في أنواع المحاربين والجنود المأجورة
بعد الكلام على صفات الإمارات وسبب نجاحها وفشلها، والبحث عن وسائل الحصول عليها والاحتفاظ بها بقي عليَّ الكلام في طرق الهجوم والدفاع المستعملة في تلك الإمارات، سبق لي أن أظهرت ضرورة متانة التأسيس للأمير؛ لأنه بدون ذلك يكون عرضة للفشل، وأهم دعائم الإمارات قديمة كانت أو حديثة هي القوانين العادلة والأسلحة القوية. لا توجد القوانين العادلة حيث لا توجد الأسلحة القوية، ووجود الأسلحة القوية مدعاة لوجود القوانين العادلة، ولن أتكلم الآن عن القوانين، بل سأتكلم عن الأسلحة، فأقول: إن الأسلحة التي يدافع بها أمير عن ملكه إما تكون له وإما تكون لجنود مأجورة، وإما لجنود مساعدة، وإما مختلطة، فالجنود المأجورة والمساعدة خطرة ولا نفع لها، والأمير الذي يحافظ على ملكه بالجنود المأجورة لن يبقى واثقًا من ملكه مطلقًا؛ لأنهم لا يتحدون، وهم فوق ذلك ذوو مطامع لا يخضعون لنظام ولا أمانة لهم، يُظهرون الشجاعة أمام الأصدقاء والجبن حيال الأعداء، وهم لا يخشون الله ولا يحفظون عهد الإنسان، ومن يستعين بهم فأنذره بالفشل، إنما بينه وبين الخسران زمن يطول ويقصر حسب الأحوال، وهم في السلم ينهبونك، وفي الحرب يعرضونك لنهب الأعداء؛ وسبب ذلك أنه لا يوجد في نفوسهم سبب يبقيهم في الميدان أكثر من أجرة زهيدة لا تكفي؛ لأن يعرضوا أنفسهم للموت لأجلك.
وهم مستعدون على الدوام أن يكونوا جندًا لمن يستأجرهم ما دام السلام سائدًا، فإذا جاءت الحرب فإما الفرار وإما الهجر، وكان ينبغي لي أن أكف عن الدلالة على صحة ذلك ما دام خراب إيطاليا في الوقت الحاضر ناشئًا عن استغنائها بالجند المأجورة عن سواهم واعتمادها عليهم دون غيرهم، وكان هؤلاء المأجورون يظهرون الشجاعة بين أنفسهم، فإذا جاء العدو بان ضعفهم.
فقد استولى ملك فرنسا «كارلوس» على إيطاليا دون أدنى مقاومة، والذين قالوا إن ذلك كان راجعًا إلى ذنوبنا صدقوا، ولكن لم تكن الذنوب التي يقصدونها، بل هي الذنوب التي ذكرتها، ولما كانت تلك هي ذنوب الأمراء فقد عوقبوا عليها، وسأسهب في شرح معايب تلك الجنود المأجورة.
إن القباطنة والقواد المأجورة إما يكونون مقتدرين وإما غير ذلك، فإن كانوا مقتدرين فلا تعول عليهم؛ لأنهم ينتفعون بمقدرتهم لتعظيم أنفسهم إما بالضغط عليك وأنت مولاهم، وإما بالضغط على غيرك ضد رغبتك، وإن كانوا غير مقتدرين فلا تنتظرن منهم سوى الخراب.
ورُبَّ معترض يقول: إن هذه هي حال القباطنة مأجورين كانوا أو غير مأجورين، فأرد عليه بأنه إذا كان الجنود غير مأجورين، أي إذا كانوا وطنيين تابعين للبلد المحارب، فإما يكونون في إمارة وإما في جمهورية، فإن كانوا في إمارة فالأمير يتولى بذاته قيادتهم، وإن كانوا في جمهورية فإن حكومة الجمهورية تبعث بالوطنيين الصادقين، فإذا ظهر عدم اقتدار القبطان المبعوث به أمكن تغييره، وإن ظهر اقتداره أمكن إبقاؤه عند حده بالقانون، وقد دلت الخبرة أنه لا يفوز في الحروب إلا الأمراء القائدون والجمهوريات المسلحة.
أما القوى المأجورة فلا تأتي إلا بالفشل، ثم إن الجمهورية المسلحة المحمية بأبنائها يكون خضوعها لرجل منها أصعب من خضوع الجمهورية المحمية بجيش مأجور، وقد كانت رومة «وإسبرطة» لعدة قرون مسلحتين وحرتين وذلك لأن حماتهما كانوا من أبنائهما، أما «قرطاجنة» فقد كانت مضغوطًا عليها بجنودها المأجورة حتى لما كان القواد من أبناء قرطاجنة أنفسهم، وقد رفع أهل «ثيبة» «فيلبش» المقدوني قبطانًا على جيوشهم بعد موت «أبا مينونداس» فلما انتصر سلب حريتهم، كذلك أهل ميلانو لما مات «الدوق فليب» استأجروا «فرنسيسكو سفورزا» ضد أهل البندقية، فلما تغلب على أهل البندقية في موقعة «كارافاجيو» اتحد معهم ليستبد بسادته الذين استأجروه، وكان أبو هذا الرجل جنديًّا في خدمة «جيوفانا» ملكة نابولي، تركها فجأة، وهي غير مسلحة ولا جيش لها، فاضطرت لحماية مُلكها أن تلجأ إلى ملك «أرجون». وإذا ذكر لي أحد أن أهل «فلورنسا» وأهل البندقية استزادوا قوة ووسعوا منطقة سيادتهم بواسطة قواد مأجورة لم يقلبوا لهم ظهر المجن وخدموهم بأمانة. أقول: إن أهل فلورنسا قد خدمهم الحظ، فإن بعض القواد الأشداء الذين كان يخشى بأسهم لم يفتحوا، والبعض كانت تقابله معارضة شديدة، والبعض اتجهت مطامعه في نواح أخرى، أما القائد الذي لم يفتح فهو «السير جون هوكود» وهذا لا يمكن الحكم عليه بالأمانة؛ لأنه لم يظفر مرة، ولكن كل عارف بخلقه يعترف بأنه لو ظفر مرة لوقعت فلورنسا تحت رحمته، أما سفورزا فقد كان ضده «البريكاتشي» فوجه مطامعه نحو «لومبارديا» و«براشيو» عادى الكنيسة ومملكة نابولي.
ولننظر بعد ذلك إلى ما تلا: فإن أهل فلورنسا عينوا «باولوفيتلي» قبطانًا لهم، وكان حذرًا، بلغ أعلى المراتب بعد أن كان في أحطها، ولو أنه استولى على «بيزا» فلا ينكر أحد أن أهل فلورنسا كانوا يهتمون باستبقاء صداقته؛ لأنه لو قاد جنود أعدائهم ما استطاعوا مقاومته، ولأجل استبقاء صداقته كانوا يضطرون لطاعته.
أما أهل «فيتزيا» فإذا نظرنا إليهم وإلى التقدم الذي أحرزوه يظهر لنا أنهم فازوا وانتصروا طالما كانت القوى المحاربة في صفوفهم مؤلفة من أهل البندقية أنفسهم، وذلك قبل أن يبدءوا بالمحاربة في البر، أما قبل ذلك فإن حروبهم البحرية كانت تتم بواسطة سادة من بينهم ورجال من بلدهم، فلما بدءوا حروب البر اتخذوا عادة أهل إيطاليا، وفي بداية عهد جيوشهم البرية لم يكونوا ليخشوا جانب قوادهم؛ لأن الأراضي التي كانوا يملكونها كانت قليلة وشهرتهم كبيرة، فلما اتسع نطاق ملكهم في عهد «كرمونيولا» ظهر لهم خطأهم، فقد رأوا أنه عظيم القوى بعد أن هزم دوق «ميلانو» ثم عرفوا أنه لم يكن شديد الهمة في الحروب وعلموا أنهم لن يتمكنوا من فتوح كثيرة بواسطته، ولم يكونوا يريدون أن يتخلوا عنه خشية أن يفقدوا ما كسبوا، فاضطروا لقتله ليتحققوا أنهم أمنوا جانبه، ثم اتخذوا لهم قباطنة «بارتولوميو» و«أبرجامو» و«روبرتودا سان سفرينو» والكونت «دي بتليانو» وغيرهم، وكان أهل البندقية يخشون ما يعود عليهم من الخسران بواسطة هؤلاء القواد، ولا يخافون عاقبة النصر، وحدث لهم بعد ذلك في «فايلا» أنهم فقدوا في يوم واحد ما قضوا في الحصول عليه ثمانمائة سنة؛ لأن هذه القوى المأجورة تفوز بانتصارات صغيرة، ولكنها تفقد خسائر جمة، وسأتكلم الآن بإسهاب عن تلك الجنود المأجورة بعد أن ضربت الأمثال بالقواد الذين استأجرتهم حكومات إيطاليا.
كانت إيطاليا منذ بداية عهد انحلال نفوذ الإمبراطورية وسيادة البابوية منقسمة إلى عدة حكومات، وقد حملت جملة من المدن الكبرى السلاح في وجه أشرافها الذين كانوا مستولين عليها بفضل تعضيد البابا، وساعدت الكنيسة تلك المدن في فِتَنها لتزداد قوتها الدنيوية، وفي مدن كثيرة صار أحد أبناء البلد أميرًا، فوقعت إيطاليا في أيدي الكنيسة وفي أيدي بعض الجمهوريات الفتية، ولما كان القسيسون والجمهوريون غير متعودين حمل السلاح بدءوا باستئجار الجند الأجانب، وأول من اشتهر بين هؤلاء الجند «البرجيودا كوبو» أحد أبناء الرومانيا، وقد تخرج عليه «براشيو» و«سفورزا» اللذان صارا يومًا ما صاحبي الشان في إيطاليا، ثم جاء بعد هؤلاء كل القواد الذين قادوا جنود إيطاليا، وكانت ثمار شجاعتهم دخول «كارلوس» وافتراس «لويس» واستبداد «فرناندو» وتعدي أهل سويسرا، وكانت الخطة التي يتبعها هؤلاء القواد المأجورون هي أن يعظموا من شأن أنفسهم بتحقير المشاة، وقد فعلوا ذلك لأنه لم يكن لهم وطن، وكانوا يعيشون من كسبهم، ولم يكن قليل من المشاة ليزيد شهرتهم وهم لا يستطيعون أن يقتنوا عددًا وافرًا من المشاة؛ لذا اكتفوا بالخيالة التي تُدفع لها أجور عالية وتُكرم مهما قل عدد رجالها، فكان لا يوجد في جيش مركب من عشرين ألف جندي ألفان من المشاة، وكانوا كذلك لا يخاطرون بأنفسهم ولا يكلفون ذواتهم أو جنودهم أقل مشقة، ولا يسفكون دماء بعضهم بعضًا في الحرب، بل يأخذون من بعضهم أسرى الحرب بدون قتل ولا ضرب، ولم يكونوا يهاجمون الحصون ليلًا، كذلك أهل الحصون منهم لم يتعودوا مهاجمة الخيام ليلًا، ولم يتخذوا الخنادق، ولم يحفروا الحفائر حول المعسكرات، وكانوا يأبون نزول الميدان في فصل الشتاء، وكل هذه القواعد كانت مقبولة لديهم ومقررة في قوانينهم، وبها نزلوا بإيطاليا إلى أسفل الدركات.