التقدُّم في فهمنا للكون
إن السبب الرئيس وراء الانطلاقة التي شهدتها دراسة المجرَّات في عشرينيات القرن العشرين هو اختراع تليسكوبات أكبر وطرقٍ تصويرية محسَّنة، وهو ما مكَّنَ من الحصول على صور (وأطياف) أكثر تفصيلًا للأجرام البعيدة الخافتة. وقد لعب التصوير الطيفي دورًا محوريًّا في اكتشاف الإزاحات الحمراء في الضوء القادم من السُّدم الحلزونية، وكان التصوير الفوتوغرافي العادي نفسه عنصرًا جوهريًّا في اكتشاف العلاقة بين دورة النجوم القيفاوية وسطوعها. وفي عام ١٩١٨، بدأ تليسكوبٌ ذو مرآة يبلغ قطرها مائة بوصة (٢٫٥ متر) العمل في مرصد ماونت ويلسون في كاليفورنيا، وظل أقوى تليسكوب على مستوى العالم لنحو ثلاثة عقود، وقد استخدمه إدوين هابل في قياس المسافات إلى المجرَّات في سلسلة من الخطوات عبر أنحاء الكون.
حصل هابل على أولى خبراته باعتباره باحثًا فلكيًّا خلال فترة تحضيره لدرجة الدكتوراه في مرصد يركيز (التابع لجامعة شيكاجو) بين عامَيْ ١٩١٤ و١٩١٧، وقد كان مشروعه البحثي هو الحصول على صور فوتوغرافية للسُّدم الخافتة باستخدام تليسكوب كاسر قطره ٤٠ بوصة (متر واحد). كان هذا أحد أعظم التليسكوبات في العالم في ذلك الوقت، وأكبر تليسكوبٍ كاسرٍ بُنِي على الإطلاق. وعمومًا، التليسكوب الكاسر الذي يستخدم عدسةً يكون أقوى من أي تليسكوب عاكس من نفس الحجم يستخدم مرآة، لكن من الممكن صنع تليسكوبات عاكسة أكبر حجمًا؛ لأن مراياها يمكن دعمها من الخلف دون أن يعيق ذلك أيَّ ضوء. وقد قاد هذا البرنامج الرصدي هابل إلى دراسة طبيعة السُّدم، وإلى تصنيف السُّدم بناءً على مظهرها، كما أقنعه هذا البرنامج بحلول عام ١٩١٧ بأن السُّدم الحلزونية العملاقة تحديدًا، من المؤكد أنها تقع خارج مجرَّة درب التبانة.
تأخَّر تطوير هذه الأفكار؛ لأنه ما إن أتم هابل رسالة الدكتوراه الخاصة به حتى تطوَّع للخدمة في الجيش الأمريكي، وذلك في أعقاب دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى في أبريل عام ١٩١٧. وقد خدم هابل في فرنسا ووصل إلى رتبة رائد في الجيش؛ بَيْدَ أنه لم يشارك في أي معركة. وفي سبتمبر ١٩١٩ انضم هابل أخيرًا إلى طاقم العاملين بمرصد ماونت ويلسون، حيث كان أحد أوائل مَن استخدموا التليسكوب الجديد البالغ قطر مرآته ١٠٠ بوصة. أيضًا استغلَّ هابل الفرصة كي يطوِّر الأفكار المأخوذة من أطروحة رسالة الدكتوراه الخاصة به إلى نظام تصنيف كامل انتهى منه عام ١٩٢٣. كان هابل يستخدم عادة مصطلح «السُّدم» للإشارة إلى الأجرام التي كان يصفها؛ بَيْدَ أنه كان مقتنعًا أنها تقع خارج مجرَّة درب التبانة، وهو المعتقَد الذي أثبت صحته بعد وقت قصير، وتماشيًا مع التسمية الحديثة، سأطلق على هذه الأجرام اسم «المجرَّات». وأهم ما تكشَّفَ لنا من خلال أعمال هابل الأولى هو أن هناك في واقع الأمر أنواعًا مختلفة من المجرَّات، وما المجرَّات الحلزونية العملاقة إلا أكثر هذه المجرَّات وضوحًا للعيان.
وباستثناء العدد الصغير نسبيًّا من المجرَّات الصغيرة الحجم نسبيًّا ذات الشكل غير المنتظم على غرار سحابة ماجلان الصغرى (وشقيقتها الأكبر منها «سحابة ماجلان الكبرى»)، فإن المجرَّات جميعها يمكن تعريفها وفقًا لأشكالها. يُستخدَم مصطلح «المجرَّة البيضاوية» لوصف المجرَّات التي تتراوح بين الشكل الكروي وشكل العدسة المستطيلة، لكن ليس لها بنية داخلية واضحة. أما «المجرَّات الحلزونية» فقد تكون أذرعها مضمومة أو مفتوحة، وفي كلتا الحالتين قد تبدأ الأذرع من مركز المجرَّة، أو تبدو الأذرع كأنها متصلة بطرفَيْ قضيب من النجوم يمتد عبر مركز المجرَّة. ظنَّ هابل أن هناك تتابعًا تطوريًّا تبدأ فيه الأذرع المفتوحة للمجرَّة في الانغلاق تدريجيًّا، نتيجة للدوران، بحيث ينتهي الحال بالمجرَّة وهي مجرَّة بيضاوية، لكنه كان مخطئًا بالكامل في هذا الصدد، وإن لم يؤثِّر هذا على نظامه التصنيفي المبني على الشكل الظاهري للمجرَّات. ونحن الآن نعلم أن أكبر المجرَّات في الكون هي مجرَّات بيضاوية عملاقة، لكن بعض المجرَّات البيضاوية تكون أصغر من بعض المجرَّات الحلزونية، كما نعلم أيضًا أن بعض المجرَّات التي كنَّا نعتبرها «حلزونية» هي في الواقع منظومات قُرْصية الشكل من النجوم، وليست لها أذرع حلزونية يمكن تمييزها على الإطلاق! ولهذا السبب، من الأفضل أن نستخدم مصطلح «المجرَّة القُرْصيَّة»، الذي يضمُّ أيضًا تلك المجرَّات ذات الأذرع الحلزونية. لكن حتى وقتنا الحالي يستخدم العديد من الفلكيين مصطلح «المجرَّات الحلزونية» عند حديثهم عن مجرَّات قرصية عديمة الملامح فعليًّا.
وعلى مدار الشهور التالية عثر هابل على نجم قيفاوي آخَر وتسعة مستعرات في سديم أندروميدا، وكلها تقريبًا تقع على نفس المسافة، كما عثر على نجوم قيفاوية ومستعرات في سُدم أخرى، وقد وضع كل اكتشافاته في ورقة بحثية قُدِّمت إلى الاجتماع المشترك للجمعية الفلكية الأمريكية والرابطة الأمريكية لتقدُّم العلوم الذي عُقِد في واشنطن العاصمة في الأول من يناير ١٩٢٥. لم يكن هابل حاضرًا في هذا الاجتماع، وقرأ الورقة هنري نوريس راسل نيابةً عنه. ولم تكن هناك حاجة لحضور هابل شخصيًّا للدفاع عن آرائه؛ إذ أجمع الحاضرون في هذا الاجتماع على أن طبيعة السُّدم قد تحدَّدت أخيرًا، وأن مجرَّة درب التبانة ما هي إلا جزيرة واحدة تقع داخل كونٍ أكبر بكثير. وحتى قبل هذا الاجتماع كان هابل قد كتب إلى شابلي يخبره عن اكتشافاته، وقد تصادف أن كانت الفلكية سيسيليا باين-جابوشكين، التي كانت قد بدأت أبحاث الدكتوراه الخاصة بها تحت إشراف شابلي عام ١٩٢٣، موجودة في المكتب أثناء قراءة شابلي لخطاب هابل، وقد قال لها شابلي وهو يناولها الخطاب: «هذا هو الخطاب الذي دمَّرَ الكون كما تصورته.» لقد حُسِمت المناظرة العظمى. وقد يجد شابلي بعض العزاء في حقيقة أن استخدام هابل الناجح لطريقة النجوم القيفاوية منَحَ ثقلًا لنموذج شابلي لمجرَّة درب التبانة، وتحديدًا إزاحة الشمس من مركز مجرتنا.
لكن لو أن كون شابلي قد دُمِّر، فماذا كان شكل الكون الجديد؛ كون هابل؟ إن الكون كبير للغاية، لدرجة أنه باستخدام التليسكوب البالغ قطر مرآته ١٠٠ بوصة تمكَّنَ هابل فقط من الحصول على صور لنجوم قيفاوية فيما تبيَّنَ لاحقًا أنها مجرَّات مجاورة. كما كان الفلكيون العاملون بتليسكوبات أصغر يجدون معاناة أكبر في رصد الكون. ولما كان هابل مغرمًا — بل مهووسًا تقريبًا — بفكرة قياس حجم الكون، فقد تعيَّنَ عليه أن يجد طرقًا أخرى لقياس المسافات بيننا وبين المجرَّات الواقعة فيما وراء نطاق طريقة النجوم القيفاوية، وقد بدأ مسعاه في منتصف عشرينيات القرن العشرين.
ليس أيٌّ من هذه الطرق مثاليًّا، لكن هابل طبَّق — كلما استطاع — أكبرَ عدد من الطرق التي يمكنه تطبيقها لكل مجرَّة منفردة، على أمل الخلاص من أي أخطاء أو مواضع عدم يقين. استغرق كل هذا وقتًا طويلًا، لكن في عام ١٩٢٦ كان هابل قد بدأ في بناء صورة لتوزيع المجرَّات حول مجرَّة درب التبانة، وقد كان يملك ما يكفي تمامًا من البيانات كي يفكِّر في أن يأخذ قفزة عظيمة إلى المجهول عن طريق اتباع تلميح كان موجودًا بالفعل في بيانات الإزاحة الحمراء التي حصل عليها فيستو سليفر وقِلة من الأشخاص الآخرين.
بحلول عام ١٩٢٥، كشفت تحليلات الضوء القادم مما صار معروفًا وقتها أنه مجرَّات أخرى، عن وجود ٣٩ إزاحةً حمراء وإزاحتين زرقاوين فقط. في الواقع، كان سليفر أول شخص يقيس كل هذه الإزاحات خلا أربعًا منها؛ بَيْدَ أنه سريعًا ما وصل إلى حدود ما كان ممكنًا باستخدام التليسكوب الذي كان يستخدمه في مرصد لويل، وهو تليسكوب كاسر يبلغ قطر عدسته ٢٤ بوصة (٦٠ سنتيمترًا)، بحيث انتهى الحال بثلاث وأربعين إزاحة. كان ثمة تلميح — بالكاد — يمكن استقاؤه من هذه البيانات؛ وهو أن الإزاحات الحمراء الأكبر كانت مرتبطة بالمجرَّات الأبعد. لاحَظَ كثيرون هذا، لكن هابل — الذي صار وقتها عالم فلك راسخ المكانة يستطيع استخدام أفضل تليسكوب في العالم — كان الرجل الموجود في المكان المناسب والوقت المناسب كي يحاوِل أن يثبت أن هذا هو الواقع بالفعل، وكان يطمح أن يجد ما يوضِّح إن كانت هناك علاقة دقيقة بين الإزاحات الحمراء والمسافات بحيث يمكنه استخدامها كخطوة أخيرة في سلسلته، بحيث يستطيع قياس المسافات عبر الكون فقط من خلال قياس الإزاحات الحمراء.
عام ١٩٢٦ بدأ هابل عامدًا البحث عن رابط بين الإزاحات الحمراء والمسافات إلى المجرَّات. كان لديه بالفعل العديد من المسافات، وكان في سبيله لتحديد المزيد منها عبر الأعوام التالية، إلا أن التليسكوب البالغ قطر مرآته ١٠٠ بوصة لم يكن قد استُخدِم من قبلُ في رصد الإزاحة الحمراء، وكان هابل بحاجة إلى زميل قادر على — وراغب في — إعداد التليسكوب من أجل هذه المهمة الشاقة، ثم القيام بالقياسات المجهدة الدقيقة. وقد اختار ميلتون هيومايسون، وهو راصد رائع لكنه أقل مكانةً بوضوح من هابل، حتى يكون واضحًا للعالم الخارجي أيهما قائد الفريق. وبعد الكثير من العمل الشاق من أجل تكييف التليسكوب مع دوره الجديد، تعمَّدَ هيومايسون أن يختار لأوَّل قياسات الإزاحة مجرَّةً خافتة للغاية بما يستحيل معه أن يكون سليفر قد درسها بهذه الطريقة. وقد حصل هيومايسون على إزاحة تتوافق مع سرعةٍ مقدارها نحو ثلاثة آلاف كيلومتر في الثانية؛ أي أكبر من ضعفَيْ أيِّ إزاحة حمراء رصدها سليفر. كانت زمالة هابل وهيومايسون مُثمِرةً بحق.
وبحلول عام ١٩٢٩، صار هابل مقتنعًا بأنه وجد العلاقة بين الإزاحات الحمراء والمسافة. ليس هذا فحسب، بل إن هذه العلاقة كانت أبسط علاقة كان يأمل في العثور عليها؛ إذ تتناسب الإزاحة الحمراء طرديًّا مع المسافة، أو كانت المسافة — بالتعبير عن الأمر بالصورة التي كانت تهمُّ هابل — تتناسب طرديًّا مع الإزاحة الحمراء. فالمجرَّة التي تفوق إزاحتها الحمراء إزاحة مجرَّة أخرى بمقدار الضعف، تقع ببساطة على مسافة مضاعفة مقارَنةً بهذه المجرَّة الأقرب. حملت أولى نتائج التعاون، والمنشورة عام ١٩٢٩، البيانات الخاصة بأربع وعشرين مجرَّة فقط، كان كلٌّ من إزاحاتها الحمراء ومسافاتها معروفة، ومنها حسب هابل أن ثابت التناسب للعلاقة الطردية بين الإزاحة الحمراء والمسافة يبلغ ٥٢٥ كيلومترًا في الثانية لكلِّ ميجا فرسخ فلكي، ويعني هذا أن أي مجرَّة ذات إزاحة حمراء تتناسب مع سرعةٍ مقدارها ٥٢٥ كيلومترًا في الثانية ستكون على بُعد مليون فرسخ فلكي (٣٫٢٥ ملايين سنة ضوئية) عنَّا، وهكذا دواليك. بَدَا اختيار مثل هذا الرقم المحدَّد اختيارًا اعتباطيًّا متفائلًا؛ لأن المقدار المحدود من البيانات لم يكن في واقع الأمر كافيًا لتبرير دقة هذا الرقم. لكن في عام ١٩٣١ نشر هابل وهيومايسون معًا ورقةً بحثية حدَّثَا فيها هذه النتائج مع إضافة خمسين إزاحة حمراء أخرى، وصولًا إلى مسافة تكافئ سرعةً مقدارها ٢٠ ألف كيلومتر في الثانية، وبما يتناسب مع الرقم الذي توصَّلَ له هابل قبل ثلاث سنوات على نحوٍ أقرب. ومن الجلي أن هابل كان يملك بالفعل بعضًا من هذه البيانات في عام ١٩٢٩؛ بَيْدَ أنه اختار — أيًّا ما كانت الأسباب — ألَّا ينشرها وقتها.
قد يُعبَّر عن الإزاحات الحمراء على مقياس السرعات على سبيل الملاءمة. فهي تسلك سلوك إزاحات السرعة وتُمثَّل ببساطة شديدة على نفس المقياس المألوف «بغضِّ النظر عن تفسيرها النهائي». ويمكن أن يُستخدَم مصطلح «السرعة الظاهرية» في عبارات مدروسة بحرصٍ، وتُفهَم هذه الصفة ضمنًا حين تُحذَف في الاستخدام العام. (التنصيص الوارد في الاقتباس هنا مضاف من جانبي.)