في الإمارات المختلطة
شرحت في الفصل السابق سهولة التحكم في الممالك القديمة، وسأشرح في هذا الفصل صعوبة التحكم في الممالك الحديثة، وسأضرب لذلك مثل الولايات التي كانت في أول أمرها جزءًا من سلطنة كبرى، فإن أمثال هذه الولايات إذا شعرت بظلم حكامها ودَّت انصرافهم عنها، ولو أدى ذلك إلى تحكم غيرهم فيها، فإذا تولى عليها ملك غير ملكها رحبت به أملًا بأن الخلف يصلح ما أفسده السلف، فيعدل حيث ظلم، ويحسن حيث ساء، وكثيرًا ما تدفع تلك الأمنية بعض الولايات إلى سل السيوف في وجه ملكها القديم، فيثور أهلها ثورة حاسمة قد يتمكن بها الطامعون من الاستيلاء على الولاية الثائرة، وكثيرًا ما تكون أمثال تلك الثورات نتيجة لخديعة دبرها الطامعون، وقد دلت الحوادث أنها لا تصلح حال الولايات؛ لأنها لا تشفي الغلة ولا تبرئ العلة، إنما تكون ثالثة الأثافي فتزيد الطين بلة.
ثم إن فساد الأحوال في عهد الملك المغتصَب نتيجة طبيعية لمقدمات كثيرة: منها أن المغتصِب لا يستطيع أن يوثق رابطة الوئام بين أهل الولايات المغتصَبة وبين رجال جيشه وحكومته، وكذلك لا يستطيع أن ينقذها من الأخطار والمصائب التي تجلبها طبيعة الاغتصاب.
وغني عن البيان أن موقف المغتصِب يبقى في البلاد حرجًا مهما كان عادلًا في أحكامه وقويًّا بجنده وعدده؛ لأن أهل الولاية المغتصَبة يبقون على عدائه ما دام في بلادهم، وكذلك لا يتمكن المغتصِب من اكتساب إخلاص جماعة الخائنين الذين مكنوه من بلادهم؛ لأنه لا يستطيع أن يرضيهم أو يقنعهم مهما منحهم وأعطاهم، ولا يستطيع أن يعمد إلى الشدة في معاملتهم؛ لأنه مدين بما أولوه، ومهما تكن قدرته في المال والرجال فلا يمكن أن تستقيم له حال إذا لم يكن مع أهل البلاد على أتم ما يكون من الصفاء والوداد، ولنضرب لك مثل «لويس الثاني عشر» الذي استطاع بجنوده وماله الاستيلاء على «ميلانو» ولكنه لم يستطع أن يحتفظ بها طويلًا، لا لفشل أصاب جيوشه ولا لفقر انتاب خزائنه؛ بل لأن أهل «ميلانو» لم يلقوا من خير «لويس» ما سبق إلى ظنهم، ووجدوا من شره ما أبعد قلوبهم عنه، وبغضهم فيه؛ فاستسلموا من تلقاء أنفسهم للأمير «لدويج دي سفورزا» وأسلموا إليه قيادهم.
ومن المعلوم أن الفاتح إذا ثارت عليه الولاية المفتوحة ثم عاد فقهرها ثانية يكون الفتح الثاني ضامنًا لبقائه أبدًا؛ لأن الثورة علمته دروسًا ما كان ليعلمها بدونها، فيسلك بعد في سياسة الولاية المتهورة طريقين؛ الأولى: أن يمد يده بالعقاب لمن يسببون القلاقل ويخلقون المشاغب. والثانية: أن يعرف أماكن الضعف في حكومته فيقويها، فلا يجدها العدو الداخلي، كما كانت قبل عرضة لسهامه فيتمكن منها وفق مرامه، وتصدق تلك النظرية على تاريخ فتح «ميلانو» فقد كان مجرد ظهور أعلام الدوق «لدويج» على الحدود سببًا في ضياع ميلانو من يد فرنسا في المرة الأولى، أما في المرة الثانية فإنه لم تتمكن دولة من اغتصاب ميلانو من فرنسا قبل أن اتحدت دول أوروبا عليها، على أن هذا الاتحاد القوي لم يضعف من عزم فرنسا، فإنها دوخت الأمراء وألجأتهم إلى الفرار من إيطاليا بأسرها، فخلا لها الجو في ميلانو وغيرها، ولم يكن هذا الفوز المبين إلا أثرًا من آثار السياسة الثانية، سياسة تقوية أماكن الضعف في هيئة الحكومة، غير أن عهد فرنسا في «ميلانو» طال أو لم يطل فإنه لم يبقَ إلى الأبد، ولضياع ميلانو من يد فرنسا في المرة الثانية أسباب لا بد من ذكرها وشرحها كما ذكرنا أسباب خروجها من يدها في المرة الأولى، وسنستطرد إلى ذكر الأمور التي كان يجب على فرنسا فعلها لتحتفظ بميلانو وذكر ما كان يفعله ملك آخر لو كان مكانها.
غني عن البيان أن كل ولاية تفتح قد تكون متحدة والدولةَ الفاتحةَ في الجنس أو اللغة أو غيرهما من الروابط وقد لا تكون، فإن كانت الجنسية هي الرابطة فاستيلاء الدولة على الولاية سهل سيما إذا كان أهلها ميالين بطبعهم إلى تحرير أعناقهم، ويكفي لسيادة الدولة الفاتحة على الولاية المفتوحة انقراض الأسرة المالكة القديمة في تلك الولاية؛ وذلك لأن الحال تبقى على ما كانت عليه من قبل، فلا تتبدل الأخلاق ولا تتغير العادات، وبذلك يستأنس أهل الولاية بحكامهم المُحْدَثين، خذ لذلك مثل ولاية «برجانديا» و«بريتانيا» و«جاسكونيا» و«نورمانديا» وهي الولايات التي ضمتها فرنسا إلى حكمها منذ عهد بعيد، فاتفقت وعاشت جميعًا بسلام ووئام، ومن المعلوم أن أخلاق الجماعات المتقدمة الذكر فرنسوية محضة، ولا فرق بينها وبين أهل فرنسا إلا في اللغة، فإن هناك بونًا طفيفًا في اللهجة، وقد سارت فرنسا في تملُّك تلك الولايات على الطريقتين السابقتين، فسعت أولًا في إهلاك الأسرة المالكة، وأبقت على القوانين القديمة والشرائع السالفة، ولم تزد الضرائب، فاستطاعت بذلك في زمن قصير جعل هذه الولايات كلها ولاية واحدة.
أما إذا كانت الولاية المقهورة تختلف عن الدولة القاهرة في اللغة والأخلاق والقوانين، فمصاعب التملك جمة وعقبات التحكم المطلق عظيمة؛ لأن القاهر يحتاج في مثل تلك الولاية إلى حظ وافر وعمل مستمر ليتمكن من الاحتفاظ بالولاية المقهورة، وخير وسائل الاحتفاظ بها أن ينتقل الفاتح إلى الولاية الحديثة ويعيش بين أهلها، وهذا يوطد قدمه ويثبت دعائم حكمه، ولنضرب للقارئ مثل الأتراك وبلاد اليونان فإن كل الوسائل التي استخدمها الترك لإبقاء بلاد الإغريق تحت سلطتهم لم تكن لتفيد لو لم يقطنوا البلاد ويعيشوا بين أهليها، ومنافع تلك السياسة كثيرة منها: أن الفاتح ببقائه في الولاية الحديثة يقف على أسباب الدسائس والفتن، فيسعى في تلافيها قبل أن يتسع الفتق على الراتق، ومنها أن عمَّال الفاتح على الولاية يرونه أبدًا نصب أعينهم فيتقون غضبه إذ هم حادوا عن الطريق المستقيم، بَيْدَ أنَّهُ لو غاب عنهم وتركهم وشأنهم فهم لا ريب يُفسدون في الولاية فيؤثر إفسادهم في طاعة أهلها، وينفرهم من الفاتح وهو في حاجة إلى موالاتهم والتودد إليهم، ومنها أن الدول الأخرى لا تستطيع اكتساح ولاية مفتوحة ما دامت خشية بطش الفاتح منتشرة فيها، ويجدر بالفاتح أن يؤسس في مداخل الولاية المفتوحة ومخارجها مستعمرات أجنبية وإلا اضطر لاستخدام جيش أزبَّ داخل البلاد، وأشرت بتأسيس المستعمرات الأجنبية عالمًا أن هذا يقتضي نزع أملاك نفر قليل من أهل الولاية لتعطى للمستعمرين، ولا خوف من ذلك على الفاتح ما دام هذا النفر القليل المسلوب الحق ضعيفًا؛ فإنه لا يستطيع أن يمس الفاتح بأذى، ولا يستطيع كذلك هؤلاء الأقلون أن يثيروا غضب الأكثرين ممن لم تُغتصب أملاكهم لأن من لم يُغلب على أمره في متاعه لا يكون كمن غُلب، ولو أن المظلومين تمكنوا بعد اللُّتَيَّا والتي من تحريك غضب من لم يُظلموا، سهل على الفاتح تسكين ذلك الغضب، ولتلك السياسة نفع آخر وهو أن أكثر أهل الولاية يبقون في خوف مستمر، فهم أبدًا يخشون أن يُصنع بهم ما صُنع بغيرهم من قبل من الظلم والاغتصاب، فيخلدون إلى السكينة ويرضون بما يُمنحون.
أما نفع تلك المستعمرات فقد ذكرته، وهي عدا ذلك لا تكلف الفاتح شيئًا، ويكون أهلها أكثر إخلاصًا له بالطبع، ويكون الفاتح — كما تقدم — آمنًا شرَّ من اغتصب أملاكهم لتأسيسها ما داموا مشتتين، وهنا أود أن ألفت نظر القارئ إلى قاعدة سياسية، وهي أنك إذا أردت أن تريح نفسك من رجل فاعمد إلى إحدى طريقين؛ الأولى: أن تملقه وتحسن إليه. والثانية: أن تخمد أنفاسه وتنتهي من أمره، وفي طبيعة البشر عادةٌ تساعد على تقرير تلك القاعدة، وهي أنهم يحاولون دائمًا أن ينتقموا من أعدائهم لما ينالهم من الأضرار التافهة، ولكنهم لا يقدرون على الانتقام لأنفسهم ممن ينالهم بأضرار كبيرة، فخير وسيلة لمن يريد إيصال الأذى الحقيقي بعدوه أن يصب عليه من جامِّ غيظه قدرًا يعجزه عن الانتقام، وقد فضلت تأسيس المستعمرات على تأسيس الحاميات، لأن ثكنات الجند في الحامية تستلزم نفقة طائلة يعجز عنها خراج الولاية، دع ما يولده بقاء الجند الفاتح في البلد المفتوح من أسباب الحقد والبغضاء بين الغالب والمغلوب، وأن الجاهل من لا يخشى العدو السالم الآمن في وكره.
وخلاصة القول أن المستعمرات كثيرة المنافع، والحاميات كثيرة الأضرار، وينبغي للفاتح الجديد أن ينصِّب نفسه زعيمًا على ما يجاوره من الولايات، وأن يضع نفسه موضع المدافع عنها، وأن يجعل نصب عينيه غرضين؛ الأول: إضعاف ما كان منها قويًّا. والثاني: سد باب ولايته في وجه الأجانب الأقوياء؛ لأن الولايات المغلوبة كثيرًا ما تستغيث بجيرانها، فيهرع إليها جار قوي إما طمعًا في الاستيلاء عليها، وإما خوفًا من امتداد نفوذ الفاتح إلى ولايته، ولنضرب لذلك مثل الرومان عندما دعاهم «الإيتوليون» إلى بلاد الإغريق، فكانوا كلما دنوا من ولاية واستنجد بهم أهلها لبوا دعوتهم واستعانوا بهم على حكامهم وامتلكوها.
وليعلم الفاتح القوي أنه إذا دخل ولاية جديدة فإن من كانوا ضعافًا من الأشراف والنبلاء قبل فتحه ينضمون إليه، ويمدون له يد المساعدة، لا لأنهم يودُّون خيانة وطنهم بل نكاية في الحاكم السابق الذي ضعف شأنهم في عهده، ولكن ليحذر الفاتح هؤلاء الأشراف؛ فإنهم إذا بلغوا من القوة أكثر مما ينبغي لهم استغنوا عنه وطغوا عليه ونازعوه الأمر إذا ما استتب له، أما إذا ساسهم بالحسنى، وتمكن من قلوبهم فإنه يستطيع بقوته وبما يمدونه به من إضعاف الحاكم الأصلي فيعقد له لواء النصر، وينال من الولاية المفتوحة فوق ما يشتهي، ولكن من لا يسير على درب تلك السياسة يفقد في برهة ما ربحه في عام، وإذا تم له حكم كان عهده مزعزعًا مقلقلًا، وقلَّ أن يطول.
كان الرومان يتبعون تلك السياسة، فكانوا إذا فتحوا ولاية جديدة أسسوا فيها مستعمراتهم، وملقوا أشرافها، وأحسنوا إليهم بدون أن يزيدوا في قوتهم، وكسروا جناح الأقوياء من الملوك والأمراء، وسدوا باب الولاية في وجوه الأجانب والدخلاء، وهاك تفصيل تلك السياسة في بلاد الإغريق: فإن الرومان لما افتتحوا تلك البلاد توددوا إلى إتشاي وإتيولي، وأهلكوا ملوك مقدونيا، وأبعدوا أنتيوكوس، ولم ينل فيلبس صداقتهم قبل أن أضعفوا نفوذه، وكذلك لم يسمحوا لأنتيوكوس بالعود إلى بلاد الإغريق، وما كان أحكم تلك السياسة، وكفى الرومان فخرًا أن سياستهم هي سياسة الحكماء من الملوك والعقلاء من الأمراء! إذ هي عدم اقتصارهم على الاهتمام بالحاضر وحده بل امتداد حسبانهم إلى غياهب المستقبل، فيعدون له عدده ليتقوا ما يمكن أن يكون؛ لأن الإنسان إذا حسب للمصائب حسابًا استطاع أن يفر منها، أما إذا صبر حتى تأتي، فربما لا يجديه ما يتخذ من الوسائل السريعة لدفعها، فيكون مثلها كمثل حُمَّى الدق التي يصعب على الأطباء اكتشافها في بداية أمرها، مع سهولة علاجها، ولكنها إذا تمكنت سهل اكتشافها واستحال علاجها، والأدواء المعنوية التي تشبه تلك الحُمَّى في تدبير الممالك كثيرة، ولا يستطيع أن يَحسب للمستقبل حسابه إلا الرجل الخبير الحازم، وكثيرًا ما اتقى رجل بفطنته وحصافته مصائب شعب برمته، أما إذا لم يكن على رأس السياسة رجل كما وصفت فلا يبعد أن تقع البلاد في هاوية.
وقد نشأت دولة الرومان ودرجت وشبت وهرمت وشاخت، وفيها رجال يحسبون للمستقبل ألف حساب، فكانوا أبدًا يتقون عواقب أمثال تلك الزلات السياسية، ولم يكن خوفهم من الحرب ليقف في وجه تلك السياسة الحكيمة؛ لأنهم عرفوا أن الحرب والسياسة توأمان، ومن يريد أن يفوز في الأولى لا بد أن يكون فوَّازًا في الثانية، وأن تأجيل الحرب ربما يفيد العدو فيستعد ويتأهب بما لا يوده الرومان؛ ولهذا السبب أشهروا الحرب على فيلبس وأنتيوكوس في بلاد الإغريق ليتقوا محاربتهما في إيطاليا، على أن ساسة الرومان كانوا يستطيعون بما اكتسبوه من الحكمة والخبرة أن يتقوا تلك الحرب، وأن يوكلوا للأيام ما أوكلوه للرمح والحسام، بيد أنهم رأوا أن الدهر قُلَّب، وأن اليوم لا يبوح بما يصنعه الغد.
ولنعد الآن إلى فرنسا لنرى هل سارت على درب الرومان؟ وهلَّا اقتدى ساستها وملوكها بساستهم وملوكهم؟ ولنضربن بالملك «لويس» مثلًا، فإنه هو الذي طال عهده في إيطاليا، وقد اخترناه؛ لأنه خالف تلك السياسة على خط مستقيم، وغنيٌّ عن البيان أن أهل «البندقية» هم الذين استنجدوا بالملك لويس ليقاسموه ولاية «لومبارديا» على أنني لا أرى حقًّا للائميه على رعونته؛ لأنه كان يود أن يوطد قدم فرنسا في إيطاليا سيما بعد أن بغَّض سلفه أهل هذه المملكة في فرنسا، فلا تثريب على لويس إذا لبى نداء أهل البندقية ظنًّا منه أن فرنسا والبندقية تنتفعان إن اتفقتا، ولو أن لويس استمر على سياسة النفع والوفاق ولم يفسد على نفسه بما أتاه من الأغلاط السياسية لفاز في إيطاليا فوزًا باهرًا، على أن لويس لما تم له الأمر في لومبارديا استرد في زمن قصير ما خسرته فرنسا من شرفها وصيتها في عهد سلفه، فأتته «جنوة» مختارة، وصادقه أهل «فلورنسا»، وتقرب منه مركيز «مانتوا» ودوقات «فرارا» و«بنتفوجلي»، وصافاه أمراء «فاينزا» و«بيتزارو» و«ريميني» وتودد إليه أهل «لوقا» وسكان «بيزا» و«سينا»، فلما رأى أهل البندقية ذلك فطنوا إلى حقيقة الأمر وندموا وعادوا على أنفسهم باللائمة؛ لأن طمعهم في جزء من لومبارديا أدى إلى استيلاء ملك فرنسا على أكثر من ثلثي إيطاليا، وما كان أسهل التمكن من تلك الولايات كلها لو سار الملك لويس في سياستها على الخطة التي سار عليها الرومان، وشرحناها في أوائل هذا الفصل، فإنه كان بذلك يستطيع الأخذ بزمام تلك الإمارات لضعفها والتجائها إليه؛ ليحمي بعضها من أهل البندقية والبعض الآخر من الكنيسة، وكان من اليسير عليه أن يستعين بالضعيف منها على القوي حتى يستوي الكل في الضعف والاستكانة، ولكن لويس خبط في سياسته خبط عشواء واختطَّ لنفسه خطة عوجاء، فإنه لم يوشك أن يستتب له الأمر في ميلانو حتى مد يد المعونة إلى البابا «إسكندر» ليحتل ولاية «رومانيا» ومن العجيب أن لويس لم يتنبه إلى تلك الهفوة مع أنها زعزعت أركان قوته، وكادت تهدم جدران سياسته؛ هذا؛ لأنه بمعاونة البابا على إحدى الولايات أضعف نفسه بأن تخلى عن ولاية محالفة كانت لا تألوا جهدًا في مساعدته أنَّى شاء، وبذلك دب الشك في نفوس أهل الولايات الأخرى خشية أن يصنع بها ما صنع «برومانيا» وكذلك اشتد أزر الكنيسة فقويت شوكتها الدينية، وشوكة الدين إذا قويت اشتد بها ساعد الكنيسة، واعتز جانبها، وامتد نفوذها إلى السلطة الدنيوية.
ولما أن هفا لويس تلك الهفوة لم يرَ له بدًّا من البقاء على خطئه، والاستمرار على تلك السياسة الخرقاء، ولكن امتداد سلطة البابا إسكندر إلى «توسكانا» علمه أن جشعه لا يقف عند حد، وقد يوقع به فهرع إلى إيطاليا ولكن حذره لم يُجْدِه نفعًا؛ لأنه ما لبث أن خرج من تلك الغماء حتى أوقعه فساد الرأي في محنة أنكى وأشد، وتفصيل ذلك أنه لم يكتف بما جلبته عليه سياسته الأولى من الضعف سيما بعد أن غدر بأصدقائه ومحالفيه، فنقضوا عهده وتخلوا عنه؛ مما أدى إلى نهوض الكنيسة من عثرتها، فصار لها من الحول والطَّول ما لا يحبه أعداؤها، بل أراد لويس أن ينال مملكة نابولي فاتحد مع ملك إسبانيا واقتسماها، فبعد أن كان في إيطاليا بأسرها سيدًا فذًّا أصبح في بعضها شريكًا محسودًا، وقد جنى بتلك السياسة الخرقاء على نفسه؛ لأن أهل الطمع من ولاية نابولي ممن كانوا ناقمين عليه في عهد انفراده بالملك وجدوا سواه بديلًا عنه، يعتمدون عليه إذا أعياهم الالتجاء إليه. ولم يكتف لويس بشريكه الضعيف الذي كان يستطيع إخضاعه بل أبعده عن الملك، واستبدل به ملكًا قويًّا، فتمكن هذا القوي من سلطة لويس فانتزعها من جذورها، وغرس مكانها بذور سلطته.
أقول: على أنني لا ألوم الملوك المتطلعين للاستيلاء على الولايات؛ لأن طبيعة التملك والسيادة راكزة في نفس كل أمير، بل أراني أميل للثناء على كل راغب في مد نفوذه إذا كان يُحسن التصرف، ولكن من يحاول امتلاك البلاد وهو جاهل بطرق السياسة، ثم يتفانى فيما توحيه إليه شهوة التملك، فهو جدير بأن يلام على تهوره لومًا عنيفًا، وقد كان الملك لويس من هذا الفريق الأخير؛ لأنه كان كثير الطمع قليل الخبرة، وكان الأجدر به لما أن رأى عجز فرنسا عن الاحتفاظ بولاية نابولي أن يتركها مرة واحدة لا أن يشرك فيها غيره، ومن يلتمس له عذرًا على إشراك البندقية معه في ولاية لومبارديا؛ لأن تلك الجمهورية هي التي دعته إلى إيطاليا وعضدته فيها لا يجد له عذرًا في إشراك غيرها فيما تم له الاستيلاء عليه من ولايات إيطاليا غير لومبارديا؛ لأن الرابطة التي كانت بينه وبين جمهورية البندقية لم يكن لها مثيل بينه وبين سواها.
ومجمل القول أن الملك لويس خلط الإصابة بالغلط في خمسة أمور؛ الأول: أنه أضعف قوى الولايات الصغرى. الثاني: أنه علَّم أمراء إيطاليا كيف يتفرد ملك واحد بالملك. الثالث: أنه جلب إلى البلاد أجنبيًّا عنها قويًّا عليها. الرابع: أنه لم يسكن إيطاليا ليتقي بقربه ما يخشى حدوثه على البعد. الخامس: أنه لم يؤسس مستعمرات فرنساوية في الولايات التي استولى عليها.
بَيْدَ أنَّهُ كان في استطاعة الملك لويس أن يتقي ما نجم عن تلك السيئات السياسية لو أنه لم يقترف السادسة، وهي كبراها؛ فإنه — لا در دره — اغتصب السلطة من أيدي أهل البندقية وغلبهم على أمرهم بعد أن فرت فرصة مثل هذا العمل، ولم يكن هو في حاجة إليه، فكان عقابه ضياع نفوذه وخراب ملكه، ولو أن لويس اغتصب سلطة أهل فينيسيا، ولم يعضد الكنيسة، ولم يُدخل إلى إيطاليا مَن أدخل من ملوك إسبانيا، لكان ذلك من الحكمة وحسن السياسة بمكان عظيم؛ لأنه كان يستطيع حينئذ أن يتفرد بالسلطة وأن يضمن لنفسه النفوذ الأكبر، أما وقد فعل تينك الفعلتين فكان الأجدر به أن يساعد جمهورية البندقية لتكون درعًا يحمي لومبارديا من عداء المعادين ومناصبة الفاتحين، سيما وقد كانت تلك النتيجة واضحة أمامه وضوح الشمس؛ لأن أهل البندقية لم يكونوا ليسمحوا لفاتح أن يمد يده إلى لومبارديا لما لهم فيها من المآرب، وكذلك لم يكن أحد ليحاول فتح تلك الولاية ليسلمها إلى البندقية طائعًا مختارًا ثم يذهب راشدًا مهديًّا، ولم يكن كذلك في ذلك العهد من يستطيع معاداة فرنسا والبندقية معًا ليحصل على ولاية تتفانى هاتان الدولتان في صونها، ولكن لويس لم يفطن إلى تلك السياسة ولذلك لم يعمل لأجلها.
أقول: وإذا التُمس للملك لويس عذر في منحه رومانيا «للإسكندر» وتنازله عن المُلك لإسبانيا؛ لأنه منح المنحتين اتقاء الحرب، أردُّ عليه بما قررته سابقًا، وهو أن السلطان العاجز هو الذي يهمل أمر ما يحدث في ملكه من القلاقل التي تورث الحرب ليتقيها؛ لأن الحرب لا تُتقى بالإهمال، إنما يمهله أعداؤه إلى أجل مسمى، وأن تلك المهلة لتؤذينَّه أكثر مما تنفعه.
وإذا التُمس العذر للملك لويس بما وعد به البابا إذا عاونه على تطليق زوجته، وأسند إلي القسيس «روهان» مسند الكردينال، أقول: ليس هذا عذرًا مقبولًا؛ لأن لي في عهود الملوك ووعودهم رأيًا سأبديه.
نقول: ولم يفقد الملك لويس ولاية لومبارديا إلا لأنه حاد عن الدرب الذي يسير عليه عقلاء المستعمرين، واقترف من السيئات السياسية ما خيب آماله وأفسد عليه أعماله، وليس في ذلك غرابة لأن لكل شيء في هذا الكون قانونًا، وجزاءُ الإهمال الخيبة والفشل، على أنني لما لقيت الكردينال روهان في «نانت» حادثته في هذا الشأن، وكان ابن البابا إسكندر يعمل في ذلك الحين لاحتلال رومانيا، فقال لي الكردينال في عرض كلامه: إن الإيطاليين لا يعرفون فن الحرب. فأجبته لساعتي: والفرنسويون لا يعرفون فن السياسة؛ لأنهم لو عرفوه ما استطاعت الكنيسة أن تنال في عهد ملكهم ما نالته من السلطة والقوة، وقد دلت الحوادث على أن فرنسا هي مانحة تلك القوة، وهي التي دعت إسبانيا إلى إيطاليا، فكانت كالباحث عن حتفه بظلفه، والحافر لَحْدَه بيده، وتنشأ عن ذلك نظرية — قلَّ أن تخطئ — وهي أن القوي الذي يعمل لتقوية الضعيف يسعى إلى الموت بقدمه؛ لأن ما يكون في يده من القوة لا يخفى منشأه عن خصيصه، فيكون ذلك الخصيص أعلم بمضرته، وهيهات أن يرضى حديث العهد بالقوة بأن يعيش غيره قويًّا: