كيف تقاس قوى الحكومات؟
من الضروري عند البحث في أحوال الإمارات النظر فيما إذا كان الأمير يمكنه أن يحمي نفسه في وقت الخطر بمفرده، أو هو يحتاج في حمايته لغيره؟ ولأجل زيادة البيان أقول: إنني أعتبر الأمير قادرًا على حماية نفسه بنفسه إذا استطاع في وقت الخطر بكثرة رجاله ووفرة ماله حشد جيش كافٍ لمقاومة أي عدو يعرض له، وأعتبر الأمير محتاجًا إلى حماية غيره إذا كان وقت الخطر يحتمي وراء حصونه، ويدفع عدوه ولا يهاجمه، وقد تكلمنا قليلًا عن الحال الأولى، وسنتكلم عليها عندما تسنح الفرصة.
أما الحال الثانية فلا حاجة للأمير بها إلا لتحصين مدينته فيقويها، ويخزن بها ما يحتاج إليه وقت الحصار دون أن يهتم ببقية البلاد، فإذا فعل ذلك وكان حاصلًا على رضى الشعب فهيهات أن يحدق به الخطر؛ لأن أعداءه يترددون في مهاجمته ومعاداته ما دام في حصن حصين، وما دام شعبه يحبه؛ لأنهم يرون في مهاجمته أخطارًا وعقبات يصعب الخلاص منها، ونضرب لذلك مثلًا مدن «ألمانيا»؛ فإنها بلاد متمتعة بالحرية، وهي تطيع الإمبراطور عندما تريد ولا تخشاه ولا سواه من الملوك؛ وسبب ذلك أن تلك المدن محصنة تحصينًا يرهب الأعداء المهاجمين، فلديها ما يكفيها من الأسلحة والحصون والمدافع، وفي المخازن العامة من الطعام والشراب ما يكفي عامًا، وللحصول على رضى الطبقات النازلة من الأمة بدون خسار يعود على الجمهور تراها مستعدة على الدوام لتشغيل تلك الطبقات مدة عام في الأعمال التي تقوم بها حياة المدينة، ثم إن التدريب الحربي لا يزال بها محترمًا، وهناك من القوانين ما يرجى معه بقاء هذا الاحترام، فالأمير الذي يحصن مدينته وينال رضى الشعب لا يمكن أن يهاجم، فإذا هوجم فإن المهاجِم يضطر للتقهقر مخذولًا؛ لأن التحول نظام كل شيء في الوجود، ويستحيل على أي محارب أن يبقى عامًا محاصِرًا بلدًا، فإذا اعترض علينا أحد بأن الشعب المحاصَر إذا رأى أملاكه الكائنة خارج المدينة معرضة للتدمير والإحراق، ورأى في مصلحته الذاتية التسليم نسي أميره.
فأجيب على ذلك بأن الأمير الشجاع يستطيع على الدوام أن يقاوم مثل تلك الصعوبات البسيطة بأن يملأ قلوبهم بأمل الخلاص القريب تارة، وبتخويفهم من قسوة العدو الفاتح طورًا، وبالحصول على ثقة من يراهم أشد جسارة من غيرهم، ثم إن العدو القادم لا يُبقي طويلًا على ما يملكه أهل البلد خارجها، فإنه يحرق ويدمر لدى وصوله ما تصل إليه يده، وعند ذلك يكون الشعب المحاصَر لا يزال ظاهر الحمية والتحمس، فإذا هدأ تحمسهم لا يكون هناك وجه للخوف على أمتعتهم فقد سبق تدميرها، فتصبح حاجتهم للاتحاد مع الأمير كبيرة؛ لأنه يظهر لهم أنه مدين لهم بعد أن أهلكت بيوتهم ودمرت أمتعتهم في سبيل الدفاع عن أميرهم، وفي طبيعة البشر عادة الارتباط بالمنافع، ولذا فلا يصعب على أمير شجاع أن يحفظ حمية شعبه في أوائل وأثناء الحصار إذا كان لديه ما يكفيه من الرزق والذخيرة.