موقف من المرحلة الناصرية
قال صديقي وزميلي في جامعة عين شمس في يوم من أيام عام ١٩٨٤م، وكان يداوم على قراءة مقالاتي في صحيفة «الأهالي» بشكل منتظم: «إنك تحيرني بدفاعك المجيد عن المرحلة الناصرية وعن عبد الناصر في مقالاتك بصحيفة الأهالي، على أنني أعرف، من ملازمتي لك طوال هذه السنين منذ عُيِّنا نحن الاثنان معيدَين بالجامعة حتى اليوم، أنك لم تَلْقَ عَنتًا في حياتك مثل ما لقيته خلال المرحلة الناصرية؛ فأنت فُصلت من جامعة القاهرة عام ١٩٥٤م بقرار من مجلس قيادة الثورة، وأنت اعتُقلت ضمن مئات آخرين من الشيوعيين اليساريين في أول يناير ١٩٥٩م حتى أبريل ١٩٦٤م.
ولاقيت مع زملائك خلال الاعتقال ما لقيتموه من عنت وتعذيب مسجل في كتابك «رسائل الحب والحزن والثورة»، وقُدمت أنت وستون من رفاقك للمحاكمة أمام مجلس عسكري بالإسكندرية في نوفمبر ١٩٥٩م، ومع أن هذا المجلس العسكري أصدر حكمًا ببراءتك أنت وصديقك محمود أمين العالم، إلا أنكما بقيتما في معتقل الواحات الخارجة، إلى أن أُفرج عن الجميع في أبريل ١٩٦٤م، ومع ذلك فلم أقرأ دفاعًا مجيدًا عن عبد الناصر ومرحلته كما قرأته في مقالاتك بصحيفة الأهالي، فهل تسمح لي بتفسير هذه الفزورة؟»
قلت: ليس في الأمر فزورة ولا يحزنون؛ فمعياري في الحكم على المرحلة الناصرية لم يقم أساسًا بما حدث لي شخصيًّا، وإنما بما حدث لشعب مصر خلال تلك الفترة، وأي شخص قادر على الحكم الموضوعي لا بد أنه سيدرك أنه في حساب المكاسب والخسائر، الإيجابيات والسلبيات، فإن المرحلة الناصرية قد حققت للشعب المصري الكثير من المكاسب المهمة التي كنا نطالب ببعضها قبل الثورة … الإصلاح الزراعي، القطاع العام، وبناء الصناعة الوطنية على نطاق واسع لأول مرة، إنهاء الاحتلال البريطاني، تأميم قناة السويس، التوسع في مجانية التعليم في مراحله المختلفة، تحسين صحة الشعب ومستوى معيشته؛ مقارنةً بما قبل الثورة، بناء السد العالي، وقوف مصر الدولة إلى جانب نضال الشعوب العربية في نضالها ضد السيطرة الأجنبية ودعم ثوراتها، بل ودعم ثورات أفريقية … إلخ، وربما إذا أردت تعداد كل الأعمال العظيمة التي صنعها عبد الناصر خلال حكمه أن أكتب مقالًا كاملًا عن هذا الموضوع.
شيء واحد وأساسي كان محل خلافي مع المرحلة الناصرية وقادتها … هو غياب الديمقراطية السياسية الحقيقية … فقد كنت، وما زلت، أعتقد أن تلك هي نقطة الضعف الأساسية في المرحلة الناصرية، وهي التي غطَّت على السلبيات الأخرى التي وقعت آنذاك، وكان هناك حرص على التستر عليها، وهذه المسألة هي في رأيي المسئولة عن التستر على الفساد داخل الجيش آنذاك، وهو الفساد في القيادات، الذي اتضحت أبعاده عند وقوع كارثة سنة ١٩٦٧م، وهي أيضًا المسئولة عن هشاشة التنظيمات الشعبية التي بناها عبد الناصر، وامتلأت، مع الأسف، بالعناصر الانتهازية التي تلعب دورًا مهمًّا اليوم في الردة التي صاحبت نظامَي السادات ومبارك.
ولقد أخذت هذه القضية في نظري بُعدًا حيويًّا إثر إبرام الوحدة المصرية السورية في فبراير سنة ١٩٥٨م، وعندما تم القبض عليَّ في أول يناير سنة ١٩٥٩م، كان من ضمن المضبوطات بيانٌ كنا أعددناه عن قضية الديمقراطية السياسية وأهميتها كدعاية أساسية للوحدة، وكان من الموقِّعين على هذا البيان أنور عبد الملك وسعد التائه ومحمود العالم وكاتب هذه السطور، وآخرون لا أذكر اليوم أسماءهم. والغريب أنه خلال تحقيق النيابة معي وخلال المحاكمة أمام المجلس العسكري، كان هناك حرص من الجانبين على تجنب السؤال عن هذا البيان، بينما كنت أنا حريصًا على الإشارة إليه في كل مناسبة.
هذا إذن الموقف على حقيقته، أما دفاعي عن عبد الناصر وحكمه، فقد وقع في زمن الردة الشاملة، زمن نظامَي السادات ومبارك، عندما سُحبت بالتدريج كلُّ المكاسب العديدة التي حققها شعب مصر خلال حكم عبد الناصر، وعندما التحق كثيرون ممن كانوا في التنظيم الطليعي بركاب الردة وخيانة مصالح هذا الشعب؛ من أجل الوجاهة والمال والسلطان.
أكتب هذه الكلمة لأقول: إن عهد عبد الناصر لم يخْلُ من سلبيات؛ معظمها هو ثمرة غياب ديمقراطية سياسية حقيقية، ديمقراطية قادرة على تعبئة الجماهير في عملية إبداء الرأي واتخاذ القرار (وهذا بالمناسبة هو المطعن القاتل الذي دمر الأنظمة الاشتراكية في روسيا وشرق أوروبا)، بل لقد وقعت جرائم في عهد عبد الناصر؛ مثل إعدام خميس والبقري في كفر الدوار بعد محاكمة غير عادلة.
لكن الحكم العام على المرحلة الناصرية هو في رأيي إيجابي؛ لأنه حقق للشعب العديد من المكاسب، وأكسَبَ مصرَ احترام العالم، ومن المهم إبراز هذا الجانب الإيجابي في زمن الردة، زمن سلب الشعب كل مكاسبه في المرحلة الناصرية، زمن الخضوع للأجنبي وبيع القطاع العام، زمن «السلام» الزائف مع الصهاينة، ولأنه سلام إذعان، فلا يمكن أن يُكتب له الدوام.