قال: من؟ قالوا: سليمان الحلبي
ليغفر لي الصديق الأديب ألفريد فرج اقتباس هذا العنوان من مسرحيته «سليمان الحلبي»، التي مُثِّلت على المسرح القومي في الستينيات بنجاح هائل، فحتى اليوم — بعد ما يقرب من عشرين عامًا على هذا الحدث الفني الكبير — ما زلت أذكر بعضًا من مشاهده وكأنني رأيتها بالأمس فقط!
كان المشهد الذي هزني بشكل خاص هو مشهد ذهاب سليمان الحلبي مع صديقه محمد المصري — وهما من أبناء الأزهر وتلاميذ أساتذته المخلصين حقًّا لطريق الرب — يحاولان مقابلة الشيخ عبد الله الشرقاوي. وسليمان لم يكن يملك إلا أن يقارن في عقله القلق وضميره المعذب بين موقف الشيخ الشرقاوي، الذي قبِل أن يهادن المحتل الفرنسي بونابرت «ساري عسكر الفرنسيين»، ويدخل عضوًا في ديوانه، وبين موقف مولانا الشيخ السادات الذي آثر السجن على مثل هذا الموقف. ومحمد يحاول جاهدًا أن يثني سليمان عن زيارة الشرقاوي، لكن سليمان يصر ويقول لصديقه: «علمني الشرقاوي فأضناني بالقلق المبارك، أيكره أن أهديه بعض وساوس المروءة؟»
فلما نادى المنادي باسم سليمان الحلبي في منزل الشيخ الشرقاوي، بُهت الشيخ العجوز يستعيذ بفطنته أن تهديه لسبب هذه الزيارة المفاجئة؛ فيتهيأ لها بما يناسبها من التحفظ أو الترحاب، لكن فطنته لم تسعفه، فقال: من؟ قالوا: سليمان الحلبي!
وقال الكورس في المسرح: سليمان الحلبي! سليمان الحلبي! سليمان الحلبي! اسم ليس له رنين نعرفه، لا رنين الذهب الإبريز ولا رنين الفضة الصافية، ولا رنين البرونز المدوي، ولا الصفيح الجعجاع. ذلك أنه عملة جديدة لم يخبُر رنينَها بعدُ سلطانٌ أو شحاذ، شاعر أو مبدع، مستعمر متأله، أو عبد ذليل، رنين سوف يدهش العقول فيما بعدُ، ويطيش الصواب، «بُهِت له الرجال، وصرخت النساء، تصدت له الأبطال، وتصدت به الأبطال، أطلقه الحب، ورجعه الحقد، وهكذا صهرته نوازع العار ونوازع الشرف. ولم يكن أحد قد اختبره بعدُ أو تخيل معدنه.»
وها نحن من جديد — بعد نحو مائة وخمسين عامًا — نشهد في المشرق العربي سليمان آخر جديدًا، له أسماء عديدة على وجه اليقين، فهو أحيانًا يُعرف باسم سليمان النابلسي أو سليمان المقدسي أو سليمان الغزي، وأحيانًا أخرى يُعرف باسم سليمان البيروتي أو سليمان الطرابلسي، وهو اليومَ يُعرف باسم سليمان الصيداوي.
إنه لا يتحرك وحده، وإنما يتحرك كالطيف في جبال لبنان وشعابها وسط مجموعة صغيرة، وهو لا يحمل في يده خنجرًا، كما كان يحمل سليمان الحلبي، وإنما يحمل في يده مدفع كلاشنكوف، وعلى كتفه صاروخ، أو يقود سيارة مليئة بالمتفجرات وهو يتجه إلى قاعدة من قواعد الاحتلال الصهيوني أو الإمبريالي.
الآن يعرف العالم العربي ولا يجهل رنين هذه العملة الجديدة، إنه رنين الذهب الإبريز، والآن خبرَ السلاطين المتواطئون والاستعماريون المتألهون والصهاينة المتجبرون رنينَ هذه العملة الجديدة. وبسببها خرجت قوات الاحتلال الأمريكي من بيروت، وانسحب الأسطول السادس، وبدأ الصهاينة يبحثون عن مخرج، وفزع المهادنون والمتواطئون كلما سمعوا رنين هذه العملة الجديدة؛ لأنهم يُحسون في قرارة أنفسهم أنها سوف تصوغ المستقبل البعيد للوطن العربي مهما كانت التضحيات والآلام.
وكما فرز سليمان الحلبي موقف الشيخ الشرقاوي المُهادن عن موقف الشيخ السادات المتمرد، كذلك يفعل سليمان الحديث؛ فيفرز الناس إلى جانبين: جانب القابلين بالمهادنة مع الأجنبي المحتل، وجانب المتمردين المصممين على دحر الاستعمار والصهاينة وطردهم بقوة السلاح … جانب الراضين بالتسوية في ظل الضعف؛ لأنها تحقق مصالحهم الخاصة، وجانب الذين ترتبط مصالحهم الاجتماعية بتحرير الأرض وانتشار العدالة وإعلاء قيمة العمل.
وكلما سقط سليمان واحد في جنوب لبنان أو في فلسطين، ظهر عشرات، بل مئات، يحملون اسم سليمان، لا أحد يعرف على وجه الدقة وجوههم، وبعضهم يولد ويحمل سلاحه ويحارب ثم يسقط في المعارك دون كلمة واحدة.
لكننا في العالم العربي نعرف رنينهم بأنه ليس رنين الصفيح الجعجاع!
وكما ثار سليمان حلبي على الذين دعَوْه ألا يركب أجنحة الشطط وينسى قيمة الحياة، وقال لهم: «وهزيمة أمة كريمة … ما قولك … أن نلبس العار ونأكل الندم، وعندئذٍ يصبح الجحيم نظام حياة … قدِّم رجولتك للمهانة، وأطفالك لأنياب الجوع، وعنق جارك للمشنقة … اركع وادفع! وعش لتتحول بفعل الساحر الفرنسي الأسود من رجل إلى كلب … واسجد لغير الله ما تشاء، وأرِقْ ماء وجهك وعينيك ما تشاء، فقد منحك كليبر ساري عسكر الفرنسيين أمان الحياة!»
كذلك يقول سليمان الحديث، وأكاد أسمع صوته الهادر: «وصبرا وشاتيلا، والمستعمرات الصهيونية في الضفة، والتخطيط لاحتلال جنوب لبنان بجيوش العملاء من أمثال أنطوان لحد، والأسلحة الأمريكية لإسرائيل، والحلف الاستراتيجي بين الصهاينة وواشنطن، ومشروع ريجان الذي يهدم حق تقرير المصير.
ما قولك: أن نلبس العار ونأكل الندم؛ في ظل تسويات هي والاستسلام سواء، وعندئذٍ يصبح الجحيم نظام حياة.
ويعلو صوت الصفيح الجعجاع!»