في الكرم والبخل
سأبحث الآن في الفضائل التي ذكرتها في الفصل السابق بالإجمال، فأقول: إنه من الأمور الحسنة أن يذاع عن الأمير كرمه، ولكن الكرم إذا استعمل بحيث يصير الأمير لا يُخشى فإنه يضر، ولكن إذا استعمل الكرم في الشئون التي خلق لها بصفته فضيلة فإنه لا يجلب على صاحبه عار الرذيلة المضادة، أما الأمير الذي يريد الاشتهار بالكرم فلا يمكنه التخلي عن كل مظاهر الفخفخة بحيث يهلك كل ما يملك، ثم يضطر في نهاية الأمر إذا أراد أن يحتفظ بصيته أن يثقل كاهل شعبه بالضرائب، ثم يصير مغتصِبًا سلَّابًا نهَّابًا، يرضى بكل شيء لأجل الحصول على المال، وهذا يُبَغِّض فيه أمته، ويقلل من احترامه لدى فقره، ويكون قد نفع نفرًا قليلًا ببذخه وأضر بكثيرين، فيبقى مركزه في حرج، ويحدق به الخطر لأقل حادثة، فإذا فطن إلى ذلك قبل الهلاك وأراد أن يغير خطته اتهموه لساعته بالبخل والشح، فالأمير الذي لا يستطيع أن يمارس فضيلة الكرم بدون خطر يلحقه إذا عُرفت عنه فلا حرج عليه إذا كان حذرًا من أن يوصف بالبخل، وسوف يُعرف عنه بمرور الأيام أنه كريم عندما يظهر أنه بِشُحِّه استطاع أن يزيد في ثروته ليستعين بها في الدفاع عن دولته وقت الحرب، أو أن يقوم بأعمال عظيمة دون إثقال كاهل شعبه، فهو لا شك يكون كريمًا نحو كل من لم يأخذ منهم شيئًا، وهؤلاء كثيرون ولا يحصون، وقد يُعدُّ بخيلا نحو من لم يعطهم شيئًا وهؤلاء أقل من القليل.
إننا في عصرنا هذا لم نرَ عملًا عظيمًا إلا عمن اتصفوا بالبخل، أما غيرهم فقد خربوا أنفسهم، فإن البابا «يوليوس» الثاني اشتهر بالكرم ليبلغ مقام البابوية، فلما وصل إليه لم يرد أن يحتفظ بشهرة السخاء لتسهل عليه محاربة ملك «فرنسا» وقد حارب كثيرًا دون أن يفرض على الناس ضرائب جديدة؛ لأن زمن البخل عوض عليه ما فقده في فترة البذل، و«ملك إسبانيا» الحالي لو كان متصفًا بالكرم ما كان هُيِّئ له أن يفوز في الحروب التي أقامها؛ لأجل هذا لا ينبغي للملك أن يهتم باتهامه بالبخل إذا كان يريد أن لا يسرق شعبه، ويدافع عن نفسه وقت الشدة، وأن لا يصير فقيرًا محتقرًا، وأن لا يصاب بالجشع، فإن رذيلة البخل من الرذائل التي تسهل له الاحتفاظ بالسلطة.
إذا قيل إن «يوليوس قيصر» بلغ السلطان بالكرم، وإن غيره من الأمراء وصلوا إلى السيادة لجودهم أو لاشتهارهم بالسخاء، فأقول إما تكون أميرًا وإما ستئول الإمارة إليك، فإن كنت أميرًا فاعلم أن السخاء مضر، وإن كنت في طريق الإمارة، فالكرم ضروري للوصول، وقد كان قيصر طامعًا في سيادة رومة، فلو عاش بعد بلوغه، ولم يعتدل في النفقة فإنه لا شك كان يفقد الملك ويخرب الدولة.
ولو اعترض أحد بأن كثيرين من الأمراء قاموا بأعمال كبيرة وكانوا كرامًا للدرجة القصوى، فأقول: إن الأمير إما ينفق ثروته وثروة شعبه، وإما ينفق ثروة غيره، ففي الحال الأولى ينبغي له أن يكون محاسبًا حذرًا، وفي الحال الثانية ينبغي له أن يكون كريمًا وهَّابًا؛ فإن هذا النوع الأخير من الكرم ضروري للأمير الذي يسير بجيشه ويعيش بالسلب والنهب؛ لأنه إن لم يكن كريمًا يأبى الجيش أن يتبعه، ثم إن الكرم في هذه الحال لا يضرُّ بك؛ لأنك تنفق مال غيرك كما فعل «سيروس» و«قيصر» و«الإسكندر» وإنفاق مال الغير لا يقلل من اعتبارك بل يزيده، إنما إنفاق أموالك هو وحده الذي يؤذيك.
لا توجد خلة مهلكة لذاتها أشد من الكرم؛ لأنك بممارستها تفقد القدرة على ممارستها، فإما تصير فقيرًا مرذَّلًا وإما تفر من الفقر إلى الجشع والاغتصاب وتصير مذمومًا مكروهًا، والكرم هو الذي يقودك إلى أحد هذين الخطرين، انتساب الإنسان للبخل أقرب إلى الحكمة؛ لأنه يجلب العار ولا يجلب البغضاء، وهو أفضل من الاتصاف بالجشع الجالب للدمار والبغضاء جميعًا.