انتخابات الدائرة السادسة
اتجهت الثورة إلى إجراءات انتخابية لأول مرة بعد انتهاء العدوان الثلاثي وهزيمة أهدافه. وتحدد شهر يوليو سنة ١٩٥٧م موعدًا لإجراء الانتخابات. وبالطبع لم تكن هناك أحزاب رسمية تتقدم لدخول هذه الانتخابات، وإنما يتقدم الأفراد الراغبون في دخولها إلى لجنة يرأسها عبد الناصر، وتضم في عضويتها عبد الحكيم عامر وزكريا محيي الدين وكمال الدين حسين فيما أذكر.
ولقد تقدم إلى هذه اللجنة عدد من اليساريين المعروفين طالبين الترشيح، فرفضتهم، وتقدمت أنا بطلبي إلى اللجنة، فوافقت اللجنة على ترشيحي لمجلس النواب. وكان سبب الموافقة فيما أعتقد هو موقفي في بريطانيا عند تأميم القناة، مدافعًا عن التأميم في اجتماعات بريطانية مختلفة، كان آخرها الاجتماع الحاشد في ميدان الطرف الأغر في ٣١ أكتوبر سنة ١٩٥٦م.
وقد اخترت أن أتقدم للدائرة السادسة (الوايلي)؛ لأن أهلي جميعًا من عائلة الأب أو الأم يقيمون في العباسية طوال حياتهم. وقد نشأت في العباسية وتعلمت في مدارسها، حتى كلية العلوم التي التحقت بها جامعيًّا كانت في العباسية آنذاك.
وتحمسَت لترشيحي كلُّ فصائل اليسار في مصر، باستثناء جماعة «حدتو» التي اختارت أن تؤيد في هذه الدائرة عاملًا من عمال الترام (عبد العزيز مصطفى)، وقيل حينذاك إنهم قرروا تأييده لأنه عضو في تنظيمهم، بينما قال الشيخ مبارك بعد ذلك بسنوات طويلة في ذكرياته إنهم أيَّدوا عبد العزيز مصطفى لأنه عامل، أي إنهم فضَّلوا العامل على المثقف، وهي حجة سخيفة أمام أي فكر يساري عاقل.
ولقد بلغ حماس المثقفين لترشيحي أنْ وقَّع عدد من كبار المثقفين بيانًا يعلنون فيه تأييدي، ويدْعون الناس في الدائرة السادسة إلى الوقوف معي، ومن هؤلاء أتذكر أسماء إحسان عبد القدوس رئيس تحرير روزاليوسف وكامل الشناوي رئيس تحرير الجمهورية وأحمد بهاء الدين الكاتب المعروف والدكتور لويس عوض. ومع أنني لم أسعَ للحصول على توقيع نجيب محفوظ إلا أنني عندما كنت أزور بعض المنازل في منطقة «بين الجناين»، حيث كان يسكن هو آنذاك، أفاجَأ بمن يخبرني من السكان أن الأستاذ نجيب محفوظ قد زارهم بيتًا بيتًا مؤكدًا عليهم أهمية انتخابي. وبالطبع كان لمثل هذا الخبر تأثير عظيم في قلبي وتقدير أعظم في نفسي، مع أننا حتى ذلك الوقت لم نكن على صلة قريبة من الناحية الشخصية، وإن كان قد أهداني ثلاثيَّتَه عندما صدرت.
وتحمس أيضًا لترشيحي الطلاب العرب في الجامعات المصرية من فلسطينيين وأردنيين وسوريين ولبنانيين ويمنيين، حتى إن اجتماعاتي الانتخابية لم تكن تخلو في يوم من الأيام من حضورهم وهتافاتهم، مما خلق جوًّا عربيًّا احتفاليًّا في الدائرة السادسة.
موقف مضاد
وقد أصبح من الواضح لي، بعد أيام من النشاط الجماهيري في الدائرة، أن هناك قوًى في الدولة تقف ضد انتخابي. اتضح هذا من مضايقات البوليس لي ورفْض التصريح بعقد الاجتماعات، أو اشتراط عدم استعمال الميكروفونات، حتى عندما بدأ زملائي في جريدة المساء في التبرع المالي لمساعدتي، اتصل أحد المسئولين بخالد محيي الدين رئيس التحرير طالبًا التوقف عن ذلك.
وعندما نظمت اجتماعًا جماهيريًّا واسعًا في ميدان الوايلي، قرب يوم الانتخابات، أخذ بعض رجال الحكومة وزملاء من «حدتو»، الذين كانوا يناصرون عبد العزيز مصطفى، يتصلون بالناس هاتفيًّا، أو بالمقابلة، يثنونهم عن حضور المؤتمر؛ بحجة أن بعض الأشرار سوف يلقون «ماء نار» على وجوهِ من يحضرون، ومع ذلك فقد حضر الكثيرون، وكان يجلس معي على المنصة أحمد بهاء الدين ولويس عوض ود. عبد المجيد أبو حجلة (من قيادات الأردن آنذاك) وآخرون لا أتذكرهم، وامتلأ السرادق بآلاف من أهل الدائرة والزائرين. وابتدأ الاجتماع بكلمة جامعة مني ومن الآخرين. فلما أدرك البوليس أن مساعيهم باءت بالفشل هجموا بالقوة على السرادق وأمعنوا في ضرب الناس لإخراجهم من السرادق، بل لقد حاولوا الوصول إليَّ بهدف الاعتداء أيضًا، لولا أن عددًا من الزملاء أحاطوا بي وأخرجوني سالمًا من باب خلفي، ولا أنسى في هذا الصدد الدورَ الكبير الذي لعبته الفنانة العظيمة محسنة توفيق، التي كانت آنذاك طالبة في الثانوية العامة، شديدة الحماس الانتخابي.
وقد تبين يوم الانتخاب أنني حصلت — رغم كل ما حدث — على أعلى أصوات ضمن تسعة كانوا مرشحين في تلك الدائرة، منهم الممثل سراج منير. لقد حصلت على أكثر من خمسة آلاف صوت، ويليني بعد ذلك عبد العزيز مصطفى الذي حصل على ألفَي صوت.
وحيث إن عدد الأصوات في الدائرة كان حوالي ١٢ ألف صوت، فقد كان لا بد من الإعادة بيني وبين عبد العزيز مصطفى.
ولما كانت وزارة الداخلية تعلم أن غالبية أهل الدائرة يؤيدونني، فقد لجأت إلى استبدال صناديق الانتخاب بصناديق أخرى أُدخلت إلى قسم الوايلي في المساء باعتبارها أنها الصناديق الحقيقية.
وكنت قد اتفقت مع بعض أنصاري على مراقبة القسم ليلًا؛ خوفًا من حدوث هذا، وكانت النتيجة أنْ قُبض عليهم وضُربوا ضربًا مبرحًا، ومنهم رشدي خليل رحمه الله.
وأعتقد أن أكبر خطأ وقعت فيه أنني لم أتمم على الصناديق كما يفعل بعض المرشحين، خصوصًا أن بعض أنصاري طُردوا من اللجان الفرعية خلال الانتخابات.
ومن المصادفات الغريبة أنني بعد هذه الأحداث بسنوات عدة، وكنت معتقلًا آنذاك بسجن الواحات، قابلت بالصدفة رجلًا كان مشتركًا في عملية تبديل الصناديق، وحكى لي تفاصيل القصة، وقال لي إنه كان آسفًا على ذلك، ولكنها كانت تعليمات لا بد من تنفيذها.
لقد كنت ذاهبًا من سجن الواحات إلى مستشفى بأسيوط للعلاج، وحضرت سيارة بها ضابط ومخبر وسائق طبعًا. وكان الضابط يجلس إلى جانب السائق، بينما جلست أنا والمخبر في السيارة البوكس في الخلف، وفي الطريق بدأت الدردشة العادية مع المخبر، إلى أن سألني إن كنت أذكره، قلت: لا، أبدًا، فضحك وقال إنه كان في قسم الوايلي عام ١٩٥٧م … وحكى لي قصة الصناديق التي استُبدلت في الدائرة السادسة؛ لإسقاطي وإنجاح عبد العزيز مصطفى.
أتذكر أنه في اليوم الذي هجم فيه البوليس على الاجتماع الجماهيري قبل الانتخابات بأيام قليلة، ذهبت بعد الحادث إلى جريدة الجمهورية وقابلت كامل الشناوي (وكان صديقًا حميمًا لي وواحدًا من أنصاري) وحكيت له ما حدث. وبينما نحن نتحدث في الموضوع دخل إلى الغرفة أنور السادات (وكان آنذاك رئيس مجلس إدارة الجمهورية)، وطلب مني كامل الشناوي أن أعيد القصة أمام أنور السادات ففعلت، فقال أنور السادات بعد برهة: اكتب تقريرًا بما حدث وسأرفعه إلى الرئيس جمال عبد الناصر. وأعطاني كامل الشناوي بعض الأوراق، فأخذت في كتابة القصة كاملة وأنا في حالة انفعال كامل.
ولا أدري حتى اليوم إن كان ما كتبته قد وصل عبد الناصر حقًّا! وكل ما أعرفه ما حكاه خالد محيي الدين لي بعد ذلك عند لقائه بعبد الناصر؛ من أنه عاتبه على الأقوال السائرة آنذاك بتزوير انتخابات الدائرة السادسة، لكن خالد محيي الدين تمسك بصحة هذه الأقوال، وقدَّم لعبد الناصر أمثلة على هذا التزوير؛ فمثلًا في إحدى الشياخات الفرعية كان هناك من أقاربي حوالي ۱۲ شخصًا ذهبوا جميعًا لانتخابي في الإعادة، بينما النتائج في هذه الشياخة تقول إني حصلت على ٤ أصوات فقط!
المهم أن هذه الانتخابات وما حدث فيها، قد خلقت جوًّا من الريبة بيني وبين عبد الناصر، حتى إنه أخذ يستمع لبعض القيادات البعثية، وخصوصًا ميشيل عفلق الذي لم يكن يحبني، وكنت أبادله نفس المشاعر.
وحدث أنْ كتبت مقالًا في صحيفة المساء استخدمت فيه تعبير «الحركة الوطنية العربية»، فإذا بميشيل عفلق يقنع عبد الناصر أنني مُعادٍ للقومية العربية، واتصل عبد الناصر بخالد محيي الدين مهددًا باعتقالي. وقد دافع خالد عني دفاعًا مجيدًا، وكنت بالمصادفة في غرفته عندما حدث اتصال عبد الناصر به. وفي النهاية أمر أن أتوقف عن الكتابة.
واتفق خالد معي على أن أستمر في الكتابة دون توقيع، فكنت أكتب المقال بتوقيع «مراقب»، ومن يعود إلى صحيفة المساء عام ١٩٥٨م سوف يرى العديد من المقالات بهذا التوقيع.
واستمر الحال على هذا المنوال حتى حملة أول يناير سنة ١٩٥٩م الشهيرة، التي تم فيها اعتقال المئات من اليساريين، وكنت منهم، وعندما فتشوا منزلي لم يجدوا فيه غير بيان کنا نجمع عليه التوقيعات يطالب الرئيس عبد الناصر بالديمقراطية السياسية.