في ذكرى زوجتي
هذا الكتاب ليس إلا مجموعة من الرسائل الحقيقية التي جرت بيني وبين زوجتي … عايدة ثابت، الصحفية المصرية، خلال فترة عصيبة من تاريخ مصر الحديث، وهي فترة كانت شديدة القسوة علينا نحن الاثنان … إذ لم يكن قد مضى على زواجنا أكثر من شهرين عندما بدأت رياح العواصف العاتية!
أما الفترة فهي السنوات ١٩٥٩–١٩٦٤م، وبالدقة من أول يناير سنة ١٩٥٩م إلى ٤ أبريل سنة ١٩٦٤م … بدأت باعتقالي كواحد من مئات الشيوعيين المصريين الذين اعتُقلوا فجر أول يناير، وكنت قد تزوجت عايدة ثابت في ٥ نوفمبر سنة ١٩٥٨م، بعد قصة حب دامت عدة شهور قبل الزواج. وعشنا نحو شهرين من أسعد أيام حياتنا، حتى فاجأتنا عاصفة الاعتقالات فوضعت حدًّا لكثير من أحلامنا وآمالنا.
فُصلت عايدة ثابت من عملها في صحيفة «المساء» وإن لم تُعتقَل، كما فُصلت أنا أيضًا إثر اعتقالي … وأصبحنا نحن الاثنان نواجه الحياه بلا مورد، أنا في المعتقل وهي في الخارج.
وقد يكون من الدقة أن أقول إن ما حدث لم يكن مفاجأة كاملة لنا بالمعنى المفهوم، كانت هناك نُذُر واضحة في الشهور الأخيرة عام ١٩٥٨م بتدهور الموقف السياسي العربي بعد الوحدة المصرية السورية، وتأزم العلاقات بين ثورة يوليو والأحزاب الشيوعية العربية، وكان الخلاف يدور أساسًا حول قضية شكل الوحدة.
هل تكون اندماجية، كما أراد حزب البعث السوري وجمال عبد الناصر، أم تكون فيدرالية يكون لكل قُطر فيها حق تنظيم شئونه الداخلية وفق ظروفه الخاصة؟ وكانت القضية الأولى التي يدور حولها الصراع في هذا النطاق هي قضية الديمقراطية السياسية التي كانت تتمتع بها سوريا قبل الوحدة. وقد كان من الطبيعي أن يتمسك الحزب الشيوعي السوري بتجربته الديمقراطية السياسية التي عرفتها سوريا منذ سنة ١٩٥٤م، وكان من الطبيعي أن يرفض الحزب حل نفسه، بينما تظاهر حزب البعث بحل فصائله؛ ظنًّا منه أن «غنائم» الوحدة هي له وحده!
في ظل هذه الظروف كان من الطبيعي أيضًا أن تساند الأحزاب الشيوعية العربية موقف الحزب الشيوعي السوري، وأن يكون هذا هو موقف الشيوعيين المصريين كذلك.
لكن رغم بوادر العاصفة خلال عام ١٩٥٨م، فقد كانت لديَّ ولدى غيري آمال في محاصرة النيران، قبل أن ينفجر الموقف انفجارًا يستحيل تدارك آثاره. وكان مصدر هذه الآمال ثقتي في وطنية نظام عبد الناصر وشعبيته، وانفجار ثورة تموز في العراق عام ١٩٥٨م، التي اقتلعت كل دعائم النظام القديم ودمرته تدميرًا، وموقف الاتحاد السوفييتي المناصر لثورة يوليو والعراق، وقناعتي باستحالة استمرار نظام وطني في معاداة الإمبريالية، والقيام بحملة صليبية واسعة النطاق ضد الشيوعية في آنٍ واحد، وعشرات الأسباب الأخرى.
كل هذا ظل يمنحني الثقة بأن هناك أملًا في رأب الصدع والعودة إلى علاقات التعاون التي كانت قائمةً من قبلُ بين ثورة يوليو والأحزاب الشيوعية العربية. وبحكم عملي في صحيفة «المساء»، كمحرر للشئون العربية والخارجية، في الفترة ١٩٥٦–١٩٥٨م، كنت على اتصال بكثير من أطراف الأزمة، وعلى معرفة بكثير من أسرار هذه الفترة في المجال العربي، وحاولت كما حاول آخرون المساهمة في حل الأزمة على أساس مبدأ صحيح.
لكن يبدو أن القوى المصرية والعربية المحافظة التي كانت تعارض محاصرة الأزمة، كانت أقوى منا بكثير، وكانت النتيجة تدهور الموقف خطوةً بعد أخرى، وخصوصًا إثر محاكمة بعض الضباط الناصريين في بغداد وإعدامهم، وساعدت على هذا حالة الزهو التي ركبت القيادة السياسية في مصر، معتمدة على شعبية عبد الناصر عربيًّا، وهي شعبية لم يكن هناك شك في قوتها؛ مما أدى بها إلى اعتماد سياسة «وحدنا في الميدان»، التي بدأت بمحاولة تصفية الحزب الشيوعي السوري ثم امتدت بعد ذلك لتصفية حزب البعث السوري، ولكنها انتهت في سبتمبر ١٩٦١م إلى تصفية نظام عبد الناصر في سوريا.
ومن الأمانة أن أقول إن الأخطاء السياسية التي تورط فيها الحزبان الشيوعيان في دمشق وبغداد آنذاك؛ قد ساهمت في رأيي في الوصول بنا إلى هذه النهاية الفاجعة لأول وحدة عربية في العصر الحديث، وإن كانت المسئولية الأولى فيما حدث تقع في رأيي على أكتاف القيادة السياسية في مصر؛ بما تورطت فيه هي من أخطاء سياسية، وما تورطت فيه أجهزة أمنها من جرائم.
وليس بالصدفة أن الذين طعنوا الوحدة المصرية السورية الطعنة القاتلة في سبتمبر سنة ١٩٦١م كانوا «أصدقاء النظام»، أعني الضباط السوريين الذين كانوا يعملون في مكتب المشير عامر في دمشق بقيادة النحلاوي مدير مكتبه. ولست أشك في أن هذا العمل قد تم لحساب الرأسماليين والإقطاعيين السوريين الذين هددتهم إجراءات يوليو سنة ١٩٦١م، ولكن يظل السؤال الحيوي قائمًا: كيف تم الانقلاب على الوحدة بهذه السهولة؟ بل كيف انهار صرح الوحدة في دقائق؟ إن الإجابة على هذا السؤال لا تكتسب أهمية تاريخية فحسب، وإنما ترتبط بمستقبل النضال من أجل الوحدة في المستقبل. وفي رأيي، إن المفتاح الرئيسي في هذه الإجابة يتمثل في عداء نظام عبد الناصر للديمقراطية السياسية والجبهة الوطنية الذي أعطى أعداء الوحدة فرصتهم الذهبية.
لم يكن إذن ما حدث من اعتقالات في فجر أول يناير سنة ١٩٥٩م مفاجأة كاملة لي، وإن كان اتساعها وشمولها هو العنصر المفاجئ، وينبغي أن أعترف أنه حتى بعد وقوعها ظللت في الأسابيع الأولى أرجح أن الاعتقال لن يطول. وثبت خطأ هذا التقدير، وطال اعتقال الشيوعيين واليساريين المصريين، وامتد إلى أبريل سنة ١٩٦٤م، أي إنه طال خمس سنوات وثلاثة شهور.
وقد قضيت هذه الفترة الطويلة في عدة معتقلات مختلفة … بدأت بمعتقل القلعة ثم معتقل الواحات الخارجة، ثم عدت إلى سجن مصر استعدادًا لتقديمي مع ستين آخرين إلى المحاكمة أمام مجلس عسكري، يرأسه مدير سلاح المدفعية اللواء هلال عبد الله هلال، في أكتوبر سنة ١٩٥٩م بالإسكندرية. وبعد المحاكمة عدنا من الإسكندرية إلى سجن مصر مرة أخرى، حيث نُقلنا في ٧ نوفمبر ١٩٥٩م إلى معتقل أوردي أبو زعبل.
وفي أوردي أبو زعبل جرت أول تجربة تعذيب جماعية على يد جهاز المباحث العامة وضباط مصلحة السجون … وليس لديَّ شك في أن هؤلاء الذين أشرفوا على هذه التجربة البربرية لا بد أن يكونوا قد دُرِّبوا على يد بعض النازيين من الألمان؛ لأنني عندما زرت بقايا معتقل «يوخنفالد» في ألمانيا عام ١٩٦٩م، واستمعت إلى شرح الدليل، وجدت تشابهًا غريبًا بين ما كان يجري فيه من أساليب تعذيب وبين ما جرى في معتقل أوردي أبو زعبل! … ولقد تولى قيادة هذا العمل الوحشي، الذي سوف يَرِدُ وصفه في صفحات الكتاب، العميد حسن المصيلحي من جهاز المباحث العامة واللواء إسماعيل همت وکيل مصلحة السجون، وانتهت هذه التجربة بفاجعة قتل الصديق العزيز شهدي عطية في يونيو سنة ١٩٦٠م. وعندئذٍ تحركت الدولة لوقف التعذيب وإبعاد المسئولين عن هذا العمل الإجرامي. ومع ذلك فلا يزال المسئولون عن قتل شهدي عطية ومن قبله الدكتور فريد حداد حتى الآن دون جزاء!
وبعد توقف سياسة التعذيب في الأوردي، نُقلنا في يوليو سنة ١٩٦١م إلى معتقل الواحات الخارجة، وبقينا هناك في ظروف معقولة نسبيًّا حتى أفرج عنا في أبريل سنة ١٩٦٤م، إثر إلغاء الأحكام العرفية وإقرار سياسة تصفية المعتقلات.
ومن الغريب أنني قُدمت إلى المحاكمة أمام المجلس العسكري بتهمة الاتصال بالأحزاب الشيوعية العربية، مع أن هذا الاتصال كان معروفًا للمسئولين طوال عامَي ١٩٥٧م و١٩٥٨م؛ باعتباري محررًا للشئون العربية في صحيفة «المساء»، كان الاتصال بقيادات هذه الأحزاب من صميم عملي، بل لقد نشرت أكثر من حديث صحفي في «المساء» مع قادة هذه الأحزاب، فلم يكن هناك إذن شيء خافٍ على المسئولين فيما يتعلق بهذا الاتصال، وما زلت أذكر أنني كُلفت من قِبَل المسئولين، في سفارتنا بالأردن وسوريا عام ١٩٥٧م، بأعمال لم تكن من صميم عملي الصحفي، ورضيت القيام بها عن طيب خاطر؛ لأنها كانت جزءًا من صميم نشاط مصر التحرري في المجال العربي آنذاك.
وضمن ذكريات كثيرة ما زلت أذكرها مثلًا أن الأحزاب الوطنية في الأردن كانت قد دعت في مايو ١٩٥٧م إلى عقد مؤتمر وطني في نابلس؛ لمواجهة السياسة الرجعية للملك حسين. وقد حاول الملك أن يمنع قادة هذه الأحزاب من الوصول إلى نابلس بكل السبل، ومن بينها محاصرة كل الطرق الخارجة من عمان بنقط حراسة عسكرية. وقد تصادف وجودي في عمان في هذه الفترة الحرجة، وإذ بالملحق العسكري لسفارتنا، الأستاذ فؤاد هلال، يرجوني أن أخرج في إحدى سيارات السفارة ليلًا ومعي بعض قادة الحزب الشيوعي والجبهة الوطنية متنكرين؛ لأنقلهم من عمان إلى القدس، حيث يتولى القنصل المصري في القدس نقلهم من هناك إلى نابلس لحضور المؤتمر. وقبلت رجاءه بطبيعة الحال، ونفذت المهمة على ما فيها من مخاطر! ويشهد على هذه الواقعة الأستاذ فاروق القاضي الصحفي، الذي صحبني في هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر.
لقد رويت هذه الواقعة حتى يدرك القارئ سخرية الموقف الذي كان عليَّ أن أواجهه أمام المجلس العسكري متهمًا بأشياء يعلمها المسئولون، وكانوا يرجون مني أداءها. وكان من الطبيعي أن أدلي في تحقيقات النيابة بحقيقة الوقائع وتفاصيل الأحداث، وأن أطلب سماع أقوال عدد من المسئولين الذين كانوا من شهودها، ولم يكن أمام المجلس العسكري إلا أن يحكم ببراءتي.
ولقد سبق أنْ ذكرت أن ظروف معتقل الواحات كانت معقولة نسبيًّا في تلك الفترة بالقياس إلى ظروف المعتقلات الأخرى؛ فقد كانت هناك حرية في الحركة داخل أسوار هذا المعتقل الكبير، وكانت هناك مزرعة تبعد عن المعتقل بنحو ثلاثة كيلومترات، وكان في مقدرونا الذهاب إلى المزرعة والعمل فيها إذا شئنا. وقد استطاع المعتقلون بطرقهم الخاصة توفير مكتبة ضخمة من الكتب السياسية والأدبية والعلمية والفلسفية والتاريخية، وأجهزة ترانزستور كانت هي صلتنا بإذاعات العالم المختلفة. وكانت المكتبة عونًا كبيرًا لهؤلاء المثقفين الذين طال حرمانهم على احتمال السجن وقتل وقت الفراغ. واستفدت أنا شخصيًّا من هذه المكتبة أكبر استفادة؛ إذ استطعت بتنظيم وقتي أن أنجز خلال عامٍ المسودة الأولى من کتابي «العلم والحضارة» الذي صدر عام ١٩٦٧م، كما أمكن بالتدريج الحصول على المجلات الأدبية والثقافية التي تصدر في القاهرة، وكان هذا حافزًا لنا لإصدار مجلة حائط أدبية كان لي شرف المشاركة في تحريرها.
ولم تكن صلتنا بالأهالي مقطوعة خلال هذه الفترة؛ فقد كنا مع المحكوم عليهم بأحكام قضائية في مكان واحد، ولم يكن يفرق بيننا إلا لون بدلة السجن. وكان للمحكوم عليهم حق تسلُّم الخطابات من أهليهم وحق الزيارة مرةً كل شهر، على عكسنا، نحن المعتقلين، إذ كنا بدون حقوق.
ولكن بعد فترة، وبالتحديد خلال السنة الأخيرة من حياة المعتقل، استطاع المعتقلون التغلب على هذه الصعوبات … إذ دبروا وصول خطابات ذويهم لهم عن طريق إرسالها بالبريد باسم أحد المسجونين، كما استطاع أهالي المعتقلين زيارة أبنائهم بكتابة اسم أحد المسجونين على أورنيك الزيارة عند الوصول إلى باب السجن، وعند الدخول إلى غرفة الزيارة يجدون ابنهم في انتظارهم! ومن الطبيعي أن إدارة المعتقل كانت على علم بهذا التحايل، ولكنها كانت تغمض عينيها وتتصرف وكأنها لا تعرف شيئًا!
في ظل هذه الظروف استطاعت زوجتي أن تزورني أربع مرات … في يوليو سنة ١٩٦٣م، سبتمبر سنة ١٩٦٣م، يناير سنة ١٩٦٤م، وفبراير سنة ١٩٦٤م. وجاءت هذه الزيارات بعد فراق أكثر من عامين. وفي ظل هذه الظروف تسلمت منها عددًا من الرسائل يجد القارئ بعضها في هذا الكتاب. وفي ظل هذه الظروف استطاع المعتقلون والمسجونون القيام بنشاط ثقافي واسع، سيجد القارئ صداه في بعض الخطابات المنشورة بالكتاب، فقد بنى المعتقلون مسرحًا في الهواء الطلق، وأخرجوا عددًا من المسرحيات المعروفة، ونشطت الفرق الرياضية كرة السلة وكرة القدم … إلخ.
كما اتسع النشاط والخلاف السياسي … وعندما أتأمل اليوم هذا الجانب، فمن الممكن القول إن الخلافات السياسية بين الشيوعيين المصريين؛ كانت قد بدأت قبل يناير سنة ١٩٥٩م. وكان محور هذه الخلافات هو الموقف من سياسة الحكومة عام ١٩٥٨م. فبينما كانت الأغلبية ترقب هذه السياسة في حذر وتحفُّظ، وبنظرة نافذة لقضيتي الوحدة والديمقراطية، كانت مجموعة شهدي عطية تتخذ موقف التأييد شبه المطلق لسياسة عبد الناصر، كان هذا هو الموقف حتى يناير سنة ١٩٥٩م، ولكن بدأت بعد ذلك الانقسامات والخلافات داخل صفوف الأغلبية في المعتقل، إذ تورط قسم من هذه الأغلبية في تحليلات يسارية خاطئة لسياسة وطبيعة قيادة ثورة يوليو، وصلت إلى حد الترويج لنظرية رأسمالية الدولة الاحتكارية … إلخ. بينما ظل الجزء الآخر محافظًا على نظرة واقعية لنظام عبد الناصر … لا ينكر عليه أصوله الوطنية التقدمية، وإن ظل ناقدًا للنظام؛ لمواقفه غير الديمقراطية وموقفه الجامد من قضية الوحدة.
في الواحات إذن كانت هناك ثلاثة تيارات سياسية … أحدها يكاد يقول إن الاشتراكية تتحقق بالفعل على يد عبد الناصر، والآخر يرى في عبد الناصر ممثلًا للاحتكارات المصرية والأجنبية، والتيار الثالث يرى في النظام علامات حكم فئات البرجوازية الصغيرة، بكل ما فيها من مميزات ثورية كبيرة وتناقضات ومواقف معادية للديمقراطية.
ولقد كان طبيعيًّا أن تصدر مجلات سياسية في الواحات تعبر عن هذه التيارات الثلاثة، وأن يشتد الصراع والجدل، وأحيانًا كان يتحول إلى تهجمات شخصية أساءت إلى جو المعتقل إساءة بالغة. ولعل هذا الوضع كان أكبر محنة فكرية ونفسية اجتزتها في الواحات، وسوف يرى القارئ أصداء هذا في الخطابات المتبادلة بيني وبين زوجتي.
بعد هذه الصورة العامة، أود أن أوضح عددًا من الحقائق الخاصة بهذه الرسائل … لقد ظل الاتصال بيني وبين عايدة ثابت متصلًا طوال السنوات الخمس، ولم ينقطع إلا فترات وجيزة خلال فترة التعذيب في أبو زعبل. وكثير من رسائلها وصلني بالبريد، غير أن بعضها وصل عن طريق رسل شخصيين تطوعوا، إما شهامة أو مقابل نقود، أن يحملوا إليها خطاباتي أو يأخذوا منها خطابات لتسليمها لي. ولكني لم أستطع الاحتفاظ برسائلها في السنوات الثلاث الأولى؛ خوفًا من التفتيش المفاجئ لنا داخل المعتقل، وما كان أكثره! واحتفظت فقط بخطاباتها خلال الفترة ١٩٦٢–١٩٦٤م، إبان إقامتي بالواحات. أما رسائلي لها طوال السنوات الخمس، فقد احتفظت هي بها في عناية فائقة. وهكذا وجدت عند إعداد هذا الكتاب كل خطاباتي لها وبعض رسائلها لي.
ولعل هذا يفسر للقارئ ما سوف يلاحظه من أن رسائلها لي في الكتاب لم تبدأ إلا في عام ١٩٦٢م.
ومع ذلك، فالرسائل المنشورة ليست إلا جزءًا من الرسائل المتبادلة بيننا، ولم أختر من هذه الرسائل إلا ما رأيت أنه ذو دلالة خاصة في متابعة أحداث الكتاب. وبطبيعة الحال، هناك عشرات أخرى من الخطابات الشخصية التي لم أُشر إليها في الكتاب.
تبقى قضية التوقيع في نهاية الرسائل … لقد كنت غالبًا أوقع خطاباتي باسم «كامل»، وليس هذا اسمًا سريًّا … إن هذا هو اسمي الحقيقي في أسرتي وبين أهلي عندما كنت صغيرًا، وقد درجت العائلات في زماننا على التقليد الغريب بأن يكون للمولود اسم في شهادة الميلاد غير ما ينادى به في المنزل. أما هي فقد حرصت على التوقيع باسم «عنايات»؛ خوفًا من أن تقع الرسائل في أيدي أجهزة الأمن، وكانت تناديني باسم «سعد» في هذه الخطابات؛ لأنها كانت مرسلة باسم المسجون الشيوعي الأستاذ سعد رحمي، ومكتوبة كأنها من شقيقته.
ولقد حرصت على نشر هذه الرسائل كما هي دون إضافة أو تعديل … اللهم إلا تصحيح بعض الأخطاء اللغوية، أو إعادة صياغة بعض الجمل الركيكة مع الاحتفاظ بالمعنى كما هو؛ لأنني حريص على الاحتفاظ بالطابع التاريخي والإنساني — بكل جوانب قوته وضعفه — للرسائل.
ومع ذلك فلست أقصد من هذه الرسائل تأريخًا لهذه الفترة الحرجة من تاريخ مصر … إن هذا أبعد ما يكون عن ذهني، وإن كنت أزعم أن هذه الرسائل تعطي القارئ صورة عامة سريعة عما جرى في هذه الفترة؛ من تعذيب وأحداث هامة ونشاطات مختلفة.
إن ما دعاني إلى نشر هذه الرسائل في هذا الوقت بالذات؛ هو وفاة زوجتي عايدة ثابت، وما وجدته من تشجيع من عدد كبير من الأصدقاء — المطلعين على هذه الرسائل — على نشرها، ولم أقصد من النشر أن أقدم كتابًا سياسيًّا في المحل الأول.
ولكني أود أن أوضح أنني لست راغبًا بهذا النشر في المشاركة في حملة التشهير التي يتعرض لها عبد الناصر — بل واسمه — في السنوات الأخيرة من عناصر رجعية مقرونة بعدائها التقليدي للشعب واحتقاره، والتي تستهدف القضاء على كل المنجزات الإيجابية لثورة يوليو.
وغني عن البيان أنني كنت — وما زلت — مقتنعًا بأن عبد الناصر هو استمرار حقيقي لعرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول … وإن كان استمرارًا أرقى، وأن الذي ينكر أن عبد الناصر هو أحد القادة المرموقين للنضال الوطني والعربي، ضد الاستعمار في العالم الثالث في العصر الحديث، هو شخص إما مغرض أو سفيه! ولا أعتقد أن هناك شخصًا واحدًا على أي قدر من الموضوعية يستطيع أن ينكر قيمة التحولات الاجتماعية الهامة التي قادها عبد الناصر في المجتمع المصري.
وليس معنى هذا أنه لم توجد سلبيات هامة، ولم تُرتكَب أخطاء وجرائم في ظل عبد الناصر، لقد سبق لي أن أوضحت رأيي تفصيلًا في هذه السلبيات، وجوانب القصور في فكر الثورة وأعمالها في «محاورات اليسار المصري مع توفيق الحكيم». «وقد نشرتها دار القضايا البيروتية منذ عام».
والأكثر من هذا أنني وآخرين كثيرين حاولنا أن ننبه عبد الناصر، والنظام عمومًا، إلى خطورة هذه السلبيات في حينها وعندما وقعت! وجاء هذا التنبيه على صورة مقالات ومطبوعات وخطب انتخابية (سنة ١٩٥٧م عندما كنت مرشحًا بدائرة الوايلي) ورسائل من بعض المثقفين، رُفعت إلى عبد الناصر من خلال أصدقائه والمتصلين به. وربما دفعنا ثمنًا باهظًا لهذا النقد، في وقت كان معظم قادة حملة التشهير الحالية يسبحون بحمد عبد الناصر ويعلنون تأييدهم الأعمى له بالحق وبالباطل!
ولأن عبد الناصر كان ولي نعمةِ كثير من قادة حملة التشهير التي تبلورت في السنين الأخيرة، فإن الإنسان لا يملك إلا أن ينظر باشمئزاز وازدراء إلى كثير من قادة هذه الحملة الذين تعودوا أن يأكلوا على كل الموائد!
إن هذه الرسائل إذن لا تستهدف التشهير، وإنما تحكي أولًا وأخيرًا قصة حب وصمود بين زوجين شابين مشتغلَين بالعمل السياسي، أدركتهما أعاصير الحركة السياسية بمحنة اعتقال الزوج أكثر من خمس سنوات، وتشريد الزوجة طوال هذه الفترة، ومع ذلك فقد استطاع هذا الحب أن يصمد للاختبار.
ولهذه القصة الإنسانية جانب آخر لا يخفى على القارئ، إن العواطف الملتهبة التي تبدو في هذه الرسائل ليس مصدرها فقط أنها رسائل زوجة كانت في الرابعة والعشرين من عمرها، وزوجٍ كان في الخامسة والثلاثين من عمره، بكل ما يعنيه هذا من التهاب العواطف وتأجج الأحاسيس بين عاشقين، وإنما مصدرها أيضًا رباط فکري قوي ظل يقرب بيننا، ويبعث الدفء في حياتنا على طول السنين في ظل الحرية. وبامتزاج هذا الرباط الفكري الاشتراكي بالحب الإنساني، تولَّد لدى كلٍّ منا إحساس عميق بأنه لا يستطيع الاستغناء عن الآخر. وربما جرى بيننا، بين الحين والآخر، ما يجري بين كل زوجين من مشاحنات صغيرة، ولكن ظل هذا الشعور الجارف قويًّا دائمًا وفي كل الظروف.
لكن عايدة ثابت ماتت في ۱۰ نوفمبر سنة ١٩٧٥م إثر فاجعة مروعة لم يقدِّر أيٌّ منا أنها سوف تنتهي إلى هذه النهاية، ولقد أفاضت الصحف والمجلات المصرية والعربية في ذكر الحادث الذي أدى إلى الوفاة، وان كانت قد ذكرت بعض التفاصيل غير الصحيحة؛ ولذا يكفيني هنا أن أذكر الوقائع الأساسية للحادث وتطوراته.
في ١٧ أكتوبر سنة ١٩٧٥م، كنت عائدًا بالطائرة من روما، حيث حضرت اجتماعًا للخبراء الأخصائيين لمنظمة الأغذية والزراعة الدولية. وذهبت زوجتي وابنتي حنان لانتظاري كالعادة في المطار، وقبل وصولي بربع ساعة هاجم كلب ضالٌّ ابنتي حنان وعقَرها في قدمها اليسرى، واندفعت زوجتي تدافع عن حنان، فهجم الكلب عليها وطرحها على الأرض، حيث عقرها في ساقها الأيمن وكفها الأيمن أيضًا. ولقد ذهبا إلى مستشفى منشية البكري فورًا حيث جرت الإسعافات الأولية. ثم بدأت المستشفى في اليوم التالي حقن زوجتي وابنتي بالمصل المضاد لمرض الكلب لمدة عشرين يومًا، أي من ١٨ أكتوبر حتى ٥ نوفمبر. وبدأ تحسُّن واضح من العلاج؛ الأمر الذي دفع زوجتي إلى العودة إلى عملها الصحفي في اليوم الخامس عشر من الحادث، وبناءً على مشورة الأطباء، ولقد ساعد على خلق جو الاطمئنان الكاذب بيننا جهلُنا الكامل بأعراض المرض، وما قاله أطباء مستشفى منشية البكري ومستشفى الكلب والأطباء الخصوصيون؛ من أن المصل مؤكد المفعول، ومن أن أعراض المرض — إن بدت — فإنما تظهر في اليوم الحادي عشر من الحادث، ولما مضى اليوم الحادي عشر حتى الثامن عشر دون تعقيدات أو شكوى، شاع الاطمئنان في نفوسنا. وسافرت يوم ٦ نوفمبر بعد انتهاء العلاج لحضور مؤتمر لليونسكو العربي في قطر، وليس يخطر على بالي أن وداعها لي على باب منزلنا هو الوداع الأخير!
نعم لقد شكَتْ ليلةَ سفري من ألم في ذراعها الأيمن، ولكن ما أسهل ما نسينا — نحن الاثنان — هذا المجهود الذي بذلته في كتابة مقالاتها بيدها اليمني إثر عودتها إلى العمل الصحفي! فضلًا عن شكواها منذ سنوات من آلام روماتيزمية في ذراعيها وقدميها.
الأغرب من ذلك أنني تحدثت معها تليفونيًّا من قطر قبل وفاتها بأربع وعشرين ساعة، ولم تكن تشكو إلا من ألم شديد في ذراعها الأيمن، لقد بدأت التعقيدات الصحية خلال الأربع والعشرين ساعةً الأخيرة لها، وتدهور الموقف فجأةً، ودخلت في غيبوبة ثم فاضت روحها الطاهرة في صباح الاثنين ١٠ نوفمبر!
لقد ماتت عايدة ثابت في أنضج سنوات حياتها … وبعد أن بدا أن القدر قد ابتسم لنا بالبيت السعيد، والابنة التي هي قرة عين والديها، جاءت هذه الفاجعة الخاطفة لتخنق آمالًا مزدهرة في حياة سعيدة طويلة لنا نحن الثلاثة. وهكذا شاء القدر أن يحرمني وابنتي من أعز وأحبِّ من كان لنا في الحياة!
كانت عايدة ثابت إنسانة بكل معنى الكلمة … رقيقة كالنسيم، باسمة كالزهور، في دماثة الكلمة الطيبة، وكانت دائمًا قادرة على أن تشيع في كل من حولها روح البهجة والسرور مهما كانت الظروف. تصدُق عليها كلمة الكاتب الأمريكي مارلد توين حين قال في «يوميات حواء» مشيرًا إلى زوجته: «أينما حلت كانت هناك جنة!»
ولكن عايدة ثابت كانت شجاعة أيضًا؛ خصوصًا في الدفاع عن المضطهدين والمظلومين والفقراء، إلى الحد الذي قد يعتبره الناس تهورًا. كانت تكره الظلم والاضطهاد إلى أبعد الحدود، وكان قلبها دليلها في هذا الميدان، تصدق عليها أيضًا كلمة تولستوي حين وصف مكسيم جوركي بأنه صاحب «القلب الحكيم»، لقد كان قلبها هو دليلها إلى الحكمة؛ لأنه كان يتسع لمحبة الآخرين وينشغل بالآخرين قبل أن ينشغل بشئونها!
ولقد بدا لي دائمًا أن عايدة ثابت والموت متناقضان؛ لأنها كانت على الدوام للحياة.
فما أقسى الحياة بعدها على الذين عرفوها جيدًا وأحبوها من صميم قلوبهم!