شهادة للتاريخ

التقيت بها بالصدفة على مائدة العشاء عند بعض الأصدقاء في الأسبوع الماضي، ولم تكن تعرف عني غير أنني أستاذ بالجامعة، ولم أكن أعرف عنها غير أنها إنجليزية مهتمة بقضايا التعليم، وأنها ليست بعيدة عن نشاط المجلس البريطاني الثقافي في القاهرة.

ولأن مكاني على المائدة جاء مجاورًا لمكانها، ولأن أدب الحوار يقتضي نوعًا من الحديث والحوار، فقد سألتها إن كانت مقيمةً بمصر منذ مدة طويلة، قالت: أربع سنوات. قلت: وهل تروق لكِ الحياة بمصر؟ قالت: نعم، باستثناء المتاعب المعروفة: المواصلات، الضوضاء، المجاري … إلخ، لكني أحب هذا الشعب الكريم المضياف والصبور أيضًا.

ومضى الحديث على هذا النحو التقليدي حتى فاجأتني بسؤال أطار النعاس من عيوني والملل من نفسي.

قالت: قل لي بالله كيف تسمح أنظمتكم التعليمية بدخول الحاصلين على الثانوية البريطانية «المستوى العادي» الجامعات المصرية، مع أن هذه الشهادة في بلادنا لا تؤهل الحاصل عليها إلا للخروج من المدرسة الثانوية إلى العمل، وأن الطالب في بريطانيا عليه أن يمضي عامين في الدراسة قبل أن تقبله الجامعة! وكيف تقبل جامعاتكم طلبة لم يدرسوا لغتكم القومية، اللغة العربية، في السنتين الثانية والثالثة الثانوية! إن الوضع الذي أراه هنا هو أن أعدادًا هائلة متزايدة كل عام من الطلبة المصريين، بعد نجاحهم في امتحان السنة الأولى الثانوية في مدارسهم المصرية، يتقدمون لامتحان المجلس البريطاني في الشهادة الثانوية البريطانية، وهي لا تتضمن بالطبع امتحانًا في اللغة العربية، ويحصلون عليها خلال عام، وبعدها يدخلون جامعاتكم، فكأنهم بذلك قد وفروا عامًا كاملًا من دراستهم، ووفروا مشقة دراسة اللغة العربية سنتين كاملتين، وجامعاتكم تقبلهم على ذلك! هل يمكن أن تفسر لي هذا اللغز؟ وكيف يتسق كل هذا مع مبدأ تكافؤ الفرص الذي تتحدثون عنه كثيرًا؟!

قلت: هذا سؤال جدير بأن توجهيه إلى وزير التعليم في مصر، وأمين المجلس الأعلى للجامعات، ورؤساء الجامعات المصرية، الذين قبلوا على أنفسهم هذا الوضع المهين لشهادة الثانوية المصرية، والذين رضوا عن طيب خاطر بسياسة القفز من فوق القواعد الديمقراطية لدخول الجامعة؛ مجاملةً لبعض الفئات القادرة في مصر وصاحبة الصوت العالي … ولقد فات عليكِ أن تذكري أن طالب الثانوية البريطانية المصري قد وفَّر على نفسه أيضًا مشقة دراسة الرياضيات في المناهج المصرية لمدة عامين، لأنكِ، كما لا شك، تعرفين أن مناهج الرياضيات في الثانوية البريطانية أدنى كثيرًا من مناهج مصر.

قالت: نعم أعلم ذلك، وهذا أمر طبيعي لأن شهادتنا هذه لا تؤهل أحدًا لدخول الجامعة، ولو حاول أحد طلابكم، من الحاصلين على الثانوية البريطانية، التقدم إلى جامعة بريطانية لرُفِض طلبه طبعًا. وبالمناسبة لم أفهم، أيضًا، كيف قُبلت السيدة جيهان السادات أصلًا كطالبة في قسم اللغة العربية، في كلية الآداب، مع أنها لم تؤدِّ امتحانها في مناهج اللغة العربية للمرحلة الثانوية؟ ألم تتقدم إلى جامعة القاهرة بشهادة الثانوية البريطانية؟

قلت وأنا أزداد خجلًا: هذا سؤال جدير أن يوجَّه لرئيس قسم اللغة العربية في كلية الآداب ولعميد كلية الآداب ورئيس جامعة القاهرة آنذاك.

وسألتها عن عدد الطلاب المصريين المتقدمين هذا العام للثانوية البريطانية، فقالت على الفور: لدى المجلس البريطاني موعدان للجلوس إلى هذا الامتحان … يناير ويونيه، والعدد المتقدم من الطلاب المصريين في كل موعد يزيد على الألفين، فكم يكون العدد بعد عدة سنوات؟

•••

ولأن العشاء انتهى بسرعة فقد حمِدت الله على انصرافنا دون أن اضطر إلى إجابة السيدة الإنجليزية على هذه الأسئلة المحرجة. لكني فكرت وأنا عائد إلى منزلي أن هذه قضية جديرة أن تُفتح على صفحات الصحف مرات ومرات، وأنه، رغم أنه قد سبق لي أن أثرت الموضوع على صفحات «الأهالي» منذ عدة شهور، فإنه من الضرورة إلقاء أضواء جديدة على الظروف التي ظهرت فيها هذه «الموضة» الجديدة التي يُقبِل عليها بأعداد متزايدة أبناء القادرين والأثرياء لدخول الجامعة من الباب الخلفي.

إنني اعتقد أن هذا الباب الخلفي قد فُتح على مصراعيه في عام ١٩٧٤م، عندما كان ابن رئيس الجمهورية السابق طالبًا في الثانوية العامة. كنت آنذاك وثيق الصلة بوزارة التربية والتعليم، فقد كنت رئيسًا للجنة القومية لتعليم الرياضيات في التعليم العام، وكنت مستشارًا للوزارة ومشرفًا على تدريب المدرسين في الرياضيات المعاصرة، وكنت أزور المدارس الثانوية التي طبقت المناهج الجديدة، وأناقش نُظَّار المدارس في توزيع جدول الرياضيات على المدرسين، وفي اختيار المدرسين أنفسهم للتدريس في الفصول المختلفة، وأحضر كثيرًا من الحصص بنفسي.

ومن بين هذه المدارس التي كنت أزورها آنذاك، مدرسة بورسعيد بالزمالك، حيث كان جمال السادات، وكان معروفًا بالمدرسة أنه يستحيل عليه أن ينجح في امتحان الثانوية العامة المصرية (القسم العلمي)، فما بالك بالحصول على مجموع يُدخله كلية مثل كلية الهندسة!

في هذا الوقت، بدأت صحف الحكومة فجأةً تتحدث عن صعوبة مناهج الثانوية العامة، وإلى هنا فإن الأمر طبيعي إلى حدٍّ ما، لكن الأغرب من ذلك أن الموضوع دخل مجلس الوزراء … نعم أخذ مجلس الوزراء يناقش صعوبة مناهج الثانوية العامة، وكان د. عبد القادر حاتم يرأس المجلس، وقرر تشكيل لجنة وزارية لبحث الموضوع! إن الشكوى من مناهج التعليم العام أمر طبيعي، والآراء بين التربويين تتفاوت حول هذا الموضوع، لكن الطبيعي أن يدور الجدل حول هذا في أروقة الوزارة المختصة … وزارة التعليم، أما أن يجد مجلس الوزراء الوقت لمناقشة مناهج الثانوية العامة بالذات، وفي عام ١٩٧٤م بالذات، عندما كان جمال السادات طالبًا بالثانوية العامة، فلا بد أنه كان مصادفة سعيدة!

وقد شُكلت اللجنة الوزارية لبحث هذا الموضوع من المرحوم د. حسن الشريف وزير التأمينات، ود. محمود عبد الحافظ وزير الإسكان، والدكتور كامل ليلة وزير التعليم السابق، والمرحوم الأستاذ علي عبد الرازق وزير التربية والتعليم. واستُدعيت أنا لحضور اجتماعات اللجنة مع أساتذة آخرين من الجامعات، ومن رجال الوزارة في مكتب وزير التأمينات. يشهد على هذه الواقعة كثيرون من رجال الجامعات الأحياء؛ منهم: د. صبحي عبد الحكيم رئيس مجلس الشورى الحالي، والذي كان يمثل مادة الجغرافيا، والدكتور محمد أنيس، والذي كان يمثل مادة التاريخ، والدكتور محمد النادي، الذي كان يمثل مادة الطبيعة. ولقد قلت للصديق المرحوم د. حسن الشريف ساخرًا في التليفون: «إن العلاقة بين التأمينات ومناهج الثانوية العامة، لا بد، وثيقة، وإلا ما عقدتم الاجتماع في وزارة التأمينات.»

ولقد كان واضحًا أن الأستاذ علي عبد الرازق لم يكن راضيًا عن هذا العمل، ولذلك لم يحضر الاجتماع، وحضر الدكتور كامل ليلة الاجتماع قرب نهايته، ودارت المناقشة أساسًا بين المستشارين وبين وزيرَي التأمينات والإسكان. وكان واضحًا منذ أول الاجتماع أن مادة الرياضيات هي المستهدفة بالاختصار الشديد، ولذا دارت مناقشات حادة بيني وبين وزير الإسكان طالت لأكثر من ساعة، وصممت على موقفي برفضي طلب وزير الإسكان بإلغاء كتاب التفاضل والتكامل من مناهج الثانوية العامة. والتفت دكتور محمود عبد الحافظ إلى المرحوم دكتور حسن الشريف وقال بالإنجليزية بصوت مسموع: «لا فائدة … لا يوجد طريق للتفاهم.»

وأرسل لي أستاذ جامعي، تحت منضدة الاجتماع، ورقةً سلمها لي دكتور صبحي عبد الحكيم، الذي كان يجلس بجواري، يقول فيها «كفى … إنك لن تقنع هؤلاء الناس بشيء أبدًا.»

وانفضَّ الاجتماع وأنا على موقفي، ورجال الوزارة من أساتذة الرياضيات متضامنون معي في هذا الموقف، مقتنعون بالأسباب التي أبديتها في رفض طلبات وزير الإسكان.

كان هذا فيما أذكر في يناير سنة ١٩٧٤م، وبعدها نسيت الموضوع، وانشغلت بأعمال كثيرة، منها وضع امتحان الثانوية العامة لدور يونيو سنة ١٩٧٤م في الرياضيات، ومنها الإعداد لسفري إلى بريطانيا لمدة ستة أشهر — من مايو إلى أكتوبر — كأستاذ زائر في إحدى جامعات بريطانيا … حتى كان يوم جمعة خلال شهر مارس سنة ١٩٧٤م، خرجت فيه مع أسرتي لقضاء النهار في «برج المنوفية» وتناول الغداء هناك.

وعندما عدنا بعد الظهر أخبرنا الجيران أن سيارة من رئاسة الجمهورية جاءت تسأل عني مرتين، وأن رجلًا بالسيارة ترك لدى الجيران ورقة لتسليمها لي. وعندما فتحت الورقة وجدت أنها من مكتب الرئيس، ومكتوب عليها بالحبر: «رجاء الاتصال بأرقام التليفونات …» ثم توقيع غير واضح. وأدرت قرص التليفون بأحد هذه الأرقام وقلت: ماذا تريدون مني؟ وعرفت أن الذي يردُّ على التليفون هو رجل قال عن نفسه إنه العقيد رءوف، وإنه يريد أن يعرف متى يرسلون سيارة من الرئاسة لحضوري إلى منزل الرئيس؛ لأن جمال لديه أسئلة في الرياضيات يريد أن يسألني فيها!

وامتلأت نفسي بالغضب وقلت لمحدثي وأنا أحاول أن أضبط أعصابي: «إنك لا شك لا تعلم أن أستاذ الجامعة يُحال إلى مجلس تأديب إذا أعطى دروسًا خاصة.»

قال في برود: «لا أعرف.»

وقلت: «أنا واثق من ذلك … وواثق أيضًا أنك لا تعرف أنني واضع امتحان الثانوية العامة!»

قال في برود أيضًا: «لا … لا أعرف.» وأعطيته اسم أحد المدرسين الأوائل بالمدارس الثانوية ليتصلوا به حتى يجيب عن أسئلة جمال السادات في الرياضيات، ووضعت السماعة.

لكني بقيت في ثورة غضب طوال الليل، وحاولت المرحومة زوجتي أن تهدئ من غضبي، وفي الصباح ذهبت إلى وزير التعليم … المرحوم الأستاذ علي عبد الرازق لأخبره بما حدث ولأعرف منه إن كان على علم بهذه المهزلة أم لا.

لقد كنت، وما زلت، أُكنُّ لهذا الرجل محبة، لسابق معرفتي به، ولم أكن أتصور أن يكون له صلة بهذا الموضوع. ولقد أثنى الرجل على موقفي، لكني وجدته يحاول أن يقنعني بالذهاب مرة واحدة إلى منزل السادات لتقييم «الولد» كما قال، فأمه منزعجة بسبب حالته، وهي تخشى عليه من الرسوب في الامتحان، ولا تعرف ماذا تصنع!

وفهمت من الوزير أنها كثيرة الاتصال به في هذا الموضوع، وأنه يشعر بحرج شديد.

قلت له: «لماذا لا ترسل لهم أحد مفتشي الوزارة أو مدرسيها الأوائل لتقييم الولد، إن كانت المسألة مجرد تقييم. إنني أريد أن أعرف من الذي أعطاهم اسمي بالذات.»

قال الوزير: «إن اسمك موجود على الكتب، والكل يعرف أنك تزور المدارس كثيرًا لمتابعة مشروع الرياضيات المعاصرة الذي بدأ مع اليونسكو.»

وصممت على رفض طلب الوزير، وقد حاول أن يستخدم معي حججًا أخرى، فقد قال: «إن السادات خارج من حرب أكتوبر، وليس لديه وقت للإشراف على الولد.»

وضحكت، وقلت: «هل تريد أن تقنعني أن السادات لو لم يكن خارجًا من حرب أكتوبر لَساعَد ابنه في الرياضيات؟! إنني بصراحة لا أتوقع من وزير التعليم أن يطلب مني هذا الطلب.»

وانصرفت من مكتب الوزير حزينًا، وتملَّكني الشعور بأن ما حدث بالأمس ليس إلا المحاولة الثانية، بعد فشل المحاولة الأولى في اختصار المناهج بشدة على يد اللجنة الوزارية، وكان أشد ما أحزنني هو الشعور بأن مصر تُدار كعزبة، وعلى الخولي والتملي والأنفار أن يكونوا في خدمات السيد صاحب العزبة، وأن الحديث عن سيادة القانون هو عبث في عبث.

ولم يمضِ على هذه الواقعة أكثر من شهر حتى حدث تعديل وزاري! وخرج المرحوم علي عبد الرازق من وزارة التربية والتعليم، وعُيِّن دكتور مصطفى كمال حلمي مكانه في أبريل سنة ١٩٧٤م، وذهبت إليه مهنئًا كصديق قديم، لكنني حكيت له القصة بأكملها، وسألته إن كان يعرفها، فقال إن هذه أول مرة يسمع بها. قلت على الفور: «على أي حال لقد رويت تلك القصة حتى لا يحاولوا معك.»

كان هذا في أبريل سنة ١٩٧٤م ولم يبقَ على امتحان الثانوية العامة المصرية غير شهرين. وقد عرفت بعد ذلك أن شخصًا ما تقدم لهم بالحل العبقري … وهو إخراج ابن السادات من امتحان الثانوية العامة المصري، وإدخاله امتحان الثانوية الإنجليزية في يونيو، حيث لا يوجد امتحان في اللغة العربية، وحيث امتحان الرياضيات هو امتحان في الضرب والقسمة!

أما من هو الشخص فلم أعرف … ومنذ ذلك الحين اكتشف أبناء القادرين وتلاميذ المدارس الخاصة ما اكتشفه ابن السادات عام ١٩٧٤م، وهو أن هناك بابًا خلفيًّا لدخول الجامعات المصرية حتى ولو كنتَ لا تعرف أي شيء عن لغتك القومية، كما لا تعرف شيئًا في الرياضيات، وهذا الباب الخلفي يُدعى «الثانوية الإنجليزية».

فمتى يتحرك وزير التعليم لتصحيح هذه الأوضاع المشينة؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤