في اتقاء البغض والاحتقار
يُبغِّض الرعية في الأمير جشعه واغتصابه مالهم ونساءهم، فإذا حفظ متاع الرعية ولم يتعرض لعرضها عاش المجموع آمنًا قانعًا، وإذا عارض قليلون، فإنه يستطيع أن يوقفهم عن حدهم بعدة طرق، وقد يصير الأمير مرذولًا إذا اشتهر بالتغير والخفة والتخنث والخوف، وعدم الثبات وضعف العزيمة، فينبغي للملك أن يتقي هذه المعائب اتقاء الملَّاح صخرًا خطرًا، أما فيما يتعلق بحكم الرعية فليكن حكمه غير قابل للنقض، وليبقَ مصممًا على ما عزم عليه بحيث لا يستطيع أحد خداعه أو إقناعه بالتغير، فإذا اشتهر مثل هذا الرأي عن الأمير عجز الأفراد عن التآمر ضده في الداخل، ولا يستطيع عدو أن يهاجمه من الخارج لعلمه بما له من المكانة في قلوب الرعية، إن للأمير نوعين من الخوف: الأول داخلي وهو خوفه من الرعية. والثاني خارجي وهو خوفه من القوى الأجنبية. وفي تلك الحال يستطيع الدفاع عن نفسه بالجيوش المنظمة والأسلحة المدربة، وبذا تبقى شئونه الداخلية هادئة إذا لم تقلقها المؤامرات، فإذا حاولت قوة أجنبية إحداث فتنة داخلية فإنه لا شك يستطيع مقاومة سائر الصدمات لو اتبع في حكمه وعيشته القواعد التي سبق الكلام عليها، كما كانت حال «نابيش» أمير «إسبرطة».
أما الرعية فإنه يخشى من تآمرهم في الداخل إذا لم تسعَ قوة أجنبية في ذلك، وليس لاتقاء هذا إلا أن يبتعد الأمير عن مواطن البغض والاحتقار وأن ينال رضى الشعب، وأنجع ترياق لسم المؤامرات هو الحصول على حب عامة الشعب؛ لأن المتآمرين يعتقدون أنهم إذا قتلوا الأمير إنما يُفرحون الشعب، فإذا علموا بحب الشعب للأمير ابتعدوا عن التآمر؛ لأن قتله لا يفرح الشعب بل يغمه، وقد دلت الخبرة على تعدد المؤامرات، ولكن قليلًا منها قد نجح؛ لأن المتآمر لا يمكنه أن يتآمر بمفرده، ولا يمكنه اتخاذ الرفاق إلا بين الفئة غير الراضية، فإذا شرحت قصدك لناقم ووجد فيه طريقًا للوصول لغرضه، لاعتقاده بأن الوشاية تبلغه ما يريد، فيضع ربحه إذا وشى في كفة، وفي كفة أخرى خسرانه إذا أطاعك لعلمه بما يحيط بالمتآمرين من المصاعب والأخطار، فلا يصدقك إلا إذا كان عدوًّا لدودًا للأمير أو صديقًا لك حميمًا، وإلا فهو لا يرى في جانبك إلا الخوف والغيرة والريبة وخشية العقاب، ويرى في جانب الأمير سلطة الحكومة والقانون وحماية الأصدقاء والدولة، فإذا أضيف إلى ذلك حب الشعب، فهيهات أن يحاول أحد الإيقاع بالملك؛ لأن خشية المتآمر على الملك المبغوض تكون على الدوام قبل إنجاز عمله، ولكن في حال حب الشعب للملك فهو يخشى بعد الإنجاز؛ لأنه يكتسب عداء الشعب، ولا يجد له بعد ذلك ملجأ، وإن الأمثلة على ذلك كثيرة، ولكنني أكتفي هنا بذكر مثل واحد يذكره آباؤنا، فقد قتل المستر «إينبال بنتيفوجلي» أمير بولونيا في مؤامرة دبرها ضده «الكانيش» ولم يترك وراءه أقارب سوى «المستر جيوفاني» الذي كان طفلًا، وكان إينبال محبوبًا من الشعب، فقام الشعب وقتل الكانيش، وقد بلغ حب الشعب لأسرة بنتيفوجلي أنهم سمعوا بوجود أحد فروعها في فلورنسا كان قبل معروفًا بأنه ابن حداد، فسعوا إليه وجاءوا به، ونصبوه رئيسًا للحكومة إلى أن شب جيوفاني وتولى الملك؛ فينتج من هذا أن الأمير لا ينبغي له أن تقلقه المؤامرات إذا كان الشعب ميالًا إليه، أما إذا كان الشعب يبغضه فإنه إذن جدير بأن يخشى كل إنسان وكل شيء.
وقد تعلمت الحكومات المنتظمة والأمراء العقلاء أن لا يلحقوا بالأمة القنوط، وأن يرضوا الشعب ويقنعوه؛ لأن هذه من المسائل التي يهتم بها الأمراء، وبين الممالك المنظمة والمحكومة حكمًا جيدًا لعهدنا هذا مملكة فرنسا، ففيها نظامات كثيرة مرتكزة عليها حرية الملك وضمانه، ومن هذه النظامات «مجلس البرلمان» وسلطته؛ لأن من أسس هذه الدولة كان يعرف مطامع كبار الأشراف وَقِحَتَهُمْ، وكان عالمًا بضرورة سد أفواههم باللهى، وكان كذلك يعرف بغض العامة للخاصة بغضًا قائمًا على الخوف، ولكونه كان يرغب في الحصول على رضى العامة، فلم يرد أن يجعل عناية الملك خاصة بهذا لئلَّا يسخط عليه الأشراف لشدة اهتمامه بالعامة، أو يسخط العامة لشدة اهتمامه بالأشراف، فأوجد قاضيًا ثالثًا همه إيقاف الأشراف عند حدهم وإرضاء العامة، ولم يكن هناك أحسن من هذه السياسة ولا أحكم من هذا النظام لضمان سلامة الملك والمملكة وهو البرلمان؛ وينشأ عن هذا نتيجة أخرى وهي أن الواجب على الأمراء أن يكلوا إلى غيرهم القيام بالواجبات التي لا ترضي الرعية، وأن يختصوا بالأعمال التي ترضيها، فالواجب على الأمير أن يحترم أشرافه دون أن يحصل على بغض الأمة، ولكن قد يظهر للبعض أن تاريخ بعض إمبراطرة الرومان يخالف رأيي؛ لأن بعضهم عاشوا بشرف وأظهروا قوة الخلق، ولكنهم فقدوا الملك أو قتلتهم الرعية بمؤامرة، ولرغبتي في الإجابة على هذا الاعتراض سأنظر في صفات بعض هؤلاء الإمبراطرة لأظهر أن سبب خرابهم لم يكن مخالفًا لما ذكرت، وكذلك سأنظر في الأمور التي تلفت نظر من يطالع تاريخ الأزمان، وسأكتفي بذكر الإمبراطرة الذين تولوا على الإمبراطورية من عهد «ماركوس» الحكيم إلى عهد «مكسيمنس» وهم «ماركوس» وولده «كومودس» و«برتنكس» و«هليوجابلوس» و«الإسكندر» و«ماكسيمنوس».
فأول ما ألاحظه هو أن جميع الأمراء كانوا لا يجدون حيالهم سوى مطامع الأشراف ووقاحة العامة، أما إمبراطرة الرومان فقد كانت حيالهم عقبة ثالثة، وهي احتمال قسوة وبخل الجنود، وهي عقبة لا يستهان بها؛ لأنها سببت سقوط كثيرين، وذلك لاستحالة إرضاء الشعب والجندية؛ لأن الشعب يحب الهدوء، ولذا يحب الأمراء المسالمين، أما الجند فيحبون الأمراء المحاربين الوقحاء القساة الطغاة، ويرغبون أن يمارس الإمبراطور تلك الصفات ليذل الشعب وليحصلوا على أمواله، فحدث أن الإمبراطرة الذين لم يستطيعوا إرضاء الطرفين سقطوا، والذين بلغوا منهم العرش على حداثتهم علقوا آمالهم بالجند، ووقفوا عنايتهم على الجيش، وكان هؤلاء مضطرين لتفضيل أحد الجانبين؛ لأنهم لم يكونوا يستطيعون إلا أن يكونوا مكروهين من أحد الجانبين، فكان واجبهم الأول أن لا يُبْغَضوا من الشعب، فإذا لم يوفقوا إلى ذلك فليبذلوا ما في وسعهم لاتقاء بغض الأحزاب القوية، ولذا كان الإمبراطرة المحدثون محتاجين للإفراط في الإحسان، وفضلوا محاباة الجيش على محاباة الأمة، وكانت نتيجة تلك المحاباة تابعة على الدوام لاقتدار الملك على حفظ كرامته في نظر الجند.
ونتج عن هذه الأسباب أن ماركوس وبرتنكس والإسكندر الذين كانوا جميعًا متواضعين ومحبين للعدل وأعداء للقسوة وذوي عطف على الإنسانية، خُتمت حياتهم ختامًا سيئًا، سوى ماركوس الذي عاش ومات مكرمًا؛ لأنه تربع في عرش الدولة بحق الوراثة، ولم يكن مدينًا بالملك للجند أو للشعب، وعدا عن ذلك فإنه كان ذا فضائل شتى جعلته موقرًا في نظر الجميع، وكان ما دام حيًّا واضعًا كل حزب في مكانه، ولم يكن أحد يبغضه أو يحتقره، أما «برتنكس» فقد وصل إلى العرش دون رغبة الجند الذين تعودوا عيش الفساد والرذيلة لعهد «كومودس» فلم يريدوا أن يخلدوا إلى حياة الفضيلة والقناعة التي أرادها لهم برتنكس، فكان الجند يبغضه، ثم إنه كان محتقَرًا لكبر سنه، ولذا لم يوشك عهده أن يبتدئ حتى انتهى؛ ومن هذا يظهر أن العداء قد ينشأ عن فعل الخير كما ينشأ عن فعل الشر، فالأمير الذي يريد الاحتفاظ بالإمارة يرى نفسه مضطرًّا مرارًا لفعل الشر؛ لأنه إذا فسد الحزب الذي يُعوِّل عليه الأمير فهو مضطر لفعل ما يرضيه، وفي هذه الحال يكون فعل الخير مضرًّا جالبًا للأذى.
ولنتكلم الآن عن الإسكندر الذي بلغت طيبته أنه خلال الأربع عشرة سنة التي دام فيها حكمه لم يُعدم فرد بدون محاكمة عادلة، فإن هذا الإمبراطور كان موصومًا بالتخنث والضعف، بحيث ترك أمه تحكم فوقع في هوة الاحتقار، فتآمر الجيش عليه وقتلوه، أما إذا نظرنا الآن إلى صفات كومودس و«سفرس» و«أنطونيوس» و«قرقلا» و«ماكسيموس» نرى أنهم كانوا في منتهى الشدة والطغيان، ولم يكونوا يمتنعون عن أي أذى ينالون به الشعب إرضاء لشهوات الجندية، وقد انتهت حياتهم انتهاء سيئًا ما عدا «سفرس» فإنه حفظ صداقة الجند، وتمكن من التفرغ للحكم بالظلم، ولكن فضائله بهرت أبصار الجانبين، فكان الجند يحترمونه وهم قانعون به، والشعب معجبًا بخصاله السامية، ولما كانت أعمال هذا الإمبراطور تظهر لأول وهلة كبيرة لمن يعرف حداثة عهده بالملك، فقد أردت أن أُظهر كيف عرف سر الانتفاع بصفتي الثعلب والأسد، فإنه عرف الإمبراطور جوليان إذ كان هو قائدًا للجيش في «سلافونيا» فأقنع الجنود بفائدة المسير إلى رومة للانتقام لدم «برتنكس» الذي قتله الحرس الإمبراطوري، ودخل إيطاليا بهذه العلة دون أن يذيع أغراضه الكامنة في صدره، فلما بلغ رومة أدخل الرعب في قلوب أعضاء مجلس السناتو فانتخبوه إمبراطورًا، ومات «جوليان» ولكن بقي أمام «سفرس» عقبتان قبل التمكن من السيادة التامة على الإمبراطورية الأولى في آسيا، حيث أعلن «نيجرنيوس» زعيم الجيش الآسيوي سيادته ونصب نفسه إمبراطورًا، والأخرى في الغرب ومنشأها «ألبينوس» الذي كان طامعًا في الإمبراطورية، ولما أن رأى الخطر إذا أظهر عداوة لهذين الرجلين، عزم على مهاجمة «نيجرنيوس» ومخاتلة «ألبينوس» فكتب إليه أن السناتو انتخبه لعرش الإمبراطورية، وأنه يود أن يقاسمه هذا الشرف، ثم بعث إليه بلقب قيصر، وطلب من السناتو أن يعلن انتخاب الاثنين إمبراطورين لرومة، فصدَّق ألبينوس تلك الحيلة، ثم إن سفرس هزم نيجرنيوس وقتله واستتب له الأمر في الشرق وعاد إلى رومة، فأعلن في مجلس السناتو أن ألبينوس قد نسي فضله عليه ولم يرعَ أياديه البيضاء التي منحته تاج الإمبراطور، وأنه تآمر على قتله فهو مضطر للذهاب إليه ليعاقبه على سوء فعله ونكرانه للمعروف، ثم ذهب للقائه في فرنسا، وهناك نزع عنه الرفعة واختطف حياته، ومن يتأمل في هذه الوقائع يرَ أن سيفرس كان أسدًا غضنفرًا وثعلبًا مخاتلًا، لذا كان مهابًا لدى الشعب غير مكروه لدى الجند؛ لذا طال ملكه وخف عنه حمل أعباء السلطنة، أما ولده «أنطونينس» فقد كان كذلك ذا كفاية عظمى، وكانت له صفات جعلته موضع الإعجاب في نظر الشعب ومحبوبًا لدى الجيش؛ لأنه كان محاربًا قادرًا على احتمال أشد الشدائد، محتقرًا للمآكل الممتعة ولسائر أنواع الترف، وهذه خلال تحبب الجند في الرئيس، بَيْدَ أنَّ قسوته وتوحشه لم يكن لهما مثيل، فإنه بعد أن أمر بقتل كثيرين أمر بإعدام جزء عظيم من أهل رومة والإسكندرية، فأبغضه كل من حوله، وخشيه أقرب الناس إليه، حتى قتله أحد جنده وهو في وسط الجيش، وينتج عن هذا أن هذا النوع من القتل الصادر عن تصميم فرد وصحة عزمه لا يمكن للأمراء اتقاءه؛ لأن كل من لا يخشى الردى يمكنه أن يقتل الغير، ولكن ليس على الأمراء خطر شديد من هذا، فإن مثل هذه الفعال نادر جدًّا، والواجب على الأمير أن لا ينال أحدًا ممن ينتفع بهم أو ممن في خدمته بأذى شديد، كما فعل أنطونينس الذي قتل جنديًّا، وأبقى على أخيه، وبقي يهدده كل يوم بالقتل، ومع هذا أبقى عليه في صفوف حرسه، فجنى عاقبة إهماله وعدم تبصره.
ولنتكلم الآن عن «كومودوس» الذي كان يمكنه الاحتفاظ بالإمبراطورية لبلوغه العرش بحق الإرث؛ لكونه ابن «ماركوس» ولو أنه اقتفى آثار أبيه لأرضى الشعب والجيش، فنقول: إنه كان ذا مزاج قاسٍ بهيمي، فإنه أراد أن يسلي الجند بافتراس الشعب، ثم إنه لم يحفظ كرامته الذاتية، فكان ينزل إلى «ساحة المصارعة» ليصارع الأسرى وغيرهم، فأصبح مرذولًا في عين الجند ومبغوضًا لدى الشعب، فتآمروا عليه وقتلوه.
وبقي لدينا الكلام على «مكسيمنيوس» فقد كان محاربًا من الدرجة الأولى بين المحاربين، وكان الجند سئموا تخنث «الإسكندر» واستكانته، فانتخبوه إمبراطورًا بعده، ولكن عهده لم يطل؛ لأن أمرين جعلاه مبغوضًا محتقرًا؛ الأول: دناءة أصله، فقد نشأ راعيًا في «ثراسيا» وكان هذا معلومًا لدى العامة فسبب احتقاره. والثاني: أنه في أول عهده أجَّل الذهاب إلى رومة للاستيلاء على العرش. ثم إنه اشتهر بالقسوة فكان يأمر عماله ووكلاءه بإتيان الفظائع في الولايات، فهاج ذلك سخط العالم أجمع، فأجمعوا على إسقاطه، فتمردت عليه أفريقيا، ثم تلاها مجلس السناتو ورومة وسائر إيطاليا، وانضم إليها جيشه؛ لما أعياه حصار «أكويليا» ولما رأى الجند كثرة أعداء الإمبراطور لم يهابوا عاقبة الإيقاع به، فتآمروا عليه وقتلوه.
كذلك الحال في مملكة «سلضان»؛ لأن الحكومة هناك في يد الجند والسلضان مضطر للاحتفاظ بصداقتهم، وهذه الحال مخالفة لأحوال سائر الأمراء؛ لأن حكومته تشبه حكومة البابا الذي ليس ملك موروث ولا محدث؛ لأن أولاد الأمير المتوفى لا يخلفونه، إنما خليفته هو الذي ينتخبه الأقوياء في الدولة، وحيث إن هذا النظام قديم فلا يمكن أن تسمى حكومة السلضان مملكة جديدة؛ فليس فيها من الصعوبات ما يعترض الممالك الجديدة، وحيث إن الأمير جديد فإن نظامات المملكة موضوعة بحيث يكون الأمير المنتخب في موقف الأمير الوراثي.
ولنعد الآن إلى موضوعنا فنقول: إن من يمعن النظر في الأدلة السابقة يرى أن البغض والاحتقار جميعًا أو أحدهما سبب سقوط الإمبراطرة الذين سبق الكلام عليهم، وإن بعضهم كان ختامه حسنًا والبعض ختامه سيئًا، ولما كان «برتنكس» و«الإسكندر» كلاهما أميرين محدثين، فقد كان من المضر بهما تقليد «ماركوس» الذي كان أميرًا وراثيًّا، كذلك أخطأ «قرقلا» و«كومودوس» و«مكسيمينوس» بتقليد «سيفروس» لأنهم كانوا عاجزين عن اقتفاء آثاره، فالأمير الجديد ينبغي له أن يتخذ عن «سيفروس» القواعد المهمة في تأسيس الدولة، وعن «ماركوس» القواعد التي يمكن بها الاحتفاظ بالدولة بعد تأسيسها.