ذكريات مع إحسان عبد القدوس
رأيت إحسان لأول مرة في المدرسة، مدرسة فؤاد الأول الثانوية، كان هو في السنة الخامسة أو الرابعة — لا أذكر بالضبط — وكنت بالسنة الأولى، وكانت هذه السنة — ١٩٣٥م — هي سنة المظاهرات ضد الإنجليز، وكان حزب الوفد في مقدمة المحرضين على هذه المظاهرات، لكن مشكلة مدرستنا أنْ كان على رأسها ناظر اتسم بالحزم والشدة (إسماعيل القباني)، فلم يكن يتردد في فصل أي تلميذ يراه يهتف بالشعارات السياسية في فناء المدرسة. وكان من الطبيعي أن يكون «الهتيفة» من تلاميذ السنة الرابعة والخامسة.
ولما زاد عدد المفصولين من تلاميذ الصفَّين الرابع والخامس، تفتَّق ذهن الباقين منهم عن حيلة؛ حتى لا يستطيع الناظر أن يرى المسئول عن بدء الهتافات.
وتتلخص الحيلة في أن يبدأ واحد من تلاميذ السنة الأولى من القصار بالهتاف، على أن يحيط به تلاميذ الصفَّين الأخيرَين من جميع الجوانب، ويقتصر دورهم على ترديد الهتاف وراءه؛ فلا يستطيع أحد معرفة من الذي بدأ الهتاف في المدرسة، وتطوعت أنا وغيري من تلاميذ السنة الأولى لأداء هذه المهمة، وخرجنا إلى الشارع، وعندئذٍ اصطدم البوليس بنا وأطلق بنادق الرش علينا، فقمنا برميه بالطوب، وكانت معركة انتهت بالقبض عليَّ في المساء من منزلي، بينما نجا إحسان، مع أنه كان في مقدمة المظاهرة.
ودخلت السجن لأول مرة في حياتي، وقضيت أربعًا وعشرين ساعة ما بين حجز قسم الوايلي وتخشيبة محافظة القاهرة، ولم يفرَج عني إلا بسبب صغر سني؛ إذ كنت في الثامنة عشرة من العمر. وعندما عدت في اليوم التالي إلى المدرسة استُقبلت استقبالًا حماسيًّا من التلاميذ.
ولا بد أن إحسان كان قد تابع هذه الأحداث وتيقَّن من شكلي المميز تمامًا، ولأنني عندما قابلت إحسان بعد الثورة في مكتبه بروزاليوسف بعد سبعة عشر عامًا من هذه المظاهرات، وجدته يذكِّرني بها وبحادث القبض عليَّ لمدة يوم کامل.
كان إحسان تلميذًا مرموقًا في المدرسة، فأمه السيدة روز اليوسف الصحفية المشهورة، ووالده الأستاذ محمد عبد القدوس الممثل المعروف، بينما لم يكن أحد يعرفنا، ومع أن إحسان لم يكن آنذاك يعرفني شخصيًّا، إلا أنني كنت أعرف، عن طريق أقاربي من عائلة أمي القاطنين في حي العباسية، الكثير عنه؛ فقد كنت أعرف أنه يقيم مع عمته في شارع رضوان شکري (حيث كان يقيم نجيب محفوظ) سنين طويلة، وأنه ظل يقيم مع عمته السيدة نعمات رضوان إلى أن أنهى دراسته الثانوية، والتحق بكلية الحقوق، فانتقل إلى منزل والدته.
وظللت أتابع من بعيد إحسان في عمله الصحفي ومقالاته النارية عن قضية الأسلحة الفاسدة، دون أن نلتقي، إلى أن عدت من البعثة بعد حصولي على الدكتوراه من جامعة لندن في سبتمبر سنة ١٩٥٢م، وتم تعييني مدرسًا بقسم الرياضة البحتة بكلية العلوم جامعة القاهرة، وبدأت أكتب مقالاتي في الأدب في صفحة يوم الأحد بصحيفة المصري، وأذكر أنني كتبت مقالًا عن «الأدب الواقعي»، تعرضت فيه بشكل جانبي لقصص إحسان ورأيي السلبي فيها. وإذا بأحد الأصدقاء من العاملين مع إحسان في روزاليوسف يتصل بي تليفونيًّا ويبلغني بأنه يريد أن يراني، فلما ذهبت إليه في مكتبه فوجئت به يعرض عليَّ الكتابة بانتظام في روزاليوسف. وهكذا بدأت صلتي من جديد بإحسان وبالمجلة، وظللت أكتب فيها حتى نهايات عام ١٩٥٤م، وأذكر أنني قمت بتحرير باب «أدب» في المجلة بعد انتقال فتحي غانم إلى أخبار اليوم.
موقف لن أنساه
لكن حدث في نهايات عام ١٩٥٤م أنْ أصدر مجلس قيادة الثورة قرارًا بفصل ٤٢ من أساتذة الجامعات الذين عارضوا النظام؛ بسبب قضية الديمقراطية، وكنت واحدًا من المفصولين، ووجدت نفسي بلا عمل فجأة، وأنا صاحب أسرة. ولم يمضِ وقت طويل حتى عُرضت عليَّ وظيفة مدرس بإحدى كليات جامعة لندن، فقبلتها على الفور، وسافرت إلى بريطانيا … ومن هناك أخذت أرسل مقالات في قضايا ثقافية، فيقوم إحسان بنشرها في المجلة، مع أنه يعلم أنني من المغضوب عليهم من جانب السلطة … وفي أحد الأيام وصلني منه خطاب يقول فيه إنه حزين لأنني أعمل في خدمة جامعة بريطانية، بينما تحتاج مصر إلى من هم مثلي، ورددت عليه قائلًا إنني سأكون أسعد إنسان إذا استطاع أن يدبر لي أي عمل في مصر … وبعد وصول خطابي كتب إحسان مقالًا طويلًا في روزاليوسف عنوانه «الرجل الذي سرقه الإنجليز»، قال فيه عني كلامًا طيبًا قد لا أستحقه، ودعا الحكومة إلى إعادتي إلى جامعة القاهرة.
وبعد نشر المقال بأيام، كان إحسان في طريقه إلى باندونج في صحبة جمال عبد الناصر، الذي سأله عن المقال وعني، فشرح إحسان وجهة نظره بالكامل، لكن عبد الناصر ختم حديثه قائلًا: إن الشيوعيين يضحكون عليك ويستخدمونك يا إحسان! وبقيت في بريطانيا حتى أعلن عبد الناصر تأميم القناة في يوليو سنة ١٩٥٦م، فقدمت استقالتي على الفور من الجامعة وقررت العودة إلى مصر، وكان إحسان واحدًا من أسعد الناس لعودتي، وتوثقت صلتنا من جديد؛ خصوصًا أنني بدأت أعمل في صحيفة «المساء» بالقاهرة كمحرر للشئون العربية، وأصبحت متفرغًا للعمل الصحفي.
ولعل هذه الوقائع التي سردتها توضح كيف كان إحسان مستنيرًا واسع الأفق، وشجاعًا في الوقت نفسه في الدفاع عن رجل لا يشاركه قناعاته السياسية. وثمة مثال آخر يوضح كيف كان واسع الأفق حتى عندما يتعلق الأمر بإنتاجه الأدبي: أذكر مرةً أنني دُعيت للاشتراك في ندوة بالإذاعة بالبرنامج الثاني في عام ١٩٥٧م لمناقشة قصته (الطريق المسدود)، وكان زميلاي في الندوة هما إحسان وكامل الشناوي. وكنت قد أعددت ملاحظاتي النقدية لكي أستفيد منها في الندوة، لكني أحسست بأن كامل الشناوي قد استهلك وقت الندوة كله، فلم يدَعْ لي فرصة لتوضيح وجهة نظري، وهكذا كتبت مقالًا عن القصة ونشرته في صفحة الأدب بصحيفة المساء، وكان هذا المقال هو الوحيد الذي نشرته في النقد الأدبي إبان عملي في المساء، وكان مقالًا قاسيًا شديد الوطأة على أدب إحسان كله، وهاجت السيدة روز اليوسف وماجت عند نشر المقال، وشتمت كل المحررين اليساريين الذين كانوا يعملون في روزاليوسف آنذاك، مع أنهم لا ذنب لهم فيما نشرته أنا من آراء، لكن إحسان ظل على صداقته لي ولم يفاتحني في كلمة مما نشرت.
ولقد ظلت سنوات عملي في صحيفة «المساء» هي أيضًا سنوات ارتباطي الوثيق بإحسان وكامل الشناوي، وكنا عادةً نلتقي مساء كل يوم خميس في صحيفة الجمهورية في مكتب كامل الشناوي، وننتظر حتى تصدر الطبعة الأولى من جريدة الجمهورية، ثم نخرج نحن الثلاثة للسهر حتى الصباح تقريبًا في فندق مصر الجديدة، وكان يشاركنا هذه السهرات أحمد بهاء الدين أو فتحي غانم أحيانًا. وعندما رشحت نفسي في يوليو ١٩٥٧م للانتخابات النيابية عن الدائرة السادسة (الوايلي والعباسية)، لم يتردد إحسان هو وكامل الشناوي في التوقيع على بيان الكتَّاب والفنانين الذي دعا الشعب إلى انتخابي، هذا رغم علمهم أن بعض أجهزة السلطة في مصر لم تكن راضية عن ترشيحي، وكانت تسعى سرًّا وعلنًا إلى إسقاطي؛ فقد كنت مرشح اليسار الوحيد في هذه الانتخابات، وكان نجاحي سابقة لها ما بعدها.
في أول يناير ١٩٥٩م بدأت الحملة الأمنية ضد قوى اليسار في مصر، واعتُقل أكثر من مائتَين في اليوم الأول، كنت واحدًا منهم. وكان الخلاف قد بدأ حول قضية الوحدة مع سوريا وشكلها وقضية الديمقراطية، ثم تداعت الأحداث إلى حملة معادية للشيوعية استمرت سنوات.
وبقيت في معتقلات مصر خمس سنوات وثلاثة شهور، هذا على الرغم من أنني قُدمت للمحاكمة أمام مجلس عسكري في نوفمبر سنة ١٩٥٩م، وأصدر المجلس حكمًا ببراءتي.
وعندما أُفرج عني في أبريل سنة ١٩٦٤م، اتصل بي إحسان عبد القدوس، ودعاني إلى الكتابة في روزاليوسف، وبالفعل عدت للكتابة من جديد فيها، إلى أن انتقل الأستاذ أحمد بهاء الدين إلى دار الهلال، فانتقلت إلى الكتابة في مجلة المصور معه.
ولقد ترددت كثيرًا على منزله في الستينيات، وما زلت أذكر لقاءنا مع جيفارا، في منزله الحالي في الزمالك، والنقاش الذي دار آنذاك حتى الصباح تقريبًا، وفي هذه اللقاءات كنا نتفق ونختلف، ولم يؤثر الاتفاق أو الخلاف على مودتنا المتبادلة.
إلا أن الأيام باعدت بيننا بعد ذلك؛ فقد توفيت زوجتي عام ١٩٧٥م، وبدأت أسافر كثيرًا، فقضيت في بريطانيا أكثر من عامين ونصفٍ أستاذًا زائرًا في السبعينيات، وعملت مع الأمم المتحدة بالكويت أربع سنوات، بين أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ولم ألتقِ مع إحسان طوال هذه السنوات، لكني كنت حريصًا دائمًا على أن أبعث له تحياتي وتمنياتي له بالصحة والعافية كلما قابلت نجله الأكبر محمد، ولا شك في أن مرضه في السنين الأخيرة قد أثَّر على اتصالاته بأصدقائه القدامى، كما أن للشيخوخة أحكامًا!
وعندما ذهبت للمشاركة في تشييع جنازته، أحسست أنني أحمل على ظهري ذكريات خمسين عامًا من النضال والاتفاق والخلاف، ولم أستطع أن أكتم دموعي ونحن نودعه الوداع الأخير!