرها، فقد أسقطناها من الحساب، واستثنيناها من حركة التاريخ.
كيف يمكننا إذن أن نغير بهذا التصور المسبق؟ كيف نصلح أمورنا بهذا المقياس؟ إن مصر ليست استثناءً، ومن يود تغييرها إلى ما هو أفضل ليس بدعة.
هناك قوانين عامة تحكم مسار التاريخ، وحركة المجتمعات، لا يوجد استثناءٌ فيها حتى ولو كانت مصر، فلماذا تكون مصر استثناءً؟
(٥) الخيال السياسي (رؤية مصرية)٥
إن أهم ما يحرِّك القادة والشعوب معًا لهو الخيال السياسي؛ أعني القدرة على تجاوز أزمات الموقف وصعابه والقفز فوقها جميعًا مرةً واحدة؛ فالحسابات الصغيرة لا تنتج شيئًا، والرؤى الجزئية لا تُدرك شيئًا. الخيال السياسي هو القادر على رؤية الواقع كصورةٍ شعريةٍ وليس كحدودٍ جغرافية أو كإمكانيات سياسية، والقفز فوق المراحل والوسائل إلى الغايات والمقاصد. النهاية هي التي تفرض البداية، والنتيجة هي التي تضع مقدماتها، هي المغامرة المحسوبة العواقب التي تلهب مشاعر الجماهير، وتأتي بأفضل النتائج فيما وراء العرف الدبلوماسي والشكل القانوني، ودون ادعاء أو إعلان عن الذات وبطولات ابن البلد والعلاج بالصدمات. لقد تم عبور نابليون جبال الألب بالخيال العسكري، ونقل هانيبال أفياله من قرطاجة إلى روما أيضًا بالخيال العسكري، وأسس الإسكندر الأكبر إمبراطورية الشرق، ودك جنود مصر الساترَ الترابيَّ بمدافع المياه أيضًا بالخيال العسكري. والخيال السياسي على مستوى الشعوب والقيادات لا يقلُّ أهميةً عن الخيال العسكري، إن لم يكن الخيال العسكري أحد مظاهر الفكرة السياسية ذاتها.
وتبرز أهمية الخيال السياسي في الفرص التاريخية التي لا تتكرر كثيرًا، في لحظات توقع الشعوب بروز القيادات التاريخية، في لحظات التحول فيها وتغييرها، أو لحظات الخطر الداهم «اليوم خمر وغدًا أمر». وما أسهل أن يظهر هذا الخيال السياسي على الصعيدَين الداخلي والخارجي.
ما أسهل أن يبدأ التغيير إذا ما انتظرته الملايين، وتاقت إليه القلوب، ابتداءً من القضاء على الفساد وشتَّى مظاهر الانحراف، وعلى الطبقة التي أثرت على حساب الشعب، وتاجرت بقُوته ولو حتى بمحاكم شعب ومحاكم ثورة! فبالرغم مما يشوب مثل هذه المحاكم من ظلمٍ وتعسف إلا أنها تلهب الخيال، وتؤكد على الطهارة ضد الفساد، والثورة ضد الثورة المضادة، والجماهير صاحبة المصلحة ضد الأقلية المترفة. ما أسهل القضاء على طبقة المرابين والسماسرة والوسطاء، وتجار السوق السوداء والمهربين، والمتاجرين بالعملات الأجنبية وفي المكيفات، والمضاربين في الأراضي والعقار، والمتهربين من الضرائب، وأصحاب العمولات. ما أسهل من حماية الصناعة الوطنية والمنتجات المحلية ضد غزو البضائع الأجنبية والاستيراد المفتوح، ما أسهل من إعادة توزيع الدخل القومي وتذويب الفوارق بين الطبقات، ورفع الحد الأدنى لأجور العاملين، وفرض ضرائب تصاعدية على القادرين، ومواجهة قضية الغنى والفقر، والثراء والضنك، والبطنة والبؤس، بقراراتٍ ثورية حاسمة تلهب خيال الشعب، وتضعه في أتون المعركة وراء القيادة السياسية التاريخية، يعمل معها وليس ضدها.
ما أسهل أن يعاد تشكيل المجالس الدستورية التي لا تعبِّر عن الواقع الجماهيري، أو تدافع عن مصلحة شعب، بل تكوَّنَت في ظل نظامٍ واحد، باسم السلطة، منها وإليها، دفاعًا عن النظام القائم، تبحث عن الامتيازات الخاصة، وتدخل في قائمة الوسطاء! ما أسهل إعادة تشكيلها كي تعبِّر عن الواقع الحي، وتأتي مجالس أخرى بانتخاباتٍ حرة، تعبِّر عن نبض الشعب، وتعكس حركة الشارع، وميزان القوى السياسية. ما أسهل من تشكيل أحزاب سياسية تعبر عن واقع الناس وألا تظل باستمرارٍ أحزابًا تنشأ في كنف السلطة، تقام وتنفض في غمضة عين، وتتغير أسماؤها وهياكلها والنظام والمضمون واحد. والليبرالية، والناصرية، والماركسية كلها تيارات سياسية تحرك الشارع، وليس لها حتى الآن أحزابها التي تعبِّر عنها؛ وبالتالي يمكن تجنيد الجماهير في أية لحظة حسم تاريخي، ودون أن نشكو من الفراغ السياسي وفشل التنظيم السياسي وسلبية الناس. وتشعر الجماهير حينئذٍ أنها جزءٌ من النظام السياسي القائم يعمل لها ويحظى بتأييدها، يشارك في المسئولية عن طيب خاطر، ويدفع حياته دفاعًا عن النظام بدل الخوف والارتعاش من الجماعات السرية، والانقلابات العسكرية من الحركة الإسلامية أو الناصرية أو الوفد الجديد أو الماركسية، فيتضخَّم جهاز الأمن ويصبح هو جهاز الدولة.
ما أسهل القضاء على كل الإجراءات الاستثنائية، وقوانين العيب والاشتباه والطوارئ بجرة قلم واحدة اعتمادًا على الشعب؛ فهو الذي يعطي الأمن ويهب الأمان. ما أسهل عودة حرية الصحافة بدلًا من التحسُّر على ما فات، وحرية تشكيل النقابات والاتحادات والجمعيات، وحرية نشاط الطلاب في الجامعات حتى يتميز الخبيث من الطيب، في عمليةٍ تاريخيةٍ طبيعيةٍ تلقائية. (إن آلاف المعتقلين بين جدران السجون لقادرون على أن يكونوا كتيبة الإسلام لتحرير فلسطين، يموتون شهداء خيرًا من أن يموتوا سجناء.) ما أسهل من تكوين حكومة اتحادٍ وطني أو إنقاذ وطني أو خلاص وطني، تجمع بين كل التيارات والاتجاهات والقوى الوطنية على برنامج عمل وطني مشترك، يظهر فيه مشروع الأمة المجهض، فمصير الأمة لا يحدده تيارٌ ولا يرسمه حزبٌ واحد.
إن أية محاولةٍ لتأكيد الاعتزاز بالنفس، والغضب للكرامة، والدفاع عن العزة القومية وتحرير الأمة من قيودها ومعاهداتها التي أصبحت عبئًا عليها، وإهانة لكرامتها، وضياعًا لثقلها ووزنها بين الشعوب لتلهب خيال الأمة، الجيش والشعب، فيعود إلى الأمة جندها، فجندها خير أجناد الأرض، وشعبها في رباطٍ إلى يوم القيامة.
إن الشتات العربي الراهن لهو أحوج إلى مثل هذا الخيال السياسي القادر على صنع قادةٍ تاريخيين يؤثرون في شعوبهم، ويحظون باحترام الجميع، يهابهم الأعداء، ويقترب إليهم الأصدقاء. (إن زيارةً خاطفةً لبغداد وطهران لوضع حدٍّ لهذه المأساة التي تستنزف فيها دماء دولتَين إسلاميتَين كان بإمكانهما مع سوريا تكوين جبهةٍ شماليةٍ ذات عمقٍ عسكري واستراتيجي، وفائض من الأموال والعتاد بدلًا من التدمير المتبادل، وتحويل الجبهة الحقيقية في فلسطين والقدس إلى جبهةٍ مصطنعةٍ في شط العرب والأهواز؛ ممكنة. إن زيارةً خاطفةً لليبيا تفتح بها الحدود، وتوضع بها إمكانيات القطر الشقيق العسكرية في قلب المعركة في جبهة جنوبية تضع حدًّا لهذا الخصام الصبياني، الذي من أجله ضاعَت فلسطين وتكاد تضيع لبنان. إن زيارةً خاطفةً لدمشق تُعيد إلى الأذهان حرب أكتوبر ١٩٧٣م للتنسيق بين الجبهتَين الشمالية والجنوبية، لتعيد إلى الأذهان أول تجربة وحدوية عربية في التاريخ، وتحقِّق من جديدٍ شرط الانتصار، وحدة مصر والشام. إن وحدةً فوريةً لقطرَين عربيَّين مهما قيل في عفويتها وارتجالها وسرعتها، فإنها قادرةٌ على إلهاب المشاعر؛ فقد كانت وَحْدة مصر وسوريا مقدمةً لهز العروش وإلهابًا لمشاعر الجماهير العربية، أو عودة الجمهوريات العربية المتحدة في الجنوب بين مصر وليبيا والسودان، حتى ولو مجرد فكرة، لقادرة على تحريك الجماهير وإذكاء الخيال العربي. أما سياسة المحاور، وأخذ المواقف لصالح طرفٍ ضد آخر، أو زيارة لسلطنة فلان أو علان؛ فليس هذا وزن أمة، ولا ثقل شعب، ولا عظمة قيادة. إن أية محاولةٍ لتحقيق مصالحةٍ عربيةٍ عامة بمبادرةٍ تاريخية مثل تلك التي خرجت بعدها من قلب المعركة؛ لقادرةٌ على أن تلم الشمل، وتعيد القلب النابض إلى الجسد الهامد، وأن توجه الأطراف نحو قصدٍ واحدٍ بدلًا من تشتُّتها وتضاربها وحركاتها العفوية العشوائية.
إن زيارةً خاطفةً لموسكو مثل تلك التي تمَّت بعد ثورة يوليو/تموز ١٩٥٨م في العراق، والتي كان لها أكبر الأثر في الدفاع عن الثورة تأييدًا من الشرق وتراجعًا من الغرب، وإعادة توريد السلاح، وتشغيل المصانع، وإحياء عدم الانحياز؛ تحمي من الوقوع في براثن معسكرٍ واحدٍ تعطي له كل الأوراق، وتعطي للنفس وللغير معًا صفرًا. إن الانفتاح على الشرق، فمصر تاج في مفرقه، واكتشاف الدائرة الحضارية التاريخية الطبيعية لحركتها، فقد كانت مصر والشرق محورَين لفجر النهضة العربية الإسلامية الحديثة، في مقابل الغرب لتحمي القيادة من البحث عن تحالفاتٍ جديدة في كوريا أو تايوان. وأول ما انتشر الإسلام فقد انتشر شرقًا، وإن اكتشاف الصين واليابان والهند لا يقلُّ أهميته عن زيارات لفرنسا وإنجلترا وألمانيا، وإن الاعتماد على القوى الذاتية ولم الأطرافِ حول القلب ليقدر على مواجهة الصعاب).
إن العودة إلى شعارات الأمة التي ألهبت خيالها، مثل مناهضة العنصرية، ومساعدة حركات التحرر في أفريقيا وآسيا، وتأسيس منظمة التضامن للشعوب الآسيوية والأفريقية ومؤتمر القارات الثلاث؛ ليس بعيد المنال، فالمعارك ما زالت قائمةً والجماهير منتظرة. بدون الخيال السياسي لا تخلق فكرة، ولا يصدر قرار، ولا يأتي إبداع، (ويظل القائد محليًّا تتباعد منه القلوب، وتبرد تجاهه العواطف، ويتحسر الناس على البداية الطيبة بالكلمات الحلوة، والشعارات التي ذكرتهم بماضيهم المجيد، والتي لم تتحوَّل بعدُ إلى أفعالٍ أو تُترجم إلى قرارات، فينفض الجمع، ويعمل كل فريقٍ لحسابه الخاص، في قبيلته وعشيرته، وناديه وجماعته، منتظرًا يوم الخلاص أو يوم الحساب. وهو القادر على صياغة المشروع القومي في مواجهة الاستعمار والصهيونية والتخلف والإقطاع والرأسمالية والتجزئة والعنصرية، حتى ولو بعبارات الخطابة وبتعبيرات البلغاء، حتى ولو بشرب مياه البحرَين الأبيض والأسود معًا في بطون عتاة استعمار).
إن الخيال السياسي هو المحافظ على الروح القومية ضد سياسة الأمر الواقع، وهو القادر (حتى في أعقاب الهزيمة المرة على رفع شعار «لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضة»، وما الفائدة بعد انتصارٍ نستسلم عقبيه، ونفاوض ونعترف ونصطلح باسم «الواقع السياسي»، إن الخيال السياسي هو القادر) على الحفاظ على أمةٍ في التاريخ مئات السنين. ولو استسلم المسلمون للصليبيين بعد جيلٍ واحد لما ظهر صلاح الدين وانتصر المسلمون وحرروا الشام وبيت المقدس. إن الواقع السياسي مادة الخيال السياسي وليس أمرًا واقعًا؛ فالأمر الواقع مجموع الحوادث والإرادات، وفي الوقت الذي تنتزع فيه الإرادات من التاريخ تتحوَّل الحوادث إلى أمرٍ واقع، وبدون خيال يتم الاستسلام له.
لقد تمَّت معظم القرارات الثورية في أوائل ثورة يوليو بالخيال السياسي: الإصلاح الزراعي بعد أن كان الإقطاع، والتأميم ضد الشركات العالمية، والتصنيع بعد أن تعلمنا أن مصر بلد زراعي. إن توزيعًا جديدًا للأرض على الفلاحين المعدمين، ومشاركة أكبر للعمال في المصانع، وللطلاب في معاهد التعليم ليلهب خيال الشعب (ويعيد إلى الذاكرة سيرة القيادة الأولى التي ما زالت عطرةً في النفوس.) لقد كان العلم خيالًا قبل أن يكون واقعًا، وكان السير على القمر والسباحة في الفضاء موضوعًا للقصص قبل أن يكون موضوعًا للحاسبات الآلية؛ لذلك كان القادة يقرءون الشعر وحياة العظماء، فليس «راعي البقر» هو النموذج الأمثل، (وإن التاريخ لا ينتظر التلاميذ الذين يتعلمون، بل يقبل دور الأساتذة الذين يعلمون فيحددون حركته ومساره. إن الخيال السياسي لأقرب إلى الواقع السياسي من قصر الرئاسة وكرسي الحكم).
(٦) روسو وفولتير يزوران مصر٦
يحتفل العالم كله هذا العام بمرور مائتَيْ عامٍ على وفاة روسو (١٧١٢– ١٧٧٨م) وفولتير (١٦٩٤–١٧٧٨م). ولقد عرفَت مصر كلا الفيلسوفَين منذ بداية نهضتها الحديثة، إما بالاستقاء منهما على نحوٍ غير مباشر كما فعل رفاعة رافع الطهطاوي، أو بالكتابة عنهما والترجمة لهما كما فعل محمد حسين هيكل في كتابه «جان جاك روسو»، أو بأخذ أقوالهما شعارًا للتعبير عن أملنا في الحرية، كما فعلت مجلة «الطليعة» بأخذ قول فولتير المأثور شعارًا لها «قد أختلف معك في الرأي، ولكني على استعدادٍ لأن أدفع حياتي ثمنًا لحقك في الدفاع عن رأيك.» لقد أتى الفيلسوفان في مصر مبكرَين ليس لاستثمار مواردها واستنزافها، ولكن ليساعدا على نشأة عصر تنويرها.
كان روسو وفولتير من «المفكرين الأحرار» الذين مهدوا للثورة الفرنسية، عن طريق إحداث ثورة في الأذهان وفي نفوس الناس أولًا؛ لذلك قامت الثورة الفرنسية كثورةٍ شعبية، وتم استيلاء الشعب على سجن الباستيل، وإننا نذكر من الثورة الفرنسية المبادئ الثلاثة: الحرية، والإخاء، والمساواة، كما أننا نذكر حقوق الإنسان في الحرية والأمان ومقاومة كل صنوف القهر.
-
(١)
لما كانت فلسفة التنوير أو الأنوار تعني الاستنارة، فإنها لا تتم إلا بنور العقل، وهو النور الفطري الذي أودعه الله في الإنسان.
-
(٢)
ما دام الإنسان قد استنار بالعقل فإنه يكتشف حريته؛ فالإنسان هو استقلال العقل وحرية الإرادة، وتشمل الحرية حرية القول والاعتقاد والاجتماع، حرية القول تمنع الرقابة، وحرية الاعتقاد تمنع التكفير والتفتيش في ضمائر الناس، وحرية الاجتماع تمنع تدخُّل أجهزة الأمن والشرطة. والحرية لا تُعطى بل هي حق الإنسان يدافع عنه ويحرص عليه ويستشهد دونه. يقول فولتير: «إن الأمر بيدَيك إن أردت أن تتعلم كيف تفكر، لقد وُلدت ولديك روح. أنت طائرٌ في قفص محاكم التفتيش، لقد قصت محاكم التفتيش جناحَيك، ولكنهما يمكن أن يعودا إليك.» فالحرية هي أساس الخلق والإبداع في الفكر والآداب. يقول فولتير أيضًا: «إن أكبر شرٍّ يُصيب رجال الفكر والأدب هو أن يحاكمهم الأغبياء، ويراقبهم الجهلة.»
-
(٣)
ولما كانت الحرية ليست للفرد وحده بل للجماعة أيضًا، فإن الحرية الجماعية تتمثَّل في النظام الديمقراطي، وضع روسو نظرية «العقد الاجتماعي»؛ فالشعب مصدر السلطات، وسيادة الشعب مطلقة لا يمكن تجزئتها أو الاستثناء منها بحجة الأمن العام أو الانحراف بها، والتلاعب عليها بمؤسساتٍ شعبية فارغة بلا مضمون. الحاكم هو المعبِّر عن إرادة الشعب، وسلطته مستمدة من الجماعة التي خولت له بحريةٍ تامة تدبير الأمور العامة؛ وبالتالي فلا يوجد «حق إلهي» في الحكم أو سلطة موروثة، أو عهد ملك لأمير، أو كاتم الأسرار وحافظ العهود لصديق! الحاكم منتخب انتخابًا حرًّا من الشعب. يقول فولتير: «يصيح الدكتاتور بأنه يحب وطنه وهو في الحقيقة لا يحب إلا نفسه!» إن الديمقراطية هي أفضل نظام ملائم للطبيعة البشرية، أما الثيوقراطية فإنها تنتهي إلى الطغيان، والملكية أيضًا نظام ينتهي إلى الطغيان؛ إذ لا يرعى الملك إلا مصالحه الخاصة. وينكر فولتير على رجال الدين تدخلهم في شئون الدولة وسيرهم في ركاب الحكام، في النظام الديمقراطي لا يقسَّم الناس إلى سادةٍ وعبيد، يقول فولتير: «يجب أن نتفق على أن كل الناس قد وُلدوا متساوين، ثم أصبح النصف سادة عن طريق القوة والدهاء، وأصبح النصف الآخر سادة عن طريق القوانين!».
-
(٤)
ولما كانت إرادة الشعب هي مجموع إرادات الأفراد، فإنها تبغي الصالح العام للجميع؛ ومن ثَم تؤدي الحرية السياسية بالضرورة إلى الحرية الاجتماعية، ويفرض النظام الديمقراطي السياسي نظامًا اجتماعيًّا يقوم على المساواة وتحقيق العدل بين الناس؛ فقد كتب روسو «مقال في نشأة اللامساواة بين الناس» يبين كيف ينشأ الظلم الاجتماعي وقسمة المجتمع إلى طبقات، أغنياء وفقراء، ملاك ومعدمين، لقد كان الإنسان يعيش على الطبيعة أولًا، لا يعرف الملكية، فلما جاء إنسان ووضع يده على قطعةٍ من الأرض، وأحاطها بسياجٍ وقال هذه لي، جاءه إنسانٌ آخر ينازعه ادعاءه ويقول له: هذه لي. وهنا ينشأ الظلم الاجتماعي، ويظهر الاستغلال، وتنشب الحروب؛ فليس السارق هو الذي ينازع الآخر ملكيته كما يدعي القانون، بل السارق هو هذا الإنسان الأول الذي وضع يده على شيءٍ وادعى ملكيته؛ فالملكية هي بداية انحراف الإنسان، ثم تنشأ التقاليد للمحافظة على أوضاع الظلم، وتبدأ الرذائل بظهور عواطف الكبرياء والتعالي واحتقار الآخرين، ثم ينشأ القانون والمجتمع المدني للمحافظة على السرقة وحماية المكاسب الطبقة، ولكن «العقد الاجتماعي» هو العلاج لما ينشأ عن الملكية من أضرار، فتنشأ الدولة، وتُسن القوانين، وتُؤلف الحكومات، وتُدون الدساتير من أجل أن يأخذ الفقراء حقهم من الأغنياء، وأن يأخذ الضعفاء حقوقهم من الأقوياء؛ فالدساتير جمهورية تقوم على العدالة الاجتماعية، وليست ملكيةً تقوم على الدفاع عن الأرستقراطية ضد غالبية الشعب. كان روسو من عامة الشعب، أدرك مفاسد الأرستقراطية، وكان جمهوريًّا معاديًا للملكية فرأى الطبقات الاجتماعية، أكثرية في بؤسٍ وأقلية مترفة، والملكية هي الراعية لهذا النظام فهي أساس الفساد.
-
(٥)
ولكي يحافظ الفرد على استقلال عقله، وحرية إرادته، ولكي يحافظ الشعب على نظامه الديمقراطي والاجتماعي، لا بد من تربيته من أجل تفجير طاقات المواطنين وإطلاق روح الخلق والإبداع فيهم، أما مناهج التربية القائمة على التلقين، والحفاظ على التراث، والتمسك بالقيم فهو قتل لروح الشعب وقضاء على روح المواطن. أما إذا تربَّى المواطن على حرية الفكر، وأخذ زمام المبادرة والتصدِّي للقضايا العامة، فإنه يصبح عنصرًا فعالًا بمشاركته في توجيه نظام الحكم وفي الرقابة عليه، بدلًا من أن يظل متفرجًا على الأحداث، يندب حظه العاثر على الملأ ويلعن الحكومة في سره. ولا تقتصر التربية على إعداد «المواطن» وهو لقب الثورة، بل تمتد إلى تربيته العملية والمهنية؛ فالمواطن هو العامل المنتج وليس صاحب رأس المال المستهلك، المواطن هو العامل الشريف الذي يكسب قوت يومه بيده وعينه على الحكومة يراقب ويقوِّم. لقد كتب روسو «إميل» من أجل تربية الشعب على الحرص على مكاسبه، والدفاع عن حقوقه؛ حتى لا يطغى الحكام إذا ما جهلت الشعوب.
-
(٦)
ولما كان الشعب هو إحدى لحظات التاريخ، فإن الجماهير هي صانعة التقدم فتسير الإنسانية دائمًا نحو الأفضل. إن العناية الإلهية في حقيقة الأمر هو قانون التقدم، ولقد ساهم الأنبياء في تقدم الوعي الإنساني كما ساهم الثوار والمصلحون. يرى فولتير بعض عقباتٍ للتقدم ممثلةً في رجال السياسة بالنسبة للطغيان ورجال الدين بالنسبة للتعصب، ولكن الإنسانية قادرة بعقلها اللامحدود التغلب على كل مظاهر الطغيان والتعصب. إن التقدم كامنٌ في طبيعة الإنسان، والإنسان قادرٌ على تحقيقه دونما حاجة إلى الانتساب إلى الشعب المختار أو انتظام لمخلص. صحيحٌ أن الإنسان لا ينتظر قدره متواكلًا مثل «صادق» في رواية فولتير، ولا يتفاءل بالرغم مما حدث له من مصائب تصل إلى حد الخزي والعار والهوان كما يفعل «كانديد» في رواية فولتير، ولكنه يعمل حريصًا على كرامة نفسه وأمينًا على حقوق الناس.
كان العنوان في الأصل «فتور الشعب من قاموس السياسة» وفضَّل رئيس التحرير هذا العنوان.