كيف تُحكم البلاد التي كانت قبل الفتح مستقلة؟
إذا افتتح فاتح بلادًا كانت قبل الفتح حرَّة سائرة على شرائع وسنن خاصة بها، فللتحكُّم فيها ثلاث طرق؛ الأولى: أن يخرب الفاتح البلاد المفتوحة، ثم يؤسس سلطنته على أنقاض السلطنة الغابرة. والثانية: أن يعيش الفاتح في البلاد المفتوحة. والثالثة: أن يمنح البلاد حريتها السياسية واستقلالها الداخلي شريطة أن يفرض عليها الجزية في كل عام، وهذا بعد أن يكون قد ترك في البلاد فئة تحافظ على سلطته في غيبته، ويكون عمل تلك الفئة النائبة أن تشرح لأهل البلاد المفتوحة حاجتهم إلى حماية الفاتح وتعضيده، وتُدخل عليهم أن ذلك لا يتم إلا بإخلاصهم له وتعلقهم به، وقد دل الاختبار على أن تلك الوسيلة مع منح الحرية للبلاد التي كانت قبل الفتح حرة هي أضمن الوسائل للاحتفاظ بها لتعوُّد أهلها الحرية.
ولنضرب لتلك الطرق الثلاث أمثالًا، فنقول: إن أهل «إسبرطة» استولوا على «أثينا» و«ثيبة» وملكوهما باللين، ومنح الحرية وتوثيق عرى المودة بين الغالب والمغلوب. وكذلك استولت «رومة» على «قرطاجنة» و«كابوا» و«نومانتبا» بعد أن أهلكتها جميعًا، ثم حاول الرومان الاستيلاء على بلاد الإغريق كما استولت عليها إسبرطة بأن يمنحوها الحرية ويصافوها، فلم يتوفر لهم النجاح فأهلكوا كثيرًا من مدن اليونان، على أنهم لم يُقدموا على سياسة التدمير حتى رأوا أنها خير سياسة تتبع، بَيْدَ أنَّ الأساس المتين في حكم البلاد الحرة بعد فتحها هو تخريبها وتدميرها، فإن لم يهلكها الفاتح أهلكته؛ لأن مثل تلك البلاد إذا سالمت الفاتح أمدًا تفتأ تذكر الحرية، فتشعل الذكرى في قلوب أهليها نيران الغيظ والفتنة، ولا تهدأ تلك النيران ما دام تاريخ الآباء والأجداد لا يزال محفوظًا في قلوب الأولاد والأحفاد؛ لأنه لا يمحو اسم الحرية شيء، فلا منح المانح ولا كر الدهور يمحوان اسمها من قلوب نشأت عليها وتعودتها، ولنضرب مثل «بيزا» التي طال عليها أمد الذل في عهد حكومة «فرنسا»، فإنها كانت أبدًا تطالب بالحرية وتحاج أهل «فلورنسا» بأنهم سلبوها أعظم نعمة.
أما إذا كانت البلاد متعودة حكم أسرة مالكة، فهلاك تلك الأسرة يسهل على الفاتح امتلاك البلاد؛ لأنها مفطورة على الطاعة، ولأنها تبحث عن أمير لها بعد هلاك الأسرة المالكة فلا تجد، ويصعب عليها أن تختار أميرًا من الشعب لما يكون عادة بين الأفراد من التنافس، ولذلك لا تقوى الولاية على أن تعيش حرة مستقلة، وبهذا تضعف عن حمل السلاح، فيتمكن أي أمير حاذق من الاستيلاء عليها، هذا إذا كانت حكومة البلاد ملكية، أما إذا كانت جمهورية فتخريبها خير وسيلة لامتلاكها؛ لأنها لن تنسى حريتها القديمة، ولا يطفئ ذل الأسر من نفوس أهلها جذوة الحرية.