فكم بكينا دمعتين ووردة!
حين طويت آخر صفحة من كتاب فريدة النقاش الجديد (السجن، دمعتان ووردة) أخذت أسأل نفسي: لماذا أقبلت على قراءة الكتاب بهذا النهم الغريب، مع أن عالم السجن ليس جديدًا بالنسبة لي، وعلى كثرة مشاغلي في هذا الموسم من السنة الأكاديمية؟
هل يكفي أن أقول إن صداقتي لفريدة هي السبب؟ لا أعتقد هذا سببًا كافيًا.
قلت: ربما كان السبب أن عالم سجن النساء هو الجديد، وربما كان السبب الأهم أن هذا الكتاب هو أول شهادة أقرؤها لمناضلة مصرية عن السجن، مع كثرة شهادات الرجال الذين دخلوه لأسباب سياسية، بدءًا من كتاب العقاد «في السجن» وانتهاءً بكتاب فتحي عبد الفتاح «شيوعيون وناصريون» وكتابي «رسائل الحب والحزن والثورة».
نعم … هذه إذن فريدة النقاش؛ المناضلة والأم والزوجة والصحفية، تدلي بشهادتها عن السجن الذي قضت فيه نحو شهرين في أغسطس ١٩٧٩م عندما اقتادوها، هي وزوجها حسين، من مصيف جمصة ثم أعيدت إليه مرةً أخرى في ٣١ مارس ١٩٨١م، وقضت فيه نحو تسعة أشهر.
تم هذا كله في مرحلة من أخطر مراحل مصر الحديثة، مرحلة الردة الساداتية، عندما خان نظام السادات كل تراثنا السياسي والوطني والثقافي، وأدار ظهره لمصالح هذا الوطن وتلك الأمة، وداس باسم السلام كرامة الشعب وشهداءه بأحذية الغزاة الصهاينة والأمريكيين، عندما زُيِّف الاستسلام فقيل إنه السلام … أو بمعنًى آخر عندما تمت خيانة كل التراث النضالي لثورة عرابي وثورة ١٩١٩م وثورة يوليو المجيدة، تحت أعلام كامب دافيد.
كانت التهمة التي وُجِّهت إلى فريدة النقاش هي عضوية الحزب الشيوعي المصري، لكن كان ذلك شكلًا لا أكثر ولا أقل، أما المضمون الحقيقي للتهمة فهو نشاطها ونضالها في صف القوى الوطنية المصرية التي وقفت — دون حساب للربح أو الخسارة — ضد هذه الردة السياسية، ضد الاستسلام وخيانة مصالح المواطن، فقالت ضمن ألوف: لن يمر الصهاينة من هنا ونحن في القاهرة، وهي لا تزال صامدة في هذه المعركة الحاسمة، معركة نكون أو لا نكون، لم تطْوِ إعلامها، ولم تنزوِ في ثياب الحداد!
عندما نقفل آخر صفحة من كتابها يأتينا من بعيدٍ صوتُ فنان الشعب اللبناني مارسيل خليفة وهو يغني قصيدة الشاعر العربي:
وها نحن دائمًا، وعلى طول مسيرتنا الصعبة، نبكي دمعتين ووردة، نترك للأجيال التي تلينا ليس دموعنا الغزيرة، وإنما هذه الوردة التي تعهدناها من طينة شهدائنا، من محبتهم لهذا الوطن وذلك الشعب؛ بعمَّاله وفلاحيه وجنوده ومثقفيه.
عندما سيقت فريدة في المرة الأولى إلى زنزانة قذرة في مبنى المباحث العامة، سألها الحارس العجوز: لماذا جئت؟ قالت: لا أدري، ولكنني عضو في حزب التجمع الذي تلاحقه الحكومة. قال الحارس العجوز: حين تشتد العواصف ليس عيبًا أن ينحني الناس يا ابنتي … تذكَّري أولادكِ … كيف يكون حالهم إذا تعرضتِ للحبس الطويل!
لكن لهذا الشعب حكمة أخرى غير حكمة هذا الحارس العجوز، غير حكمة الربح والخسارة، وربما لم يكن هذا الحارس يعرف أن فريدة وزوجها حسين قد تركا وراءهما، عندما أتيا إلى السجن، طفلين في المنزل؛ هما رشا وجاسر، كذلك كان حال فتحية زوجة زكي مراد عندما أخذوها بعد مصرعه بشهور، فتركت وراءها أربعة أطفال، أصغرهم لم تكن قد أكملت عامين من العمر، وكذلك فعلوا بشاهندة زوجة شهيد كمشيش صلاح حسين، الذي اغتاله الإقطاعيون في زمن عبد الناصر، فتركت وراءها ابنتها الصغيرة باسمة وهي مأخوذة إلى السجن.
فريدة وفتحية وشاهندة … هذا الثلاثي الفذ من نساء مصر في سجون السادات لم يدَّعينَ بطولة زائفة في هذا الموقف، فكم سالت دموعهن حزنًا على فراقهن لأطفالهن! لكنهن تعلَّمْن الصبر والصمود والتواضع، وكان وضوح الرؤية عاملًا هامًّا في هذا التماسك وتلك الصلابة.
كتبت فريدة من السجن إلى ابنها جاسر تقول: نحن يا حبيبي نعيش في ظل هيمنة هؤلاء الذين ابتذلوا ثقافتنا الوطنية والقومية وتراثنا؛ ليقيموا أدلة على طيبة الظالمين، ذلك ذنب عظيم لا يكفِّر عنه شيءٌ مهما كبُر … فما بالنا لو كانت كفارتهم ذلك الابتهال الزائف إلى الله، والتفتيش في القرآن الكريم لاستخراج شهادة براءة لأعدائنا؟! إن صلاتهم الحقيقية يا حبيبي وقرابينهم تُقدَّم للبنتاجون والكونجرس والكنيست، فهل ننتظر من هؤلاء أن يعرفوا لغة الغياب والحضور؟! هل تحزن يا حبيبي لأننا ننتمي إلى هذا الميلاد الصعب للعالم القادم؟
نحن فقط نغيب بهذا العذر القاهر، فلا تحزن، وانتظِرْنا دائمًا.
وفي سجن القناطر كان صوت شاهندة النحاسي يدوِّي بحكمة القلب، الذي عرَف طريقه إلى تلك الحكمة من خلال المأساة … مأساة مصرع الزوج برصاص الإقطاعيين، واستشهاد شقيقها الطيار أشرف بقذيفة أمريكية صهيونية في آخر يوم من أيام حرب الاستنزاف على ضفاف القناة.
ولم تتردد عندما رأت أحد ضباط المباحث يُهِمُّ بالصلاة في أن تمسكه من ذراعه وتقول له: «إن الله لن يقبل هذه الصلاة أبدًا … تعذب الناس ثم تتصور أن المغفرة سهلة! دا بُعدك …» كما لم تتردد في أن تنتزع بيديها القويتين أسلاك الشباك الذي حاول ضابط المباحث أن يضعها على زنزانتها وزنزانة صافيناز كاظم؛ في محاولة لمنعهما من الاتصال.
كان مكسيم جوركي يحكي للكاتب العظيم تولستوي کيف عمل في مرحلة من حياته بستانيًّا في منزل جنرال روسي من جنرالات القيصر … وفوجئ ذات يوم، وهو يعمل في الحديقة، بزوجة الجنرال تضرب إحدى خادمات المنزل ضربًا وحشيًّا، فلم يتمالك جوركي نفسه وهجم على زوجة الجنرال وضربها على مؤخرتها! وأنقذ الخادمة، لكنه فُصل من عمله.
وضحك تولستوي حتى دمعت عيناه، وقال لجوركي: إن لك قلبًا حكيمًا!
بهذه الحكمة، التي في القلب كما هي في العقل، تشهد عشرات وعشرات من صفحات کتاب فريدة النقاش.
وهي تحكي قصة هذا الثلاثي من نساء مصر في سجن القناطر في مواجهة القضبان، والمفتاح الثقيل الذي يدور كل عصر في باب الزنزانة، فيعلن عزلتهن النهائية لمدة أربع عشرة ساعةً متواصلة من كل يوم.
أليس من حقنا أن نقول مع الشاعر:
لكن كتاب فريدة النقاش لا يقدم شهادة مناضلة مصرية في السجن فحسب، ولا هي تقدم مجرد الرسائل الشاعرية الرقيقة، التي كانت تبعث بها إلى زوجها في سجن طرة، أو إلى ولديها جاسر ورشا في الخارج، والتي عبرت بها عن أزمتها العاطفية؛ لابتعادها عنهما، وما يمكن أن يسببه هذا البعد والاعتقال لهما من أزمات نفسية، كما عبرت بها عن صمودها الإنساني في وجه الظلم والقضبان.
كلا … لقد قدمت فريدة أيضًا في هذا الكتاب شهادة فذَّة عن الحياة الحقيقية في سجون مصر اليوم … وفي سجن النساء بالقناطر بالذات، عن تريزا ونظيمة المصدورتين، عن السيدة «مزاج» تاجرة المخدرات، عن ليلى المطوة التي احترفت الدعارة، عن مأساة موت صفية التي ضُبطت تمارس الجنس مع مسجونة صغيرة، عن مهندسة الديكور (ل. ح) التي تزوجت الكويتي العجوز وعاشرت ابنه الشاب، وعن مشروع الراقصة المجهضة (صابحة) التي تذكرنا شخصيتها بزوربا اليوناني في الرواية أو الفيلم، عن سلوى التي نشلت ساعة من إحدى تاجرات المخدرات، عندما علمت أن ساعة فريدة لا تعمل، وقدمتها لها تحيةً ومودة.
في هذا العالم الغريب المليء بالسل والجرب والعراك الليلي والإيقاعات الشعبية؛ من عويل ورقص وغناء وزغاريد وطقوس ذات ملامح أفريقية، تمشي تاجرات المخدرات مرفوعات الرأس محصنات بما يملكن؛ سواء في خارج السجن أو داخله، تحتقرن كل الجرائم الأخرى باستثناء السياسة؛ لأنهن يعرفن من خبرتهن أن الانقسام الاجتماعي الموجود في الخارج ممتد بشكل أكثر ضراوةً إلى داخل السجن، وأن الفساد والرشوة اللتين بالخارج هما سلعة عادية ومقبولة بالداخل أيضًا … ومع هذا كله، ثمة عديد من المواقف الإنسانية التي لم تخطئها عين فريدة الصحفية وقلب فريدة الفنانة، والتي لا يتسع الحديث عنها في مثل هذه العجالة.
وتعترف فريدة في النهاية أن كتابها هذا يبدو بلا ختام: كتابًا مفتوحًا قابلًا أبدًا … للزيادة وليس للنقصان … فمتى يُختم مثل هذا الكتاب إذن؟
تقول فريدة: «عندما ينجح المد الديمقراطي في إسقاط القوانين الاستثنائية، وإلغاء حالة الطوارئ، وإغلاق المعتقلات السياسية إلى الأبد؛ وصولًا إلى اليوم الذي تنتزع فيه الجماهير الديمقراطية وتحرسها.
وإلى أن يأتي هذا اليوم، ستظل مثل هذه الكتب مفتوحة بلا ختام، وستظل عيوننا أيضًا مفتوحة بلا أحلام زائفة أو أوهام.»