واجبات الأمير نحو الجند المحارب
لا ينبغي للأمير أن يكون له مقصد أو فكر أو يُعنى بدرس أمر سوى الحرب ونظامها وترتيبها؛ لأنها الصنعة الوحيدة الضرورية للذي يأمر وينهى، وفائدتها في أنها تحفظ ملك من يولد أميرًا، وترفع إلى مرتبة الأمراء بعض الناس من الطبقات الأخرى، وقد رأينا أن الأمراء الذين يفكرون في الرفاهية أكثر من التفكير في الحرب يفقدون إمارتهم، والسبب الذي يُفقد الأمراء ممالكهم هو احتقارهم الحرب، ووسيلة الحصول عليها هي التبحر في علوم الحرب.
وصل «فرنسيسكو سفورزا» بحسن تسلحه إلى الحصول على دوقية ميلانو بعد أن كان فردًا عاديًّا، ثم إن أولاده أرادوا أن يتقوا الحروب والمتاعب، فسقطوا من مقام الدوقية إلى طبقات الأمة، وأضف إلى الشرور الكثيرة الناتجة عن عدم تسلح الأمير احتقار الناس له؛ لأنه لا يستوي المتسلحون وغير المتسلحين، ولا يُعقل أن رجلًا مسلحًا يطيع بسهولة آخر غير مسلح، أو أن أعزل يأمن الحياة بين قوم مسلحين؛ لأن المسلح يبقى محتقرًا، والأعزل يبقى خائفًا حذرًا، وبذا لا يستطيعان أن يعملا باتفاق ووئام.
ثم إن الأمير الجاهل بفنون الحرب لا يكون محترمًا من جنده ولا يأمن جانبهم، فلا يليق بأمير أن يتخلى فكره لحظة عن علم الحرب، وينبغي له أن يمارس الحرب في السلم أكثر من سواها، وذلك بوسيلتين؛ الأولى العمل. والثانية الدرس. أما العمل فهو أن يستبقي جنوده مسلحين مستعدين، وأن يمارس الصيد لِيُعوِّد بدنه المتاعب، وليقف على طبيعة الأراضي، وكيف يكون ارتفاع الجبال ومهابط الوديان، ويعلم أنواع الأنهر والمستنقعات، وكيف يكون تأثير عبورها، ولهذه المعرفة فائدتان؛ الأولى: أنه يعرف بلاده، فيعرف كيف يذود عن حوضها، ثم إنه إذا عرف طبيعة أرضه علم طبائع غيرها من الأراضي بطريق القياس التقريبي، والأمير الذي لا يعرف هذا يكون علمه ناقصًا في أهم فروعه؛ لأن هذه المعرفة تعلمه كيف يلقى العدو، وكيف يتخذ لجنده معسكرًا، وكيف يقود الجند، ويعد المسير، ويحتل الأماكن القوية، ومن دواعي ثناء الكُتَّاب على «فيلبومن» أمير «آشاي» أنه كان في زمن السلم لا يفكر إلا في الحرب، ولما كان يكون في الفلاة مع أصحابه يقف ويسألهم: إذا كان العدو على هذا التل وكنا نحن هنا بجنودنا، فأيُّنا يكون حصين المركز؟ وكيف يمكننا الدنو منه محافظين على نظامنا؟ وإذا أردنا التقهقر فماذا ينبغي لنا فعله؟ وإذا تقهقر عدونا فكيف نطارده؟ وكان يسألهم عن كل ما يمكن حدوثه للجيش المحارب، ويسمع آراءهم، ويبدي آراءه مشفوعة بالحجج، بحيث لم يعرض له في حروبه موقف لم يكن عرف له من قبل حلًّا نافعًا.
أما تدريب العقل فلا يكون إلا بدرس تاريخ العظماء والإمعان في أسباب عظمتهم، والنظر في وصف الوقائع والبحث عن أسباب النصر وأسباب الخذلان؛ لاتباع الأولى واتقاء الثانية، وفوق هذا كله اقتفاء أثر رجل عظيم اشتهر في قديم الزمان كما فعل كثير من المشاهير الذين اتخذوا الأعمال العظيمة قدوة لهم، ينسجون على منوالها ويسيرون في دربها، فقد زعموا أن «الإسكندر» قلد «آخيل» وأن «قيصر» قلد الإسكندر وأن «سيبيو» قلد «سيرس»، ومن يقرأ تاريخ سيرس الذي كتبه «زينوفون» يرَ كيف أن سيبيو قلده في العفة ولين الجانب وحب الإنسانية والكرام.
فالأمير العاقل ينبغي له أن يسير في مثل هذه الطريق، وأن لا يخلد إلى السكينة وقت السلم، بل يعمل بحيث يستطيع أن ينتفع بالوقت، فيجني في الحرب ثمار عمله وقت السلم، وإذا تحول الحظ ألفاه مستعدًّا لاتقاء ضرباته.