ذكريات مع علي مصطفى مشرَّفة
في الذكرى المئوية لميلاده
دخلت كلية العلوم بجامعة القاهرة في أكتوبر سنة ١٩٤٠م، وتخرجت فيها في يونيو سنة ١٩٤٤م. وفي السنوات الثلاث الأولى والشهر الأول من السنة الرابعة، لم يكن هناك أي اتصال شخصي بيني وبين عميد الكلية، ورئيس قسم الرياضة التطبيقية الأستاذ الدكتور علي مصطفى مشرفة.
كنت أحضر بالطبع محاضراته في السنة الثانية وفي السنة الرابعة، وكان آنذاك يحاضر في علم الاستاتيكا في السنة الثانية، ويحاضر في النظرية الكهربائية المغناطيسية للضوء والبصريات في السنة الرابعة، وكنا، نحن طلاب الرياضيات، ننظر إليه باحترام ومهابة شديدَين، وكانت تنتشر في أوساطنا، نحن الطلاب، أسطورة أن من يفهمون النظرية النسبية لإينشتاين في العالم عشرة بينهم واحد مصري … هو علي مصطفى مشرفة.
ثم وقع حدث طلابي في أوائل السنة الرابعة جعلني على اتصال شخصي به طوال العام، هذا الحدث هو انتخابات الجمعية الرياضية الطبيعية لطلاب وأقسام الرياضيات والفيزياء التي تجري كل عام، وينتخب فيها طلاب كل صف من الصفوف الأربعة اثنين من الطلاب في مجلس إدارة الجمعية لذلك العام، وقد رشحت نفسي عن السنة الرابعة فانتخبني زملائي، ثم اجتمع مجلس الإدارة الجديد وأكرمني زملائي فانتخبوني رئيسًا لمجلس الإدارة عن العام الدراسي سنة ١٩٤٣-١٩٤٤م.
وبعد انتخابي رئيسًا للجمعية بدأت في إعداد البرنامج الثقافي للجمعية، أي سلسلة المحاضرات التي سيلقيها مختصون في موضوعات رياضية وفيزيائية عامة تثير اهتمام الطلاب، وحرصت بالطبع على أن أضع في مشروع البرنامج محاضرة عن النظرية النسبية يلقيها علي مصطفى مشرفة. وعندما عرضت عليه الاقتراح لم يعارض وإن كان قد طلب تأخير موعدها.
وبالطبع ظللت على اتصال به طوال العام، وضمَّتنا ذكريات عديدة جميلة عن هذه الفترة سوف أفضي هنا بثلاث منها ما زالت محفورةً في ذهني.
-
الذكرى الأولى: تتعلق بطالب اسمه صالح كان زميلًا لنا في السنة الرابعة، وإن
تخصص في الفيزياء، وقد صار عميدًا لكلية العلوم بالإسكندرية في
الستينيات.
جاءني صالح في أحد الأيام واقترح عليَّ أن يكون، ضمن البرنامج الثقافي للجمعية، محاضرة له في الفيزياء، ورفضت طلبه؛ على أساس أن طالبًا مثلنا لن يفيدنا بشيء جديد، ولو فتحنا هذا الباب، باب أن يقوم الطلاب بإلقاء محاضرات في الجمعية فلن نقدم للطلاب جديدًا، ولم يقتنع صالح فذهب إلى عميد الكلية شاكيًا موقفي.
أتذكر أن ساعي العميد جاء يبحث عني وعندما وجدني قال لي: «الباشا يريدك على الفور.» وذهبت إلى غرفة العميد ألهث من الجري، وعندما دخلت ولاحظ حالتي قام من مكتبه وأخذ كرسيًّا، ووضعه بجوار النافذة التي فتحها على الفور وقال: «نتكلم عندما تهدأ وتلتقط أنفاسك.»
وبعد خمس دقائق جاء وجلس على كرسي آخر بجواري، وقال لي: «هل يرضيك أن يجلس الأساتذة في الأتوبيس بينما الطلاب واقفون؟» وكان بطبعه يهوى الحديث بمثل هذه التشبيهات والاستعارات، ورغم أنني لم أفهم المقصد من وراء هذا الكلام، إلا أنني رددت على الفور: إن هذا وضع طبيعي؛ إذ على الطلاب أن يقفوا في الأوتوبيس احترامًا لأساتذتهم، فضلًا عن أنهم أقدر على الوقوف لصِغَر سنهم.
ضحك العميد ضحكته المعهودة وقال: غلبتني! وتكلم فورًا عن شكوى الطالب صالح، وشرحت له وجهة نظري التي وافق عليها مجلس إدارة الجمعية. لكنه قال: يا سيدي علشان خاطري، أعطوه فرصة. ووافقت طبعًا لا اقتناعًا، وإنما احترامًا لرغبة العميد.
- الذكرى الثانية: تتعلق بمحاضرته عن النظرية النسبية، إذ بدأت أتساءل: من الذي سيقدم العميد في هذه المحاضرة؟ وقررت أن من الأنسب أن يقدمه واحد من الأساتذة، وذهبت إليه مقترحًا أن يتولى تقديمه أستاذنا د. محمد مرسي أحمد رئيس قسم الرياضة البحتة، الذي كان له مودة خاصة في قلبي، لكن العميد رفض وقال: أنت رئيس الجمعية وأنت الذي تقدمني للحضور. وبالطبع كنت خجِلًا من تقديمه، لكنه صمم على ذلك، وفعلت ما طلبه، وأتذكر أن مدرج قسم الفيزياء، حيث ألقيت المحاضرة، كان مليئًا بالحاضرين من داخل الكلية وخارجها، وأن القضايا التي أثارتها هذه المحاضرة كانت ذات أثر كبير على الحاضرين، وطال زمن المحاضرة والأسئلة إلى نحو ثلاث ساعات، وهو أمر نادر الحدوث في برنامج المحاضرات.
- أما الذكرى الثالثة: فتتعلق بالصورة التذكارية التي كانت تؤخذ في أواخر العام الدراسي لمجلس إدارة الجمعية مع رئيس شرف الجمعية والمستشارين، ولا تزال هذه الصورة في غرفة مكتبي بالمنزل حتى الآن.
والعادة أن هناك من يجلسون على دكة أُعدت لهذه المناسبة، وهناك من يقفون وراءهم. وقررنا، نحن الطلاب، أن الأساتذة هم الذين يجلسون بينما نقف نحن الطلاب وراءهم، لكن علي مصطفى مشرفة كان له رأي آخر؛ إذ صمم على أن أجلس على الدكة في وسط الصورة، ويجلس الأساتذة على الجانبين، وكنت في أشد حالات الخجل، وحاولت جاهدًا أن أقف مع زملائي الطلاب في الصف الخلفي، لكنه صمم على رأيه، وقال ضاحكًا: أنت رئيس الجمعية، وتستحق أن تكون مركز الصورة. وهذا ما كان فعلًا.
ولم أرَ علي مصطفى مشرفة بعد تخرجي وتعييني معيدًا في جامعة الإسكندرية، ولكن ذكراه ظلت عزيزةً إلى قلبي، غالية في نفسي. وأتذكر أنني عندما عملت رئيسًا لشركة الكاتب العربي للطباعة والنشر عامَي ١٩٦٧م و١٩٦٨م كان كتاب «الجبر والمقابلة» للخوارزمي، الذي قام بتحقيقه علي مصطفى مشرفة، ومحمد مرسي أحمد، ضمن كتب الدار التي أُعيدَ طبعها.