مقدمة
لم تبدأ الدراسة العلمية للمجرَّات إلا منذ فترة قريبة، في عشرينيات القرن العشرين، حين تأكَّدَ للمرة الأولى أن بقع الضوء الغائمة المبهمة العديدة التي تُرَى من خلال التليسكوبات هي جزر في الفضاء تتألَّف من أعداد ضخمة من النجوم، بعيدة للغاية عن حدود مجرتنا؛ مجرَّة درب التبانة. فمن دون التليسكوبات لم نكن لنتمكَّن مطلقًا من استكشاف الكون فيما وراء مجرَّة درب التبانة أو البحث في طبيعة المجرَّات، مع أن التليسكوبات احتاجت نحو أربعمائة عام كي تتطور إلى النقطة التي تصير معها الطبيعةُ الحقيقية للمجرَّات واضحةً.
وعلى حد علمنا، فإن أول مَن استخدم تليسكوبًا للنظر إلى سماء الليل كان ليونارد ديجز، وهو رياضي ومسَّاح تلقَّى تعليمه في أكسفورد، وكان أول مَن اخترع المِزواة في حدود عام ١٥٥١. وقد أبقى ليونارد ديجز على استخدامه للتليسكوب (الذي كان بالأساس مِزواةً موجَّهَةً صوب السماء) طيَّ الكتمان؛ وذلك بسبب القيمة التي كانت المزواة تمثِّلها لعمله، لكنه ألَّفَ واحدًا من أوائل الكتب الرائجة بالإنجليزية عمَّا يُسمَّى الآن العلم، وقد تضمَّنَ الكتاب وصفًا للنموذج الكوني البطلمي الذي فيه تكون الأرضُ مركزَ الكون. توفي ليونارد عام ١٥٥٩، لكن ابنه توماس ديجز تابَع السير على خطاه، وقد صار توماس — المولود في أربعينيات القرن السادس عشر — رياضيًّا، وفي عام ١٥٧١ رتَّب لنشر أحد الكتب التي كان والده قد ألَّفها، وفي هذا الكتاب ورَدَ أول وصف للتليسكوب في مادة مطبوعة. أجرى توماس ديجز هو الآخَر مشاهدات فلكية، وفي عام ١٥٧٦ نشر نسخة مزيدة منقَّحَة من كتاب والده الأول، تضمَّنَتْ أول توصيف مطبوع مكتوب بالإنجليزية للنموذج الكوني الكوبرنيكي، الذي فيه تكون الشمس هي مركز الكون.
في ذلك الكتاب، الذي يحمل عنوان «تكهُّنٌ أبدي»، قال ديجز الابن إن الكون غير محدود، وضمَّنَ رسمًا توضيحيًّا للشمس، تدور حولها الكواكب، في مركز منظومة من النجوم تمتد بلا نهاية في جميع الاتجاهات. وبما أننا نعرف أن ديجز كان يملك تليسكوبًا واحدًا على الأقل، فإن الاستنتاج الطبيعي الذي نخرج به من هذا هو أنه استخدم التليسكوب في النظر إلى حزمة الضوء المنتشرة عبر السماء والمعروفة باسم درب التبانة (الطريق اللبني)، واكتشف أنها تتألف من عددٍ لا يُحصَى من النجوم المنفردة.
قد تصيبنا قصة ليونارد وتوماس ديجز بالدهشة؛ لأن الشخص الذي يُنسَب له عادةً فضلُ صناعة واستخدام أول تليسكوب فلكي، وكذلك اكتشاف أن مجرَّة درب التبانة تتكون من نجوم؛ هو جاليليو جاليلي، وذلك في نهاية العقد الأول من القرن السابع عشر. لكن في الواقع، اختُرِع التليسكوب على يد أكثر من شخص بصورة مستقلة في شمال غرب أوروبا، ولم تصل أنباءُ هذا الاختراعِ إلى إيطاليا، آتيةً من هولندا، إلا في عام ١٦٠٩. وقد بنى جاليليو — معتمِدًا فقط على وصفٍ لهذه الأداة — تليسكوبًا خاصًّا به، وكان الأولَ ضمن تليسكوبات عدة، ثم وجَّهَه إلى السماء شأن غيره من المعدات الكثيرة الأخرى. وقد نُشِرت اكتشافاته في كتابٍ بعنوان «رسول السماء» عام ١٦١٠، وجعل هذا منه رجلًا شهيرًا، وهذا هو مصدر الخرافة المنتشرة القائلة بأن جاليليو أول فلكي يستخدم التليسكوب. إلا أن جاليليو — شأن توماس ديجز من قبله — لاحَظَ بالفعل أن مجرَّة درب التبانة تتألَّف من مجموعة كبيرة من النجوم.
كان توماس رايت — صانع أدواتٍ وفيلسوف إنجليزي عاش في القرن الثامن عشر — هو مَن أخذ الخطوة التالية على طريق فهم موضعنا في الكون، لكن إسهامات رايت — مثلما حدث مع ديجز — ذهبت طي النسيان تقريبًا. تشكِّل مجرَّة درب التبانة حزمةً من الضوء تمتد عبر سماء الليل، وفي كتاب رايت «نظرية أصيلة أو فرضية جديدة عن الكون» المنشور عام ١٧٥٠، اقترح أن درب التبانة تتكون من مجموعة من النجوم، شبَّهها بقرص المطحنة. بل الأكثر إثارةً للدهشة أنه أدرك أن الشمس ليست مركز هذه المجموعة الشبيهة بالقرص من النجوم، وإنما تقع في أحد أطرافها. بل إنه اقترح أن الكرات الغائمة من الضوء المرئي عبر التليسكوب، والمعروفة باسم السُّدُم بسبب شبهها بالسحب، قد تقع خارج درب التبانة، مع أنه لم يُقدِم على قفزة الخيال المطلوبة لاقتراح أن هذه السُّدم قد تكون منظومات نجمية أخرى شبيهة بدرب التبانة نفسها. وكان إيمانويل كانط، وهو عالم فيلسوف آخر، هو مَن التقط هذه الأفكار من رايت وأخذ الخطوة التالية، مقترحًا أن السدم قد تكون «جزرًا كونية» شبيهة بدرب التبانة. لكن لم تُؤخَذ هذه الفكرة بجدية.
مع تحسُّن التليسكوبات، اكتُشِف المزيد والمزيد من السُّدم وجرت فهرستها، ومن الأسباب التي دعت إلى الفهرسة الحريصة للسُّدم تلهُّفُ فلَكِيِّي أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر للعثور على المذنبات، ومن الوهلة الأولى تبدو بقعة الضوء الباهتة الخاصة بالسديم أشبه ببقعة الضوء الباهتة الخاصة بالمذنب؛ ومن ثَمَّ بدأ أشخاص على غرار شارل مسييه، في ثمانينيات القرن الثامن عشر، وويليام هيرشل — الذي أكمل فهرسًا للسدم عام ١٨٠٢ — في تحديد مواضع السدم لئلا يكون هناك أي خلط في الأمر. وقد ضمَّ فهرس هيرشل ٢٥٠٠ سديم، أغلبها نعرف اليوم أنها مجرَّات. وعلى مدار العشرين عامًا التالية حاول هيرشل معرفة مِمَّ تتكون هذه السدم، لكن حتى أكبر تليسكوباته — ذو المرآة البالغ قطرها ٤٨ بوصة (١٫٢ متر) — كان عاجزًا عن تبيُّن أن بقع الضوء الباهتة إنما هي نجوم. وقد مات هيرشل عام ١٨٢٢ مقتنعًا بأن السدم كانت في حقيقتها سحبًا رقيقة من المادة وموجودة داخل درب التبانة.
أخذ الخطوة الرصدية التالية ويليام بارسونز، الإيرل الثالث لروس، الذي بنى تليسكوبًا عملاقًا ذا مرآة قطرها ٧٢ بوصة (١٫٨ متر) في أربعينيات القرن التاسع عشر. وبهذا التليسكوب وجد بارسونز أن سُدمًا عدة لها بِنْية حلزونية؛ مثل النمط الذي تتخذه الكريمة عند تقليبها داخل قدحٍ من القهوة السوداء. وعلى مدار العقود التالية، تأكَّد أن بعض السدم هي سحب ساطعة من الغاز موجودة داخل مجرَّة درب التبانة، فيما تبيَّنَ أن البعض الآخَر مكوَّنٌ من مجموعات من النجوم، على نطاق أصغر كثيرًا من مظهر الطريق اللبني المرتبط بمجرَّة درب التبانة، لكن السُّدم الحلزونية لم تتوافق مع أيٍّ من التصنيفين. وقد يَسَّرَ تطور التصوير الفلكي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر دراسة السُّدم الحلزونية، لكن لم تكن الصور من الجودة بحيث تكشف عن طبيعتها الحقيقية.
وفي بداية القرن العشرين، اتفق أغلب الفلكيين على أن السُّدم الحلزونية كانت سحبًا دوَّارة من المادة تُحيط بنجم في طور التكوُّن؛ كالسحب التي يُعتقَد أن مجموعتنا الشمسية تكوَّنَتْ منها. لكن على مدار العقدين التاليين بدأت فكرة الجزر الكونية تكسب عددًا كافيًا من المؤيِّدين؛ مما حدا بالأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم إلى أن تستضيف مناظَرةً حول هذا الموضوع بين هارلو شابلي، الذي كان يعمل وقتها في مرصد ماونت ويلسون في كاليفورنيا، وكان يتحدث بصوت الأغلبية الرافضة لفكرة الجزر الكونية، وبين هيبر كيرتس، من مختبر ليك بكاليفورنيا، المؤيِّد لها. وقد صارت هذه المناظَرة — التي انعقدت في السادس والعشرين من أبريل عام ١٩٢٠ — تُعرَف لدى الفلكيين باسم «المناظَرة العظمى». ومع أنها لم تنجح في حسم القضية، فإنها مثَّلَتِ اللحظةَ التي بدأت فيها الدراسة العلمية الحديثة للمجرَّات.