التكوين
وُلدت في شهر يوليو عام ١٩٢٣م في حي الأزهر لعائلة لها ثمانية من الأبناء؛ أربعة ذكور وأربع إناث، وكنت أصغر الذكور وأصغر الإناث، باستثناء واحدة، وكان بيتنا يقع على بُعد خطوات قليلة من الجامع الأزهر، وكان هذا بيت جدي لأبي في حقيقة الأمر، الذي كان يعمل في صناعة البناء، ويطلق عليه من قَبيل التجاوز لقب «مقاول»؛ فقد كان لديه عددٌ محدود من المساعدين، من بينهم أبي وشقيقاه، يساعدونه في بناء بيوت صغيرة أو مساجد متواضعة، وقيل إن جدتي لأبي ساعدت جدي في بناء البيت الذي كنا نسكن فيه بالأزهر.
كانت عائلة أبي جميعًا من الحرفيين، نزحت أصلًا من إحدى قرى الشرقية واستقرت بجوار مسجد ابن بنت رسول الله، تلتمس في جواره البركة؛ فمنهم من كان صاحب محل جزارة أو كان نجارًا أو احترف صناعة البناء، كما فعل جدي. ولقد تعلم أبي وشقيقاه خبرة صناعة البناء عن أبيهم، ثم انفصل كل واحد منهم عن أبيه بعد الزواج، وارتبطت أعمال أبي بوزارة الأوقاف خصوصًا؛ لتركيزه على بناء المساجد في المراكز والعواصم المختلفة لمحافظات مصر، بينما تخصص أعمامي في عمليات ترميم المساجد الأثرية؛ وبالتالي تركزت علاقاتهم بمصلحة الآثار.
وكانت عائلة أمي ذات صلة أيضًا بصناعة البناء، ومن هنا تم زواج أبي بأمي فقد كان جدي لأمي مقاولًا كبيرًا نسبيًّا بمقاييس عصره، وكان بارعًا في صناعته، إلى درجة أنه أُطلق عليه لقب «المهندس»، وهكذا اكتسبت أسرته هذا اللقب من بعده. ولقد كسب جدي لأمي كثيرًا، وأضاع معظم ما كسبه في أهواء الشرب والنساء. على عكس جدي لأبي الذي كان شديد الحرص على ماله، فضلًا عن أنه كان شديد الإسراف في منزله. وقد تزوج سيدة تركية الأصل هي جدتي لأمي، لا أتذكر شيئًا عنها، وإن كنت أسمع دائمًا أنها من فرط سمنتها كانت عاجزة عن المشي في السنوات الأخيرة من حياتها، فكان أولادها ينقلونها على «صينية» عشاء كبيرة إذا أرادت الانتقال من غرفة إلى أخرى، أو الذهاب إلى الحمام.
التعليم والأزهر
وعلى عكس عائلة أبي، لم يمتهن أحد من أخوالي صناعة أبيهم؛ فقد كان الوضع التقليدي في أسرة أمي هو التوجه نحو التعليم كطريق مضمون للحراك الاجتماعي. وكان التعليم آنذاك في الأسرة يعني الذهاب أولًا إلى الأزهر لحفظ القرآن، ثم من هناك إلى تجهيزية دار العلوم، ثم إلى دار العلوم؛ للعمل بالتدريس في مدارس الحكومة. هكذا فعل خالي زکي المهندس ومن بعده شقيقه كامل، وهكذا فعل من بعدهما شقيقي الأكبر إبراهيم. وكان أخوالي من الهمة في التحصيل والتفوق في الدراسة؛ بحيث أُرسل خالي زكي إلى بعثة لبريطانيا عام ١٩١٠م، حيث قضى بها أربع سنوات، وعاد للعمل في تفتيش اللغة العربية، كما أُرسل شقيقه الأصغر كامل في بعثة إلى بريطانيا عام ١٩٢٣م، وبقي فيها سبع سنوات، وعاد عام ١٩٣٠م، حيث عمل رئيسًا لقسم الفهارس العربية بدار الكتب المصرية. وكان لهما شقيقٌ أكبر — من الأم فقط — عُرف في الأسرة باسم الشيخ علي الشهداوي، درس أيضًا في الأزهر وارتبط بالحزب الوطني، حتى إنه أُرسل في بعثة على نفقة الحزب إلى فرنسا لمدة ثلاث سنوات، كان فيها معاونًا لمصطفى كامل ومن بعده عبد العزيز جاويش.
ازدواجية الاسم
إنما أشرت إلى هذا الوضع داخل أسرة أمي بشيء من التفصيل لسببَين … أولهما أنني عندما وُلدت عام ١٩٢٣م أرادت أمي أن تسميني باسم «كامل»؛ تيمُّنًا بأخيها كامل الذي كان على وشك الذهاب إلى بريطانيا عندما وُلدت. لكن جدتي لأبي — وكانت صاحبة شخصية قوية — اعترضت؛ حتى لا يظن أحد أنني قبطي، فاقترح والدي أن يكون اسمي في شهادة الميلاد «عبد العظيم» منعًا لأي لَبْس، بينما ينادونني في البيت باسم شقيقها، وهكذا نشأت أحمل اسمَين: واحد في شهادة الميلاد، ولا يعرفه أحد في العائلة، وآخر في المنزل، وظل هذا هو الوضع حتى دخلت الجامعة؛ مما أدى إلى مفارقات طريفة كثيرة في حياتي، ولم يختفِ هذا الازدواج في اسمي من حياتي إلا عندما تخرجت من الجامعة وتزوجت، فأصبح لي اسم واحد هو عبد العظيم.
أما السبب الثاني للاستطراد عن أسرة أمي، فهو أن جو التعليم الذي اندمجَت فيه أسرة أمي أدى بطبيعة الحال إلى انحيازات سياسية مختلفة؛ فقد كان خالي الشيخ علي الشهداوي من أنصار الحزب الوطني، بينما كان خالي الأصغر كامل شديد الحماس للوفد ولسعد زغلول. وكثيرًا ما تصارع الاثنان حول شئون السياسة. وفي هذا الجو انحاز شقيقي الأكبر إبراهيم إلى جانب الوفد، وكان وهو طالب في دار العلوم كثير التردد على بيت الأمة، يلقي القصائد الوطنية أمام سعد زغلول ومن بعده مصطفى النحاس؛ ولهذا كان انحيازنا الأول — أنا وأشقائي — إلى الوفد بطبيعة الحال.
ولقد بقيت في حي الأزهر حتى سن الخامسة، وذهبت إلى الكتَّاب بعض الوقت وأنا في الرابعة من العمر، لكني لا أتذكر من هذا إلا أن الكتَّاب كان بجوار منزلنا، وكانت هناك حنفية للمياه أمام الكتَّاب يتزاحم حولها الناس لملء صفائحهم وأوانيهم، وكانت جدتي لأبي تأتي لزيارتي في الفصل وتعطيني نكلة (مليمين)، أشتري بها من المدرس بعض الكعك. غير أن جدي بنى منزلًا في العباسية الغربية قريبًا من شارع الملكة نازلي (شارع رمسيس اليوم). وكان البيت يتكون من دورَين وبدروم، سكنَّا نحن في الدور الثاني، وسكن عمي الأكبر في الدور الأول، بينما سكن عمي الأصغر في البدروم. لقد تركنا حي الأزهر عام ١٩٢٨م فيما أظن، وكانت أمي تقول آنذاك إننا «طلعنا» العباسية بعد موت سعد زغلول. وكنت أدهش من استخدامها فعل «طلع» في هذا السياق، وأتساءل إن كان هذا بمعنى أن العباسية كانت أعلى في أرضها من أرض حي الأزهر، أم أن «الطلوع» هنا بمعنى الصعود في السلم الاجتماعي. ولقد تعودت أُسَر البرجوازية الصغيرة المقيمة في حي الأزهر على مشروع الانتقال إلى حي العباسية، بمجرد أن تسمح الظروف المالية ببناء منزل في هذا الحي الجديد نسبيًّا. كانت معظم أراضي العباسية صحراوية؛ ولذا كثُر البناء فيها في أوائل القرن وفي العشرينيات، وإليها انتقلت عشرات الأُسَر. وكانت القاعدة العامة هي أن الأسر الثرية تبني لها فيلات في العباسية الشرقية. أما أسر البرجوازية الصغيرة فكانت تبني في العباسية الغربية أو تستأجر لها مسكنًا هناك. ويذكِّرني هذا التاريخ بما حدث لنجيب محفوظ، الذي انتقلت أسرته قبلنا من الأزهر إلى شارع رضوان شكري بالعباسية الغربية. وفي الحقيقة أن شارعنا لا يبعد عن شارع رضوان شكري كثيرًا.
ولقد كان انتقالنا إلى المنزل الجديد في العباسية تحولًا كبيرًا في حياتنا؛ فقد وجدنا أنفسنا نمشي ونلعب في شوارع واسعة ونظيفة، وبالقرب من منزلنا كانت هناك حدائق غمرة الجميلة، التي كانت تجمع أطفال الحي وتمثِّل متعةً ما بعدها متعة لهم، وكانت منطقة شارع أحمد سعيد مليئة بالغيطان المخصصة لزراعة الخضراوات، وكثيرًا ما كانت ترسلني أمي إلى هناك لشراء السبانخ أو الكرنب. وكانت هناك أراضٍ فضاءٌ واسعة نلعب فيها الكرة، وبعد سنوات صار الاحتفال بالمولد النبوي يجري في صحراء العباسية، وأصبح الموكب المحمَّل بالكسوة الشريفة ينتهي هناك، ومع أن صلتنا لم تنتهِ بحي الأزهر؛ لأن جدتي وجدي لأبي ظلَّا هناك، فإن هذه الصلة بدأت تفتُر تدريجيًّا؛ خصوصًا بعدما ماتت جدتي فجأةً بالسكتة القلبية عام ١٩٢٩م، وانتقل جدي للإقامة معنا في العباسية بعد ذلك بسنوات قليلة.
ألم فراق جدتي وأمي
ولقد كان حادث وفاة جدتي صدمة لي، وأول مواجهة لمعنى الموت وأنا في هذه السن الصغيرة؛ فقد كنا نحبها حبًّا جمًّا، وبدا لي اختفاؤها المفاجئ أمرًا شديد الصعوبة. وكنا قد تعودنا أن ننتظرها بالساعات عند موقف ترام غمرة — حيث كان الترام رقم ٥ والترام رقم ٢٢ ينتهيان — عندما نعرف أنها ستأتي لزيارتنا، حتى إذا ما نزلت من الترام صحبناها، أنا وإخوتي وأولاد عمي، في زفة كبيرة من موقف الترام إلى البيت، ولا عجب في ذلك؛ فقد كانت تحبنا وتنفحنا بالنقود وأنواع الحلوى المختلفة، وحتى اليوم ما زلت أتذكريوم هذا الحدث الجلل — حدث وفاتها — فقد دق بعض أقاربنا باب منزلنا قبل الفجر بقليل، وهرول أبي وأمي بسرعة وهما يهمسان. فلما طلع الصباح أخذَنا أخي حسن — نحن الإخوة الثلاثة الصغار — معه، وذهبنا مشيًا إلى الدراسة عن طريق شارع مصنع الطرابيش، وعندما اقتربنا من منزل جدي سمعنا صراخًا وعويلًا، وبكى أخي حسن وقال لنا الخبر الحزين. ولقد كانت الصدمة الثانية والأكبر في حياتي إزاء الموت عندما ماتت أمي عام ١٩٤٠م؛ نتيجة الإصابة بالحمى، وكنت قد أنهيت امتحان السنة التوجيهية، وكان عمري آنذاك سبعة عشر عامًا. وكنت شديد التعلق بأمي، وأدت بي هذه الصدمة إلى تحولي إلى إنسان نباتي لا أذوق اللحم لسنوات، ولم أستطع أن أخرج من إسار هذه الأزمة إلا قرب تخرجي من الجامعة.
عندما انتقلنا إلى حي العباسية، كان من الطبيعي أن يدخلني أهلي مدرسة تناسب سني، ولقد دخلت مدرسة البراموني الأولية، وقضيت بها عامين قبل التقدم لامتحان القبول بالمدرسة الابتدائية، وكانت هذه المرحلة — مرحلة المدرسة الأولية — تعيسة بالنسبة لي، ولشرح ذلك ينبغي أن أوضح أنني قد تعرضت وأنا في الثالثة لحادثة — ونحن ما زلنا في حي الأزهر — كادت تودي بحياتي؛ فقد وقعت من على سُلم منزلنا ونزفت من جرح في الأسنان واللثة، ولا بد أن هذا الجرح قد أُهمل أو عولج بالأساليب الشعبية؛ مما أدى إلى حدوث غرغرينة في اللثة العليا، وذهب بي أهلي إلى المستشفى الإيطالي بالعباسية، وأُجريَت لي جراحة عاجلة أُزيلَ فيها جزء من اللثة وعظمة الأنف، وقضيت أيامًا بين الحياة والموت. فلما عوفيت اتضح لأهلي أنه ترتب على هذه العملية بعض التشويه في الفم، وفي المدرسة الأولية كان الأطفال وبعض المدرسين يعيِّروني بهذا التشويه، وكان مدرس اللغة العربية يناديني للإجابة فيقول «قوم يا أشرم.» إشارة إلى هذا العيب، وأعتقد أن الخجل والانطواء في شخصيتي آنذاك إنما يعودان إلى تلك الظروف، ولقد أدى هذا إلى كراهيتي للمدرسة وللذهاب إليها، وإلى شدة تعلقي بأمي. وكان ذهابي إلى المدرسة كل يوم مشكلة؛ فقد كنت أبكي وأصرخ إلى أن يحملني الخادم على كتفه إلى باب المدرسة، وهناك يتلقفني الشيخ ناجي المسئول عن طابور الصباح، فيأمر الفرَّاش أن يخلع لي حذائي ثم يقوم هو بضربي على قدميَّ بضع خيرزانات؛ لأكون عبرة للأطفال الآخرين، وفي بعض الأحيان كنت أهرب من المدرسة في فترة بعد الظهر.
معاناة الدراسة الأولى
ذكرت هذه الوقائع لأوضح أنني لم أتعلم الكثير في المدرسة الأولية، وعندما تقدمت عام ١٩٣١م لامتحان القبول بمدرسة الظاهر الابتدائية لم أنجح في الامتحان، بل رسبت بجدارة، وعندئذٍ أسرع أخي إبراهيم بتقديم أوراقي إلى مدرسة الحسينية الابتدائية، ونجحت بالكاد في امتحان القبول، وهكذا قضيت مرحلة التعليم الابتدائي في الحسينية الابتدائية (وهي قريبة من ميدان الجيش، وقد شغلَت المبنى بعد الثورة شركة مصر للمستحضرات الطبية) من عام ١٩٣١م إلى عام ١٩٣٥م. كان التعليم الابتدائي بالمصروفات (عشرة جنيهات تُدفع على ثلاث أقساط) إلا للمتفوقين أو نسبة ضئيلة جدًّا يتم إعفاؤها بناءً على تقديم شهادة فقر. ولم أكن من المتفوقين، ومع أن الأزمة الاقتصادية العالمية ١٩٢٩–١٩٣٢م قد أصابت أبي بضرر شديد وصل إلى حد الإفلاس، إلا أننا لم نكن نرغب أن نتقدم بشهادة فقر. ورغم هذه المعاناة فقد دفعوا لي المصروفات في السنة الأولى وجزء من السنة الثانية، ثم أُعفيت بعد ذلك من المصروفات بمناسبة شفاء الملك فؤاد، وصدور قرار بإعفاء الخمسة الأوائل من كل سنة من سنوات الدراسة.
ومع بدايتي المتواضعة كان اهتمام أشقائي بي في المذاكرة قد أوصلني إلى أن أكون من الخمسة الأوائل في نهاية السنة الثانية، وظل هذا حالي في السنتين الثالثة والرابعة، وتميزت بتفوق خاص في اللغة العربية والحساب. وربما يعود تفوقي في اللغة العربية إلى طبيعة اهتمامات الأسرة التي تخرَّج العديد من أبنائها من دار العلوم. أما شغفي بالحساب فلا شك أن لمدرسي آنذاك — الأستاذ المرصفي — فضلًا لا يُنسى فيه.
وبشكلٍ ما استطاعت الأسرة أن تجتاز تلك المرحلة بصعوبة ودون خسائر فادحة. ذلك أن أخي إبراهيم قد عُين في مدرسة خاصة بمرتب عشرة جنيهات. ومع أنه كان الثاني في دفعة دار العلوم عام ١٩٣٠م، إلا أنه لم يعيَّن بمدارس الوزارة بسبب قرار صدقي باشا وقْفَ التعيينات، وكانت شقيقتي الكبرى عائشة تعمل مدرسة بالمدارس الابتدائية، وساعدنا ذلك على تدبير أقساط المصروفات لي ولثلاثة من الأشقاء. لكننا اجتزنا هذه المرحلة بتضحيات وآلام نفسية غير قليلة. ولعل تلك المرحلة هي التي لفتت نظري — ولا تزال — لمسألة الفقر في الأوساط الشعبية والظلم الفادح الواقع على الملايين؛ نتيجة الحرمان من التعليم، والخسارة التي تصيب الأمة كلها نتيجة هذه الأمية.
الابن القدوة
وينبغي أن أذكر هنا أن سلوك الابن الأكبر في العائلة في طريق التعليم يكون له في العادة أثر غير قليل على الأبناء الأصغر، فهو القدوة والمثل؛ خصوصًا إذا كان فارق السن كبيرًا. وفي حالتنا كان لتفوق شقيقي الأكبر إبراهيم أكبر الأثر عندي طوال مراحل التعليم. فبعد سنوات قليلة من التدريس أُرسل في بعثة إلى بريطانيا عام ١٩٣٤م، وطول المدة التي قضاها بالخارج كان يرسل لي كل فترةٍ خطابات على المدرسة، يشجعني فيها على التفوق الدراسي، ويطلب مني أن أبعث له بأخباري ومشاكلي. أتذكر مثلًا أنني عندما كنت في سنة الشهادة الابتدائية بالمدرسة الحسينية أنْ دخل ضابط المدرسة يومًا إلى فصلي ونادى اسمي، فلما وقفت ناولني خطابًا من إنجلترا. وبالطبع كانت سعادتي وفخري أمام زملائي فوق الوصف، وقد حدث نفس الشيء لأكثر من مرة عندما دخلت مدرسة فؤاد الأول الثانوية وقضيت بها السنة الأولى والسنة الثانية.
في المرحلة الثانوية (١٩٣٥–١٩٤٠م) قضيت بمدرسة فؤاد السنتين الأولى والثانية، فلما فتحت مدرسة فاروق الأول أبوابها عام ١٩٣٧م، كنت من ضمن المنقولين إليها، وفيها قضيت السنوات الثلاث الأخيرة من المرحلة الثانوية، ومنها حصلت على الشهادة التوجيهية عام ١٩٤٠م. ولكن يحسُن أن أشير إلى حادث مهم في حياتي وقع لي بمدرسة فؤاد الأول في السنة الأولى من التحاقي بها؛ ففي العام الدراسي ١٩٣٥-١٩٣٦م؛ قامت في مصر مظاهرات عارمة تهتف بسقوط وزير خارجية بريطانيا «صمويل هور» بمناسبة تصريح له، ولقد خرجنا من المدرسة في مظاهرة كبيرة إلى شارع العباسية، حيث هاجمَنا البوليس وضربَنا بقسوة، فعدنا إلى المدرسة وألقينا على قوات البوليس الطوب والأخشاب. وكان شقيقي محمد في طليعة فرقة قذف الطوب، وكنت أساعده، وفي المساء جاءت قوات من البوليس إلى المنزل وسألت عني؛ لأنهم وجدوا بعض كتبي على سطح المدرسة، كنت في الثانية عشرة، وأُخذت إلى قسم الوايلي حيث قضيت الليل مع ثلاثين آخرين في زنزانة القسم، وفي الصباح أخذونا إلى مبنى محافظة القاهرة، حيث عُرضنا على النيابة التي تولت التحقيق معنا، ثم أفرجت عني لصغر سني. كان هذا الحادث أول مواجهة لي — وأنا ما زلت طفلًا — لمسألة السلطة، ولقد بكيت عندما جاءت أمي لزيارتي في قسم البوليس، لكني عندما عدت إلى المدرسة في اليوم التالي حاولت أن أتظاهر بالشجاعة أمام زملائي. وبالطبع ترك هذا الحادث أثرًا عميقًا في حياتي بعد ذلك، ما زلت أذكره بتفاصيله، كما أني ما زلت أذكر جنازة ويصا واصف التي مرت عام ١٩٣١م في شارع رمسيس أمام منزلنا، وهتافات شباب الوفد في تلك الجنازة المظاهرة كقولهم: «اشكي الظلم لسعد ياويصا.»
تكويني الثقافي
وفي هذه المرحلة — مرحلة المدرسة الثانوية — واظبت طوال الصيف على الذهاب إلى دار الكتب في ميدان باب الخلق؛ للقراءة واستعارة الكتب، فقد كانت ظروفنا المالية لا تسمح بشراء كتب للقراءة العامة، وإن كنت قد استفدت من مكتبة أخي إبراهيم بالمنزل، التي تركها عند ذهابه إلى بريطانيا، ومنها قرأت مقامات الحريري وديوان المتنبي وديوان الحماسة لأبي تمام وكتاب قدامة بن جعفر في نقد النثر، وغيرها، ولست أدَّعي أنني فهمت كل ما قرأت في مكتبة أخي، لكن ذلك كان مقدمة لمواظبتي على الذهاب كل يوم خلال الصيف إلى دار الكتب؛ حيث أظل بها من العاشرة صباحًا حتى الواحدة ظهرًا. وساعدني على هذا أن خالي الأصغر كان آنذاك رئيسًا لقسم الفهارس العربية، بينما كان الشاعر أحمد رامي رئيسًا لقسم الفهارس الأجنبية في القاعة المقابلة، وكان موظفو قسم الفهارس العربية يرحبون بي ويساعدونني. وفي تلك المرحلة قرأت معظم إنتاج طه حسين والعقاد وأحمد أمين والمازني وتوفيق الحكيم وعبد الله عنان، كما قرأت ديوان شوقي ومسرحياته وحافظ إبراهيم والبارودي، وكان العقاد يلفت نظري ويستحوذ على إعجابي بصفة خاصة؛ خصوصًا كتابه «سعد زغلول سيرة وتحية»، ومطالعاته في الكتب والحياة، وتأملاته في الفلسفة، وكتابه عن ابن الرومي، لكن كتب العقاد التي صدرت في مرحلة متأخرة من حياته لم أجد فيها نفَسه العميق القديم.
وفي تلك المرحلة أيضًا حرصت على قراءة بعض الكتب العربية التي تتناول قضايا الفلسفة بصورة مبسطة، وشغلني على وجه الخصوص سقراط وأفلاطون في الفلسفة اليونانية، وأفكار المعتزلة في الفلسفة الإسلامية كما عرضها أحمد أمين. وكان لكل هذه القراءات أثرها في نشاطاتي بمدرسة فاروق الأول الثانوية. فمع مواظبتي على شراء مجلة «الثقافة» كنت مشتركًا في جمعية التمثيل بالمدرسة، وأذكر أني قمت بدور الكاهن «أنويس» في مسرحية كليوباترا لشوقي، عندما قدمناها في آخر العام، وكنت ضمن هيئة تحرير مجلة المدرسة «الفجر»، واشتركت مع آخرين في تكوين «الجمعية الرياضية» تحت إشراف المدرس الأول للرياضيات بالمدرسة، وقد شجعني هذا النشاط على مواصلته في مرحلة الجامعة، حيث انتُخبت رئيسًا للجمعية الطلابية للعلوم الرياضية والطبيعية بكلية العلوم جامعة القاهرة لعام ١٩٤٣-١٩٤٤م.
ولقد واجهت مشكلة عسيرة عام ١٩٣٩م إثر حصولي على شهادة الثقافة العامة، إذ كان عليَّ أن أختار إحدى الشُّعب الثلاث للسنة التوجيهية (آداب، علوم، رياضيات). فقد كنت محبًّا للُّغة العربية والأدب والفلسفة، كما كنت محبًّا أيضًا للرياضيات ومتفوقًا فيها، ومع أنه بدا لي أن الجمع بين الرياضيات والفلسفة هو أمر طبيعي؛ لأن أفلاطون كتب على باب أكاديميته «لا يدخلها إلا المشتغلون بالهندسة.» إلا أن نظام التعليم في جامعاتنا لم يكن يسمح بذلك، فإما أن ألتحق بكلية الآداب لدراسة الفلسفة أو بكلية العلوم لدراسة الرياضيات، ولقد اكتشفت فيما بعدُ أن الجمع بين الدراستين يتحقق بسهولة في الجامعات الأوربية والأمريكية، حيث تقوم الجامعة على الأقسام كالوحدات الأساسية وليس الكليات، وحيث جدول الدراسة من المرونة بحيث يسمح بالجمع بين تخصصات تبدو متباعدةً تمامًا في جامعاتنا. وفي ظني أن إحدى نقاط الضعف الأساسية في جامعاتنا هي هذا الوضع الجامد الذي لا يسمح بالجمع بين الفلسفة والرياضيات معًا أو بين الرياضيات والاقتصاد … وهكذا.
وظللت في هذه الحيرة طوال صيف ۱۹۳۹م، ثم تصادف حضور أخي إبراهيم من لندن لزيارتنا، فقام بإقناعي بدخول كلية العلوم لدراسة الرياضيات، وقال آنذاك إن في مقدوري دراسة الفلسفة أو الأدب وحدي بالقراءة والمثابرة في أشهر الصيف، بينما أنا أدرس الرياضيات بكلية العلوم، لكن العكس صعب وإن لم يكن مستحيلًا. وأذكر أنه قال لي كآخر حجة في جعبته إن الفلسفة والأدب لا يُطعمان أحدًا.
واقتنعت ودخلت شعبة الرياضيات في السنة التوجيهية ثم قسم الرياضيات في كلية العلوم، ولم أندم على ذلك أبدًا. وفي مرحلة المراهقة والنَّزَعات الأفلاطونية بدت العلوم الرياضية — البحتة لا التطبيقية — ذات جمال خاص. وما كان يذهلني حقًّا هو معنى هذه الحقائق الرياضية في الهندسة والجبر، التي بدت وكأنها مستقلة عن أي خبرة. إنه عالم المُثُل إذن كما كان يقول أفلاطون. واحتضنت بقوةٍ كتاب الرياضي الإنجليزي الكبير هاردي «الرياضة البحتة» كما احتضنت أفكاره المثالية كذلك.
في مايو سنة ١٩٤٤م حصلت على الدرجة الخاصة في الرياضيات بكلية العلوم جامعة الملك فؤاد الأول (القاهرة)، وعُينت في أوائل سبتمبر من نفس العام معيدًا بكلية العلوم جامعة الملك فاروق (الإسكندرية)، ومع أنه كانت هناك فرصة لتعييني بجامعة القاهرة إذا انتظرت، فإنني آثرت عدم الانتظار لأسباب عديدة؛ في مقدمتها أنني كنت حريصًا على أن أعيش حياة مستقلة عن الأسرة؛ خصوصًا بعد وفاة والدتي وبداية تفكك الأسرة بزواج الكثير من أبنائها.
لكني ذهبت إلى الإسكندرية وأنا أحمل في داخلي ذکريات علاقات عديدة بالقاهرة، لعبت دورًا مهمًّا في تحديد مسار حياتي واهتماماتي بالإسكندرية. لقد ساعدت ظروف تربيتي وما صادفته الأسرة من مصاعب، بسبب الحرص على التعليم، على اهتمامي منذ وقت مبكر في شبابي بالعمل العام، وعلى توفر إحساس مبكر بالالتزام قبل الآخرين؛ خصوصًا إذا كانوا من الفئات المضطهدة والمظلومة والمطحونة اجتماعيًّا، فمثلًا عندما جاءت وزارة الوفد إثر أزمة فبراير سنة ١٩٤٢م بين الملك والإنجليز — وسط غارات جوية ألمانية وإيطالية على القاهرة والإسكندرية — وكانت قوات روميل قد وصلت إلى العلمين، تطوعت للالتحاق بمدرسة الوقاية من الغارات الجوية بالزيتون، التي كانت قد أُنشئت لتدريب المشرفين على أعمال الوقاية من الغارات، وكان سني آنذاك لا يزيد على ستة عشر عامًا. وعندما خصصت الجمعية التعاونية للبترول خمسة في المائة من أرباحها السنوية للخدمة الاجتماعية، وقامت بإنشاء مبرتين للأطفال الفقراء (مبرة الأميرة فادية بالدمرداش ومبرة الأميرة فريال بالقلعة)، سارعت وأنا طالب بالجامعة بالتطوع للعمل المجاني في المبرة الأولى التي كانت قريبة من منزلنا، وقضيت فترات الصيف لثلاثة أعوام متتالية أعمل متطوعًا بتلك المبرة في فصول محو الأمية، وفي الطواف على منازل الأطفال الفقراء بالمحمدي، لبحث الحالة الاجتماعية لأسرة كل طفل واقتراح معونة مالية لها. وكان يشرف على هذا العمل من قِبَل الجمعية التعاونية للبترول اثنان من كبار الممولين فيها … كامل عبد الرحيم وكيل الخارجية المساعد آنذاك وسفير مصر في واشنطن بعد ذلك، والمستشار عبد المنعم رياض، الذي كان من قضاة محكمة النقض.
الشباب والخدمة الاجتماعية
ولقد استطعت إقناع بعض زملائي، ومنهم د. عجلان، بالاشتراك في هذا العمل التطوعي الخيري خلال فترة الصيف، ونجحت في ذلك؛ مما أسعد المسئولين عن هذه المبرة، خصوصًا كامل عبد الرحيم، الذي كان يرى في هذا العمل نقطة تحوُّل في توجهات الشباب نحو الخدمة الاجتماعية. وساعد على توثق صلتي به أنه قد بدأ يكتشف أن موظفي وزارة الشئون المنتدبين للعمل بالمبرة كانوا يختلسون بعض الأموال المخصصة للإنفاق عليها، فما كان منه إلا أن كلفني بمسئولية الإنفاق على المبرة يوميًّا، وتقديم كشف حساب له كل شهر. وعندما تخرجت من كلية العلوم وعُيِّنت معيدًا بالإسكندرية، أقام كامل عبد الرحيم حفلة شاي بمنزله بمصر الجديدة لتحيتي وتوديعي، وأهداني باسم المبرة أربعة كتب في الرياضيات قيل لي إنها سوف تفيدني في حياتي العلمية الجديدة.
كانت تلك إذن صورة سريعة لاهتماماتي بالعمل العام — الخدمة الاجتماعية — عندما ذهبت إلى الإسكندرية، ولقد أشرت إلى ذكريات العلاقات الكثيرة مع زملاء لي، التي حملتها معي عند ذهابي إلى الإسكندرية. وهنا يجب أن أشير إلى علاقتي بالدكتور عبد المعبود الجبيلي؛ وزير البحث العلمي في السبعينيات ومدير مؤسسة الطاقة الذرية قبل ذلك. كان عبد المعبود معيدًا بقسم الكيمياء، تخرَّج قبلي بعامين، وكان محل انتباه الأنظار بالكلية له؛ لتفوقه العلمي وذكائه واهتمامه بالشئون العامة، ولقد حاولت اجتذابه للعمل معنا في الخدمة الاجتماعية بمبرة الأميرة فادية، فلم أجد منه الحماس الذي توقعته، وأدى بنا هذا إلى حوار طويل، حاول فيه إقناعي بأن الخدمة الاجتماعية لن تؤدي إلى تغيير حقيقي في الأحوال المتردية للمجتمع المصري، وأنها لا تزيد على أن تكون مسكِّنًا من المسكنات مثل الأسبرين، وأن الحل الحقيقي الجذري هو الثورة على النظام الملكي القائم، وأن مثل هذا العمل في حاجة إلى إعداد طويل.
وشيئًا فشيئًا بدأت أشك في أنه مرتبط بشكلٍ ما بتنظيمات ماركسية غير معلنة، ثم تيقنت من صحة هذه الشكوك عندما بدأ يتحدث معي ببعض الصراحة ويُعيرني بعض الكتب الماركسية الإنجليزية، مثل «ما هي الاشتراكية؟» لإميل بيرنز، وكتاب «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية» للينين، وملخص لكتاب «رأس المال» لماركس، وكتب أخرى ترضي اهتماماتي بالفلسفة، مثل كتاب «الأيديولوجيا الألمانية»، «ضد دهرونج» لماركس، وكتاب «المادية والنقد التجريبي للينين»، ولقد التهمت كل هذه الكتب وتصورت أنني فهمت، وإن كنت قد أدركت في فترات لاحقة أن الفهم الحقيقي لا يتحقق إلا بمعرفة السياقين الاجتماعي والثقافي، اللذين أُلِّفت فيهما هذه الكتب. غير أن أهم كتاب أثار اهتمامي آنذاك هو في الحقيقة کتاب إنجلز «جدل الطبيعة»، وهو محاولة من المؤلف — على ضوء اكتشافات العلوم الطبيعية في القرن التاسع عشر — لاستخلاص قوانين الجدل من تلك الاكتشافات. وهذا الكتاب بالذات كان محل انبهاري الشديد تلك الفترة من شبابي؛ لأنه بدا لي أنه يقدم تعميمًا مثيرًا لبعض النتائج العلمية، في الرياضيات والفيزياء والبيولوجي، لم أسمع به من قبل، ولقد لفت نظري على وجه الخصوص كيف أن رجلًا مثل إنجلز يكون على هذا المستوى من المعرفة، مع أنه غير متخصص في العلوم.
وبالطبع فعندما أنظر الآن إلى هذا الكتاب أشعر أن هذا الإعجاب المبكر كان مصدره جهلي بأشياء كثيرة عن العلم. وقد يكون كتابًا جيدًا بمعنًى تاريخي، لكن التطورات العلمية للقرن العشرين قد تجاوزت نتائجه دون شك، وبعض نتائجه فيما يتعلق بالرياضيات التي تبدو لي اليوم ساذجة كان مصدرها معرفة إنجلز السطحية بهذا العلم.
الثورة هي الحل
تلك كانت البداية إذن … مناقشات مستمرة مع عبد المعبود الجبيلي وغيره من الأصدقاء وقراءة متصلة في كتب ماركسية كان يعيرني إياها، وكل هذا انتهى بي إلى الاقتناع بوجهة نظره بأنه لا يوجد حل لمشاكل مصر الاجتماعية غير الثورة، وأن خير ما يفعله شاب مثلي هو المشاركة في الإعداد لها. وهكذا ارتبطت بمنظمة «إسكرا» التي كان الجبيلي أحد قياداتها، وعندما تمت الوحدة بين «إسكرا» وبين «الحركة المصرية للتحرر الوطني» عام ١٩٤٧م، وتكونت منظمة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني «حدتو»، أصبحت واحدًا من أعضائها.
ولقد كانت مصر — في ظل الأزمة الطاحنة التي كان يجتازها النظام الملكي الحاكم — تموج بتنظيمات غير قانونية كثيرة؛ من بينها بالطبع تنظيم الضباط الأحرار الذي كان يقوده البكباشي جمال عبد الناصر، ومع أنني لم أكن على علم بتنظيم الضباط الأحرار، فقد كنت أشعر بشكل غامض أن هناك شيئًا يجري داخل الجيش بين ضباطه الصغار، وكان مصدر هذا الشعور أنني قابلت آنذاك عددًا من الضباط الصغار ذوي الميول الاشتراكية، من بينهم الملازم أول أحمد حمروش، وقد فهمت أنهم يؤدون بعض الخدمات التنظيمية الثورية مستفيدين من سيارات الجيش.
ولقد كانت هناك حاجة شديدة لدى منظمة «إسكرا» لتكوين مجموعة مصرية قوية من المثقفين بالإسكندرية. لقد كان لها وجود نشيط ضمن أجانب الإسكندرية، لكن وجودها ضمن المصريين كان قريبًا من الصفر. ولذا لا شك أن مجموعة المعيدين بكلية العلوم بالإسكندرية؛ قد لعبت دورًا رئيسيًّا في تشكيل مصري في أوساط طلاب الجامعة وشبابها. وساعد على ذلك أننا نجحنا في إنشاء نادٍ ثقافي بحي الأزاريتا بالإسكندرية، كان محل لقاء الشباب المتحمسة بالشئون العامة، وفي تأسيس رابطة للمعيدين تدافع عن مصالحهم النقابية. كما أن صدور مجلة «الجماهير» الأسبوعية بالقاهرة كان عنصرًا مهمًّا في تجنيد العناصر المتحمسة لقضية الثورة.
وبطبيعة الحال كانت هناك خواطر من الحيرة والريبة تُلِمُّ بنا؛ نتيجة إدراكنا أن هناك تنظيمًا «لإسكرا» في أوساط الأجانب لا نعرف عنه شيئًا. ولكن مما خفف هذا الوضع علينا في الإسكندرية أننا كنا نعمل بنجاح كبير في أوساط الطلاب والعمال، وكان الانفصال الكامل بين التنظيمين المصري والأجنبي يساعد على أن ننسى هذه المسألة على الأقل في السنوات الأولى.
وكانت تلك الفترة «١٩٤٥–١٩٤٨م» تتميز بجيش جماهيري واسع وتحركات شعبية من السخط والاحتجاج ضد الاحتلال البريطاني الرابض في القاهرة والإسكندرية، وضد النظام الملكي الذي كان قد فقدَ شعبيته؛ وبالتالي شرعيتَه تمامًا، وبشكل عام كانت أحوال المعيشة سيئة بالنسبة للغالبية من المطحونين اجتماعيًّا، وكانت الأوبئة تكتسح البلاد — الكوليرا مثلًا — وتَفتِك بالألوف، وكان الرأي العام — وخصوصًا الشباب — معاديًا للنظام الملكي ولفاروق خصوصًا، بالرغم من الجهود الحثيثة التي كان يبذلها الأخوان مصطفى وعلي أمين لتقديم صورة زائفة عن الملك وأسرته أمام الرأي العام.
صراع مع الإنجليز
وعندما أتأمل اليوم أحداثَ تلك الفترة تتدافع إلى ذاكرتي أشياءُ عديدة قد يكون من المفيد أن أشير إلى أهمها؛ باعتباري واحدًا من شهودها أو المشاركين فيها. وأولها، بطبيعة الحال، اللجنة الوطنية للطلبة والعمال التي قادت مظاهرات ۲۱ فبراير سنة ١٩٤٦م ضد الاحتلال في ميدان التحرير وفي مواجهة ثكنات قصر النيل البريطانية (وكانت محل مبنى الجامعة العربية وفندق هيلتون النيل)، مما أدى إلى سقوط العشرات من الشهداء برصاص قوات الاحتلال. لقد كان هذا العمل الجماهيري المجيد حدثًا تاريخيًّا بمعنى الكلمة، وحتى اليوم ما زال الطلاب في العالم يحتفلون بهذا اليوم (۲۱ فبراير) سنويًّا باعتباره «يوم الطلاب العالمي».
ولأنني كنت في الإسكندرية فلم يكن لي أدنى صلة، لا بتشكيل تلك اللجنة ولا بمظاهرات ذلك اليوم المجيد، وإنما ذكرته هنا لأن هذا الحدث الجليل كان له ردُّ فعل غاضب بالإسكندرية، يوم ٥ مارس، حيث وقعت المصادمات التي كنت من شهودها بين مواقع البوليس الحربي البريطاني بمحطة الرمل والمنشية، وأدت إلى مصرع عدد من جنود الاحتلال.
بعد هذه الأحداث بنحو شهرين أو ثلاثة فيما أذكر، وقعت مصادمات أخرى بين طلاب جامعة الإسكندرية وقوات البوليس المصري، التي كانت تحاصر مبنى الجامعة في محرم بك، حيث كانت توجد كلية العلوم وكلية الحقوق، وانتهت بحادث فاجع، وهو مقتل ضابط من قوات الشرطة. وجُنَّ جنون قوات الأمن، فأمطرت الجامعة سيلًا من الرصاص، واعتقلت كل من خرج من الجامعة؛ سواء من الطلاب أو هيئات التدريس، وظل الحصار مضروبًا حول الجامعة إلى منتصف الليل، عندما حضر وزير التعليم — محمد العشماوي — من القاهرة في طائرة، وأمر برفع الحصار، وخلال فترة الحصار قمت مع مجموعة من معيدي كلية العلوم بكتابة عريضة احتجاج على الحصار، وجمعنا توقيعات العديد من أعضاء هيئات التدريس الذين كانوا معنا في الحصار، بما في ذلك توقيع عميد كلية العلوم — الدكتور حسين فوزي — وعميد كلية الحقوق الدكتور عبد المعطي خيال. واتصلت تليفونيًّا بأحد الأصدقاء خارج الجامعة، وأبلغته نص عريضة الاحتجاج، طالبًا منه أن يُبرق بها إلى صحيفة المعارضة الوفدية (صوت الأمة). وبالفعل صدرت الجريدة في صباح اليوم التالي وفي صفحتها الأولى نص البرقية، في برواز كبير، موقَّعًا عليه باسمي نيابةً عن الموقِّعين، وكان ظهور اسمي بهذا الشكل مجرد مصادفة؛ إذ إن موظف التلغراف أصر على وجود اسم يتحمل مسئولية هذه البرقية، فكان أن أعطاه صديقي اسمي. واستشاط رئيس الوزراء — إسماعيل صدقي — غضبًا، وكلف وزير التعليم بالتحقيق في الموضوع. وأعتقد أنني كنت على وشك الفصل من الجامعة بسبب هذه العريضة، لولا أن الوزير اكتشف أن عميدَي العلوم والحقوق من الموقعين، فضلًا عن عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس، ولم يكن من السهل إذن تحميلي المسئولية.
محاولات فاشلة لاعتقالي
ولا بد أن تلك الواقعة كانت ذات صلة بوضع اسمي في كشوف حملة اعتقالات إسماعيل صدقي، التي نُفذت فجر ۱۱ يوليو سنة ١٩٤٦م، واعتُقل فيها العديدون، من بينهم محمد زکي عبد القادر والدكتور محمد مندور وعبد الرحمن الشرقاوي وهنري كورييل، وآخرون كثيرون، والتي قُصد بها في حقيقة الأمر تصفية النشاط الجماهيري البارز، الذي كان اليسار المصري — بالتعاون مع الطليعة الوفدية — قد نجح في قيادته. ولم يتمكن بوليس الإسكندرية من اعتقالي؛ لأنهم ذهبوا إلى عنوان كنت قد تركته منذ أسابيع قليلة. وشاء الحظ العاثر للضابط المكلف بالعملية أن يفتش منزل أحد نواب حزب السعديين بحثًا عني، ورفض أن يعترف أن لهذا المنزل حصانةً برلمانية. وفي اليوم التالي تقدم النائب باستجواب في البرلمان، وكانت العلاقة بين إسماعيل صدقي والسعديين قد بدأت تتوتر لأسباب أخرى، فحمل النواب حملة شديدة على الوزارة، واضطر رئيس الوزراء إلى أن يلقي بيانًا في البرلمان يشرح فيه ملابسات خطأ الضابط الذي كان مكلفًا باعتقالي ضمن الحملة، وقدم إسماعيل صدقي اعتذارًا للنائب عما حدث، وأعلن أن الضابط قد نُقل إلى الصعيد عقابًا له.
قرأت كل هذا وأنا في مخبئي عند أحد الأصدقاء بالإسكندرية، وقد تردد اسمي كثيرًا في كل هذه المساجلات البرلمانية، وفي أوائل سبتمبر كانت النيابة قد أفرجت عن جميعِ من اعتُقلوا في حملة يوليو وحفظت التحقيق. فعدت إلى الجامعة، وعند خروجي منها ظهرًا في أحد الأيام وجدت ضابطًا في انتظاري، حيث قضيت في قسم محرم بك ليلة شديدة الطرافة، وفي الصباح توجهت إلى النيابة بالمنشية، فما كان من وكيل النيابة إلا أن سألني بضعة أسئلة شكلية، وتولى هو الإجابة عليها، ثم رجاني أن أذهب إلى الجامعة فور خروجي من مكتبه. ولم أفهم السبب في هذا الطلب إلا عندما علمت عند وصولي إلى الكلية بإضراب الطلاب احتجاجًا على اعتقالي.
أما الواقعة الثالثة الجديرة بالإشارة هنا، فتتعلق بأحداث ٥ و٦ أبريل سنة ١٩٤٨م المعروفة باسم «إضراب البوليس»، لقد كان لضباط البوليس وجنوده مطالب تتعلق بزيادة الرواتب وتحسين ظروف العمل. وقد فشلوا في إقناع رئيس الوزراء النقراشي، الذي كان عنيدًا إلى حد الحماقة، بعدالة تلك المطالب. وعندئذٍ دعَوْا إلى إضراب عام لهم في يوم ٥ أبريل، وكان لهذه الدعوة إلى الإضراب امتدادات جماهيرية واسعة في الإسكندرية على وجه الخصوص؛ فقد تزامن هذا الموضوع الخطير — إضراب البوليس — مع مطالب نقابية خاصة بالأجور لعمال الغزل والنسيج وغيرهم. كما تزامن مع موضوع طلابي آخر عُرِف آنذاك باسم «قضية سعد فريد».
كان سعد فريد طالبًا بكلية العلوم، قُبض عليه في حي كرموز، وقيل إنه كان يوزع منشورًا يساريًّا عند أبواب شركة الغزل الأهلية. وفي إجراءات حكومية عاجلة ومقصودة للتخويف، حوكم سعد فريد وصدر عليه حكم بالسجن ستة أشهر، وقد أثار هذا الحكم ثائرة طلاب الجامعة؛ لأنه كان أول حكم يصدر ضد طالب. كل هذا كان قد جرى قبل ٥ أبريل بشهر على الأقل. لكن غياب البوليس في هذا اليوم المشهود كان فرصة مواتية لمظاهرات عارمة، الْتَحم فيها العمال مع الطلاب مع جنود البوليس، في مظاهرات ملأت ميدان المنشية، وكان جنود البوليس يرفعون سناكي بنادقهم، وعلى قمتها رغيف عيش؛ إشارة إلى مطالبهم. واتجهت بعض هذه المظاهرات إلى سجن الحضرة لإطلاق سراح سعد فريد، ونزلت قوات الجيش بالدبابات والعربات المصفحة إلى الميادين، وأطلقت النيران، وسقط العديد من القتلى والجرحى. وفي هذا اليوم — أو ربما اليوم التالي ٦ أبريل — وُزِّعت منشورات باسم «حدتو» كان عنوانها: «تسقط الملكية وتحيا الجمهورية»، وكانت تلك أول مرة توزَّع فيها مثل هذه المنشورات الثورية بين الجماهير. ولقد أشرت منذ سنوات في مكان آخر إلى هذه الواقعة، وذكرت أن كاتب المنشور كان في الحقيقة الشاعر كمال عبد الحليم الذي كان آنذاك المسئول السياسي في «حدتو» لمنطقة الإسكندرية، وأن كاتب هذه السطور هو الذي قام بطبع المنشور في إحدى مطابع محرم بك، وتنظيم توزيعه، وكنت آنذاك مسئول الدعاية والتثقيف في نفس لجنة المنطقة.
اعتقالات بالجملة
لقد كان هذا المد الثوري بالإسكندرية والقاهرة هو السبب الحقيقي لقيام حكومة النقراشي بإعلان الأحكام العرفية في ١٥ مايو سنة ١٩٤٨م، رغم أنها أخذت من موضوع فلسطين تَكِئة لهذا الإعلان، ولعل الدليل الواضح على ذلك أنها لجأت إلى اعتقال كل القوى السياسية المناوئة للنظام، بادئة باليسار ثم قوى الطليعة الوفدية ثم الإخوان المسلمين بعد ذلك بشهور. وكنت بالطبع واحدًا من المعتقلين الذين أودِعوا في معتقل «أبو قير» بالإسكندرية، ثم نُقلت بعد ذلك بشهور مع آخرين إلى المعتقل المخصص للقاهرة (معتقل الهايكستب)، ثم نقلت آخرين إلى معتقل «الطور» على ساحل البحر الاحمر بالقرب من دير سانت كاترين، وقد تجمَّع في هذا المكان، الذي كان أصلًا مخصصًا للحجر الصحي، الآلاف من اليسار والإخوان المسلمين.
وكان الهدف هو عزلهم تمامًا عن القاهرة والعالم الخارجي، وكانت وسيلة الاتصال الوحيدة بين المعتقل وبين السويس هي الباخرة «عايدة»، التي كانت تأتي لنا بالمؤن والمأكولات والخطابات كل أسبوعين.
وقد قضيت في تلك المعتقلات نحو عام ونصف، مرضت في آخرها ونُقلت إلى مستشفى الدمرداش، وبقيت فيه من سبتمبر سنة ١٩٤٩م حتى أُفرج عني في ١٠ يناير سنة ١٩٥٠م، عندما أُجريت الانتخابات العامة وعادت الحكومة الوفدية فأفرجت عن جميع المعتقلين.
ومن الضروري الإشارة إلى أن قصة الاعتقالات هذه قد تزامنت مع الانقسامات العديدة التي وقعت في صفوف اليسار وأدت إلى تضَعْضُع نفوذه. صحيح أن الخلافات وبداية الانقسامات كانت قد بدأت قبل إعلان الأحكام العرفية والاعتقالات، وذلك بانقسام شهدي عطية الشافعي، الذي عُرف آنذاك ﺑ «تكتل سليمان»، ولكن قضية فلسطين والموقف من مشروع التقسيم وبداية اعتقالات ١٥ مايو سنة ١٩٤٨م … كل ذلك خلق مناخًا مواتيًا لانقسامات أوسع بين مؤيدي مشروع التقسيم ومعارضيه في صفوف اليسار، وكان من الطبيعي أن يثور في هذا المناخ وضع الأجانب واليهود داخل قيادة «حدتو»، وخصوصًا هنري کورييل.
ولقد حاولنا في الإسكندرية تجنُّب انقسامات القاهرة، ونجحنا في ذلك إلى حد كبير في أول الأمر، لكن اشتداد حملة الاعتقالات ثم ذهابنا إلى معتقل الهايكستب، حيث الانقسامات كانت مكرسة بالفعل، أدى بطبيعة الحال إلى أن أصبحت الإسكندرية جزءًا من هذه الانقسامات التي صارت أمرًا واقعًا. ولقد حلت الحكومة موضوع الأجانب في مصر، ولم يعُدْ لهذه المشكلة وجود داخل مصر، وإن كان بعض هؤلاء المتمصِّرين من اليهود قد حاولوا إنشاء تنظيم لهم في باريس باسم «مجموعة روما». ولا شك أن الانقسامات قد أضعفت نفوذ اليسار إلى حد كبير، وأصبح من الواضح لكل ذي عينين أنه إذا قُدِّر لليسار أن يستعيد حيويته ونفوذه في يوم من الأيام، فإن ذلك سوف يستغرق زمنًا طويلًا.
عندما أُفرج عني في ١٠ يناير سنة ١٩٥٠م، عدت إلى جامعة الإسكندرية كما عاد زملائي الآخرون من المعيدين، لكننا وجدنا تقاعسًا من الكلية في تسليمنا العمل من جديد. وعدت إلى القاهرة ساعيًا لمقابلة وزير التعليم الجديد بالوزارة الوفدية — الدكتور طه حسين — لشرح الأوضاع له، ولقد نجحت في ذلك بفضل سكرتيره الخاص (حسين عزت) ومدير مكتبه (سعيد العريان). ولقد كان موقف الوزير رائعًا، على الرغم من أنه لم يكن يعرفني أصلًا … أنصت باهتمام كعادته لكل ما قلته، ثم أشار إلى حسين عزت أن يطلب له مدير جامعة الإسكندرية تليفونيًّا. وبقيت في غرفة حسين عزت إلى أن استدعاني الوزير مرةً أخرى لمقابلته، فإذا به يطلب مني أن أذهب إلى الإسكندرية لتسلُّم عملي، وقد علمت بعد ذلك عندما عدت إلى الإسكندرية أنه شدَّد على مدير الجامعة بضرورة عودتنا إلى عملنا.
بداية مرحلة جديدة
ولقد كانت عودتي إلى العمل بكلية العلوم بداية لمرحلة جديدة انتهيت فيها — بعد مراجعة فكرية طويلة — إلى ضرورة اتخاذ موقف جديد من النشاط السياسي؛ نتيجةَ ما استجدَّ من ظروف. لقد تمزقت قوى اليسار إلى كيانات صغيرة بلا وزن حقيقي، واتضح لي سذاجة تفكيرنا السياسي، الذي كان يتوهم أن ثورة بقيادة قوى اليسار هي على الأبواب. ولقد كنا محقين في الوصول إلى نتيجة أن نظام فاروق قد أصبح كالثمرة العفنة التي على وشك السقوط، لكن الخطأ كان في تصور أن اليسار كان قادرًا على التصدي لقيادة التحول. ولقد ثبت تاريخيًّا أن ضباط الجيش بتوجههم الوطني العام (وإن ضموا عناصر تنتمي إلى اليمين والوسط واليسار) هم الذين كانوا مؤهلين لقيادة معركة التحول في معركة سرعان ما تم التخلص فيها من عنصر اليسار الموجود في القيادة (خالد محيي الدين).
وكل هذا التحليل قد انتهى بي إلى ضرورة السفر إلى الخارج للحصول على الدكتوراه، ما دمت سأبقى في الجامعة. وطلبت من صديق لي، كان قد عاد من بريطانيا بعد حصوله على الدكتوراه، أن يحجز لي مكانًا في إحدى كليات جامعة لندن، وعندما تم هذا بدأت أستعد علميًّا للسفر، إذ مشاكل العمل السياسي كانت قد أبعدتني عن اهتماماتي العلمية، وهكذا سافرت في أوائل سبتمبر سنة ١٩٥٠م إلى لندن.
ومن المفارقات الغريبة التي وقعت لي قبل سفري بأقل من شهرين؛ أن وزير الداخلية في وزارة الوفد — فؤاد سراج الدين — استدعاني إلى مقابلة في مكتبه بلاظوغلي في يوليو سنة ١٩٥٠م، كما استدعى زميلي د. محمد عجلان. وقد أجرى معنا حوارًا سياسيًّا طويلًا حول أفكارنا وبرنامجنا السياسي. تحدثنا معه بصراحة حول قضايا الإصلاح الزراعي وبرنامج النهوض بالريف، وحول قضايا التأميمات (خصوصًا شركة قناة السويس) وحقوق الحركة العمالية النقابية … إلخ.
وكان رأي الوزير أن الكثير مما ندعو له موجود في برنامج الوفد، ولم نوافق بالطبع على هذا الرأي. وقد فهمت السبب الأساسي لدعوته عندما قال إن تقارير القسم المخصوص تقول إننا مستمرون في نشاطنا السياسي غير القانوني، ولم يكن هذا صحيحًا بالمرة؛ فقد كنت أستعد للسفر إلى لندن ومشغولًا بإعادة تأهيل نفسي من الناحية العلمية.
ولقد أوضحت هذا للوزير الذي فوجئ بنبأ استعدادي للسفر إلى لندن. ولقد ذكَّرته في الرد على تقارير القسم المخصوص الزائفة بما كان يُتَّهم هو به عام ١٩٤٩م من نفس هذه الأجهزة بأنه يدبر مؤامرة لاغتيال رئيس الوزراء آنذاك النقراشي، ولم يملك الوزير إلا أن يبتسم ويسكت عند سماعه كلامي. ومن طرائف هذا اللقاء أن ضابط القسم المخصوص الذي حضر هذا اللقاء واستمع إلى هجومي على تقارير القسم المخصوص؛ هو ممدوح سالم، الذي صار رئيسًا للوزراء بعد ذلك في عهد السادات.
قضيت في بريطانيا عامين بالتمام والكمال من سبتمبر سنة ١٩٥٠م إلى سبتمبر سنة ١٩٥٢م؛ لإعداد رسالة الدكتوراه في الإحصاء الرياضي بإحدى كليات جامعة لندن. ومع أني قضيت فيما بعدُ نحو خمس سنوات أخرى في بريطانيا كمدرس بالجامعة (بين سنتَي ١٩٥٥–١٩٥٩م)، وكأستاذ زائر لإحدى جامعاتها (ثلاث سنوات خلال السبعينات)، إلا أن فترة الدكتوراه كانت نقطة تحوُّل شديدة الأهمية في حياتي العلمية وتكويني الثقافي.
وفي العادة يستغرق الإعداد للدكتوراه في الفروع المعملية للعلوم الطبيعية حوالي أربع سنوات أو أكثر، لكن في الرياضيات بالذات يصبح من الممكن — ولو أنه نادر — أن ينتهي الطالب من إعداد رسالته خلال عامين ميلاديَّين، إنْ ساعده الحظ في موضوع البحث وأرهق نفسه بالعمل المتواصل. وهو ما حدث معي؛ إذ رغم سوء حظي في مناسبات عديدة من حياتي، فإن الموضوع الذي اقتُرح عليَّ بحثُه كان أصلًا قد بدأ على يد المهندسين المدنيين. وقد وصل إلى أستاذي من خلال أستاذ الهندسة المدنية بنفس الكلية التي التحقت بها؛ الكلية «الإمبراطورية». والموضوع يتلخص في أن مهندسًا استشاريًّا بريطانيًّا مرموقًا — هيرست — عمل في مصر سنين طويلة، وارتبط اسمه بدراساته المنشورة عن نهر النيل، كان قد نشر في مجلة الهندسة المدنية الأمريكية بحثًا مهمًّا، يحاول فيه بناء نظرية للتخزين القرني (مائة سنة) للمياه في بحيرة فكتوريا. وقد صادف هذا البحث العديد من المسائل النظرية العامة في علم الاحتمالات والإحصاء. وكعادات المهندسين فقد حاول هيرست أن يعطي إجابات تقريبية على مسائل من نوع: كم يكون حجم الخزان إذا أُريدَ له ألا ينضب خلال المائة سنة على أساس تصرف مائي متوسط معين كل عام؟ ولقد كان المطلوب مني هو معالجة منهجية لهذه القضايا وإعطاء إجابات دقيقة غير تقريبية عليها، وهذا ما نجحت فيه في نهاية الأمر، وأدى بي إلى علاقة خصبة مع هيرست بعد ذلك.
ولقد اقتضى هذا العمل المتواصل صباحًا في حضور محاضرات لطلبة الدراسات العليا ولطلبة ما قبل البكالوريوس، وبعد الظهر في الذهاب إلى مكتبة الكلية ومكتبة المتحف العلمي البريطاني، وفي المساء في مواصلة القراءة بالمنزل في كثير من الأحيان. ولا شك أنها كانت مرحلة أساسية في تكويني العلمي.
تكويني الثقافي
غير أن هذه المرحلة لم تكن أساسية في تكويني الرياضي فحسب، وإنما كانت أيضًا شديدة الأهمية في تكويني الثقافي العام؛ إذ انفتحت فيها على الجوانب الإيجابية العظيمة في الثقافة الغربية عمومًا وفي الثقافة الإنجليزية خصوصًا. ومن حسن الحظ أن الكلية التي التحقت بها كانت في أحد أحياء لندن المشهورة «سوث كينز نجتون»، وهو حي المتاحف الكبيرة … متحف فكتوريا وألبرت، المتحف العلمي البريطاني … متحف التاريخ الطبيعي … إلخ، كما أن به قاعة ألبرت الشهيرة، والتي كانت تُعقد بها الحفلات الموسيقية الكبيرة والاجتماعات الجماهيرية الضخمة، وكل هذا كان يبعد عن غرفتي بالكلية خطوات. ولا شك أنني مَدين لقاعة ألبرت بتذوقي للموسيقى الكلاسيكية؛ خصوصًا بيتهوفن وموتسارت، وهما أحب موسيقيَّين إلى قلبي، كما حرصت في عطلات نهاية الأسبوع على التردد على المسرح البريطاني والاستمتاع بروائعه. ولم أفلح مع ذلك في تذوق الأوبرا والاهتمام بها.
كما كانت إقامتي في بريطانيا فرصة للقراءة في الأدب الإنجليزي وحضور ندوات ثقافية واجتماعية وسياسية وزيارة العديد من المدن البريطانية. ورغم هذا البرنامج الحاشد لم أفقد اهتمامي بتتبع شئون مصر السياسية ومشاكلها، وكتبت بين الحين والآخر مقالات لصحيفة ديلي وركر البريطانية باسم «ص. الأيوبي»، كما حرصت على التردد على النادي المصري يومي السبت والأحد للالتقاء بزملائي الدارسين لمناقشة الأوضاع في مصر. وقد استطعنا تشكيل اللجنة الوطنية لمتابعة الموقف في مصر والاستجابة له بالعمل الطلابي الصحيح، وأذكر من أعضاء هذه اللجنة د. حكمت أبو زيد وزيرة الشئون الاجتماعية خلال المرحلة الناصرية ود. فائق فريد نائب وزير الكهرباء الأسبق.
وقد قامت هذه اللجنة بأعمال مهمة عديدة، ومنها أنها كانت تصدر نشرة غير دورية عما يجري في مصر سياسيًّا ونقابيًّا، عُرفت باسم «السلام والاستقلال»، وكنا نرسلها إلى النقابات والهيئات البريطانية بالبريد، والحقيقة أن هذه النشرة كان يصدرها أصلًا د. عبد المعبود الجبيلي في باريس، وكان يرسلها لي فنتولى ترجمتها إلى الإنجليزية، وطبع أعداد كافية منها وإرسالها إلى النقابات والهيئات.
ولقد نجحت اللجنة الوطنية في عقد مؤتمرات مختلفة للطلاب المصريين في بريطانيا، بالنادي المصري في المناسبات السياسية والاجتماعية المختلفة. وقد تميزت تلك الفترة في مصر بأحداث سياسية واجتماعية مهمة ومتدافعة؛ مما ساعد على اهتمام الطلاب المصريين بحضور تلك المؤتمرات في لندن … غير أن أهم عمل اضطلعت به تلك اللجنة، ونجحت فيه؛ المؤتمر الضخم الذي عُقد بالنادي المصري إثر هجوم القوات البريطانية على محافظة الإسماعيلية، وحريق القاهرة في ٢٦ يناير سنة ١٩٥٢م. وكانت نفوس الطلاب تغلي سخطًا على الأوضاع في مصر التي أدت إلى تلك الكارثة الرهيبة، وفي هذا الاجتماع تحدثت طويلًا عن المؤامرة التي دبرها الاحتلال مع الرجعية المصرية لإسقاط وزارة الوفد وإحراق القاهرة، كما تحدث غيري من الطلاب في هجوم صريح على النظام الملكي في مصر، محملين فاروق وقوات الاحتلال المسئولية الأولى فيما حدث، بل لقد وقف أحد الدارسين (د. عبد الحميد أمين)، وطالب بضرورة أن يتنازل الملك فاروق عن العرش كبداية لحل الأزمة المستحكمة. ولقد صفق الطلاب طويلًا لهذا الاقتراح، ولكنه تسبب في إحراج شديد لمدير مكتب البعثات — د. عبد العزيز عتيق — الذي كان زوج شقيقة عبد الحميد أمين، وهو نجل كاتبنا الكبير أحمد أمين.
ولم يمضِ على هذا المؤتمر سوى شهور قليلة حتى تحوَّل الضباط الأحرار للاستيلاء على السلطة؛ فيما عُرِف باسم ثورة يوليو سنة ١٩٥٢م، وفي هذه المناسبة دعونا لمؤتمر حاشد من جميع مدن بريطانيا لمناقشة الوضع الجديد. وكانت المعلومات المتاحة شحيحة عن طبيعة وتوجهات هذه الحركة الجديدة، إلا أن الحدث الذي دفعنا إلى تأييد حركة الجيش بشكل حاسم؛ هو طرد فاروق من مصر وتنازله عن العرش، فقد كان هذا طلبًا من مطالبنا في مؤتمر أواخر يناير سنة ١٩٥٢م، وأرسلت باسم اللجنة والمؤتمر برقية تأييد للثورة أُذيعت من راديو القاهرة، وازدادت قناعتي بصحة هذا الموقف عندما أُعلنت الجمهورية لاحقًا.
قرار بالفصل من الجامعة
بعد وقوع الثورة بشهرين قدمت رسالة الدكتوراه ونجحت في الحصول على الدرجة، وعدت إلى مصر متفائلًا ببداية مرحلة جديدة. ولم أذهب إلى جامعة الإسكندرية كما كان مفروضًا، وإنما صدر قرار وزاري بنقلي إلى كلية العلوم جامعة القاهرة، لأحل محل د. طلبة عويضة الذي كان قد أُعيرَ إلى العراق، وبقيت في قسم الرياضة البحتة بالكلية، المدرس الوحيد بين عدد من الأساتذة المساعدين، وأستاذًا واحدًا أتحمل عبء تدريس ١٤ ساعة أسبوعيًّا، حتى وقعت أزمة مارس سنة ١٩٥٤م، فانحزت إلى دعوة الديمقراطية مع خالد محيي الدين ومحمد نجيب. وكنت من الموقِّعين على العريضة التي طالبت بعودة الجيش إلى ثكناته. وكان أن صدر قرار من مجلس قيادة الثورة في ٢٤ سبتمبر سنة ١٩٥٤م بفصلي مع ٤٢ عضوًا من هيئات التدريس بالجامعات، معظمهم من الذين اتخذوا هذا الموقف. وكان من بين هؤلاء د. عبد المنعم الشرقاوي. ود. لويس عوض، ومحمود أمين العالم، ود. فوزي منصور (من جامعة الإسكندرية) وآخرون كثيرون.
ولقد كان صدور هذا القرار صدمة كبيرة لي، فقد كنت قد قضيت عامين في جامعة القاهرة أدرس وأبحث وأكتب مقالات في الأدب والثقافة في جريدة المصري ومجلة روزاليوسف. وفي مايو سنة ١٩٥٤م طلبت إجازة في الصيف للسفر إلى بريطانيا لاستكمال بعض الأبحاث العلمية هناك، وقد وافقت جامعة القاهرة وسافرت فعلًا، وقضيت الصيف كله في لندن منقطعًا لأبحاثي، وعدت إلى القاهرة بالفعل يوم ۲۸ سبتمبر سنة ١٩٥٤م، ودون أن أعرف أن قرارًا من مجلس قيادة الثورة قد صدر يوم ٢٤ سبتمبر بفصلي من جامعة القاهرة. ومن المفارقات الغربية أن أستاذي في جامعة لندن الذي أشرف على رسالة الدكتوراه استدعاني لمقابلته قبل ترك لندن بأيام، وفاجأني أنه قد طُلب منه أن يرشح أحد تلاميذه لشغل وظيفة محاضر في الإحصاء بإحدى كليات الجامعة، وأنه قد خطر في ذهنه أن يرشحني لشغل هذه الوظيفة. وقد اعتذرت فورًا وقلت له إن جامعة القاهرة أولى بجهودي. وبعد هذا اللقاء بأيام عدت فعلًا إلى القاهرة لأجد قرار مجلس قيادة الثورة في القاهرة، وأنني أصبحت بلا عمل، وبالطبع أبرقتُ إلى أستاذي أخبره أنني قبِلت عرضه، وأن خطابًا في الطريق يشرح لماذا غيرت رأيي.
ولست أنسى فضل الذين حاولوا مساعدتي في هذه الظروف، ومنهم د. عبد المنعم الشافعي، الذي كان آنذاك وكيلًا لوزارة الشئون، والذي رشحني للعمل في معهد الإحصاء الدولي (فرع بيروت)، وبالفعل سافرت إلى بيروت في نوفمبر سنة ١٩٥٤م، وقضيت هناك نحو أربعة شهور أدرِّس فيها لطلاب معهد الإحصاء الدولي. ومن بيروت سافرت إلى بريطانيا في فبراير سنة ١٩٥٥م، وبقيت فيها نحو عامين محاضرًا بكلية تشيلسي للعلوم والتكنولوجيا، حتى تأميم قناة السويس في يوليو سنة ١٩٥٦م، وعندئذٍ قررت أن أقدِّم استقالتي من عملي لأتفرغ للدفاع عن قرار التأمين أمام الرأي العام البريطاني. والغريب أن إحسان عبد القدوس — وكنت على صلة به وأبعث له مقالاتي فينشرها في روزاليوسف — كان قد كتب في فبراير سنة ١٩٥٥م مقالًا طويلًا على صفحتين في مجلته عنوانه «الرجل الذي سرقه الإنجليز»، يدعو فيه إلى إعادتي إلى جامعة القاهرة، ويطالب الثورة بتصحيح هذا الخطأ، وكان مقالًا شجاعًا في تلك الظروف.
ثم جاءت مسألة التأميم واستقالتي من عملي في لندن، فوضعت القيادة في مصر في موقف حرج. والغريب أن الملحق العسكري في السفارة المصرية بلندن طلب مني ألا أشترك في العمل الجماهيري في بريطانيا المدافع عن التأميم والمناهض للحرب؛ لأنه كان يتصور أنني سأقف في هذا العمل معارضًا لعبد الناصر؛ باعتباري مفصولًا من الجامعة، لكني رفضت طلبه بالطبع واتخذت الموقف الذي أملاه عليَّ ضميري الوطني، وهو الدفاع عن التأميم وعن عبد الناصر في موقفه من الجزائز وباندونج.
ولقد تعاونت في هذا النشاط مع حركة تحرير المستعمرات، التي كان الجناح اليساري من نواب حزب العمال هو القيادة الحقيقية لها (توني بن وآخرون)، واشتركت بهذه الصفة في اجتماعات جماهيرية حاشدة في المدن البريطانية المختلفة، انتهت إلى اجتماع ميدان «الطرف الأغر»، بعد بدء العدوان الثلاثي على مصر بأيام، وبعد هذا الاجتماع بأيام عدت إلى القاهرة عن طريق الخرطوم، التي بقيت فيها حتى حضور أول طائرة من القاهرة، فوصلت القاهرة في أوائل ديسمبر لأجد عرضًا من خالد محيي الدين بالعمل معه في صحيفة المساء. وقبلت العرض وتحولت من أستاذ جامعي إلى صحفي منقطع للعمل في بلاط صاحبة الجلالة.