في الكلام على الإمارات الدينية
سنتكلم الآن عن الإمارات الدينية، فنقول: إن الصعوبات المحيطة بهذه الإمارات موجودة قبل تكوينها، يمكن الحصول عليها إما بالاقتدار وإما بالحظ، ولكن يمكن الاحتفاظ بها بدون أحدهما لأن حفظها يكون بفضل العادات والرسوم الدينية القديمة التي لها من القوة والمزايا ما يسهل البقاء لأمرائها مهما كانت حالهم، ولأمراء تلك الإمارات ملك دون أن يدافعوا عنه، وشعب دون أن يحكموه، وإذا كان الملك بغير دفاع فلا يهاجمه أحد، كذلك إذا كان الشعب بلا حكم فلا يحاول إقلاق راحة الأمير، فيظهر من ذلك أن هذه الإمارات وحدها هي الآمنة الهانئة، وحيث إن هذه الإمارات محكومة بوسائل عليا لا يمكن للعقل أن يدركها، فلن أتكلم عنها بشيء؛ لأنه ما دام الله هو الذي يحفظها، فمن الجنون أن يحاول الإنسان البت في أمرها.
ولكن قد أسأل كيف حدث أن الكنيسة وصلت إلى تلك القوة الدنيوية مع أنها قبل البابا إسكندر السادس كانت غير محترمة في نظر أمراء إيطاليا كبيرهم وصغيرهم، مع أنها الآن قد وصلت قوتها الزمانية إلى درجة استطاعت بها إرهاب ملك فرنسا، وطرده من إيطاليا، وكذلك استطاعت القضاء على أهل البندقية؟ وإن كان كل هذا معروفًا فإنه لا ضرر من إعادته، فإنه قبل دخول «كارلوس» ملك فرنسا إيطاليا كان المتصرفون في أمرها هم أهل البندقية، وملك نابولي ودوق ميلانو وأهل فرنسا، وكان هؤلاء السادة يهتمون بأمرين؛ الأول: أن لا يدخل إيطاليا أجنبي بقوة السلاح. والثاني: أن لا يستطيع أحد من السائدين أن يمد سلطته. وكان الهمُّ الأكبر يرجع إلى أهل البندقية والبابا، فلأجل صد أهل البندقية احتاج الأمر إلى إهلاك السائدين دونها كما حدث في الدفاع عن فرارا، ولأجل رد البابا انتفع الساسة ببارونات «رومة» وكان هؤلاء الأشراف منقسمين إلى حزب «أورسيني» وحزب «كولوناس» وكان الشقاق سائدًا بين الحزبين؛ لذا كانوا على الدوام مدججين بالسلاح حيال البابا، فتمكنوا بذلك من إضعافه، وكان يظهر من حين إلى آخر بابا قوي العزم مثل «سكستوس» ولكن لم يكن حظه أو اقتداره بكافيين لخلاصه من شر هؤلاء الأشراف؛ وسبب هذا يرجع إلى قصر أعمار الباباوات التي كان متوسطها عشر سنين، فكان يلقى أشد الصعوبات في مقاومة حزب واحد، فإذا تمكن أحد الباباوات من سحق حزب كولوناس جاء بعده بابا مُعادٍ لحزب أورسيني، فيعود كولوناس إلى قوته الأولى، فلا يتمكن البابا الجديد من القضاء عليهم، وقد دعا هذا إلى قلة احترام سلطة البابا الدنيوية في إيطاليا.
ثم جاء «إسكندر السادس» فأظهر للعالم أكثر من غيره من الباباوات كيف يمكن للبابا أن يتغلب بالمال والقوة، فاستعان بالدوق «فالنتين» واتخذه أداة، ولما دخل الفرنساويون إيطاليا فعل كل ما ذكرته عند الكلام عن أعمال هذا الدوق، وإن كان يرمي بما فعله إلى تعظيم الدوق دون الكنيسة فقد انتهى الأمر بتعظيم الكنيسة وتقويتها، فورثت ثمار أعمال الدوق بعد موته، ثم جاء البابا «يوليوس» فألفى الكنيسة قوية مستولية على رومانيا، وقد هلك سائر بارونات رومة، كذلك كان البابا «إسكندر السادس» قد قضى على الأحزاب بقوته، ثم وجد طرقًا كثيرة لتنمية الثروة لم تكن معروفة قبل البابا إسكندر، فلم يكتفِ «يوليوس الثاني» باتباع أعمال الإسكندر بل زاد فيها، وصمم على الحصول على «بولونيا» والقضاء على أهل «البندقية» وطرد الفرنساويين من إيطاليا، وقد نجح في كل تلك الأعمال، وهو جدير بالثناء؛ لأنه عمل ما عمل لتعظيم شأن الكنيسة لا لتعظيم فرد معين، ثم إنه أبقى على حزبي «كولوناس» «وأورسيني» كما وجدهما، وكان بعض الزعماء يحاولون تغيير الحال، ولكن أمرين عاقاهم عن ذلك؛ الأول: قوة الكنيسة، وهذا ما يخشونه. والثاني: حاجتهم إلى تعضيد بعض الكرادلة الذين هم سبب الشغب بين الزعماء. والأحزاب لا يهدأ لها بال ما دام لها كرادلة يحركونها داخل رومة وخارجها، والبارونات مضطرون لحمايتهم، والدفاع عنهم، فينشأ الشغب بين البارونات من مطامع القسيسين، فلما جاء قداسة البابا «ليون العاشر» وجد البابوية في مركز منيع، والمرجو أنه يزيد في رفعتها بفضائله كما قوَّاها أسلافه من البابوات بقوة السيف.