في الولايات التي امتُلِكت بقوة الأمير وجيوشه
لا يُدهش القارئ استشهادي أثناء الكلام على الولايات الحديثة الامتلاك بالنسبة للحكومة والأمير بأمثال عالية؛ لأنني رأيت أن البشر يسيرون في خطوات أسلافهم، وأبناء اليوم يقتفون آثار أبناء الأمس ويقلدون أعمالهم، ولمَّا كان النسج على منوال الماضين بالدقة والكمال نادرًا، كما أن بلوغ شأوهم يكاد يكون مستحيلًا، فينبغي للحكيم الحذِر أن يتشبه بعظماء الرجال وأن يقلد أجلَّهم قدرًا وأرفعهم ذكرًا، فإذا لم يلمس بكفه الفرقدين فإنه على أية حال ينال من المجد نصيبًا يدنيه من درجاتهم، فيكون مثله كمثل الرماة الحاذقين، إذا أراد أحدهم أن يصيب غرضًا بعيدًا جدًّا — وهو عالم بقدر ما تصل إليه سهامه — شد قوسه بقوة، وصوَّب سهمه إلى غاية أقصى من الغاية التي يريدها، لا ليصيب هدفًا أبعد من الهدف الذي يرميه، إنما ليتمكن من إصابة الغرض الأصلي.
أقول: إن امتلاك الولايات الجديدة يتوقف على كفاية الأمير الجديد وحذقه، وكما أن بلوغ أحد الأفراد مركز الإمارة يستدعي أحد شيئين: إما قدرة عظيمة، وإما حظًّا وافرًا. كذلك الأمر في امتلاك الولايات الجديدة، فإن كفاية الأمير أو حسن حظه أو كليهما يسهلان كثيرًا من المصاعب، ويزيلان معظم العقبات، بَيْدَ أنَّ الذين يُعْوِزهم الحظ الوافر يكونون في معظم الأحوال أكثر توفيقًا ممن حبتهم الكواكب بحسن الطالع؛ لأنهم أبدًا يخشون العواقب، ويحسبون لكل حركة وسكنة حسابها، كذلك إقامة الأمير في الولاية الجديدة يخفف عنه أعباء المتاعب الأولى.
وإني أحسب أن أعظم مَن وصلوا إلى مرتبة الإمارة بجدهم واعتمادهم على أنفسهم فكانوا جديرين بها هم: «موسى النبي» و«قورش» و«روميلس» و«طيصص» وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم، وإن كان لا يليق بنا في هذا المقام أن نذكر موسى بين الأمراء؛ لأنه لم يكن إلا رسول الله وخليفته في إنجاز ما أراده سبحانه، إلا أنني لا أستطيع إلا الإعجاب به؛ لما تحلى به من الصفات الجميلة التي قربته من الله، وجعلته كليمه وترجمانه، وكذلك قورش وأمثاله ممن ملكوا الولايات وأسسوا الممالك، يستحقون الإعجاب والثناء، وإذا فحصنا أعمالهم الخاصة وفحصنا ضروب سياستهم لا نرى أنهم يختلفون كثيرًا عن موسى، وإن يكن أستاذه ومرشده هو الله جلت قدرته.
إذا رجعنا إلى حوادث هؤلاء الأمراء الفخام رأينا أنهم غير مدينين بعظمتهم لحسن الحظ، إنما الذي خدمهم هو بعض الفرص التي سنحت ومنحتهم مادة يشكلونها في أحسن تقويم يريدون، فإن لم تسنح لهم تلك الفرص لذهبت قواهم هباء، ولولا قواهم وكفايتهم لولَّت تلك الفرص أدراج الرياح، كان من الضروري لفوز «موسى» أن يجد بني إسرائيل أذلَّاء في «مصر» مضطهدين من أهل وادي النيل، ليكونوا أطوع إليه من بنانه إذا قادهم للهجرة من مكان يقيمون فيه على الضيم والهوان، كذلك كان من الضروري أن لا يبقى «روميلس» في «ألبا» وأن يُلقى به يوم ميلاده في مكان مهجور لينهض في المستقبل وليقوم بتأسيس «رومة» وخلقها، وكان كذلك من الضروري أن يأتي «قورش» في وقت كان الفرس فيه متذمرين من دولة «ميديس» وأن يكون «ميديس» قد فقد صفات الفروسية، ونسي فنون الحرب، وخلع رداء الرجولية من طول سيادة السلم في ملكه، كذلك لم يكن «لطيصص» أن يظهر كفايته واقتداره إذا هو لم ينتفع بالتفريق الذي كان سائدًا في «أثينا».
مما تقدم نرى أن الفرص هي التي سهلت الطريق لهؤلاء الرجال، وأن صفاتهم العظيمة مكنتهم من الانتفاع بتلك الفرص ليمجدوا أوطانهم وليزيدوها عزًّا وقوة، وأمثال هؤلاء الذين ينالون الملك بالقوة يجدون في أول الأمر مصاعب جمة، ولكنهم لا يلقون أقل عقبة في الامتلاك التام إذا استتب لهم الأمر، ومعظم العقبات التي تعرض لهم تنشأ عن القواعد والنظامات الجديدة التي يدخلونها على الولايات الحديثة والتي يقتضيها بسط النفوذ.
وغني عن البيان أنه ليس في سياسة الأمم شيء أصعب تنفيذًا ولا أخطر عاقبة من تبديل الشئون القديمة بغيرها؛ لأن للمصلح أعداء في أشخاص المنتفعين بالنظام القديم وهم كثيرون، وبعض أنصار ضعاف مترددين، وهذا الضعف في المناصرة ناشئ عن خوفهم من أعدائهم الذين يرون في القوانين القديمة قبل تبديلها أعظم معضد وأقوى نصير أولًا، وناشئ من ارتيابهم في نتيجة الإصلاح ثانيًا، والارتياب من غرائز الإنسان الذي لا يستطيع الاعتقاد بصحة شيء من الأشياء إلا إذا رأى نتيجته بعينه ولمسها بيده؛ ولذا يقاوم المصلح أعداءه بقوة الخصوم الأشداء، ويناصره أصحابه بقلوب فيها مرض وعزم فاتر، وويل لمن كانت تلك حاله بين خاذليه وأنصاره.
لا بد لفحص هذه المسألة من الوقوف على حقيقة مهمة، وهي: هل هؤلاء المصلحون مستقلون، واثقون من أنفسهم، معولون عليها، أم هم معتمدون على سواهم في تنفيذ مآربهم، محتاجون إلى التمليق والمداهنة، ضعيفو الجانب، عاجزون عن تنفيذ الأغراض بالقوة؟ فإن كانوا كما وصفت أولًا، أي مستقلين واثقين من أنفسهم معولين عليها، فإن فشلهم نادر الوقوع جدًّا، وإن كانوا كما وصفت ثانيًا، معتمدين على سواهم في تنفيذ مآربهم، محتاجين إلى التمليق والمداهنة، عاجزين عن تنفيذ الأغراض بالقوة، فإن النصر والفوز يكونان نادري الحدوث.
لذلك نرى سائر الأنبياء الذين أرسلوا، وأرشدتهم العناية إلى الاستعانة بالحرب والقوة فازوا في تبليغ رسالتهم، وأن سواهم ممن اكتفوا بالوسائل السلمية قد فشلوا؛ وهذا؛ لأن أخلاق الشعوب قليلة الثبات على حال واحدة، وإذا أمكن إغراء طائفة وإقناعها برأي جديد فإنه يكاد يستحيل ضمان ثباتها عليه، فمن الضروري — والحال هذه — أن يستعد النبي للطوارئ، فإن آمن القوم واعتقدوا باللين والمحاسنة فحبًّا وكرامة، وإلا فهو يرغمهم على الاعتقاد والإيمان بحد السيف ورأس الرمح، ولم يكن «موسى» و«قورش» و«طيصص» و«روميلس»؛ ليتمكنوا من تثبيت دعائم النظامات التي أسسوها أمدًا طويلًا لو كانوا عزلًا من السلاح، كما حدث في عهدنا «لجيرولامو سافونارولا» الذي فشل في عمله، وعجز عن تشييد أركان مذهبه عندما بدأ الغوغاء ينفضُّون من حوله؛ وذلك؛ لأنه لم يكن له من الوسائل ما يستطيع به استبقاء من لا يزالون يعتقدون فيه، وإرغام الجاحدين على الإيمان به؛ لأجل هذا أقول: إن أمثال هؤلاء الرجال يجدون صعوبات عظيمة جدًّا في الوصول إلى غايتهم، وينبغي لهم أن يتغلبوا على كل ما يعترضهم أثناء الطريق بكفاءتهم وقدرتهم، فإذا استطاعوا المقاومة وتغلبوا على تلك العقبات، وبدأ الناس يقدرونهم قدرهم ويبجلونهم، وإذا استطاعوا أيضًا أن يخفتوا أصوات حاسديهم، فإنهم يعيشون أقوياء مؤيدين محترمين سعداء.
وسأضيف إلى الأمثال العالية التي ضربتها مثلًا أقل منها درجة، ولكنه من نوعها، وهو مثل «جيرون السرقسطي» الذي صار ملكًا بعد أن كان من أفراد الرعية، ولم يعضده في الوصول إلى هذا الشأو إلا الفرص وصفاته الكاملة؛ فإن أهل «سرقسطة» الذين كانوا مظلومين مضامين مضطهدين انتخبوه رئيسًا لهم، ثم صار أميرًا عليهم؛ لأنه كان بالإمارة جديرًا، فقد كُتب عنه — وهو لا يزال خاملًا — أن فضائله ترفعه إلى مراتب الملوك، وأنه لا ينقصه إلا صولجان وعرش، فلما أن استوى على أريكة الإمارة فرق شمل الجيش القديم، وحشد جندًا سواه، وتخلى عن أصحابه القدماء، واختار أصدقاء جددًا، وبعد أن أسس هذا الأساس المتين وهو حشد جيش جديد وتأليف صداقات حديثة، أخذ يشيد بثبات وقوة، فتعب في بداية الأمر كثيرًا، ولكنه لم يلقَ في الإبقاء على ما حصل عليه أقل صعوبة.