باقة ورد لإحسان عبد القدوس
الاستنارة والشجاعة
أحسست وأنا أمشي في جنازة الأديب الراحل إحسان عبد القدوس أنني أجر ورائي ذكريات ٥٠ عامًّا من الصبا والشباب والكهولة، ذكريات جميلة حقًّا، لكنها بدت وكأنها تختصر أحداث تلك الحقبة الطويلة من تاريخ مصر.
كنت وإحسان في مدرسة ثانوية واحدة، هي مدرسة فؤاد الأول الثانوية (الحسينية الآن) بالعباسية، وكنت في السنة الأولى بينما هو في السنة الخامسة. وكنا نضرب عن الدراسة ونتظاهر في شارع العباسية؛ احتجاجًا على تصريحات وزير خارجية بريطانيا «صمويل هور».
كان إحسان في مقدمة المظاهرة، بينما كنت أنا في الثانية عشرة من عمري في المؤخرة، وانتهت المظاهرة بالتصادم مع البوليس، ونجا إحسان، بينما وقعت أنا في أيديهم، وقضيت في حجز قسم شرطة الوايلي يومًا واحدًا، حتى أُفرج عني.
لم يكن إحسان يعرفني شخصيًّا، لكني فوجئت، بعد ثورة يوليو بعدة شهور، يذكِّرني، وهو يستقبلني في مكتبه بروزاليوسف، بتلك الواقعة التي كان قد انقضى عليها ١٧ عامًا.
ولقد تميز إحسان بخصلتين ما زلت أذكرهما له، وأحسبهما من أجمل شمائله، على الرغم من الخلافات السياسية والأدبية التي فصلت بيننا، وإن لم تؤثر على صداقتنا … هاتان الخصلتان هما سعة أفقه وشجاعته.
بعد ثورة يوليو بأسابيع عدت من البعثة في بريطانيا، وعُينت مدرسًا بكلية العلوم بجامعة القاهرة، وبدأت أكتب أسبوعيًّا بصفحة الأدب بصحيفة المصري.
وأذكر أنني كتبت مقالًا طويلًا تعرضت فيه بالنقد الحاد لقصص إحسان، وإذ ببعض الأصدقاء من العاملين معه يتصلون بي، ويقولون إنه يريد أن يراني.
وبالفعل ذهبت إلى لقائه في مكتبه، فإذا به يعرض عليَّ أن أكون من كتَّاب روزاليوسف!
وبدأت بالكتابة فيها كل أسبوع، ثم قمت بتحرير باب «أدب» بعد انتقال فتحي غانم لأخبار اليوم.
وظل هذا هو الوضع حتى نهايات عام ١٩٥٤م، عندما صدر قرار مجلس قيادة الثورة بفصلي من الجامعة ضمن آخرين، وذلك بسبب موقف اليسار من الثورة وخلافها معها حول قضية الديمقراطية.
وعندما عُرضت عليَّ وظيفة مدرس بجامعة لندن قبلتها مضطرًّا؛ لأنني عشت في القاهرة شهورًا بلا عمل. ومن لندن ظللت أرسل بعض المقالات الثقافية لإحسان فيقوم بنشرها رغم علمه أنني من المغضوب عليهم.
ثم تجلَّت شجاعته حقًّا في مقال نشره عني في روزاليوسف عام ١٩٥٥م بعنوان «الرجل الذي سرقه الإنجليز»، قال فيه أشياء طيبة كثيرة عني لا أستطيع ذكرها هنا. ثم دعا في ختام المقال إلى إعادتي لمصر، وإلى جامعة القاهرة.
بعد أيام من نشر المقال، كان إحسان في طريقه إلى باندونج في صحبة الزعيم جمال عبد الناصر، فسأله عن المقال وعني، وقام إحسان بشرح وجهة نظره في إسهاب، لكن عبد الناصر ختم الحديث بقوله: «إن الشيوعيين يضحكون عليك ويستخدمونك يا إحسان!»
تذكرت هذه القصة وأنا أسير يوم الجمعة الماضي حزينًا في جنازته، ضمن ذكريات عديدة جمعتني بالصديق الراحل، فإذا بالدموع تنساب ولا أستطيع كتمانها.