في الولايات الجديدة التي يكون الفضل في امتلاكها لحسن الحظ أو تعضيد الغير
إن الذين يرتقون من عامة الشعب إلى درجة الملك والإمارة بفضل حسن الطالع لا يجدون أقل صعوبة في الارتقاء، ولكنهم يجدون أعظم المصاعب في الاحتفاظ بما وصلوا إليه، إنهم لا يلقون العقبات؛ لأنهم يطيرون ولا تلمس أقدامهم وجه الأرض، ولكن تلك العقبات تفاجئهم إذا استقروا واستتبوا، ونزع الجد عنهم جناحه الذي أعارهم إياه، ومثل هؤلاء من يحصلون على الملك شراء بالمال أو هبة ممن يهب الممالك كما وقع لكثيرين في إغريقيا «بلاد اليونان» في مدن «إيونيا» وجزر «هيلسبونتا» فقد حبى «دارا» عددًا من الرجال بالإمارة ليمجدوه ويرفعوا ذكره، وكذلك جماعة الإمبراطرة الذين ارتفعوا من الشعب إلى عروش القياصرة بمداهنة الجيوش وإفسادها.
وهؤلاء يعتمدون في حياتهم الجديدة على إرادة من رفعوهم، ويعلقون حظوظهم بحظوظهم، وإرادة الرجال وحظوظهم كثيرة التقلب ولا ثبات لها، وأمثال هؤلاء لا يعرفون كيف يحتفظون بمراكزهم، والأحوال المحيطة بهم لا تسمح لهم بذلك؛ لأن الرجل إن لم يكن عبقريًّا لا يستطيع أن يأمر إذا كان قد قضى شطرًا من حياته خاملًا، ثم إذا حاول تنفيذ أمره عجز عن ذلك؛ لأنه ليس لديه قوة يرغم بها من يخالفه، وأضف إلى ذلك أن الممالك السريعة التأسيس يكون مثلها كمثل الموجودات التي تولد وتنمو بسرعة، فلا يكون مثلها إلا كبعض النبات ليس له جذور قوية، وظاهره يبهر الناظرين، ولكن حياته لا تطول فتهلكه العاصفة الأولى.
أما إذا كان الرجل الذي بلغ مرتبة الإمارة ذا كفاية ومهارة تمكنانه من النهوض، وإفراغ الجهد في الاستيلاء على ما منحه الحظ، ثم يأخذ بعد ذلك في وضع الأساسات التي يشيدها سواه قبل أن يصل إلى درجة الملك، فإن عمله يختم بالفوز.
وسأضرب الآن للقارئ مَثَلي رجلين، بلغ أحدهما المُلك بقدرته وذكائه، وهو «فرنسيسكو سفورزا» وبلغه الثاني بفضل حسن طالعه، وهو «قيصر بورجيا» فأقول: صار «فرنسيسكو» بحذقه وبالوسائل السياسية الحكيمة دوق «ميلانو» وما حصل عليه بعد مقاساة الأهوال الشداد احتفظ به بكل سهولة، أما «قيصر بورجيا» المعروف باسم دوق «فالنتين» فقد وصل إلى الملك بفضل حسن طالع أبيه، وفقده بهذا السبب عينه رغم كل المساعي التي يبذلها رجل حكيم حذر مثله ليحفظ ما ورثه من سلفه، وقد قلت آنفًا إن من لا يضع الأساس في أول الأمر يمكنه أن يضعه بعد الوصول إذا كان ذا اقتدار نادر وعظمة حقيقية، مع ما في ذلك من التعب الذي لا يطاق لمن يشيد، والخطر الذي يتهدد البناء كله، فإذا تأمل الإنسان فيما وصل إليه الدوق رأى أن متانة الأساس وقوته خدمتاه وسهلتا عليه التشييد، ولو أنه فشل في مساعيه فإن اللوم في ذلك لا يعود عليه، إنما على سوء الطالع الذي رزأه ونكبه بما سبب خيبته، وقد لقي «إسكندر» السادس في تكبير شأن ابنه صعوبات كثيرة تعوقه عن الوصول إلى غرضه في الحاضر، وتعترض سبيله في المستقبل، فإنه رأى استحالة رفعه إلى عرش مملكة غير خاضعة للكنيسة، وأنه إذا حاول الاستيلاء على بعض أملاك الكنيسة سيمانعه دوق «ميلانو» وأهل «فينيسيا» لأن «فاينزا» أو «ريميني» كلتيهما كانتا تحت حماية «البندقية».
ثم رأى أيضًا أن عدد «إيطاليا» وجنودها لا سيما الجنود والعِدد التي كان يرجو أن تخدمه كانت كلها في أيدي جماعة يخشون نمو عظمة «البابا» ولأجل هذا لم يكن ليعوِّل عليهم؛ لأنهم كانوا جميعًا تحت سيطرة آل «أورسيني» و«كولوناس» وأتباعهما، فكان من الضروري — والحالة هذه — لأجل الاستيلاء على بعض ولايات «إيطاليا» إحداث قلاقل كبرى وتغيير نظام الحكومات الإيطالية، وكان هذا من السهل عليه؛ لأنه رأى أن أهل «البندقية» قد استقدموا ملك «فرنسا» وجنوده إلى «إيطاليا» وأنه لم يعارض ذلك الاستقدام بل عضَّده، بأن سهل تطليق «لويس» زوجته، فكأن الملك «لويس» ورد «إيطاليا» بعد دعوة أهل «البندقية» ورضى «إسكندر» ولم يكد يصل «ميلانو» حتى طلب «البابا» منه جنودًا لمحاربة «رومانيا» وقد تم للبابا الفوز في تلك الحرب؛ لأنه كان مستندًا على شهرة الملك وَصِيتِهِ، فلما أن استولى دوج البندقية على رومانيا وهزم الكولوناس، عاقه أمران عن الاحتفاظ بها والاستمرار في فتوحه؛ الأول: جنده، فإنه بدأ يسيء الظن بأمانتهم وإخلاصهم. والثاني: إرادة «فرنسا» فإنه خشي أن يتخلى عنه آل «أورسيني» ويستردوا عددهم وأسلحتهم التي كان يحارب بها، فتكون عاقبة ذلك التخلي عن الاستمرار في الحرب واغتصاب ما افتتحه. وخشي أيضًا أن الملك نفسه قد يفعل به ذلك، وقد كان متحققًا من هذه النتيجة من وجهة آل أورسيني لأنه لحظ منهم ترددًا وانكماشًا أثناء هجومه على «بولونيا» بعد أخذه «فاينزا» أما من وجهة الملك «لويس» فقد فطن الدوق إلى سوء مقاصده بعد أن استولى على دوقية «أوربينو» وحاول مهاجمة «توسكانيا» فأوقفه الملك عند حده، وعاقه عن إنجاز هذا المشروع، فعلم الدوق لساعته أنه من العبث أن يعتمد الفاتح على عَدد غيره وعُدده، وأن المحارب ينبغي له قبل كل شيء أن يكون مالك سلاحه.
وكان أول عمل له إضعاف أحزاب آل «أورسيني» و«الكولوناس» في «رومة» بأن قرَّب إليه أتباعهم وأنصارهم، وحباهم بالتحف والهدايا، ورتب لهم الأرزاق الواسعة، ووضع كلًّا منهم في مركز يليق به، وبذلك قطع ما كان بينهم وبين رؤسائهم الأُول في بضعة أشهر، ووطد بينه وبينهم علائق المودة والإخلاص، ولما سنحت له الفرصة انتفع بها تمام الانتفاع، وبيان ذلك أن آل أورسيني لما شاهدوا عظمة الدوق وفلاحه وتقدم الكنيسة وقوتها، علموا أن نكبتهم وخرابهم في استمرار الحال على تلك المنوال، فطلبوا عقد مؤتمر بمدينة «ماجيونا ببرجينو» فنشأ من ذلك ثورة «أربينو» وقلاقل رومانيا، ولا يخفى ما في تلك الاضطرابات من المشاكل المهددة لمركز الدوق الذي أسرع في العمل لإطفاء شعلتها قبل أن يحمى وطيسها، وقد استعان في ذلك بفرنسا، فلما عادت إليه قوته وبطشه اعتمد على السياسة والدهاء ليبتعد عن الانتصار بالأجنبي، وقد أحسن الدوق السياسة وصوب سهام الدهاء تصويبًا مكنها في نحور أعدائه، فاضطر آل أورسيني إلى مصالحته ومسالمته على يد السنيور «باولو» ففرح الدوق لذلك الصلح؛ لما كان يرجوه من ورائه، وأتحف آل أورسيني بالحلي الثمينة والحلل المطرزة والخيل المطهمة والأقدار الطائلة من الذهب والمعادن النفيسة، فبهرتهم تلك الهدايا لبساطتهم، فقدموا عليه في «ستيجاجليا» ووقعوا في يده، فلما أن تمكنوا منهم كان كأنه حظي بما في الدنيا بأجمعها فأهلكهم، وكان قد قرب أنصارهم إليه كما تقدم، وبذلك وضع لقوته أساسًا متينًا بعد أن حصل على «رومانيا» وامتلك دوقية «أوربينو» ثم حصل على إخلاص السكان ومودتهم؛ لأنهم شعروا بحكومته الطيبة، وذاقوا حسنات عهده، وحيث إن هذا الجزء من سياسة الدوق مهم جدًّا وجدير بالذكر، وخليق بأن تتبع في مثله خطة الدوق، فسأتكلم عنه بالتفصيل فأقول: إنه لما امتلك «الرومانيا» كان يحكمها أمراء ضعاف همهم الإثراء لا حكم الرعية، فنشأت الخصومات في الولاية وساد الشقاق والانقسام بديلًا من الأمن والوئام والألفة، وأصبح السكان معرضين للجرائم والسرقات، ووجدت الأحقاد القديمة مجالًا للظهور، وخلا الجو للعداوات، فتحكمت الفوضى واسْوَدَّ وجه الحق، فرأى الدوق أن ينظم الحكومة قبل كل شيء لتأمن الرعية جانب المظالم، ولتشعر بلذة الاطمئنان، فتُسلِمه قيادها وتنصاع إليه، فعين مستر «ريمرو دوركو» واليًا على الرومانيا، وكان هذا الرجل قاسيًا مقتدرًا، ثم أطلق يده وحباه الحرية المطلقة، فأصلح دوركو في الولاية ما أفسده العهد القديم، وغرس بجوانبها بذور الأمن والاتحاد في عهد قصير، فرأى الدوق أن القسوة والسلطة المطلقة تؤذيان إذا طال عهدهما، وخشي أن تنعكس الآية وتنقلب غايته من استعمال الحاكم الشديد البطش، فدوَّن محكمة مدنية في عاصمة الولاية وعين لها رئيسًا فاضلًا، وأباح لكل بلد أن يرسل بمحامٍ ينوب عنه، وكان يعلم الدوق أن للقسوة السالفة أثرًا في النفوس، وأراد أن يزيله ليمتلكها، فأعلم القوي أنه بريء مما يقع من الشدة وإنَّ عامِله «دوركو» هو المسئول وحده عن ذلك لما عُرف عنه من الحدة والشراسة، ثم أراد الدوق أن يخلص من دوركو فاتهمه وسجنه، ثم ساقه إلى ميدان «سزنا» وأمر بشق بدنه شقين وطعنه بخنجر، فذعر السكان من فظاعة هذه القتلة، وفرحوا لخلاصهم من قسوة الحاكم الظالم.
ولما أن شعر الدوق بقوته وأمن الأخطار التي كانت محدقة به، لا سيما بعد أن ضعف جيرانه، وكان يخشى جانبهم، رأى أنه لا يستطيع الاستمرار في امتلاك البلاد إلا إذا اكتسب احترام فرنسا، ولم يعوِّل على تعضيد ملكها؛ لأنه علم أن ملك فرنسا فطن إلى خطئه السابق في تعضيده، وصحت عزيمته على الضن بمواصلته ومناصرته، فلم يرَ الدوق أمامه إلا الانضمام إلى «فرنسا» في محاربة مملكة نابولي ضد الإسبان الذين كانوا يحاصرون «جايتا» وكانت غايته مع الاتفاق مع «فرنسا» أن يأمن جانب الإسبان، وكان يكون هذا من السهل لو عاش البابا إسكندر، هذا كان مشروعه فيما يتعلق بالحاضر، أما ما كان يتعلق بالمستقبل فإن الدوق كان يخشى بعد موت إسكندر انقلاب خليفته عليه فيسلبه ما منحه البابا السابق، لذا اتخذ لاتقاء هذا الخطر أربع وسائل؛ الأولى: إهلاكه سائر فروع الأسر المالكة التي اغتال عروشها ليسد الباب في وجه البابا إذا أراد ترشيح أحدها إلى عرش آبائه. الثانية: اكتساب مودة نبلاء «رومة» ليتمكن بصداقتهم من إرهاب البابا. الثالثة: حصوله على ما استطاع من النفوذ على القسيسين. الرابعة: الوصول في حياة البابا والده إلى درجة من البطش تمكنه من مقابلة الصدمة الأولى بمفرده ومقاومتها جهده. وقد أتم ثلاث وسائل من تلك الأربع قبل موت البابا، وأوشك أن يتم الرابعة؛ لأنه قضى على من طالته يده من الأمراء المخلوعة، وقليل منهم فرَّ من يده، واكتسب رضى أشراف الرومان، وكان له في الكلية الدينية نفوذ عظيم، أما عن الأملاك الجديدة فإنه رسم لذاته أن يسود «توسكانا» وكان منذ حين يملك «بروجيا» و«بيومبينو» وكانت بيزا في حماه، ولما كان لا يخشى شيئًا من جانب الفرنسيس مذ أفقدهم الإسبان ملك نابولي، وكان الإسبان يخشون جانبه، فقد أمن جانب الفريقين واستولى على بيزا.
وبعد ذلك سلمته «لوكا» و«سينا» قيادهما طوعًا، إما حسدًا لفلورنسا وإما خوفًا، ولكن فلورنسا كانت ضعيفة الحول والطول، فلو وُفِّق الدوق في هذا العام إلى مثل ما وفق إليه في العام السالف الذي قضى فيه «الإسكندر» لكسب من القوة والشهرة والنفوذ ما يغنيه عن الاعتماد على قوة سواه، ولكن «الإسكندر» مات لخمس سنين خلت منذ جرد ابنه الحسام، ولم يترك له سوى ولاية «رومانيا» وطيدة الأركان، وما عداها معلقًا في الهواء بين جيشين عدوين قويين، وخلَّفه مريضًا بداء قاتل، ولكن الدوق كان مقدامًا مقتدرًا، وكان خبيرًا بقلوب الرجال، يعلم كيف يكسبهم وكيف يقهرهم، كذلك كان الأساس الذي وضعه في زمن قصير قويًّا متينًا، فلو لم يكن حياله الجيشان اللذان ذكرت أو لم يكن يشكو داء قاتلًا لتغلب على كل ما كان يعترضه من العقبات.
أما الدليل على ثبات ما وضع من الأساسات فانتظار رومانيا إياه أكثر من شهر، كذلك لما كان في رومة بين حي وميت كان مركزه وطيدًا رغم قدوم «فيلي» و«أورسيني» اللذين لم يجدا له في البلد عدوًّا، على أنه كان لا يستطيع أن يرفع من شاء إلى مقام البابوية، ولكنه كان يستطيع أن يبعد عن ذلك المقام من لم يشأ أن يشغله، فلو كان لدى موت الإسكندر متمتعًا بصحته لسهل أمامه كل صعب، وقد قال لي يوم تولى البابا «يوليوس الثاني» إنه فكر في كل ما عساه يحدث عند موت أبيه، وأنه وجد لكل مشكلة حلًّا سوى مشكلة واحدة غابت عن ذهنه، وهي أنه سيكون ذاته لدى موت الإسكندر على وشك الموت.
وقد أشرت فيما مضى إلى أن أعمال الدوق ينبغي أن تكون نبراسًا لمن يصلون إلى الملك بالحظ أو بالاعتماد على قوة الغير؛ لأن الدوق كان ذا نفس كبيرة ومقصد سامٍ، ولم يكن يستطيع أن يسلك في الحكم سبيلًا سوى الذي سلك، ولم يتعرض خطته التي رسمها لنفسه سوى قِصر حياة الإسكندر واعتلال صحته، فمن يريد في مُلك جديد أن يتقي الأعادي ويكسب مودة الأصدقاء، ويقهر بالقوة أو الخديعة، ويحبب نفسه للشعب، ويلقي في فؤاد الناس رهبة، ويطيعه الجند ويتبعه، وأن يهلك من يستطيعون إيذاءه، وأن يدخل الإصلاح في العادات والرسوم القديمة، وأن يكون قويًّا تارة وشفيقًا طورًا، وأن يكون عظيمًا وكريمًا، قديرًا على فناء جيش قديم وخلق جيش جديد، وأن يحافظ على ودِّ الملوك والأمراء بحيث يفرحهم أن ينفعوه ويخيفهم أن يؤذوه، من يريد ذلك كله فعليه أن يتبع أعمال الدوق ويقلده.
بَيْدَ أنَّ الدوق اقترف خطأ في رفع يوليوس الثاني إلى عرش البابوية، وعذْره في ذلك أنه لم يكن يستطيع إذ ذاك أن يعين من يريد رفعه إلى مقام البابوية، فلم يكن يخلُق به أن يرفع واحدًا من الكرادلة الذين أساء إليهم أو الذين استولى رعبه على قلوبهم؛ لأن الرجال تؤذي الرجال إما رعبًا وإما بغضًا، وكان ممن ناله أذاه «سان بطرس أدفينكولا وكولونا سان جيورجيو وأسكانيو» أما من عداهم فكانوا ممن يرهبونه عدا «روهان» والكرادلة الإسبانيين؛ لأن روهان كان من أقرباء ملك فرنسا، وكان ذا بطش، ولأن كرادلة الإسبان كان بينهم وبينه روابط نسب وقربى، لأجل هذا كان ينبغي للدوق أن يسعى في تعيين البابا من الإسبانيين أو أن يرضى «بروهان» بابا لا أن يرفع إلى البابوية «سان بطرس أدفينكولا» ومَن يحسب أن الإحسان الحديث يمحو أثر الإساءة السالفة من نفوس العظماء فقد أخطأ، وقد كان هذا الخطأ سببًا في هلاك الدوق.