للذكرى
منذ أيام مضت ذكراه السادسة عشرة، وكان قد رحل فجأة وهو في قمة حيويته ونشاطه الأكاديمي، ووقع عليَّ خبرُ رحيله وقوعَ الصاعقة، كنت يومها أستاذًا زائرًا لجامعة لانكاستر، في الشمال الغربي لبريطانيا، أستعد للعودة إلى القاهرة أنا وابنتي الصغيرة حنان، التي قضت العام الدراسي كله معي في بريطانيا، وكانت ترتيباتنا هي أن نذهب بالسيارة إلى فرنسا وإيطاليا، وأن نقضي شهر يوليو كله هناك حتى نصل إلى نابولي، ثم نأخذ المركب إلى الإسكندرية من هناك.
وفي صباح يوم تلكَّأت فيه بالمنزل دق جرس الهاتف، وكان المتحدث يتصل بي من روما ليعزيني في المصاب، عندما قرأ نبأ الحادث الذي أدى إلى الوفاة في الصفحة الأولى من الأهرام، ثم النعي في صفحة الوفَيات، واشتد حرج هذا الصديق المتحدث من روما عندما أدرك أنني لم أكن على علم بالخبر!
وبسرعة اتصلت بأشقائي في القاهرة هاتفيًّا، فأكدوا لي صحة الخبر عن الحادث الذي وقع في اليوم السابق، وسابقت الزمن لأخذ أول طائرة إلى القاهرة، لكنني عندما وصلت كانوا قد وارَوْه التراب وعادوا، وكانوا قد تقبلوا فيه العزاء، وانتهى الأمر.
إنني أتحدث عن شقيقي الأكبر المرحوم الدكتور إبراهيم أنيس، الذي كان عميدًا لكلية دار العلوم مرتين، وعضوًا بمجمع اللغة العربية لمدة عشرين عامًا، وصاحب کرسي «فقه اللغة» بجامعة القاهرة، وهو الرجل الذي كان له الفضل الأكبر في تربيتي المدرسية ورعايتي حتى تخرجت في الجامعة. وكان فارق السن بيننا كبيرًا، ربما يزيد على سبعة عشر عامًا؛ فعندما تخرج في دار العلوم عام ١٩٣٠م واشتغل بالتدريس، كنت في السابعة أستعد لدخول المدرسة الابتدائية. وسافر هو بعد ذلك إلى بريطانيا في بعثة حكومية للحصول على الدكتوراه، فكان يرسل لي الخطابات المشجعة على مدرسة الحسينية الابتدائية، ثم على مدرسة فؤاد الأول الثانوية بعد ذلك، وهو بلا شك صاحب الفضل في توجيهي لدخول «شعبة الرياضيات» في السنة التوجيهية، ومنها إلى قسم الرياضيات بكلية العلوم. وكان يعرف بالطبع اهتماماتي الأدبية والفلسفية، كما كان يعرف محبتي للرياضيات، وكان يقول لي دائمًا: «إنك تستطيع أن تواصل اهتماماتك الأدبية والفلسفية وحدك بالقراءة المثابِرة، لكنك لا تستطيع ذلك في الرياضيات.» ثم يضحك ويقول: «يا بني، الأدب لا يطعم أحدًا هذه الأيام.» ولم أندم على قبول نصيحته أبدًا، وظل إبراهيم أنيس بالنسبة لي أبًا روحيًّا. وبالتأكيد تفرقت بنا السبل عندما كبرنا، واهتممت أنا بالعمل السياسي الذي كان قد فقدَ الاهتمام به منذ أن كان طالبًا وفديًّا وشاعرًا يلقي قصائده أمام سعد زغلول في بيت الأمة، ثم أمام مصطفى النحاس من بعده. لكنه ظل في مكانة الوالد بالنسبة لي.
ولن أخجل من أن أقول إنه أحد أبرز حراس اللغة العربية في العصر الحديث؛ باعتباره لغويًّا رائدًا أحدث ثورة حقيقية في علم فقه اللغة؛ بدءًا من دراسة للهجة أهل القاهرة، وانتهاءً بجهوده في استخدام الكمبيوتر في إحصاء تكرارات الحروف العربية.
ولا شك في أنه يُحسَب له أنه أول من بشَّر بالمناهج العصرية في دراسة أصوات اللغة، مستعينًا بالأجهزة الصوتية الحديثة، وأثمر هذا كله كتابه الرائد «الأصوات اللغوية»، وبعد ذلك صدرت له المؤلفات الآتية على التوالي: من أسرار اللغة العربية، موسيقى الشعر، في اللهجات العربية، دلالة الألفاظ، وهو الكتاب الذي حصل به على جائزة الدولة التشجيعية عام ١٩٥٧م، مستقبل اللغة العربية المشتركة، اللغة بين القومية والعالمية، طرق تنمية ألفاظ اللغة (مجموعة محاضرات).
- (١)
العجوز المتصابي، وقد كتبها خلال دراسته بكلية دار العلوم، وأشرف على تمثيلها في مسرح الأزبكية.
- (٢)
إيناس، أو ضحية المجتمع.
- (٣)
المنصور بن عامر الأندلسي.
- (٤)
المتنبي في مجلس سيف الدولة.
وقد نالت جهوده المتميزة في خدمة اللغة التقدير، لا على نطاق العالم العربي وحده، وإنما على النطاق الدولي أيضًا، وكانت هذه الحقيقة وراء اختياره في مقدمة اللغويين الذين يؤرَّخ لحياتهم في «معجم اللغويين العالميين» الذي تصدره جامعة «إنديانا» بالولايات المتحدة.
وإبراهيم أنيس ليس في الحقيقة غريبًا على الكويت؛ فهناك العديد من تلاميذه الكويتيين أيام دار العلوم، وهم يشغلون اليوم المناصب المرموقة في الجامعة ووزارة التربية والتعليم أو في الصحافة الكويتية، وفضلًا عن ذلك، فقد دعته جامعة الكويت لمدة شهر أستاذًا زائرًا، حيث ألقى عددًا من المحاضرات، واستخدم الحاسب الآلي للجامعة في متابعة أبحاثه اللغوية، وعاد من هذه الزيارة بأجمل الذكريات التي حدثني عنها، ولم أكن آنذاك (في أوائل السبعينيات فيما أذكر) قد زرت الكويت ولا عرَفت أحدًا من أهلها.
في يوم ٨ يونيو من عام ١٩٧٧م، خرج إبراهيم أنيس كعادته كل مساء يمارس رياضة المشي ساعة من الزمان، وهو الرجل الذي يجلس إلى مكتبه في صومعته بالمنزل ساعات طوالًا بلا ملل، وإذا بطالب ليبي مستهتر يصدمه بسيارته وهو يحاول عبور الطريق.
ونُقل إبراهيم أنيس إلى مستشفى العجوزة القريب دون أن يعرف أحد من هو، ووجد البوليس في جيبه ورقة صغيرة واحدة بها رقم هاتف، واتصل البوليس بصاحب الرقم الذي تبين أنه الدكتور كمال بشر عميد دار العلوم آنذاك، وحضر الرجل وتعرَّف على الجثمان، وأبلغ عائلته تليفونيًّا بالمصاب، وفي اليوم التالي اتصل بي من روما هذا الصديق الذي ظن أنني على علم بالخبر، وحاولت أن أشترك في وداعه الأخير فلم أفلح.
تحية حب وتقدير وعرفان بفضله في ذكراه السادسة عشرة.