في أوردي أبو زعبل

رسالة إلى زوجتي

زوجتي الحبيبة: ها أنا ذا أرسل لكِ هذه الرسالة بعد غيبة طويلة، منذ أن أرسلت لكِ خطابي خلال المحاكمة أيام المجلس العسكري بالإسكندرية في أكتوبر الماضي، ولقد مضى على خطابي هذا نحو عشرة شهور اجتزنا فيها تجربةً طالت وكأنها عشر سنوات! أعني تجربة الأوردي بما تعنيه من تعذيب يومي، وإهدار لآدمية المعتقلين، وعمل كالسُّخرة في جبل أبو زعبل، ثم قتلٍ لعدد من زملائنا. إنها باختصار ما صنعته النازية في خصومها السياسيين في معتقلات أوروبا المشهورة، ولم يكن لينقصها لتصبح الصورة مطابقة تمامًا غير غرف الغاز!

لقد انتهت هذه التجربة الآن وعدنا إلى آدميتنا من جديد … ولعلكِ أدركتِ من خلال زيارتكِ لي في الشهور الأخيرة مبلغ السوء الذي وصلت إليه حالتي الصحية. غير أني اليوم أسترد صحتي بالتدريج فلا تقلقي، ولكن ما يقضُّ مضجعي حتى اليوم أن شهدي عطية، بمصرعه الفاجع في الأوردي تحت سياط التعذيب، هو وحده الذي فدانا جميعًا. ولولا مصرعه وما أثار من ضجة خارجية، لاستمر التعذيب حتى اليوم، ولاستطاب كثير من المسئولين هذه الحال، ومن قبلُ قتلوا الدكتور فريد حداد ببساطة وكأنهم يؤدون عملًا عاديًّا، وهؤلاء القتلة معروفون ويعيشون بينكم لا يعذب أحدًا منهم ضميرٌ ولا تمتد إليه يدُ قانون!

إن قتَلة شهدي وفريد حداد هم اللواء إسماعيل همت وکيل مصلحة السجون والعميد إسماعيل طلعت مدير سجن أبو زعبل، ثم أولًا وأخيرًا الضباط حسن منير وعبد اللطيف رشدي ويونس مرعي، هؤلاء الثلاثة هم الجلادون المباشرون، ولكني لا أشك أن وراء هؤلاء يقف رجال المباحث العامة بقيادة حسن المصيلحي وبعض رجال وزارة الداخلية، ولست أستطيع أن أصدِّق أن المسئولين في مصر لم يكونوا يعرفون ما يجري في أبو زعبل خلال الفترة من نوفمبر سنة ١٩٥٩م إلى يونيو ١٩٦٠م.

لا أدري كيف أبدأ في رواية القصة الإجرامية التي وقعت هنا. خلال هذه الفترة أرسلت لكِ عددًا من الخطابات بمعرفة إدارة السجن، ولعلكِ لاحظتِ أن كل خطاب لم يزِدْ على ثلاثة سطور، أسأل فيها عن أحوالك وأحوال منى ووفاء وإخوتي، وأطلب إرسال بعض النقود. لقد تعمدت هذا لأن الخطابات كُتبت خلال أسوأ ظروف وإبان فترة التعذيب، ولم يكن لدي ما أقوله … أو بمعنًى أصح لم يكن ممكنًا كتابة ما أريد أن أقوله!

•••

لقد رحلنا من سجن مصر يوم ٧ نوفمبر سنة ١٩٥٩م … ولا أدري إن كان لاختيار هذا التاريخ معنًى خاص عند رجال المباحث، ولكني أعلم أن إعدادنا لما كان ينتظرنا في أوردي أبو زعبل قد بدأ ونحن واقفون في فناء سجن مصر ننتظر الترحيل؛ فقد أخذ مأمور سجن مصر شوقي القطشة في استفزازنا دون مبرر، وكسر بنفسه أشياء كثيرة من لوازمنا المتواضعة التي نحملها من سجن إلى سجن. وعندما وصلت العربة التي حُشر فيها الواحد والستون إلى أوردي أبو زعبل، فوجئنا بفرقة من الخيالة على جيادهم، ثم صفين من الجنود يحملون العصى الغليظة على باب الأوردي وداخله، وكانت التعليمات أن ينزل كلُّ واحد منا بسرعة وأن يخلع ملابسه على باب الأوردي … كل ملابسه حتى يصبح عاريًا كما ولدته أمه، وأن يأخذ بسرعة برشًا وبدلة سجن بيضاء ويهرع إلى العنبر. وكان أساس العملية هو المفاجأة الكاملة وشل الذهن عن التفكير؛ حتى لا يجد إنسان فرصة ليحتج أو يناقش. وبطبيعة الحال لم يستطع معظم المعتقلين أن ينجزوا هذه المهمة في سرعة، وكانت النتيجة أن قام الجنود بضربهم وهم عرايا بالعصى الغليظة، فضلًا عن الإهانات اللفظية.

وكانت مهزلةً وما أبشعها من مهزلة! ومع ذلك فإن «حفلة الاستقبال» كما واجهناها لم تكن شيئًا بالمقارنة ﺑ «حفلة الاستقبال» التي أُعدت لدفعة شهدي عطية في يونيو الماضي، والتي مات فيها هذا الصديق العزيز … فضلًا عن الزملاء الآخرين الذين ظلوا في حالة خطرة لعدة أيام بعد ذلك. وفي اليوم التالي لوصولنا بدأ روتين الحياة المعَدَّة لنا … نقوم في الصباح، ونذهب ونحن حفاة في طابور إلى جبل أبو زعبل لتكسير الأحجار، ويستمر العمل حتى الظهر، حيث نعود إلى الأوردي ويُقفَل العنبر علينا حتى صباح اليوم التالي. والطعام الذي يقدم لنا هو أسوأ ما يتصوره إنسان في حياته: عسل أسود في الصباح، فول نابت في الظهر، ثم خضار لا طعم له وقطعة لحم تثير القرف في المساء. وخلال كل يوم تقريبًا يُنتقى عدد من المعتقلين لاستفزازهم وضربهم ضربًا مبرِّحًا، ووضعهم في زنزانة انفرادية مغطاة بالماء البارد وبلا أغطية لمدة يومين أو ثلاثة. وكثيرًا ما يُفتح العنبر في الصباح أو بعد الظهر، وفجأة تدخل فرقة من الجنود بحجة تفتيش العنبر، وكان علينا أن ندير وجوهنا إلى الحائط أثناء التفتيش، ثم في ختامه كان علينا أن نحني ظهورنا كأننا راكعون في صلاة، ثم يدور كل واحد منا حول نفسه مرات ومرات حتى يأمر الضابط بالتوقف. وبالطبع خلال هذه العملية الهزلية يضرب الجنود عددًا من المعتقلين كيفما اتفق، إنها عملية تثير الضحك، وحتى الآن لم أفهم المقصود من هذه التعليمات.

كان الجو الظاهري أننا نعيش في أبو زعبل حياة عسكرية، والجو الحقيقي المقصود هو التنكيل … وما زلت أذكر أننا خرجنا مرة لطابور «رياضة»، وخلال هذا الطابور طلب منا حسن منير أن نهتف باسم عبد الناصر وأن نغني أناشيد وطنية. فلما اعترض الدكتور إسماعيل صبري عبد الله قائلًا إننا لا نفعل هذا بناءً على أوامر. انهالوا عليه بالعصى حتى فُتحت رأسه! وبطبيعة الحال كان لا بد أن يأتي دوري ودور محمود العالم! وفي المرة الأولى عندما رفعت صوتي مبديًا ملاحظات متواضعة على بعضِ ما يحدث، أُخذت أنا وزميل آخر إلى الغرفة الانفرادية، وبقينا هناك حتى جاء حسن منير مأمور الأوردي، فإذا به يعيدنا إلى العنبر دون عقاب. وكان لهذا الموقف فرحة، وأية فرحة، في كل العنبر. فقد بدا وكأنه نصر لنا! وفي المرة الثانية لاحتجاجي أُخذنا إلى جبل أبو زعبل، وبدأ العدوان عليَّ بشكل مكثف على يد فرقة من الجنود يقودها الصول مطاوع، واستمر الحال على ذلك حتى أُغمي عليَّ من شدة الضرب. وحملني زملائي على أكتافهم، وأنا في شبه غيبوبة، إلى العنبر، ثم نُقلت إلى غرفة «الملاحظة الانفرادية» المخصصة للمرضى، وبقيت فيها عشرة أيام بين الحياة والموت في الأيام الأولى. ولقد كان من حسن حظي أن الطبيب الذي جاء لعيادتي كان زميلًا لي في المدرسة الثانوية. وهالته حالتي في اليوم الأول حتى اغرورقت عيناه بالدموع تأثرًا، وظل يواظب يوميًّا على التردد عليَّ مرتين، ويُحضِر أدوية خاصة من عنده، حتى اطمأن على حالتي. وبطبيعة الحال لم تكن الإدارة تدري أن الطبيب زميل سابق لي في الدراسة، وأن هذا هو مصدر اهتمامه الكبير بي. وأحيانًا كثيرة أحس أنني مَدين بحياتي لهذا الرجل النبيل.

لن أطيل عليكِ أكثر من هذا … سوى أن أقول لكِ إن من مبررات هذه المعاملة الوحشية التي قيلت آنذاك، على لسان بعض الضباط، هو موقف الزملاء الجريء أثناء المحاكمة بالإسكندرية، فنحن كمجموعة لم نُخْفِ انتقادنا السياسي للحكومة ولسياسة عبد الناصر في قضيتَي الوحدة والديمقراطية. ولكنني لا أستطيع قبول هذا التبرير بسهولة؛ لأن قضية شهدي عطية (وكان من المعروف أن زملاء هذه القضية على عكسنا لا يُخْفون تأييدهم شبه المطلق لسياسة عبد الناصر آنذاك) قد لقيت على باب الأوردي استقبالًا أتعس بكثير من استقبالنا، وأن شهدي نفسه قد ضُرب حتى الموت. ولقد كنا داخل عنابرنا عندما وصلت دفعة شهدي، وبطبيعة الحال لم نرَ شيئًا يُذكَر بأعيننا، ولكننا سمعنا كل شيء! فقد كان المطلوب من كل واحد منهم أن يهتف بسقوط الشيوعية، وأن يذكر اسمه بصوت عالٍ، وأن يقول «أنا مَرَة!» … إلخ. وعندما رفض شهدي وآخرون كثيرون تنفيذ هذه التعليمات المخزية، انهالوا على رأسه بالضرب حتى الموت. ويبدو أن موت شهدي كان مفاجأة لإسماعيل همَّت وحسن منير والآخرين.

وإذا بهمت يستقل سيارته ويمضي هاربًا إلى القاهرة، وإذا بحسن منير يضع الجبس على ذراعه مدَّعيًا أمام النيابة أن المعتقلين هجموا عليه وضربوه وكسروا ذراعه، وأنه هو وجنوده كانوا يدافعون عن أنفسهم. بعد وفاة شهدي وما أحدثته من ضجة، جاءت النيابة بأعداد كبيرة، وتولت التحقيق صباحًا ومساءً … وفجأة تغير جو المعتقل تمامًا! وقد طلبت أنا والدكتور إسماعيل صبري عبد الله سماع أقوالنا في مقتل شهدي، وأجابت النيابة طلبنا. وكان منظرًا مخزيًا للضابط حسن منير عندما أتوا به لتقوم النيابة بتجربة التعرف على صوته، وأنا داخل العنبر كما ذكرت في التحقيق، لقد رأيته كالفأر المتهالك، ولم يجرؤ على أن ينظر إليَّ، بل كان مطرقًا رأسه إلى الأرض طوال الوقت، وقد وضعتني النيابة في غرقة مقفلة، وطلبت منه ومن ضباط آخرين أن يرفعوا صوتهم بجمل من التي كانوا يقولونها للمعتقلين في حفلة الاستقبال، وفي كل مرة تعرفت على صوته في يُسر دون أن أراه، وبطبيعة الحال نُقل حسن منير في اليوم التالي لوفاة شهدي حتى لايفتك به المعتقلون.

إن الضجة التي حدثت عند وفاة شهدي كانت أمرًا طبيعيًّا، ولكن الغريب أن الدكتور فريد حداد قد قُتل داخل الأوردي قبل شهدي بشهور ولم تُحدِث وفاته ضجةً ما!

إنكِ تذكرين بالطبع الدكتور فريد حداد، هذا الطبيب الشهم الذي تولى علاجي وعلاجك وعلاج عمتكِ قبل اعتقالي أكثر من مرة. كم كان وديعًا، طيب القلب، عظيم الإنسانية! تستطيعين أن تتصوري صدمتي عندما أُخرجنا من العنبر ذات يوم عند الغروب لاستلام طعامنا ونحن نجري كالعادة، ولمحت أمام الزنزانة الانفرادية رجلًا في ملابس السجن ملقًى على الأرض، وهو يبدو في حالة إغماء، لم أتيقن في أول الأمر من هو هذا الإنسان، وإن كنت واثقًا أنني أعرفه. ثم بدأت أعي أن هذا هو فريد حداد. ومع ذلك لم أتيقن آنذاك إن كان قد مات عندما رأيته أو أنه مغمًى عليه فحسب. فلما سمعنا في اليوم التالي أن أحد المعتقلين قد مات، كانت الصدمة بالنسبة لي فظيعة، وبقيت في حالة نفسية سيئةً عدة أيام … ولست أشك لحظةً أن يونس مرعي هو المسئول عن قتل فريد حداد؛ فقد كان الضابط الوحيد الموجود بالأوردي عصر ذلك اليوم، وقد سمعنا — ونحن في العنبر — صوته وهو يعتدي بالضرب على قادم جديد لم نكن نعرف من هو!

إلى جانب هذا القتل والتعذيب ساءت أحوال المعتقلين الصحية، بسبب سوء التغذية، وكثيرون مرضوا وأوشكوا على الموت بسبب انتشار الأمراض، ولم يتحرك أحد رغم كل هذا، لقد عشنا في حالة مجاعة كاملة لمدة ثمانية شهور لا يعطونا إلا ما يكفي للإبقاء علينا على قيد الحياة فحسب.

أما مهانات العمل في جبل أبو زعبل فهي عديدة … صفوة من مثقفي مصر مثل د. لويس عوض والدكتور عبد الرازق حسن، والكاتب المسرحي ألفريد فرج، والرسام حسن فؤاد والناقد محمود أمين العالم والدكتور فؤاد مرسي والدكتور فوزي منصور والدكتور إسماعيل صبري عبد الله … إلخ، وغيرهم كثيرون، يساقون كل يوم إلى الجبل حفاةً شبه عراة، في أقسى أيام الشتاء؛ لكسر حجارة أبو زعبل، بالإضافة إلى عشرات من القادة النقابيين وقيادات الطلاب.

ومع ذلك يجب أن أقول إننا تعلمنا حرفة مفيدة، وإنني في نهاية الأمر أجَدْت قطع الأحجار إلى قطع صغيرة، كما كان مطلوبًا، لرصف الشوارع، وكنت أحيانًا أقول ضاحكًا: «صنعة في اليد أمان من الفقر!» أما الأمر الثاني الذي أردت أن أذكره لكِ، فهو تجربتي المثيرة في تدريس الرياضيات العالية للصديق محمد عباس سيد أحمد في ظل هذه الظروف السيئة! لقد صمم محمد على إعطائه محاضرات داخل العنبر في موضوعات كنت أقوم بتدريسها لطلبة البكالوريوس في جامعة لندن في عامَي ١٩٥٥-١٩٥٦م. ولم تكن هناك سبورة أو طباشير أو ورق أو قلم، وكان قد مضى على إعطائي هذه المحاضرات عامان على الأقل، وكنت قد نسيت المعادلات والبراهين … إلخ، ومع ذلك فقد كان لتصميمه وإلحاحه الفضل في بدء محاولات التذكر.

وقد ظللت أسابيع أتعثر في محاولات التذكر هذه، وفجأةً بدأت خيوط الموضوع تعود كأن شلة خيط كانت معقدة ثم حلَّت وانسابت الذاكرة صافية بكل تفاصيل البراهين، كما كنت أعلمها للطلاب. إن العقل الإنساني غريب في تخزينه للمعلومات وفي استرجاعها! والأغرب هو أن يتم ذلك في مثل هذه الظروف القاسية، ولقد كان الصديق محمد يخفي في ملابسه كل قطع الأحجار الطباشيرية التي يجدها بالجبل، لنكتب بها على بلاط العنبر معادلات رياضية بالغة التعقيد، ثم نمسحها بسرعة؛ خوفًا من أن نفاجأ بدخول الضباط أو الجنود إلى العنبر، وعندئذٍ قد يظنون أننا نكتب شفرة سرية.

لقد انتهت هذه المرحلة … بكل ما فيها من مهانات وتعذيب وأشياء قليلة إيجابية، وإذا كنت قد صممت على كتابتها لكِ، فلكي تعرفي كيف وصل بنا الحال في مصر في معاملة المعتقلين السياسيين، وكيف كان عليَّ أنا وزملائي أن نتحمل هذه التجربة البشعة في صبر وتماسك. وأحمد الله على أن كل هذا قد انتهى — وأرجو — إلى غير رجعة! ولكني أظل أفكر في شهدي وفريد كثيرًا، وأفكر في زوجتيهما وأولادهما … ما أعظمها من خسارة! وما أروعه من مثل!

أقبِّلكِ وأضمُّكِ بقوة!

«کامل»
سبتمبر سنة ١٩٦٠م
الرسالة عن كتاب د. عبد العظيم
«رسائل الحب والحزن والثورة»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤